عرض مشاركة واحدة
  #586  
قديم 21-06-2025, 09:27 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,763
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله






تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الحشر
المجلد السادس عشر
صـ 5746 الى صـ 5755
الحلقة (586)







القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحشر (59) : آية 10]
وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (10)
وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ يعني بالذين جاءوا من بعدهم، الذين هاجروا حين قوي الإسلام من بعد الذين هاجروا مخرجين من ديارهم. فالمراد مجيئهم إلى المدينة بعد مدة. والمجيء حسي. وقيل: هم المؤمنون بعد الفريقين إلى يوم القيامة. فالمجيء إما إلى الوجود، أو إلى الإيمان. ونظير هذه الآية، آية براءة:
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [التوبة: 100] .
قال الشهاب: والمراد بدعاء اللاحق للسابق، والخلف للسلف، أنهم متبعون لهم، أو هو تعليم لهم بأن يدعوا لمن قبلهم، ويذكروهم بالخير.
تنبيه:
جعل الزمخشري قوله: وَالَّذِينَ عطفا على الْمُهاجِرِينَ كالموصول قبله في قوله: وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا ... إلخ. فيكون قوله يُحِبُّونَ وقوله يَقُولُونَ حالين.
(1)
أخرجه في مسنده 2/ 159. الحديث رقم 6487.

(2)
أخرجه النسائي في: الجهاد، 8- باب فضل من عمل في سبيل الله على قدمه.

وجوز السمين: وجها ثانيا، وهو كون الموصول فيهما مبتدأ، وما بعده خبره.
وعندي أن هذا هو الوجه، ما قبله تكلف، وأن الموصولين مستأنفان لمدح إيمان الأنصار والتابعين لهم بتلك الأخلاق الفاضلة، والخصال الكاملة. وما حمل الزمخشري ومن تابعه على الاقتصار على الوجه الأول إلا لتشمل أصناف من يستحق الفيء من فقراء كلّ، كأنه قيل: لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا ... إلخ، وَللفقراء الَّذِينَ تَبَوَّؤُا ... إلخ، وللفقراء الذين جاءوا من بعدهم ... إلخ، مع أن سياق الآيات المذكورة، ورعاية وقت نزولها، والمهاجرون في جهد، والأنصار في سعة ورغد- يقضي بأن المقصود منها للفيء، هو فقراء المهاجرين خاصة وأن الذين تبوءوا الدار في غنى عنه وعدم تشوف إليه، لشدة محبتهم لإخوانهم، بل رغبتهم في إيثارهم. ثم بين تعالى حال من يجيء بعدهم بأنه يثني على من سبقه، ويدعو له ابتهاجا بما أتوا، واغتباطا بما عملوا، لأنهم بين مهاجر عن أهله وأمواله، محبة في الله ورسوله، وبين محب لمن هاجر، مكرم له، بل مؤثر إياه، مما أشفّ عن قوة الإيمان، والإخلاص في تدعيم روابط الإيقان، هذا هو الظاهر من نظم الآيات الكريمة، وذوق سوقها. وأما فقراء الصنفين الآخرين، فإنهم يستحقون من الفيء قياسا على الصنف الأول، لاشتراكهم في الفقر. إلا أنه في عهد النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يشك أحد من الأنصار في تلك الواقعة فقرا، إلا سهلا وأبا دجانة- كما تقدم- فأعطاهما صلى الله عليه وسلم. وأما في غيرها من الوقائع التي كثرت فيها المغانم، فقد كان حظهم منها ما هو معروف ومبين في آيات أخر، فإن التنزيل الكريم بيّن مقاسم الأموال لذويها في عدة آيات.
روى ابن جرير أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ [التوبة: 60] . حتى بلغ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ثم قال: هذه لهؤلاء. ثم قرأ وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ ... [الأنفال: 41] الآية. ثم قال: هذه الآية لهؤلاء. ثم قرأ ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى [الحشر: 7] . حتى بلغ وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ [الحشر: 10] . ثم قال:
استوعبت هذه الآية المسلمين عامة، فليس أحد إلا له فيها حق. ثم قال لئن عشت ليأتين الراعي. وهو يسيّر حمره، نصيبه، لم يعرق فيها جبينه!
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحشر (59) : آية 11]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (11)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ يعني بني النضير المتقدم ذكرهم. وأخوّتهم معهم أخوّة دين واعتقاد، أو أخوّة صداقة وموالاة لأنهم كانوا معهم سرّا على المؤمنين لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ أي من دياركم لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أي في خذلانكم أَحَداً أَبَداً أي من الرسول صلوات الله عليه، والمؤمنين وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ أي لنعاوننكم.
قال ابن جرير: ذكر أن الذين نافقوا عبد الله بن أبيّ ابن سلول. ووديعة ومالك ابنا نوفل، وسويد، وداعس. بعثوا إلى بني النضير حين نزل بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم للحرب أن اثبتوا وتمنعوا، فإنا لن نسلمكم، وإن معكم قوتلتم قاتلنا وإن أخرجتم خرجنا معكم، فتربصوا لذلك من نصرهم، فلم يفعلوا، وقذف الله في قلوبهم الرعب، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجليهم ويكف عن دمائهم، على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم، إلا الحلقة، كما تقدم وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ أي لعلمه بأنهم لا يفعلون ذلك. كما قال:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحشر (59) : آية 12]
لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (12)
لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ أي منهزمين، ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ أي بنوع مّا من أنواع النصر. والضمير للمنافقين أو اليهود.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحشر (59) : آية 13]
لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (13)
لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ أي هم يرهبونكم أشد من رهبتهم من الله، لاحتجابهم بالخلق عن الحق، بسبب جهلهم بالله، وعدم معرفتهم له، إذ لو عرفوه لشعروا بعظمته وقدرته وعلمه، ولم يستخفوا بمعاصيه، ويستخفّوا بأوامره. والضمير للمنافقين أو اليهود.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحشر (59) : آية 14]
لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (14)
لا يُقاتِلُونَكُمْ أي اليهود وإخوانهم جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أي بالحصون، فلا يبرزون إلى البراز أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ أي من خلف حيطان، لفرط رهبتهم منكم، بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ قال الزمخشري: يعني أن البأس الشديد الذي يوصفون به إنما هو بينهم إذا اقتتلوا، ولو قاتلوكم لم يبق لهم ذلك البأس والشدة، لأن الشجاع يجبن، والعزيز يذلّ، عند محاربة الله ورسوله. انتهى.
تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى أي تظنهم مجتمعين لاتفاقهم في الظاهر، والحال أن قلوبهم متفرّقة، لاختلاف مقاصدها، وتجاذب دواعيها، وتفرّقها عن الحق بالباطل. ذلِكَ قال المهايمي: أي الاجتماع في الظاهر، مع افتراق البواطن، بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ أي أنه يوجب جبنهم المفضي إلى الهلاك الكليّ. انتهى.
وفي هذه الآيات الثلاث تشجيع للمؤمنين على منازلتهم، والحمل عليهم، وتبشير لهم بأنهم المنصورون الغالبون.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحشر (59) : آية 15]
كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (15)
كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أي مثل هؤلاء اليهود من بني النضير، فيما نزل بهم من العقوبة، كمثل من نالهم جزاء بغيهم من قبلهم، وهم كفار قريش في وقعة بدر، أو بنو فينقاع. قال ابن كثير: والثاني أشبه بالصواب، فإن يهود بني قينقاع كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أجلاهم قبل هذا. انتهى.
قال قتادة: إن بني قينقاع كانوا أول يهود نقضوا ما بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحاربوا فيما بين بدر وأحد. وكان من أمرهم أن امرأة من العرب قدمت بجلب لها فباعته بسوق بني قينقاع، وجلست إلى صائغ بها، فجعلوا يريدونها على كشف وجهها، فأبت. فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها، فعقده إلى ظهرها، فلما قامت انكشفت سوأتها، فضحكوا بها، فصاحت فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله، وكان يهوديا، فشدت اليهود على المسلم فتقلوه، فاستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود، فغضب المسلمون، فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلوا على حكمه، فأمرهم أن يخرجوا من المدينة، ولا يجاوروه بها، فخرجوا إلى الشام- والتفصيل في السير-.
وقال ابن جرير: وأولى الأقوال بالصواب أن يقال إن الله عزّ وجلّ مثل هؤلاء الكفار من أهل الكتاب، مما هو مذيقهم من نكاله، بالذين من قبلهم من مكذبي
رسوله صلى الله عليه وسلم، الذين أهلكهم بسخطه، وأمر بني قينقاع، ووقعة بدر، كانا قبل جلاء بني النضير، وكل أولئك قد ذاقوا وبال أمره، ولم يخصص الله عزّ وجلّ منهم بعضا في تمثيل هؤلاء بهم دون بعض. وكل ذائق وبال أمره، فمن قربت مدته منهم قبلهم، فهم ممثلون بهم فيها عنوا به من المثل. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحشر (59) : الآيات 16 الى 17]
كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (16) فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (17)
كَمَثَلِ الشَّيْطانِ أي مثل المنافقين في إغراء بني النضير على القتال، ووعدهم النجدة أو الخروج معهم، ومثل انخداع بني النضير بوعد أولئك الكاذب، كمثل الشيطان إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ أي إذ غر إنسانا ووعده على اتباعه وكفره بالله، النصرة عند الحاجة إليه فَلَمَّا كَفَرَ أي بالله، واتبعه وأطاعه قالَ أي مخافة أن يشركه في عذابه، مسلما له وخاذلا إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ أي فلا أعينك إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ أي في نصرتك فلم ينفعه التبرؤ، كما لم ينفع الأول وعده الإعانة فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ أي في حق الله تعالى، وحق العباد. أي وهكذا جزاء اليهود من بني النضير والمنافقين، الّذين وعدوهم النصرة. وكل كافر بالله ظالم لنفسه على كفره به. إنهم في النار مخلدون.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحشر (59) : آية 18]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (18)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ أي بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه.
قال المهايمي: يعني أن مقتضى إيمانكم أن لا تأمنوا مكر الله، فاتقوه أن يسلط عليكم الشيطان ليغويكم بالكفر، ثم يتبرأ منكم.
وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ أي لما بعد الموت من الصالحات وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ أي فيجازيكم بحسبها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحشر (59) : آية 19]
وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (19)
وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ قال ابن جرير: أي لا تكونوا كالذين تركوا أداء حق الله الذي أوجبه عليهم، فأنساهم حظوظ أنفسهم من الخيرات.
وقال القاشاني: نَسُوا اللَّهَ أي بالاحتجاب بالشهوات الجسمانية، والاشتغال باللذات النفسانية فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ حتى حسبوها البدن وتركيبه ومزاجه، فذهلوا عن الجوهرة القدسية، والفطرية النورية.
وقال ابن القيّم في (دار السعادة) : تأمل هذه الآية تجد تحتها معنى شريفا عظيما. وهو أن من نسي ربه، أنساه ذاته ونفسه، فلم يعرف حقيقته ولا مصالحه، بل نسي ما به صلاحه وفلاحه، في معاشه ومعاده، فصار معطلا مهملا، بمنزلة الأنعام السائبة بل ربما كانت الأنعام أخبر بمصالحها منه، لبقائها علي هداها الذي أعطاها إياه خالقها. وأما هذا فخرج عن فطرته التي خلق عليها، فنسي ربه. فأنساه نفسه وصفاتها، وما تكمل به، وتزكو به، وتسعد به في معاشها ومعادها. قال تعالى: وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً [الكهف: 28] . فغفل عن ذكره ربه، فانفرط عليه أمره وقلبه، فلا التفات له إلى مصالحه وكماله، وما تزكو به نفسه وقلبه، بل هو مشتت القلب مضيعه، مفرط الأمر، حيران لا يهتدي سبيلا، فالعلم بالله أصل كل علم، وهو أصل علم العبد بسعادته وكماله، ومصالح دنياه وآخرته. والجهل به مستلزم للجهل بنفسه ومصالحها وكمالها، وما تزكو به وتفلح به. فالعلم به سعادة العبد، والجهل به أصل شقاوته، انتهى.
أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ أي: الذين خرجوا عن الدين القيّم الذي هو فطرة الله التي فطر الناس عليها. وخانوا وغدروا، ونبذوا عهد الله وراء ظهورهم فخسروا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحشر (59) : آية 20]
لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ (20)
لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وهم الناسون الغادرون وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ وهم المؤمنون المتقون الموفون بعهدهم. أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ أي: بالنعيم المقيم.
تنبيهان:
الأول- قال الزمخشري: استدل أصحاب الشافعي رضي الله عنه بهذه الآية على أن المسلم لا يقتل بالكافر. انتهى.
وردّ الاستدلال بذلك أحد أئمة الشافعية، وهو برهان الدين في (تفضيل السلف على الخلف) بما مثاله:
احتج بهذه الآية بعض الشافعية في مسألة قتل المسلم بالذمي، وهذا في غاية الضعف، لأن أحدا لم يسوّ بينهما. وإيجاب القصاص ليس بتسوية، لأنه ما من متباينين في وجوه، إلا وقد استويا في وجه أو وجوه. فلا يكون إيجاب القود استواء كما لا يكون إيجاب الدية والكفارة استواء. فهذا كلام من ضعف نظره في مورد الانتزاع من شواهد الفرقان. انتهى.
الثاني- قال أبو السعود: لعل تقديم أصحاب النار في الذكر للإيذان من أول الأمر بأن القصور الذي ينبئ عنه عدم الاستواء، من جهتهم، لا من جهة مقابليهم.
فإن مفهوم عدم الاستواء بين الشيئين المتفاوتين. زيادة ونقصانا، وإن جاز اعتباره بحسب زيادة الزائد، لكن المتبادر اعتباره بحسب نقصان الناقص. وعليه قوله تعالى: هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ [الرعد:
16] ، إلى غير ذلك من المواقع وأما قوله تعالى: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر: 9] ، فلعل تقديم الفاضل فيه، لأن صلته ملكة لصلة المفضول والأعدام مسبوقة بملكاتها. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحشر (59) : آية 21]
لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21)
لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ أي الجامع للمواعظ، الموجب للنظر والتقوى بكل حال، عَلى جَبَلٍ قال المهايمي أي بتفهيمه له وتكليفه بما فيه، بعد إعطاء القوى المدركة والمحركة لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً أي متذللا لعظمة الله مُتَصَدِّعاً أي متشققا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ أي مع عظم مقداره، وغاية صلابته، وتناهي قساوته. قال القاشاني: أي قلوبهم أقسى من الحجر في عدم التأثر والقبول، إذ الكلام الإلهي بلغ من التأثير ما لا إمكان للزيادة وراءه، حتى لو فرض إنزاله على جبل لتأثر منه بالخشوع
والانصداع وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ أي وتلك الأمور، وإن كانت وهمية، مفروضة، فلا بد من اعتبارها وضربها للناس الذين نسوا صغر مقدارهم فتكبروا، ولينهم فقست قلوبهم لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ أي ليعلموا أنه أولى بذلك الخشوع والتصدع.
قال الزمخشري: الآية تمثيل كما مرّ في قوله: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ [الأحزاب: 72] . وقد دل عليه قوله: وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ والغرض توبيخ الإنسان على قسوة قلبه، وقلة تخشعه، عند تدبر القرآن، وتدبر قوارعه وزواجره.
ثم أشار تعالى إلى أنه كيف يترك الخشوع لذات الله وأسمائه، مع أنه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحشر (59) : الآيات 22 الى 24]
هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)
هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أي المعبود الذي لا تنبغي العبادة والألوهية إلا له.
عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أي ما غاب عن الحس وشوهد هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ أي المنعم بالنعم العامة والخاصة. ومن كان مطلعا على الأسرار يحب أن يخشع له، ويخشى منه، لا سيما من حيث كونه منعما. إذ حق المنعم أن يخشع له، ويخشى أن تسلب نعمه هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ أي الغني المطلق، الذي يحتاج إليه كل شيء، المدبر للكل في ترتيب نظام لا أكمل منه الْقُدُّوسُ أي المنزه عما لا يليق بجلاله، تنزها بليغا السَّلامُ أي الذي يسلم خلقه من ظلمه، أو المبرأ عن النقائص كالعجز الْمُؤْمِنُ أي لأهل اليقين بإنزال السكينة، ومن فزع الآخرة الْمُهَيْمِنُ أي الرقيب على كل شيء باطلاعه واستيلائه وحفظه الْعَزِيزُ أي القويّ الذي يغلب ولا يغلب الْجَبَّارُ أي الذي تنفذ مشيئته على سبيل الإجبار في كل أحد، ولا تنفذ فيه مشيئة أحد، والذي لا يخرج أحد عن قبضته- قاله الغزالي في (المقصد الأسنى) -.
وقال الإمام ابن القيّم في (الكافية الشافية) :

وكذلك (الجبّار) من أوصافه ... والجبر في أوصافه قسمان
جبر الضعيف. وكل قلب قد غدا ... ذا كسرة، فالجبر منه داني
والثان جبر القهر بالعز الذي ... لا ينبغي لسواه من إنسان
وله مسمّى ثالث وهو العلوّ ... فليس يدنو منه من إنسان
من قولهم (جبّارة) للنخلة ال ... عليا التي فاتت بكل بنان
الْمُتَكَبِّرُ أي الذي يرى الكل حقيرا بالإضافة إلى ذاته، ولا يرى العظمة والكبرياء إلا لنفسه. فينظر إلى غيره نظر الملوك إلى العبيد. سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ أي من الأوثان والشفعاء. هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ أي المقدّر للأشياء على مقتضى حكمته الْبارِئُ أي الموجد لها بعد عدم. الْمُصَوِّرُ أي الكائنات كما شاء. لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى أي الدالة على محاسن المعاني، وأحاسن الممادح.
يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. أي في تدبيره خلقه.
وصرفهم فيما فيه صلاحهم وسعادتهم.
تنبيهات:

الأول- قال السيد ابن المرتضى في (إيثار الحق) : مقام معرفة كمال الرب الكريم، وما يجب له من نعوته وأسمائه الحسنى، من تمام التوحيد الذي لا بد منه، لأن كمال الذات بأسمائه الحسنى، ونعوتها الشريفة، ولا كمال لذات لا نعت لها ولا اسم، ولذلك عدّ مذهب الملاحدة في مدح الرب بنفيها، من أعظم مكايدهم للإسلام، فإنهم عكسوا المعلوم عقلا وسمعا فذموا الأمر المحمود. ومدحوا الأمر المذموم، القائم مقام النفي، والجحد المحض، وضادّوا كتاب الله ونصوصه الساطعة.

قال الله جل جلاله: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ [الأعراف: 180] . وقال سبحانه وتعالى: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى [الإسراء: 110] . فما كان منها منصوصا في كتاب الله وجب الإيمان به على الجميع، والإنكار على من جحده، أو زعم أن ظاهر اسم ذمّ لله سبحانه. وما كان في الحديث وجب الإيمان به على من عرف صحته.

وما نزل عن هذه المرتبة، أو كان مختلفا في صحته، لم يصح استعماله، فإن الله أجلّ من أن يسمّى باسم لم يتحقق أنه تسمّى به.

ثم قال: وعادة بعض المحدّثين أن يوردوا جميع ما ورد في الحديث المشهور في تعدادها، مع الاختلاف الشهير في صحته. وحسبك أن البخاري ومسلما تركا
تخريجه مع رواية أوّله. واتفاقهما على ذلك يشعر بقوة العلة فيه. ولكن الأكثرين اعتمدوا ذلك تعرضا لفضل الله العظيم في وعده من أحصاها بالجنة، كما اتفق على صحته. وليس يستيقن إحصاؤها بذلك إلا لو لم يكن لله سبحانه اسم غير تلك الأسماء، فأما إذا كانت أسماؤه سبحانه أكثر من أن تحصى، بطل اليقين بذلك، وكان الأحسن الاقتصار على ما في كتاب الله، وما اتفق على صحته بعد ذلك، وهو النادر، وقد ثبت أن أسماء الله تعالى أكثر من ذلك المروي بالضرورة والنص.

ثم أطال رحمه الله في ذلك وأطاب. فليرجع إليه النّهم بالتحقيقات.

الثاني- قال الغزاليّ في (المقصد الأسنى) - وهو من أنفس ما ألف في معاني الأسماء الحسنى-: هل الصفات والأسامي المطلقة على الله تعالى تقف على التوقيف. أو تجوز بطريق العقل؟ والذي مال إليه القاضي أبو بكر الباقلاني أن ذلك جائز، إلا ما منع منه الشرع، أو أشعر بما يستحيل معناه على الله تعالى. فأما ما لا مانع فيه فإنه جائز. والذي ذهب إليه الشيخ أبو الحسن الأشعري، رحمة الله عليه، أن ذلك موقوف على التوقيف، فلا يجوز أن يطلق في حق الله تعالى. إلا إذا أذن فيه.

والمختار عندنا أن نفصل ونقول: كل ما يرجع إلى الاسم، فذلك موقوف على الإذن، وما يرجع إلى الوصف، فذلك لا يقف على الإذن، بل الصادق منه مباح دون الكاذب. ثم جوّد رحمه الله البيان بما لا غاية بعده.

الثالث- قال السيد ابن المرتضى في (إيثار الحق) : قد تكلم على معانيها جماعة من أهل العلم والتفسير، وأكثرها واضح. والعصمة فيها عدم التشبيه، واعتقاد أن المراد بها أكمل معانيها، الكمال الذي لا يحيط بحقيقته إلا الله تعالى.

ثم قال: ولا بد من الإشارة هنا إلى أمر جمليّ، وهو أصل عظيم.، وذلك تفسير الحسنى جملة: فاعلم أنها جمع (الأحسن) لا جمع الحسن، وتحت هذا سر نفيس:

وذلك أن (الحسن) من صفات الألفاظ، ومن صفات المعاني، فكل لفظ له معنيان حسن وأحسن، فالمراد الأحسن منهما حتى يصح جمعه (حسنى) ، ولا يفسر بالحسن منهما إلا الأحسن بهذا الوجه. ثم بيّن مثال ذلك فانظره.






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 50.74 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 50.11 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.24%)]