عرض مشاركة واحدة
  #576  
قديم 21-06-2025, 06:24 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,359
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله




تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ القمر
المجلد السادس عشر
صـ 5644 الى صـ 5655
الحلقة (576)






بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الواقعة
سميت بها لأنها مملوءة بوقائع القيامة، التي هي الواقعة العظمى، لوقوعها في أشد الأحوال- قاله المهايمي-.
وهي مكية. وآيها ست وتسعون.
وعن ابن عباس قال: قال أبو بكر: يا رسول الله! قد شبت! قال شيبتني هود والواقعة والمرسلات، وعمّ يتساءلون وإذا الشمس كورت- رواه الترمذي «1»
وقال:
حسن غريب.
وعن جابر بن سمرة قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الصلوات كنحو من صلاتكم التي تصلون اليوم، ولكنه كان يخفف، كانت صلاته أخف من صلاتكم.
وكان يقرأ في الفجر الواقعة ونحوها من السور.
(1)
أخرجه الترمذي في: التفسير، سورة الواقعة، 6- حدثنا أبو كريب. حدثنا معاوية بن هشام. []

بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الواقعة (56) : الآيات 1 الى 3]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (2) خافِضَةٌ رافِعَةٌ (3)
إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ أي نزلت وجاءت. والْواقِعَةُ علم بالغلبة على القيامة، أو منقول، سميت بذلك لتحقق وقوعها، وكأنه قيل: إذا وقعت التي لا بد من وقوعها، واختيار (إذا) مع صيغة المضي، للدلالة على ما ذكر لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ أي كذب أو تكذيب. وقد جاء المصدر على زنة (فاعلة) كالعاقبة، والعافية. واللام للاختصاص. أو المعنى: ليس حين وقعتها نفس كاذبة، أي تكذب على الله، أو تكذب في نفيها. واللام للتوقيت.
قال الشهاب: والْواقِعَةُ السقطة القوية، وشاعت في وقوع الأمر العظيم، وقد تخص بالحرب، ولذا عبر بها هنا. خافِضَةٌ رافِعَةٌ أي تخفض الأشقياء إلى الدركات، وترفع السعداء إلى الدرجات. وقيل، الجملة مقررة لعظمة الواقعة على طريق الكناية، لأن من شأن الوقائع العظام أنها تخفض قوما وترفع آخرين.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الواقعة (56) : الآيات 4 الى 6]
إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (5) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (6)
إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا أي زلزلت زلزالا شديدا وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا أي فتّتت، أو سيقت وأذهبت، كقوله وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ [النبأ: 20] ، فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا أي متفرقا. قال قتادة: الهباء ما تذروه الريح من حطام الشجر. وقال غيره: هو ما يرى من الكوة كهيئة الغبار.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الواقعة (56) : الآيات 7 الى 12]
وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (7) فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11)
فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12)
وَكُنْتُمْ أَزْواجاً أي أصنافا ثَلاثَةً فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ تقسيم وتنويع للأزواج الثلاثة، مع الإشارة الإجمالية إلى أحوالهم قبل تفصيلها. وإطلاق (الميمنة) و (المشأمة) اللتين هما الجهتان المعروفتان، على منزلة السعداء الذين هم الأبرار والمصلحون من الناس، وعلى دركة الأشقياء الذين هم الأشرار والمفسدون من الناس- أصله من تيمّن العرب باليمين، وتشاؤمهم بالشمال، كما في السانح والبارح، وقولهم للرفيع: هو منى باليمين، وللوضيع: هو منى بالشمال، تجوّزا به، أو كناية به عما ذكر.
وقيل: الميمنة والمشأمة بمعنى اليمين والشؤم، فليس بمعنى الجهة، بل بمعنى البركة وضدها، لما عاد عليهم من أنفسهم وأفعالهم. وفي جملتي الاستفهام إشارة إلى ترقّي أحوالهما في الخير والشر، تعجّبا منه.
وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أي الذين سبقوا إلى الإيمان والطاعة، بعد ظهور الحق، وأوذوا لأجله، وصبروا على ما أصابهم، وكانوا الدعاة إليه.
فإن قيل: لم خولف بين المذكورين في السابقين، وفي أصحاب اليمين، مع أن كل واحد منهما إنما أريد به التعظيم والتهويل لحال المذكورين؟
فنقول: التعظيم المؤدي بقوله: السَّابِقُونَ أبلغ من قرينه. وذلك أن مؤدي هذا أن أمر السابقين، وعظمة شأنه، ما لا يكاد يخفى. وإنما تحير فهم السامع فيه مشهور. وأما المذكور في قوله: فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ فإنه تعظيم على السامع بما ليس عنده منه علم سابق. ألا ترى كيف سبق بسط حال السابقين بقوله: أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فجمع بين اسم الإشارة المشار به إلى معروف، وبين الإخبار عنه بقوله: الْمُقَرَّبُونَ معرفا بالألف واللام العهدية؟ وليس مثل هذا مذكورا في بسط حال أصحاب اليمين، فإنه مصدر بقوله: فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ- أفاده الناصر-.
والسَّابِقُونَ الثاني إما خبر، أي الذين عرفت حالهم، واشتهرت أوصافهم على حدّ (وشعري شعري) ، أو تأكيد، والخبر قوله:
أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ أي الذين يقرّبهم الله منه بإعلاء منازلهم فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الواقعة (56) : الآيات 13 الى 14]
ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14)
ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ أي هم جماعة كثيرة من الذين سبقوا، لرسوخ إيمانهم وظهور أثره في أعمالهم من العمل الصالح، والدعوة إلى الله، والصبر على الجهاد في سبيله، إلى غير ذلك من المناقب التي كانت ملكات لهم. وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ أي الذين جاءوا من بعدهم في الأزمنة التي حدثت فيها الغير، وتبرّجت الدنيا لخطّابها، ونسي معها سر البعثة، وحكمة الدعوة. فما أقلّ الماشين على قدم النبيّ صلى الله عليه وسلم وصحابه! لا جرم أنهم وقتئذ الغرباء، لقلّتهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الواقعة (56) : الآيات 15 الى 26]
عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (19)
وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24)
لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (25) إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً (26)
عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ أي مصفوفة، أو مشبكة بالدرّ والياقوت أو الذهب.
و (الوضن) التشبيك والنسج. مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ أي بوجوههم، متساوين في الرتب، لا حجاب بينهم أصلا. يَطُوفُ عَلَيْهِمْ أي للخدمة وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ أي مبقون على سنّ واحدة لا يموتون. بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ أي حال الشرب. و (الكوب) إناء لا عروة ولا خرطوم له. و (الإبريق) إناء له ذلك. وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ أي خمر جارية.
ثم أشار إلى أنها لذّة كلها، لا ألم معها ولا خمار لا يُصَدَّعُونَ عَنْها أي لا يصدر عنها صداعهم لأجل الخمار، كخمور الدنيا، والصداع: وجع الرأس. وقرئ بالتشديد من التفعل. أي لا يتفرقون. وَلا يُنْزِفُونَ بكسر الزاي وفتحها. أي لا تذهب عقولهم بسكرها وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ أي يختارون ويرتضون. وأصله أخذ الخيار والخير.
قال ابن كثير: وهذه الآية دليل على جواز أكل الفاكهة على صفة التخيّر لها، ثم استشهد له
بحديث عكراش لما أتي النبيّ صلى الله عليه وسلم بثريد، وأقبل عكراش يخبط بيده
في جوانبه فقبض النبيّ صلى الله عليه وسلم بيده وقال: يا عكراش! كل من موضع واحد، فإنه طعام واحد. ثم أتي بطبق فيه تمر أو رطب، فجعل عكراش يأكل من بين يديه، وجالت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطبق فقال: يا عكراش! كل من حيث شئت، فإنه غير لون واحد- رواه الترمذي «1»
واستغربه- وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ أي يتمنون وَحُورٌ عِينٌ أي وأزواج بيض واسعة الأعين. عطف على وِلْدانٌ أو مبتدأ محذوف الخبر. أي وفيها. أو ولهم حور.
وقرئ بالجرّ عطف على بِأَكْوابٍ قال الشهاب: وحينئذ إما أن يقال: يَطُوفُ بمعنى ينعمون مجازا أو كناية. على حدّ قوله:
وزجّجن الحواجب والعيونا
أو يبقى على حقيقته وظاهره، وأن الولدان تطوف عليهم بالحور أيضا، لعرض أنواع اللذات عليهم من المأكول والمشروب والمنكوح، كما تأتي الخدام بالسراري للملوك ويعرضونهن عليهم. وإلى هذا ذهب أبو عمرو وقطرب وجوّز جعله من الجر الجواري. قيل: والفصل يأباه ويضعفه. وأما عطفه على جَنَّاتِ بتقدير مضاف أي هم في جنات، ومصاحبة حور- فقال أبو حيّان: هو فهم أعجمي، فيه بعد وتفكيك للكلام المرتبط، وهو ظاهر. ومن عصّبه فقد تعصّب.
كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ أي صفاؤهنّ كصفاء، الدّرّ في الأصداف الذي لا تمسّه الأيدي وأصل الْمَكْنُونِ الذي صين في كنّ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أي من الصالحات. لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً أي هذيانا وكلاما غير مفيد، باطلا من القول. وَلا تَأْثِيماً أي ما يؤثم من الفحش والكذب والغيبة وأمثالها. إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً قال القاشاني: أي قولا هو سلام في نفسه منزّه عن النقائص، مبرّأ عن الفضول والزوائد. أو قولا يفيد سلامة السامع من العيوب والنقائض، ويوجب سروره وكرامته، ويبين كماله وبهجته، لكون كلامهم كله معارف وحقائق، وتحايا ولطائف، على اختلاف وجهي الإعراب، أي من كون سَلاماً بدلا من قِيلًا أو مفعوله. والتكرير للدلالة على فشوّ السلام بينهم وكثرته، لأن المراد: سلاما بعد سلاما، كقرأت النحو بابا بابا، فيدلّ على تكرّره وكثرته.
(1)
أخرجه في: الأطعمة، 41- باب ما جاء في التسمية في الطعام.

القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الواقعة (56) : الآيات 27 الى 40]
وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَماءٍ مَسْكُوبٍ (31)
وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (35) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (36)
عُرُباً أَتْراباً (37) لِأَصْحابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40)
وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ أي: أي شيء هم! أي هم شرفاء، عظماء كرماء، يتعجب من أوصافهم في السعادة فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ أي لا شوك له. أو موقر بالثمار وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ يعني شجر الموز الذي نضد ثمره من أسفله إلى أعلاه. قال مجاهد: كانوا يعجبون بوجّ من طلحه وسدره. وشجرة الموز ثمرتها حلوة دسمة لذيذة لا نوى لها وَظِلٍّ مَمْدُودٍ أي ممتد منبسط لا يتقلّص وَماءٍ مَسْكُوبٍ أي مصبوب دائم الجريان وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لا مَقْطُوعَةٍ أي لا تنقطع عنهم متى أرادوها، لكونها غير متناهية، وَلا مَمْنُوعَةٍ أي لا تمنع عن طالبها. والقصد مباينتها لفاكهة الدنيا، فإنها تنقطع أحيانا، كفاكهة الصيف في الشتاء، وتمتنع أحيانا لعزتها أو جدبها وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ أي مرتفعة في منازلها، أو على الأرائك للرقود والمضاجعة.
وقد يؤيده تأثره بوصف من يضاجعهن فيها. وهو قوله تعالى: إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً أي بديعا فائق الوصف. فالضمير يعود على ما فهم من السياق والسباق. وقيل: قد يكنى عن الحور بالفرش، كما يكنى عنهن باللباس. فالضمير المذكور على طريق الاستخدام، إذ عاد إلى الفرش بمعنى النساء، بعد إرادة معناها المعروف منها. وقيل:
على طريق الحقيقة. أي مرفوعة على الأرائك. كآية هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ [يس: 56] ، فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً أي لم يطمثن. عُرُباً جمع عروب، وهي المتحببة إلى زوجها. المحبوبة لتبعلها أَتْراباً أي على سن واحدة لِأَصْحابِ الْيَمِينِ متعلق ب (أنشأنا) أو (جعلنا) أو صفة ل أَبْكاراً أو خبر لمحذوف، مثل هن ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ أي جماعة وأمة من المتقدمين في الإيمان، وممن جاء بعدهم من التابعين لهم بإحسان من هذه الأمة.
والكثرة ظاهرة لوفرة أصحاب اليمين في أواخرهم دون السابقين، كما بينا أولا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الواقعة (56) : الآيات 41 الى 48]
وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (45)
وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48)
وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ فِي سَمُومٍ أيّ حر نار ينفذ في المسامّ وَحَمِيمٍ أي ماء متناهي الحرارة وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ أي من دخان أسود، طبق أهويتهم المردية، وعقائدهم الفاسدة، وهيئات نفوسهم المسودة، بالصفات المظلمة، والهيئات السود الرديئة لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ أي ليس له صفتا الظل الذي يأوي إليه الناس من الروح، ونفع من يأوي إليه بالراحة، بل له إيذاء وإيلام وضرّ، بإيصال التعب واللهب والكرب إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ أي منهمكين في اللذات والشهوات، منغمسين في الأمور الطبيعية، والغواشي البدنية، فبذلك اكتسبوا هذه الهيئات الموبقة، والتبعات المهلكة. وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ أي الذنب العظيم، من الأقاويل الباطلة والعقائد الفاسدة، التي استحقوا بها العذاب المخلد، والعقاب المؤبد. وفسره (السبكي) بالقسم على إنكار البعث المشار إليه بقوله تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ [النحل: 38] ، قال الشهاب: وهو تفسير حسن، لأن الحنث، وإن فسر بالذنب مطلقا أو الذنب العظيم، فالمعروف استعماله في عدم البر بالقسم، ولذا تأثره بما كانوا يعتقدونه من إنكار البعث بقوله: وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الواقعة (56) : الآيات 49 الى 56]
قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53)
فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56)
قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ أي معين عنده تعالى، وهو يوم القيامة ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ أي الجاهلون المصرّون على جهالاتهم، والجاحدون للبعث. لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ وهو من أخبث شجر البادية في المرارة، وبشاعة المنظر. ونتن الريح فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ أي من
ثمراتها الوبيئة البشعة المحرقة فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ أي الماء الذي انتهى حره وغليانه. قال الزمخشري: وأنّث ضمير الشجر على المعنى، وذكّره على اللفظ في قوله (منها) و (عليه) فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ أي الإبل التي بها الهيام، وهو داء لا ريّ معه، لشدة الشغف والكلب بها وهذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ أي جزاؤهم في الآخرة.
وفيه مبالغة بديعة، لأن النزل ما يعدّ للقادم عاجلا إذا نزل، ثم يؤتى بعده بما هو المقصود من أنواع الكرامة، فلما جعل هذا، مع أنه أمر مهول، كالنزل، دلّ على أن بعده ما لا يطيق البيان شرحه. وجعله نزلا. مع أنه ما يكرم به النازل، متهكما، كما في قوله:
وكنا إذا الجبار بالجيش ضافنا ... جعلنا القنا والمرهفات له نزلا
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الواقعة (56) : الآيات 57 الى 62]
نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (61)
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ (62)
نَحْنُ خَلَقْناكُمْ أي معشر قريش، والمكذبين بالبعث، فأوجدناكم بشرا، ولم تكونوا شيئا فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ أي بالخلق. وهم، وإن كانوا مقرين به لقوله: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان: 25] و [الزمر: 38] ، إلا أنه نزل منزلة العدم والإنكار، لأنه إذا لم يقترن بالطاعة، والأعمال الصالحة، لا يعد تصديقا. أو المعنى: فلولا تصدقون بالبعث، فإن من قدر على الإبداء، قدر على الإعادة أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ أي ما تقذفونه في الرحم من النطف. أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أي بجعله بشرا سويّا أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ أي بإفاضة الصورة الإنسانية عليه نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ أي كتبنا على كل نفس ذوقه. أي: ومن كان سبيله ذلك، فشأنه أن يرهب من نزوله، ويتأهب لما يخوّف به من بعده. والجملة مقررة لما قبلها بإيذان أنهم في قبضة القدرة، فلا يغترون بالإمهال، بدليل ما قدره عليهم من الموت. وفي قوله تعالى: بَيْنَكُمُ زيادة تنبيه، كأنه بين ظهرانيهم، ثم أكد ما قرره بقوله تعالى:
وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ أي بمغلوبين عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ
أي بعد مهلككم، فنجيء بآخرين من جنسكم وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ
من صور وأشكال أخرى، فكيف نعجز عن إعادتكم؟.
قال الشهاب: والظاهر أن قوله: وَنُنْشِئَكُمْ
المراد به إذا بدلناكم بغيركم، لا في الدار الآخرة، كما توهم. وهذا كقوله تعالى: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ [النساء: 133] ، وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى أي أنه أنشأكم بعد أن لم تكونوا شيئا مذكورا، فخلقكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة. فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ أي فتعرفون أن الذي قدر على هذه النشأة، وهي البداءة. قادر على النشأة الأخرى، وهي الإعادة، وأنها أهون عليه




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 50.41 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 49.78 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.25%)]