الوقف الإسلامي وصنائعه الحضارية .. من روائع الوقف التعليمية
- انتشرت المدارس الوقفية في حواضر العالم الإسلامي فنبغ طلاب كثيرون في شتى مجالات العلم وأصبحوا علماء بارزين أسهموا في نشر الإسلام
- أسهمت الأموال الوقفية في تنمية التعليم والدراسة سواء كانت في المساجد أم في المدارس
من أهم ميادين الوقف ما وُقف ابتغاء وجه الله، وإقامة سبل المعرفة، ونشر التعليم، والثقافة بين أفراد المجتمع المسلم؛ لأنه عندما ظهرت الحاجة إلى تأسيس مكان يخصص لرعاية العلم ونشر الثقافة، ظهرت في الوقت نفسه فكرة أن يوقف على المعهد التعليمي وقف ينتج إيراداً يكفي للإنفاق منه على شؤونه، وشؤون القائمين عليه، وكان المأمون أول من أبرز هذه الفكرة للوجود.
وقد انتشرت المدارس الوقفية في حواضر العالم الإسلامي، وكان جهابذة العلماء والدعاة يدرسون في تلك المدارس، فنبغ طلاب كثيرون في شتى مجالات العلم، وأصبحوا علماء بارزين، أسهموا في نشر الإسلام، ولقد نشأت هذه المدارس ابتداءً بوصفها مؤسسات وقفية، كانت تقوم مقام الجامعات في وقتنا الحاضر، وكانت تتولى تنشئة القدرات البشرية في مختلف فروع المعرفة الإنسانية للمجتمع الإسلامي، أو كانت تدرّس فيها المذاهب الإسلامية، والعلوم العقلية والنقلية والطبيعية والطب، وغيرها من العلوم الأخرى.
خدمة المدارس الوقفية
إن طبيعة الخدمات المتكاملة التي كانت تقدمها المدرسة الوقفية لمنتسبيها كالمسكن والمأكل والملبس صيفًا وشتاء، والرواتب النقدية، تجعل المدرس والطالب يتفرغان للعلم، ويبدعان فيه فالنووي الذي يعد الشافعي الثاني في المذهب عاش على جراية المدرسة الرواحية في دمشق، التي سكنها مدة سنتين وأشير على أن بعض المدرسين مثل ثابت الهمامي الواسطي ت 631هـ/1233م عاش في المدرسة النظامية أربعين سنة لا يخرج منها إلا إلى صلاة الجمعة.
لقد كانت بعض المدارس سخية جدا في إنفاقها على منتسبيها، فقد جاء في وقفية المدرسة الحلاوية الحنفية بدمشق التي بناها السلطان نور الدين زنكي -رحمه الله- فضلاً عما كان يحصل عليه منتسبوها أن يحمل في كل شهر رمضان من وقفها ثلاثة آلاف درهم للمدرسة، يصنع بها للفقهاء طعاماً في ليلة النصف من شعبان في كل سنة حلوى معلومة، وفي الشتاء ثمن بياض لكل فقيه شيء معلوم، وفي أيام شرب الدواء من فصلي الربيع والخريف ثمن ما يحتاج إليه من دواء وفاكهة.
أما طلبة الفقه في المستنصرية فقد كانوا ينالون مشاهرة قدرها دينار في الشهر فضلاً عن الخبز والطبيخ والحلوى والفواكه والصابون والفرس والحمام، وأربعة أرطال من اللحم، ويشير السيوطي إلى أن المدرسة كانت تقدم أيضاً الورق والحبر مجاناً، كما أشار صاحب الحوادث الجامعة إلى أن المدرس زود أيضاً بفرس بعدة كاملة لنقله، وكان ملحقاً بالمدرسة غرف للمبيت وكذلك بيوت.
تنمية التعليم والدراسة
وقد أسهمت الأموال الوقفية في تنمية التعليم والدراسة سواء أكانت داخل المساجد أم في المدارس المنفصلة؛ إذ رعت الأموال الوقفية عملية التنمية في مرحلة الطفولة حتى المراحل الدراسية العليا المتخصصة، ونجد أن نظام المدارس، والتخصصات التي انتشرت بعد نمو المعرفة الإنسانية اعتمدت كليا على الأموال الوقفية؛ إذ لم تكن هناك وزارة للتعليم أو مخصصات في ميزانية الدولة للصرف على التعليم، وفي العصر المملوكي بالذات لوحظ سعة انتشار الأوقاف الخاصة بالمدارس لدرجة أن كثيراً من الوقفيات بلغت الرواتب بعضها إلى 558.600 ألف درهم سنويا، 60700 دينار سنويا.
بناء المدارس ودور العلم
لم تكن المدارس تبنى من قبل السلاطين ونسائهم ووزرائهم وقادتهم فضلاً عن الخلفاء الذين أخذت سلطاتهم في الانتعاش في بغداد في القرن السادس وبداية القرن السابع، وإنما كان المسلمون في دار الإسلام، يبنون المدارس، ودور العلم ابتغاء وجه الله، وبعض هؤلاء بنى مدرستين في آن واحد، كما فعل أبو الحسن الدرني البغدادي ت 550هـ /1155م، وكذلك الحال مع ابن عصرون الموصلي ت 585هـ/1189م الذي بنى مدرسة في الموصل، وأخرى في دمشق وبنى أبو النجيب السهروردي مدرسة في بغداد.
وشاهد العبدري في أثناء زيارته للمدرسة الظاهرية في القاهرة مكانًا للضيوف في طابقها العلوي، كما كان يبنى إلى جانب المدرسة أحيانًا حماما موقوفا عليها لاستعمال الطلبة كما كانت بعض المدارس تحاط بالبساتين فهي (مدربة ومأنسة)، ومن ريع الأوقاف كان يصرف في بعض الأحيان للفقهاء المقيمين في المدرسة معلوم يعيشون منه، وكان هذا المعلوم هو مصدر الرزق الوحيد لبعض الفقهاء، ومن ناحية أخرى كان هو السبب الوحيد أحياناً لبقاء هذه المدارس وعدم وصول الخراب إليها.
وكان جميع ما أنشئ من مدارس أيام الدولة الأيوبية وفي العهد المملوكي، يعتمد في الصرف عليه على نظام الوقف الذي كان يمثل مصدرًا شرعيا ثابتًا للصرف والإنفاق على هذه المدارس، وبفضل نظام الوقف استطاعت خمس وسبعون مدرسة أن تؤدي وظائفها التعليمية بانتظام في القرن الخامس عشر، وكان المدرسون في يُختارون بعناية كبيرة، ويُعيَّنون من قبل السلطان.
توفير وسائل المواصلات
وفي سبيل توفير وسائل المواصلات للمدرسين، خُصص للمدرسين في المدرسة المستنصرية - على سبيل المثال- مخصصات انتقال، وللإنفاق على الخيول والبغال التي تنقلهم بين مراكز سكناهم ومراكز تدريسهم لإشعار الأساتذة بالرعاية والعناية في سبيل تشجيعهم على الإنتاج العلمي والفقهي، وتنمية قدرات طلابهم.
المدرسة النورية
أوقف القائد نور الدين -رحمه الله- في دمشق المدرسة النورية الواقعة الآن في سوق الخياطين قائمة، وتقدم نموذجا حيا لهندسة المدارس في عصور الحضارة الإسلامية، لقد زارها الرحالة ابن جبير في أوائل القرن السابع الهجري، فأعجب بها وكتب عنها.
المدرسة السكرية
العلامة الحافظ ابن رجب الحنبلي (736-795هـ) كان في عهده في دمشق آنذاك ثلاثمائة وخمسون مدرسة فقهية، ومن أهمها المدرسة السُكّرية التي كان يسكنها -رحمه الله-.
أوقاف تدريس الفقه الحنفي
في دمشق وجدت ثنتان وخمسون مدرسة اختصت بتدريس الفقه الحنفي فقط، وثلاث وستون مدرسة أخرى اختصت بتدريس الفقه الشافعي، وإحدى عشرة مدرسة للفقه الحنبلي، كل هذا في دمشق وحدها عدا المدارس التي تدرس المذاهب مجتمعة أو مدارس الطب والربط والجوامع التي كانت مراكز تعليمية أيضًا.
حفظ الموقوفات على المدارس
بلغ حرص أهل المغرب في المحافظة على المدارس أنهم كانوا ينقشون الموقوفات على رخام كان يبنى في جدرانها حفاظًا على استمرار إنفاقه عليها.
حفظ العلم ورعاية العلماء
خلال الحروب مع التتار وسقوط بغداد سنة 656هـ وتدميرها ونهب كنوزها، بقيت مصر والشام جبهة صامدة ضد بربرية التتار ووحشيتهم؛ هذا ما دفع الكثير من العلماء الانتقال إلى مصر والشام، مما أثرى النشاط العلمي وحركة التعليم والتأليف، وأنشئت مدارس ومكتبات وقفية متنوعة، استوعبت تلك الأوقاف من المدارس والكتاتيب والمكتبات العلماء على اختلاف اهتماماتهم ومذاهبهم، ورعتهم خير رعاية كأمثال العلامة الحافظ ابن رجب الحنبلي (736-795هـ)، فقد كان في عهده في دمشق آنذاك ثلاثمائة وخمسون مدرسة فقهية، ومن أهمها المدرسة السُكّرية التي كان يسكنها -رحمه الله-.
الوقف على إثراء البعثات العلمية
وقفت الأميرة، فاطمة هانم كريمة الخديوي إسماعيل جميع أطيانها وكانت مساحتها (أربعة عشر سهمًا، وأربعة عشر قيراطًا، وثلاثة آلاف وسبعة وخمسين فداناً) وهذه الأطيان كائنة بمديرية الجيزة والدقهلية، كما وقفت جميع أراضي وبناء السراي الكائنة في بولاق الدكرور، وما احتوت عليه من الأثاث والمفروشات، والمنافع الأخرى، والآلات الزراعية، وإسطبل الخيول، وقد جعلت الواقفة هذا الوقف على نفسها في حياتها، ثم من بعد مماتها خصصت الواقفة مائة سهم من جميع الوقف ينفق ريعها على مؤسسات علمية عدة ، وبعثات ترسل إلى الخارج.
اعداد: عيسى القدومي