سُورَةُ الْإِخْلَاصِ
يوسف بن عبدالعزيز بن عبدالرحمن السيف
سُورَةُ (الْإِخْلَاصِ): مُخْتَلَفٌ فِيهَا، هَلْ هِيَ مَكِّيَّةٌ أَمْ مَدَنِيَّةٌ[1]، وَعَدَدُ آيَاتُهَا أَرْبَعُ آياتٍ.
أَسْمَاءُ السُّورَةِ:
وَقَدْ ذُكِرَ مِنْ أَسْمَائِهَا: سُورَةُ (التَّجْرِيدِ)، وَسُورَةُ (التَّوْحِيدِ)، وَسُورَةُ (الْإِخْلَاصِ)، وَسُورَةُ (الْوِلَايَةِ)، وَسُورَةُ (النِّسْبَةِ)، وَسُورَةُ (الْمُقَشْقِشَةِ)، وَسُورَةُ (الْمُعَوِّذَةِ)، وَسُورَةُ (الصَّمَدِ)، وَسُورَةُ (الْمَانِعَةِ)، وَسُورَةُ (الْبَراءَةِ)، وَسُورَةُ (النُّورِ)، وَسُورَةُ (الْأَمَانِ)[2].
الْمَقَاصِدُ الْعَامَّةُ لِلسُّورَةِ:
اِحْتَوَتْ هَذِهِ السُّورَةُ عَلَى مَقَاصِدَ عَظِيمَةٍ، مِنْ أَهَمِّهَا[3]:
• إِثْبَاتُ وَحْدَانِيَّةِ اللهِ تَعَالَى.
• إِبْطَالُ أَنْ يَكُونَ للهِ ابْنٌ.
• إِبْطَالُ أَنْ يَكُونَ الْمَوْلُودُ إِلَهًا، مِثْلَ عِيسَى.
سَبَبُ النُّزُولِ:
فِي سَبَبِ نُزُولِهَا عِدَّةُ أَقْوَالٍ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ:عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رضي الله عنه: «أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: انْسُبْ لَنَا رَبَّكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد * اللَّهُ الصَّمَد ﴾ [الإخلاص:1-2]»[4].
الْقَوْلُ الثَّاني: أَنَّ عَامِرَ بْنَ الطُّفَيْلِ وَأَرْبَدَ بْنَ رَبِيعَةَ أَتَيَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ عَامِرٌ: «إِلَامَ تَدْعُونَا يَا مُحَمَّدُ؟ قَالَ: إِلَىْ اللَّهِ، قَالَ: صِفْهُ لَنَا، أَمِنْ ذَهَبٍ هُوَ؟ أَمْ مِنْ فِضَّةٍ؟ أَمْ مِنْ حَدِيدٍ؟ أَمْ مِنْ خَشَبٍ؟ فَنَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ، فَأَهْلَكَ اللَّهُ أَرْبَدَ بِالصَّاعِقَةِ، وَعَامِرَ بْنَ الطُّفَيْلِ بِالطَّاعُونِ»[5].
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: «أَنَّ الْيَهُودَ جَاءَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم، مِنْهُمْ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ وَحُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ، فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ، صِفْ لَنَا رَبَّكَ الَّذِي بَعَثَكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عز وجل: ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد * اللَّهُ الصَّمَد * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَد ﴾ [الإخلاص:1-3] فَيَخْرُجُ مِنْهُ ﴿ وَلَمْ يُولَد ﴾ [الإخلاص:3] فَيَخْرُجُ مِنْ شَيْءٍ، ﴿ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَد ﴾ [الإخلاص:4]، وَلَا شَبَهٌ، فَقَالَ: هَذِهِ صِفَةُ رَبِّي عز وجل وَتَقَدَّسَ عُلُوًّا كَبِيرًا»[6].
مِنْ فَضَائِلِ سُورَةِ الإِخْلَاصِ:
سُورَةُ الْإِخْلَاصِ لَهَا فَضَائِلُ كَثِيرَةٌ جِدًّا، فَمِنْ فَضَائِلِهَا:
أولًا: أَنَّها مُتَضَمِّنَةٌ لِصِفَةِ الرَّحْمَنِ سبحانه وتعالى ؛ لِحَديثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم بَعَثَ رَجُلًا عَلَى سَرِيَّةٍ، وَكَانَ يَقْرَأُ لِأَصْحَابِهِ فِي صَلاَتِهِمْ فَيَخْتِمُ بِـ: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)، فَلَمَّا رَجَعُوا ذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: سَلُوهُ لِأَيِّ شَيْءٍ يَصْنَعُ ذَلِكَ؟ فَسَأَلُوهُ، فَقَالَ: لِأَنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ، وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَقْرَأَ بِهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُ»[7].
ثانيًا:أَنَّ حُبَّها يُوجِبُ مَحَبَّةَ اللَّهِ الَّتِي هِيَ أَجَلُّ الْمَطَالِبِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «أَخْبِرُوهُ أَنَّ اللَّهَ يُحِبُّهُ»[8].
ثالثًا: أَنَّ حُبَّها يُوجِبُ دُخُولَ الْجَنَّةِ؛ لِحَديثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ يَؤُمُّهُمْ فِي مَسْجِدِ قُبَاءٍ، وَكَانَ كُلَّمَا افْتَتَحَ سُورَةً يَقْرَأُ بِهَا لَهُمْ فِي الصَّلاَةِ مِمَّا يَقْرَأُ بِهِ افْتَتَحَ بِـ: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهَا، ثُمَّ يَقْرَأُ سُورَةً أُخْرَى مَعَهَا، وَكَانَ يَصْنَعُ ذَلِكَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، فَكَلَّمَهُ أَصْحَابُهُ، فَقَالُوا: إِنَّكَ تَفْتَتِحُ بِهَذِهِ السُّورَةِ، ثُمَّ لاَ تَرَى أَنَّهَا تُجْزِئُكَ حَتَّى تَقْرَأَ بِأُخْرَى، فَإِمَّا تَقْرَأُ بِهَا وَإِمَّا أَنْ تَدَعَهَا، وَتَقْرَأَ بِأُخْرَى، فَقَالَ: مَا أَنَا بِتَارِكِهَا، إِنْ أَحْبَبْتُمْ أَنْ أَؤُمَّكُمْ بِذَلِكَ فَعَلْتُ، وَإِنْ كَرِهْتُمْ تَرَكْتُكُمْ، وَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ مِنْ أَفْضَلِهِمْ، وَكَرِهُوا أَنْ يَؤُمَّهُمْ غَيْرُهُ، فَلَمَّا أَتَاهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرُوهُ الخَبَرَ، فَقَالَ: يَا فُلاَنُ، مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تَفْعَلَ مَا يَأْمُرُكَ بِهِ أَصْحَابُكَ، وَمَا يَحْمِلُكَ عَلَى لُزُومِ هَذِهِ السُّورَةِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ؟ فَقَالَ: إِنِّي أُحِبُّهَا، فَقَالَ: حُبُّكَ إِيَّاهَا أَدْخَلَكَ الجَنَّةَ»[9].
رابعًا: أَنَّها تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ، وَقَدْ جَاءَ في ذَلِكَ عِدَّةُ أَحَادِيثَ، مِنْهَا:
مَا رَوَاهُ أَبُوْ الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقْرَأَ فِي لَيْلَةٍ ثُلُثَ الْقُرْآنِ؟ قَالُوا: وَكَيْفَ يَقْرَأُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ؟ قَالَ: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ»[10].
ومنها: حَدِيْثُ أَبِيْ هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «احْشُدُوا فَإِنِّي سَأَقْرَأُ عَلَيْكُمْ ثُلُثَ الْقُرْآنِ فَحَشَدَ مَنْ حَشَدَ، ثُمَّ خَرَجَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَرَأَ: ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴾، ثُمَّ دَخَلَ، فَقَالَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ: إِنِّي أُرَىْ هَذَا خَبَرٌ جَاءَهُ مِنَ السَّمَاءِ، فَذَاكَ الَّذِي أَدْخَلَهُ، ثُمَّ خَرَجَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: إِنِّي قُلْتُ لَكُمْ: سَأَقْرَأُ عَلَيْكُمْ ثُلُثَ الْقُرْآنِ، أَلَا إِنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ»[11].
ومنها: حَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه: «أَنَّ رَجُلًا سَمِعَ رَجُلًا يَقْرَأُ: ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴾ يُرَدِّدُهَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، وَكَأَنَّ الرَّجُلَ يَتَقَالُّهَا[12]، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهَا لَتَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ»[13].
وَمَعْنَى أَنَّهَا (تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ)، أَيْ: أَنَّ مَنْ قَرَأَها فَلَهُ جَزَاءُ قِرَاءَةِ ثُلُثِ الْقُرْآنِ، لَا أَنَّهَا تُجْزِئُ عَنْ قِرَاءَةِ ثُلُثِ الْقُرْآنِ[14]، وعليهِ: فَإِنَّ مَنْ نَذَرَ أَنْ يَقْرَأَ ثُلُثَ الْقُرْآنِ فَلَا يُجْزِئُهُ قِرَاءَتُها؛ لِأَنَّهَا تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ في الْجَزَاءِ لَا فِي الإِجْزَاءِ، وَفَرْقٌ بَيْنَهُمَا. وَلَوْ قَرَأَهَا في صَلَاتِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لَا تُجْزِئُهُ عَنْ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ، مَعَ أَنَّهُ يُعْطَى جَزَاءَ وَأَجْرِ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ كَامِلًا.
وَإِنَّمَا كَانَ لِهَذِهِ السُّورَةِ هَذَا الْفَضْلُ العَظِيمُ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: ثُلُثٌ مِنْهُ لِلْأَحْكَامِ، وَثُلُثٌ مِنْهُ لِلْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، وَثُلُثٌ مِنْهُ لِلْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَهَذِهِ السُّورَةُ جَمَعَتِ الْأَسْمَاءَ وَالصِّفَاتِ[15].
خامسًا: أَنَّ الدُّعَاءَ بِهَا مُسْتَجَابٌ، وَفِيها اسْمُ اللهِ الْأَعْظَمُ؛ لِمَا جَاءَ عَنْ بُرَيْدَةَ رضي الله عنه قَالَ: «سَمِعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلًا يَدْعُو وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنِّي أَشْهَدُ أَنَّكَ أَنْتَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، الأَحَدُ الصَّمَدُ، الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ، قَالَ: فَقَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ سَأَلَ اللَّهَ بِاسْمِهِ الأَعْظَمِ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ، وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى»[16]. وَعَنْ مِحْجَنِ بْنِ الْأَدْرَعِ رضي الله عنه: «دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمَسْجِدَ، فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ قَدْ قَضَى صَلَاتَهُ، وَهُوَ يَتَشَهَّدُ وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ يَا اَللَّهُ الْأَحَدُ الصَّمَدُ، الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ، أَنْ تَغْفِرَ لِي ذُنُوبِي، إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، قَالَ: فَقَالَ: قَدْ غُفِرَ لَهُ، قَدْ غُفِرَ لَهُ، ثَلَاثًا»[17].
سادسًا: أَنَّها مِنْ أَعْظَمِ مَا يُرَدُّ بِهِ وَسْوَسَةُ الشَّيْطَانِ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لاَ يَزَالُونَ يَسْأَلُونَ حَتَّى يُقَالُ: هَذَا اللَّهُ خَلَقَنَا، فَمَنْ خَلَقَ اللَّهَ عز وجل؟ قَالَ: فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَوَاللَّهِ إِنِّي لَجَالِسٌ يَوْمًا، إِذْ قَالَ لِي رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ: هَذَا اللَّهُ خَلَقَنَا، فَمَنْ خَلَقَ اللَّهَ عز وجل؟ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَجَعَلْتُ أُصْبُعَيَّ فِي أُذُنَيَّ، ثُمَّ صِحْتُ، فَقُلْتُ: صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، اللَّهُ الْوَاحِدُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ»[18].
سابعًا: وَمِنْ فَضَائِلِهَا: مَا جَاءَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ الْجُهَنِيِّ صَاحِبِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ قَرَأَ: (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) حَتَّى يَخْتِمَهَا عَشْرَ مَرَّاتٍ، بَنَى اللهُ لَهُ قَصْرًا فِي الْجَنَّةِ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: إِذًا نَسْتَكْثِرَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: اللهُ أَكْثَرُ وَأَطْيَبُ»[19].
ثامنًا: وَمِنْ فَضَائِلِهَا: أَنَّهَا تُقْرَأُ فِي الْوِتْرِ[20]، وَسُنَّةِ الْفَجْرِ[21]، وَسُنَّةِ الْمَغْرِبِ[22]، وَسُنَّةِ الطَّوَافِ[23]، كَمَا جَاءَتْ بِذَلِكَ الْأَحَادِيثُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم.
مِنْ فَضَائِلِ سُورَةِ الْإِخْلَاصِ مَعَ سُورَتَيْ (الْفَلَقِ وَالنَّاسِ):
وَمِنْ فَضَائِلِ هَذِهِ السُّورَةِ الْعَظِيمَةِ، مَعَ سُورَتَي الْفَلَقِ وَالنَّاسِ:
أولًا: أَنَّ هَذَهِ السُّوَرُ مِنْ خَيْرِ مَا أُنْزِلَ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ وَالفُرْقَانِ الْعَظِيمِ، فَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: «يَا عُقْبَةُ بْنَ عامِرٍ، أَلَا أُعلِّمُكَ خَيْرَ ثَلَاثِ سُوَرٍ أُنْزِلَتْ في التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ وَالْفُرْقَانِ الْعَظِيمِ؟ قَالَ: قُلْتُ: بَلَى، جَعَلَنِي اللهُ فِدَاكَ، قَالَ: فأَقْرَأَني: ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد ﴾ [الإخلاص:1]، وَ﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَق ﴾ [الفلق:1]، وَ﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس ﴾ [الناس:1]، ثُمَّ قالَ: يَا عُقْبَةُ لا تَنْسَاهُنَّ، ولا تَبِتْ لَيْلَةً حَتَّى تَقْرَأَهُنَّ، قَالَ: فَمَا نَسِيتُهُنَّ قَطُّ مُنْذُ قَالَ: لَا تَنْسَاهُنَّ، وَمَا بِتُّ لَيْلَةً قَطُّ حَتَّى أَقْرَأَهُنَّ»[24].
ثانيًا: أَنَّ قِرَاءَةَ هَذِهِ السُّوَرِ كَافِيَةٌ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ؛ لِحَديثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ خُبَيْبٍ رضي الله عنه قَالَ: «خَرَجْنَا فِي لَيْلَةِ مَطَرٍ وَظُلْمَةٍ شَدِيدَةٍ، نَطْلُبُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِيُصَلِّيَ لَنَا، فَأَدْرَكْنَاهُ، فَقَالَ: أَصَلَّيْتُمْ؟ فَلَمْ أَقُلْ شَيْئًا، فَقَالَ: قُلْ، فَلَمْ أَقُلْ شَيْئًا، ثُمَّ قَالَ: قُلْ، فَلَمْ أَقُلْ شَيْئًا، ثُمَّ قَالَ: قُلْ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَقُولُ؟ قَالَ: قُلْ: ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد ﴾ [الإخلاص:1]، وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ حِينَ تُمْسِي، وَحِينَ تُصْبِحُ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ تَكْفِيكَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ»[25].
ثالثًا: أَنَّ هَذِهِ السُّوَرَ مِنْ أَذْكَارِ الصَّبَاحِ وَالْمَسَاءِ؛ لِحَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ خُبَيْبٍ رضي الله عنه الْمُتَقَدِّمِ.
رابعًا: أَنَّهَا مِنْ أَذْكَارِ النَّوْمِ؛ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رضي الله عنها: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ كُلَّ لَيْلَةٍ جَمَعَ كَفَّيْهِ، ثُمَّ نَفَثَ فِيهِمَا فَقَرَأَ فِيهِمَا: ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد ﴾ [الإخلاص:1]، وَ﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَق ﴾ [الفلق:1]، وَ﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس ﴾ [الناس:1]، ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِمَا مَا اسْتَطَاعَ مِنْ جَسَدِهِ، يَبْدَأُ بِهِمَا عَلَى رَأْسِهِ وَوَجْهِهِ، وَمَا أَقْبَلَ مِنْ جَسَدِهِ، يَفْعَلُ ذَلِكَ ثَلاَثَ مَرَّات»[26].
خامسًا: أَنَّ هَذِهِ السُّوَرَ تُقْرَأُ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ؛ لِحَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه قَالَ: «أَمَرَنِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ أَقْرَأَ بِالْمُعَوِّذَات[27] فِي دُبُرَ كُلِّ صَلاَةٍ»[28].
سادسًا: أَنَّهَا تَعْوِيذَاتٌ مُبَارَكَةٌ، مَا تَعَوَّذَ أَحَدٌ بِمِثْلِهَا، كَمَا ثَبَتَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه قَالَ: «بَيْنَا أَنَا أَقُودُ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَاحِلَتَهُ فِي غَزْوَةٍ إِذْ قَالَ: يَا عُقْبَةُ، قُلْ فَاسْتَمَعْتُ، ثُمَّ قَالَ: يَا عُقْبَةُ، قُلْ فَاسْتَمَعْتُ، فَقَالَهَا الثَّالِثَةَ، فَقُلْتُ: مَا أَقُولُ؟ فَقَالَ: ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد ﴾ [الإخلاص:1]؛ فَقَرَأَ السُّورَةَ حَتَّى خَتَمَهَا، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَق ﴾ [الفلق:1]، وَقَرَأْتُ مَعَهُ حَتَّى خَتَمَهَا، ثُمَّ قَرَأَ ﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس ﴾ [الناس:1]، فَقَرَأْتُ مَعَهُ حَتَّى خَتَمَهَا، ثُمَّ قَالَ: مَا تَعَوَّذَ بِمِثْلِهِنَّ أَحَدٌ»[29].
شَرْحُ الْآيَاتِ:
قَوْلُهُ: ﴿ قُلْ ﴾ [الإخلاص:1]، الْخِطَابُ هُنَا لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ أَمْرٌ لَهُ أَنْ يُخَاطِبَ أَهْلَ الْكُفْرِ وَالشِّرْكِ عَامَّةً[30]، ﴿ هُوَ اللَّهُ ﴾ [الإخلاص:1]، (اللَّهُ): مُشْتَقٌّ مِنَ الْأُلُوهِيَّةِ وَالْإِلَهِيَّةِ[31]، وَهِيَ الْعُبُودِيَّةُ، فَاللهُ مُشْتَقٌّمِنْ (إِلَهٍ) بِمَعْنَى: مَأْلُوهٌ، أَيْ: الْمَعْبُودُ حُبًّا وَتَعْظِيمًا، وَهُوَ عَلَمٌ عَلَى الْإِلَهِ الْمُسْتَحِقِّ لِلْعِبَادَةِ سبحانه وتعالى [32].
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: «اللهُ ذُو الْإِلَهِيَّةِ وَالْعُبُودِيَّةِ عَلَى خَلْقِهِ أَجْمَعِينَ»[33]. وَقَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ رحمه الله: "إِذِ الْإِلَهُ هُوَ الَّذِي يُؤْلَهُ فَيُعْبَدُ مَحَبَّةً وَإِنَابَةً وَإِجْلَالًا وَإِكْرَامًا"[34]، وَقَالَ: "وَالْإِلَهُ مَنْ يَسْتَحِقُّ أَنْ يُؤْلِهَهُ الْعِبَادُ، وَيَدْخُلُ فِيهِ حُبُّهُ وَخَوْفُهُ، فَمَا كَانَ مِنْ تَوَابِعِ الْأُلُوهِيَّةِ فَهُوَ حَقُّ اللهِ مَحْضٌ"[35].
قَولُهُ: ﴿ أَحَد ﴾ [الإخلاص:1]، أي: لَا شَبِيهَ لَهُ وَلَا نَظِيرَ، وَلَا صَاحِبَةَ، وَلَا وَلَدَ، وَلَا شَرِيكَ[36].
قَالَ فِي الْمَطْلَبِ الْحَميدِ: "﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد ﴾ [الإخلاص:1]، يَعْنِي: هُوَ اللهُ الْوَاحِدُ الْأَحَدُ الَّذِي لَا نَظِيرَ لَهُ وَلَا وَزِيرَ وَلَا نِدَّ وَلَا شَبِيهَ وَلَا عَدِيلَ، وَلَا يُطْلَقُ هَذَا اللَّفْظُ فِي الْإِثْبَاتِ إِلَّا عَلَى اللهِ عز وجل؛ لِأَنَّهُ الْكَامِلُ فِي جَمِيعِ صِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ"[37].
قَولُهُ: ﴿ اللَّهُ الصَّمَد ﴾ [الإخلاص:2]، في مَعْنَى: (الصَّمَدِ) قَوْلَانِ مَشْهُورَانِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: السَّيِّدُ الَّذِي كَمُلَ فَي سُؤْدَدِهِ، وَلَيْسَ فَوْقَهُ أَحَدٌ، وَالْمَصْمُودُ إِلَيْهِ في قَضَاءِ الحَوَائِجِ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: الَّذِي لَا جَوْفَ لَهُ، وَلَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ، وَلَا يَخْرُجُ مِنْهُ شَيْءٌ[38].
فَفِي التَّعْرِيفِ الْأَوَّلِ إِثْبَاتٌ لِصِفَاتِ الْكَمَالِ، وَفِي التَّعْرِيفِ الثَّانِي نَفْيٌ لِصِفَاتِ النَّقْصِ عَنْهُ جل وعلا، فَتَنَزَّهَ وَتَقَدَّسَ تَعَالَى عَنْ صِفَاتِ خَلْقِهِ.
قَولُهُ: ﴿ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَد ﴾ [الإخلاص:3]، أَيْ: أَنَّ اللهَ تَعَالَى لِكَمَالِ غِنَاهُ لَمْ يَصْدُرْ عَنْهُ وَلَدٌ، وَلَمْ يَصْدُرْ هُوَ عَنْ شَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يُجَانِسُهُ شَيْءٌ، وَلَا يَفْتَقِرُ إِلَى شَيْءٍ، وَلَا يَسْبِقُهُ عَدَمٌ، كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ ﴾ [الأنعام:101]؛ وَلِهَذَا جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَيْسَ أَحَدٌ أَوْ لَيْسَ شَيْءٌ أَصْبَرَ عَلَى أَذَىً سَمِعَهُ مِنَ اللَّهِ، إِنَّهُمْ لَيَدَّعُونَ لَهُ وَلَدًا، وَإِنَّهُ لَيُعَافِيهِمْ وَيَرْزُقُهُمْ»[39].
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «قَالَ اللهُ: كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَقَولُهُ: لَنْ يُعِيدَنِي كَمَا بَدَأَنِي، وَلَيْسَ أَوَّلُ الْخَلْقِ بِأَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ إِعَادَتِهِ، وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ فَقَولُهُ: اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا وَأَنَا الْأَحَدُ الصَّمَدُ، لَمْ أَلِدِ وَلَمْ أُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لِي كُفُؤًا أَحَدٌ»[40] [41].
قَولُهُ: ﴿ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَد ﴾ [الإخلاص:4]، أَيْ: ولَمْ يَكُنْ أحَدٌ يُكافِئُهُ أَوْ يُماثِلُهُ مِن صَاحِبَةٍ أَوْ غَيْرِها، لَا فِي أَسْمَائِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ، وَلَا فِي أَفْعَالِهِ تبارك وتعالى [42].
بَعْضُ الْفَوَائِدِ الْمُسْتَخْلَصَةِ مِنَ الْآيَاتِ:
في آيَاتِ هَذِهِ السُّورَةِ الْعَظيمَةِ نَسْتَلْهِمُ فَوَائِدَ جَمَّةً، مِنْهَا:
تَجَلِّي الْوَحْدَانِيَّةِ وَالصَّمَدِيَّةِ:
هَذِهِ السُّورَةُ مِنْ أَعْظَمِ سُوَرِ الْقُرْآنِ شَأْنًا وَأَجَلِّهَا مَعْنًى؛ لِأَنَّهَا تَصِفُ الْوَاحِدَ الْأَحَدَ الْصَّمَدَ سُبْحَانَهُ، الَّذِي لَا نَظِيرَ لَهُ وَلَا شَبِيهَ وَلَا مَثِيلَ، وَهُوَ الصَّمَدُ الَّذِي تَقْصِدُهُ الْخَلَائِقُ في حَاجَاتِهَا، وَهُوَ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ؛ وَلِهَذَا هِيَ السُّورَةُ الَّتِي أَخْلَصَهَا اللهُ تَعَالَى لِنَفْسِهِ، فَلَيْسَ فِيهَا إِلَّا الْكَلَامُ عَنْ وَحْدَانِيَّتِهِ وَصِفَاتِهِسبحانه وتعالى.
شَرَفُ الْإِخْلَاصِ:
فِي هَذِهِ السُّورَةِ: "دَلِيلٌ عَلَى شَرَفِ التَّوْحِيدِ، كَيْفَ لَا وَالْعِلْمُ يَشْرُفُ بِشَرَفِ الْمَعْلُومِ، وَمَعْلُومُ هَذَا الْعِلْمِ هُوَ اللهُ وَصِفَاتُهُ، وَمَا يَجُوزُ عَلَيْهِ وَمَا لَا يَجُوزُ، فَمَا ظَنُّكَ بِشَرَفِ مَنْزِلَتِهِ وَجَلَالَةِ مَحَلِّهِ"[43]؛ وَلِهَذَا سُمِّيَتْ بِسُورَةِ الْإِخْلَاصِ لِأَنَّهَا أَخْلَصَتْ فِي صِفَةِ الرَّحْمَنِ، وَلِأَّنَّهَا تُخْلِصُ قَارِئَهَا مِنَ الشِّرْكِ الْعِلْمِيِّ الِاعْتِقَادِيِّ.
قَالَ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ رحمه الله: "وَسُمِّيَتْ سُورَةَ الْإِخْلَاصِ لِأَنَّ قِرَاءَتَهَا خَلَاصٌ مِنْ عَذَابِ اللهِ، أَوْ لِأَنَّ فِيهَا إِخْلَاصَ اللهِ تَعَالى مِنْ شَرِيكٍ وَوَلَدٍ، أَوْ لِأَنَّهَا خَالِصَةٌ للهِ تَعَالَى لَيْسَ فِيهَا أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ"[44].
كَمَالُ صِفَاتِ اللهِ وَأَسْمَائِهِ:
هَذِهِ السُّورَةُ مِنْ أَقْوَى أَدِلَّةِ أَهْلِ السُّنَةِ وَالْجَمَاعَةِ في بَابِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَعَقِيدَتُهُمْ هِيَ إِثْبَاتُ مَا أَثْبَتَهُ اللهُ لِنَفْسِهِ مِنَ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ في كِتَابِهِ أَوْ أَثْبَتَهُ لَهُ نَبِيُّهُ صلى الله عليه وسلم مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ وَلَا تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ.
وَإِقْرَارُ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لِقَولِ الرَّجُلِ إنَّهَا صِفَةُ الرَّحْمَنِ دَلِيلٌ عَلَى إِثْبَاتِ الصِّفَاتِ لِمَنْ أَنْكَرَهَا وَعَطَّلَهَا، سَوَاءٌ كَانَ تَعْطِيلُهُ كُلِّيًّا كَالْجَهْمِيَّةِ أَوْ جُزْئيًّا كَالْأَشَاعِرَةِ.
وَقَدِ احْتَّجَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ رحمه الله بِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «أَخْبِرُوهُ»؛ فَثَبَتَ بِهذِه النُّصُوصِ أَنَّ الْكَلَامَ الذَّي يُخْبَرُ بِهِ عَنِ الله صِفَةٌ لَهُ، وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِأَنَّ الْوَصْفَ هُوَ الْإِظْهَارُ وَالْبَيَانُ لِلْبَصَرِ أَوِ السَّمْعِ، كَمَا يَقُولُ الفُقَهاءُ: ثَوْبٌ يَصِفُ البَشَرَةَ أَوْ لَا يَصِفُ البَشَرَةَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ ﴾ [الأنعام:139]، وَقَالَ: ﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون ﴾ [الصافات:180][45].
اِجْتِمَاعُ أُصُولِ التَّوْحِيدِ فِيْ هَذِهِ السُّورة:
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ رحمه الله: "فِي سُورَةِ الْإِخْلَاصِ مِنْ كَمَالِ التَّوْحِيدِ الْعِلْمِيِّ الِاعْتِقَادِيِّ، وَإِثْبَاتِ الْأَحَدِيَّةِ للهِ، الْمُسْتَلْزِمَةِ نَفْيَ كُلِّ شَرِكَةٍ عَنْهُ، وَإِثْبَاتِ الصَّمَدِيَّةِ الْمُسْتَلْزِمَةِ لِإِثْبَاتِ كُلِّ كَمَالٍ لَهُ، مَعَ كَوْنِ الْخَلَائِقِ تَصْمُدُ إِلِيْهِ فِي حَوَائِجِهَا، أَيْ: تَقْصِدُهُ الْخَلِيقَةُ وَتَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ، عُلْوِيُّهَا وَسُفْلِيُّهَا، وَنَفْيِ الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ وَالْكُفْءِ عَنْهُ الْمُتَضَمِّنِ لِنَفْيِ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ وَالنَّظِيرِ وَالْمُمَاثِلِ، مِمَّا اخْتَصَّتْ بِهِ وَصَارَتْ تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ، فَفِي اسْمِهِ الصَّمَدِ: إِثْبَاتُ كُلِّ الْكَمَالِ، وَفِي نَفْيِ الْكُفْءِ: التَّنْزِيهُ عَنِ الشَّبِيهِ وَالْمِثَالِ، وَفي الْأَحَدِ: نَفْيُ كُلِّ شَرِيكٍ لِذِي الْجَلَالِ، وَهَذِهِ اْلأُصُولُ الثَّلَاثَةُ هِيَ مَجَامِعُ التَّوْحِيدِ"[46].
تَضَمُّنُ سُورَةِ الْإِخْلَاصِ لِأَنْوَاعِالتَّوْحِيدِ الثَّلَاثَةِ:
سُورَةُ التَّوْحِيدِ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى أَنْوَاعِ التَّوْحِيدِ الثَّلَاثَةِ: تَوْحِيدِ الْأُلُوهِيَّةِ، وَتَوْحِيدِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَتَوْحِيدِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وبيانه كما يلي:
فَقَولُهُ: ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد ﴾: تَوْحِيدٌ لِلْأُلُوهِيَّةِ، فَاللَّهُ هُوَ الْإِلَهُ الْوَاحِدُ الْمَعْبُودُ حَقًّا، الَّذِي لَا يُعْبَدُ أَحَدٌ سِوَاهُ.
وَقَولُهُ: ﴿ اللَّهُ الصَّمَد ﴾: تَوْحِيدٌ لِلرّبُوبِيَّةِ، وَتَوْحِيدٌ لِلْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، فَاللَّهُ عز وجل هُوَ الْكَامِلُ في صِفَاتِهِ الَّذِي تَصْمُدُ إِلَيْهِ جَميعُ مَخْلُوقَاتِهِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الرَّبُّ الْوَاحِدُ الَّذِي يَقْصِدُهُ الْخَلَائِقُ فِي حَوَائِجِهِمْ وَمَسَائِلِهِمْ.قَالَ ابْنُ تَيْمِيَّةَ رحمه الله: "فَإِنَّ ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد ﴾ تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقْرْآنِ، إِذْ كَانَ الْقُرْآنُ بِاعْتِبَارِ مَعَانِيهِ ثَلَاثَ أَثْلَاثٍ: ثُلُثُ تَوْحِيدٍ، وَثُلُثُ قَصَصٍ، وَثُلُثُ أَمْرٍ وَنَهْيٍ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللهِ، وَالْكَلَامُ: إِمَّا إِنْشَاءٌ، وَإِمَّا إِخْبَارٌ، وَالْإِخْبَارُ: إِمَّا عَنِ الْخَالِقِ، وَإِمَّا عَنِ الْمَخْلُوقِ، وَالْإِنْشَاءُ: أَمْرٌ وَنَهْيٌ وَإِبَاحَةٌ. فَـ ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد ﴾: فِيهَا ثُلُثُ التَّوْحِيدِ، الَّذِي هُوَ خَبَرٌ عَنِ الْخَالِقِ، وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم: «﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد ﴾ تَعْدِلُ ثُلُثَ الْقُرْآنِ»[47]، وَعَدْلُ الشَّيْءِ -بِالْفَتْحِ- يَكُونُ: مَا سِوَاهُ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا ﴾ [المائدة:95]، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ لَهُ مِنَ الثَّوَابِ مَا يُسَاوِي الثُّلُثَ فِي الْقَدْرِ، وَلَا يَكُونُ مِثْلَهُ فِي الصِّفَةِ، كَمَنْ مَعَهُ أَلْفُ دِينَارٍ وَآخَرُ مَعَهُ مَا يَعْدِلُهَا مِنَ الْفِضَّةِ وَالنُّحَاسِ وَغَيْرِهِمَا؛ وَلِهَذَا يَحْتَاجُ إِلَى سَائِرِ الْقُرْآنِ، وَلَا تُغْنِي عَنْهُ هَذِهِ السُّورَةُ مُطْلَقًا، كَمَا يَحْتَاجُ مَنْ مَعَهُ نَوْعٌ مِنَ الْمَالِ إِلَى سَائِرِ الْأَنْوَاعِ، إِذْ كَانَ الْعَبْدُ مُحْتَاجًا إِلى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْقَصَصِ.
وَسُورَةُ ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد ﴾: فِيهَا التَّوْحِيدُ الْقَوْلِيُّ العملي، الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ الْأَسْمَاءُ وَالصَّفَاتُ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد * اللَّهُ الصَّمَد ﴾"[48].
يتبع