عرض مشاركة واحدة
  #580  
قديم 21-06-2025, 06:44 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,026
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الحديد
المجلد السادس عشر
صـ 5686 الى صـ 5695
الحلقة (580)







القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحديد (57) : آية 17]
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17)
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها أي فهو محييكم بعد مماتكم ومحاسبكم، فلا منتدح لكم عن الجزاء. أي فاحذروا مغبة القسوة والفسق. قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ أي الحجج وضروب الأمثال لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ أي لتثوبوا إلى عقولكم ومراشدكم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحديد (57) : الآيات 18 الى 19]
إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (19)
إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ أي المتصدقين والمتصدقات في سبيل الله وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ، وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ أي لتصديقهم بجميع أخبار الله وأحكامه، وشهادتهم بحقية جميع ذلك. وقد جوز في الشهداء وجهان:
أحدهما- أن يكون معطوفا على ما قبله، أخبر عن الذين آمنوا أنهم صديقون شهداء، وهو الظاهر، لأن الأصل الوصل لا التفكيك.
والثاني- أن يكون مبتدأ، خبره لَهُمْ أَجْرُهُمْ. والشُّهَداءُ حينئذ إما الأنبياء الذين يشهدون على قومهم بالتبليغ أو الذين يشهدون للأنبياء على قومهم، أو الذين قتلوا في سبيل الله. واختار الوجه الثاني ابن جرير، قال: لأن الإيمان غير موجب في المتعارف للمؤمن اسم (شهيد) لا بمعنى غيره، إلا أن يراد به شهيد على ما آمن به وصدقه، فيكون ذلك وجها، وإن كان فيه بعض البعد، لأن ذلك ليس بالمعروف من معانيه إذا أطلق بغير وصل فتأويل قوله: وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ إذن، والشهداء الذين قتلوا في سبيل الله، أو أهلكوا في سبيله، عند ربهم، لهم ثواب الله في الآخرة ونورهم. انتهى.
ثم رأيت لابن القيّم في (طريق الهجرتين) بسطا لهذين الوجهين في بحث الصديقية. ننقله لنفاسته. قال رحمه الله في مراتب المكلفين في الآخرة وطبقاتهم:
الطبقة الرابعة- ورثة الرسل وخلفاؤهم في أممهم، وهم القائمون بما بعثوا به علما وعملا، ودعوة للخلق إلى الله على طريقهم ومنهاجهم. وهذه أفضل مراتب الخلق، بعد الرسالة والنبوة، وهي مرتبة الصديقية. ولهذا قرنهم الله في كتابه بالأنبياء، فقال تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً [النساء: 69] .
فجعل درجة الصديقية معطوفة على درجة النبوة. وهؤلاء هم الربانيون، وهم الراسخون في العلم، وهم الوسائط بين الرسول وأمته. فهم خلفاؤه وأولياؤه وحزبه وخاصته وحملة دينه. وهم المضمون لهم أنهم لا يزالون على الحق، لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك. وقال تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ، قيل: إن الوقف على قوله: هُمُ الصِّدِّيقُونَ ثم يبتدئ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ فيكون الكلام جملتين، أخبر في إحداهما عن المؤمنين بالله ورسله أنهم هم الصديقون، والإيمان التام يستلزم العلم والعمل، والدعوة إلى الله بالتعليم والصبر عليه. وأخبر في الثانية أن الشهداء عند ربهم لهم أجرهم ونورهم، ومرتبة الصديقين فوق مرتبة الشهداء ولهذا قدمهم عليهم في الآيتين، هنا، وفي سورة النساء، وهكذا جاء ذكرهم مقدما على الشهداء في
كلام النبيّ «1» في قوله: (اثبت أحد فإنما عليك نبيّ وصديق وشهيد)
ولهذا كان نعت الصديقية وصفا لأفضل الخلق بعد الأنبياء والمرسلين أبي بكر الصديق. ولو كان بعد النبوة درجة أفضل من الصديقية لكانت نعتا له رضي الله عنه.
(1)

أخرجه البخاري في: فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، 5- باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: لو كنت متخذا خليلا، حديث 1728، عن أنس.
وقيل: إن الكلام جملة واحدة، أخبر عن المؤمنين أنهم هم الصديقون والشهداء عند ربهم. وعلى هذا، فالشهداء هم الذين يستشهدهم الله على الناس يوم القيامة، وهي قوله: لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ [البقرة: 143] ، وهم المؤمنون، فوصفهم بأنهم صديقون في الدنيا، وشهداء على الناس يوم القيامة، ويكون الشهداء وصفا لجملة (المؤمنين الصديقين) .
وقيل: الشهداء هم الذين قتلوا في سبيل الله. وعلى هذا القول يترجح أن يكون الكلام جملتين، ويكون قوله: وَالشُّهَداءُ مبتدأ خبره ما بعده، لأنه ليس كل مؤمن صديق شهيدا في سبيل الله. ويرجحه أيضا أنه لو كان الشُّهَداءُ داخلا في جملة الخبر، لكان قوله لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ داخلا أيضا في جملة الخبر عنهم، ويكون قد أخبر عنهم بثلاثة أشياء:
أحدها- أنهم هم الصدّيقون.
والثاني- أنهم هم الشهداء.
والثالث- أن لهم أجرهم ونورهم.
وذلك يتضمن عطف الخبر الثاني على الأول، ثم ذكر الخبر الثالث مجردا عن العطف. وهذا كما تقول: زيد كريم وعالم له مال. والأحسن في هذا تناسب الأخبار، بأن تجردها كلها من العطف أو تعطفها جميعا، فقول. زيد كريم عالم له مال أو كريم وعالم وله مال، فتأمله! ويرجحه أيضا أن الكلام يصير جملا مستقلة قد ذكر فيها أصناف خلقه السعداء، وهم الصديقون والشهداء والصالحون، وهم المذكورون في الآية، وهم المتصدقون الذين أقرضوا الله قرضا حسنا. فهؤلاء ثلاثة أصناف. ثم ذكر الرسل في قوله تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ [الحديد:
25] ، فيتناول ذلك الأصناف الأربعة المذكورة في سورة النساء فهؤلاء هم السعداء، ثم ذكر الأشقياء وهم نوعان: كفار ومنافقون، فقال: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا الآية، وذكر المنافقين في قوله تعالى: يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ [الحديد: 13] الآية. فهؤلاء أصناف العالم كلهم. وترك سبحانه ذكر المخلّط صاحب الشائبتين، على طريق القرآن في ذكر السعداء والأشقياء، دون المخلطين غالبا، لسرّ اقتضته حكمته. فليحذر صاحب التخليط، فإنه لا ضمان له على الله، فلا هو من أهل وعده المطلق، ولا ييأس من روح الله، فإنه ليس من الكفار الذين قطع لهم بالعذاب، ولكنه بين الجنة والنار، واقف بين الوعد والوعيد، كل منهما يدعوه إلى موجبه لأنه أتى بسببه، وهذا هو الذي لحظه القائلون بالمنزلة بين المنزلتين، ولكن غلطوا في
تخليده في النار، ولو نزلوه بين المنزلتين، ووكلوه إلى المشيئة لأصابوا. انتهى كلام ابن القيم، وفيه موافقة لما اختاره ابن جرير في الآية.
ولما ذكر تعالى السعداء ومآلهم، عطف بذكر الأشقياء، وبين حالهم بقوله:
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ.
ثم حقر تعالى أمر الدنيا، وبين حاصل أمرها عند أهلها، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحديد (57) : آية 20]
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (20)
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ أي تفريح نفس وَلَهْوٌ أي باطل وَزِينَةٌ أي منظر حسن وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ أي في الحسب والنسب وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أي مطر أَعْجَبَ الْكُفَّارَ أي الزراع نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ أي يجف بعد خضرته ونضرته فَتَراهُ مُصْفَرًّا أي من اليبس ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً أي هشيما متكسرا، وكذلك الدنيا لا تبقى كما لا يبقى النبات وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ أي لمن ترك طاعة الله، ومنع حق الله وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ أي في الآخرة لمن أطاع الله، وأدى حق الله من ماله وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ قال المهايمي: يأخذ صاحبها ملاعب الدنيا بدل ملاعب الحور العين، ولهوها بملاذ الجنة. وزينتها بزينة الجنة. والتفاخر بدل التفاخر بجوار الله والقرب، والتكاثر بالأموال والأولاد بدل نعم الله والولدان المخلدين في الجنة.
ولما حقر الحياة الحسية النفسية الفانية، وصورها في صورة الخضراء السريعة الانقضاء، دعاهم إلى الحياة الباقية، فقال تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحديد (57) : آية 21]
سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)
سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أي بادروا بالتوبة من ذنوبكم، إلى نيل مغفرة وتجاوز عن خطيئاتكم من ربكم وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ
آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ
أي الإيمان اليقيني. ذلِكَ أي المغفرة والجنة فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ أي ممن كان أهلا له وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ قال ابن جرير أي بما بسط لخلقه من الرزق في الدنيا، ووهب لهم من النعم، وعرّفهم موضع الشكر، ثم جزاهم في الآخرة على الطاعة، ما وصف أنه أعدّه لهم،
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحديد (57) : الآيات 22 الى 24]
ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24)
ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ أي من قحط وجدب ووباء وغلاء وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ أي من خوف ومرض وموت أهل وولد، وذهاب مال إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها أي إلا في علم أزليّ من قبل خلق المصيبة أو الأنفس. وما علم الله كونه فلا بد من حصوله إِنَّ ذلِكَ أي حفظه وتقديره على الأنفس المبروءة ما قدر، عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ أي لسعة علمه وإحاطته لِكَيْلا تَأْسَوْا أي تحزنوا عَلى ما فاتَكُمْ أي من عافية ورزق ونحوهما وَلا تَفْرَحُوا أي تبطروا بِما آتاكُمْ أي من نعم الدنيا. والمعنى: أعلمناكم بأنا قد فرغنا من التقدير، فلا يتصور فيه تقديم ولا تأخير ولا تبديل ولا تغيير، فلا الحزن يدفعه، ولا السرور يجلبه ويجمعه. قال القاشاني: أي لتعلموا علما يقينيّا أن ليس لكسبكم وحفظكم وحذركم وحراستكم فيما آتاكم، مدخل وتأثير. ولا لعجزكم وإهمالكم وغفلتكم وقلة حيلتكم. وعدم احترازكم واحتفاظكم فيما فاتكم مدخل. فلا تحزنوا على فوات خير، ونزول شر، ولا تفرحوا بوصول خير. وزوال شر، إذ كلها مقدرة وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ أي متبختر من شدة الفرح بما آتاه فَخُورٍ أي به على الناس، لعدم يقينه، وبعده عن الحق، بحب الدنيا، واحتجابه بالظلمات عن النور الَّذِينَ يَبْخَلُونَ أي بالإنفاق في سبيل الله، لشدة محبة المال وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ أي لاستيلاء الرذيلة عليهم، والموصول إما مبتدأ وخبره محذوف، أي لهم وعيد شديد، أو خبر ومبتدؤه محذوف، أي هم الذين، أو بدل من (كل) . وَمَنْ يَتَوَلَّ أي يعرض عن ذكر الله، وما أمر به فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ أي عنه، لاستغنائه بذاته الْحَمِيدُ أي لاستقلاله
بكماله، وفيه تهديد وإشعار بأن الأمر بالإنفاق لمصلحة المنفق، لا لما يعود عليه تعالى، فإنه الغنيّ المطلق.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحديد (57) : آية 25]
لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)
لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ أي بالحجج والبراهين القاطعة على صحة ما يدعون إليه وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ أي التامّ في الحكم والأحكام وَالْمِيزانَ أي العدل- قاله مجاهد وقتادة وغيرهما- قال ابن كثير: وهو الحق الذي تشهد به العقول الصحيحة المستقيمة، المخالفة للآراء السقيمة لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ أي بالحق والعدل، وهو اتباع الرسل فيما أمروا به، وتصديقهم فيما أخبروا عنه، فإن الذي جاءوا به هو الحق الذي ليس وراءه حق، كما قال: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلًا [الأنعام: 115] . أي صدقا في الأخبار، وعدلا في الأوامر والنواهي، ولهذا يقول المؤمنون، إذا تبوأوا غرف الجنات الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ [الأعراف: 43] . وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ يعني القتال به، فإن آلات الحروب متخذة منه وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ أي في مصالحهم ومعايشهم، فما من صناعة إلا وللحديد يد فيها.
فإن قيل: الجمل المتعاطفة لا بد فيها من المناسبة، وأين هي في إنزال الحديد مع ما قبله؟
فالجواب: أن بينهما مناسبة تامة، لأن المقصود ذكر ما يتم به انتظام أمور العالم في الدنيا، حتى ينالوا السعادة في الأخرى. ومن هداه الله من الخواص العقلاء ينتظم حاله في الدارين بالكتب والشرائع المطهرة. ومن أطاعهم وقلدهم من العامة بإجراء قوانين الشرع العادلة بينهم. ومن تمرد وطغا وقسا يضرب بالحديد، الرادّ لكل مريد. وإلى الأولين أشار بقوله: وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ فجمعهم وأتباعهم في جملة واحدة. وإلى الثالث أشار بقوله: وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فكأنه قال: أنزلنا ما يهتدي به الخواصّ، وما يهتدي به أتباعهم، وما يهتدي به من لم يتبعهم، فهي حينئذ معطوفة، لا معترضة لتقوية الكلام كما توهم، إذ لا داعي له، وليس في الكلام ما يقتضيه، بل فيه ما ينافيه.
قال العتبي في أول (تاريخه) : كان يختلج في صدري أن في الجمع بين الكتاب والميزان والحديد تنافرا، وسألت عنه فلم أحصل على ما يزيح العلة وينقع الغلة، حتى أعملت التفكر، فوجدت (الكتاب) قانون الشريعة، ودستور الأحكام الدينية، يتضمن جوامع الأحكام والحدود، وقد حظر فيه التعادي والتظالم، ودفع التباغي والتخاصم، وأمر بالتناصف والتعادل، ولم يكن يتم إلا بهذه الآلة، فلذا جمع الْكِتابَ وَالْمِيزانَ وإنما تحفظه العامة على اتباعها بالسيف، وجذوة عقابه، وعذاب عذابه، وهو (الحديد) الذي وصفه الله بالبأس الشديد. فجمع بالقول الوجيز، معاني كثيرة الشعوب، متدانية الجنوب، محكمة المطالع، مقومة المبادئ والمقاطع- نقله الشهاب-.
وأوّل القاشاني (البينات) بالمعارف والحكم، والْكِتابَ بالكتابة، والْمِيزانَ بالعدل، لأنه آلته، والْحَدِيدَ بالسيف، لأنه مادته. قال: وهي الأمور التي بها يتم الكمال النوعي، وينضبط الكليّ، المؤدي إلى صلاح المعاش والمعاد، إذ الأصل المعتبر والمبدأ الأول، هو العلم والحكمة. والأصل المعول عليه في العمل، والاستقامة في طريق الكمال، هو العدل، ثم لا ينضبط النظام، ولا يتمشى صلاح الكل إلا بالسيف والقلم اللذين يتم بهما أمر السياسة. فالأربعة هي أركان كمال النوع، وصلاح الجمهور. ويجوز أن تكون (البينات) إشارة إلى المعارف والحقائق النظرية والْكِتابَ إشارة إلى الشريعة والحكم العملية والْمِيزانَ إلى العمل بالعدل والسوية والْحَدِيدَ إلى القهر ودفع شرور البرية. وقيل: (البينات) العلوم الحقيقية، والثلاثة الباقية هي النواميس الثلاثة المشهورة المذكورة في الكتب الحكمية. أي الشرع، والدينار المعدل للأشياء في المعاوضات، والملك. وأيّا ما كان فهي الأمور المتضمنة للكمال الشخصيّ والنوعيّ في الدارين، إذ لا يحصل كمال الشخص إلا بالعلم والعمل، ولا كمال النوع إلا بالسيف والقلم، أما الأول فظاهر، وأما الثاني فلأن الإنسان مدني بالطبع، محتاج إلى التعامل والتعاون، لا تمكن معيشته إلا بالاجتماع. والنفوس إما خيّرة أحرار بالطبع، منقادة للشرع، وإما شريرة عبيد بالطبع آبية للشرع. فالأولى يكفيها في السلوك طريق الكمال والعمل بالعدالة واللطف وسياسة الشرع. والثانية لا بدّ لها من القهر وسياسة الملك. انتهى.
تنبيه:
لشيخ الإسلام ابن تيمية رسالة في معنى نزول القرآن ولفظ النزول، حيث ذكر
في كتاب الله تعالى، بيّن فيها أن كثيرا من الناس فسروا النزول في مواضع من القرآن بغير ما هو معناه المعروف، لاشتباه المعنى في تلك المواضع. وصار ذلك حجة لمن فسر نزول القرآن بتفسير أهل البدع. وحقق رحمه الله أن ليس في القرآن ولا في السنة لفظ (نزول) إلا فيه معنى النزول المعروف. قال: وهو اللائق بالقرآن، فإنه نزل بلغة العرب، ولا تعرف العرب منزولا إلا بهذا المعنى. ولو أريد غير هذا المعنى لكان خطابا بغير لغتها. ثم هو استعمال اللفظ المعروف له معنى، في معنى آخر بلا بيان، وهذا لا يجوز بما ذكرنا. قال: وقد ذكر سبحانه إنزال الحديد، والحديد يخلق في المعادن. وما يذكر عن ابن عباس رضي الله عنهما أن آدم عليه السلام نزل من الجنة ومعه خمسة أشياء من حديد: السندان والكلبتان والميقعة والمطرقة والإبرة- فهو كذب لا يثبت مثله. وكذلك
الحديث الذي رواه الثعلبي عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أن الله أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض، فأنزل الحديد والماء والنار والملح
-
حديث موضوع ومكذوب والناس يشهدون أن هذه الأمة تصنع من حديد المعادن ما يريدون.

فإن قيل: إن آدم عليه السلام نزل معه جميع الآلات، فهذه مكابرة للعيان.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 51.18 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 50.55 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.23%)]