عرض مشاركة واحدة
  #587  
قديم 21-06-2025, 09:32 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,840
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله







تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الممتحنة
المجلد السادس عشر
صـ 5756 الى صـ 5765
الحلقة (587)








بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الممتحنة
بفتح الحاء، وقد تكسر، فعلى الأول هي صفة المرأة التي نزلت فيها. وعلى الثاني صفة السورة، كما قيل لبراءة (الفاضحة) - كما في (الأعلام) -.
قال المهايمي: سميت بها لدلالة آية الامتحان على أنه لا يكتفي في باب الصحة بظواهر الأدلة كالهجرة، بل لا بد من اختبار البواطن. فدلائل الاعتقادات أولى بذلك. وهذا من أعظم مقاصد القرآن. انتهى.
وفي (جمال القراء) أنها تسمى سورة الامتحان، وسورة المودة. وهي مدنية.
وآيها ثلاث عشرة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الممتحنة (60) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (1)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ أي أنصارا. نهي لأصحاب النبيّ صلوات الله عليه، عن موالاة مشركي مكة المحاربين لله ولرسوله وقتئذ، لما فيها من الفتنة بالدين وأهله كما يأتي. تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ أي صميم المحبة، والباء زائدة في المفعول وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ أي من الإيمان بالله ورسوله وكتابه، الذي هو نهاية الهدى، وغاية السعادة.
ثم أشار إلى أنه لم يكفهم ذلك حتى آذوا المؤمنين، بما يقطع العلائق معهم
رأسا، بقوله: يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أي من أرضكم ودياركم أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ أي يخرجونكم لإيمانكم بالله، الجامع للكمالات المقتضية انقياد الناقص له، لا سيما باعتبار اتصافه بوصف كونه ربّاكم بالكمالات، فهي بالحقيقة عداوة مع الله.
قال ابن كثير: هذا مع ما قبله من التهييج على عداوتهم، وعدم موالاتهم، لأنهم أخرجوا الرسول وأصحابه من بين أظهرهم، كراهة لما هم عليه من التوحيد، وإخلاص العبادة لله وحده. ولهذا قال تعالى: أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ أي لم يكن لكم عندهم ذنب إلا إيمانكم بالله ربّ العالمين كقوله تعالى: وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [البروج: 8] . وكقوله تعالى: الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ [الحج: 40] ، وقوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ أي هاجرتم جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي أي للجهاد في طريقي الذي شرعته لكم، وديني الذي أمرتكم به. والتماس رضائي عنكم الذي لا ثواب فوقه، والشرط متعلق ب لا تَتَّخِذُوا أي لا تتولوا أعدائي إن كنتم أوليائي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ أي من المودة معهم وغيرها وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ أي اتخاذهم أولياء فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ أي جار عن السبيل السوي الذي جعله الله هدى ونجاة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الممتحنة (60) : آية 2]
إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2)
إِنْ يَثْقَفُوكُمْ أي يظفروا بكم يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً أي حربا، ولا ينفعكم إلقاء المودة إليهم وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ أي بما يسوؤكم كالقتل والشّتم، وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ أي بما جاءكم من الحق.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الممتحنة (60) : آية 3]
لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3)
لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ أي قراباتكم وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ أي بإثابة المؤمنين، ومعاقبة العاصين.
وقال القاشاني: أي لا نفع لمن اخترتم موالاة العدوّ الحقيقي لأجله، لأن القيامة مفرقة. وهذا معنى قوله: يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ أي يفصل الله بينكم
وبين أرحامكم وأولادكم كما قال: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ [عبس: 34- 36] ، انتهى، وهو تأويل جيد.
لطيفة:
قال السمين: يجوز في يَوْمَ الْقِيامَةِ وجهان:
أحدهما- أن يتعلق بما قبله، أي لن تنفعكم يوم القيامة، فيوقف عليه، ويبتدأ ب يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ.
والثاني- أي يتعلق بما بعده أي يفصل بينكم يوم القيامة، فيوقف على أَوْلادُكُمْ، ويبتدأ ب يَوْمَ الْقِيامَةِ.
وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أي فيجازيكم عليه.
تنبيهات:
الأول- قال ابن جرير: ذكر أن هذه الآيات، من أول هذه السورة، نزلت في شأن حاطب بن أبي بلتعة، وكان كتب إلى قريش بمكة يطلعهم على أمر كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخفاه عنهم- ثم ساق الروايات-.
وأما رواية البخاري «1» فعن عليّ رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد، فقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها، فذهبنا تعادى بنا خيلنا، حتى أتينا الروضة، فإذا نحن بالظعينة، فقلنا:
أخرجي الكتاب، فقالت: ما معي من كتاب! فقلنا: لتخرجنّ الكتاب، أو لنلقينّ الثياب. فأخرجته من عقاصها، فأتينا به النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا فيه:
من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين، يخبرهم ببعض أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم.
فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: ما هذا يا حاطب؟ قال: لا تعجل عليّ يا رسول الله! إني كنت امرءا من قريش، ولم أكن من أنفسهم. وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم وأموالهم بمكة، فأحببت إذ فاتني من النسب فيهم أن أصطنع إليهم يدا يحمون قرابتي، وما فعلت ذلك كفرا، ولا ارتدادا عن ديني. فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: إنه قد صدقكم. فقال عمر: دعني يا رسول الله فأضرب عنقه! فقال: إنه
(1)
أخرجه في: الجهاد، 141- باب الجاسوس، حديث رقم 1429. []

شهد بدرا، وما يدريك، لعل الله عز وجل اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم، فقد غفرت لكم!
قال عمرو بن دينار- راوي الحديث- ونزلت فيه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي ... الآيات.
قال ابن كثير: كان حاطب هذا رجلا من المهاجرين، ومن أهل بدر. وكان له بمكة أولاد ومال، ولم يكن من قريش أنفسهم، بل كان حليفا لعثمان. فلما عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على فتح مكة، لمّا نقض أهلها العهد، فزمر النبيّ صلى الله عليه وسلم المسلمين بالتجهيز لغزوهم وقال: اللهم عمّ عليهم خبرنا. فعمد حاطب هذا، فكتب كتابا إلى أهل مكة يعلمهم بما عزم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوهم، ليتخذ بذلك عندهم يدا
-
كما ذكر في الحديث-.

الثاني- قال ابن كثير: يعني تعالى بقوله: لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ المشركين والكفار، الذين هم محاربون لله ولرسوله وللمؤمنين، الذين شرع الله عداوتهم ومصارمتهم، ونهى أن يتخذوا أولياء وأصدقاء، كما قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة: 51] ، وهذا تهديد شديد، ووعيد أكيد، وقال تعالى:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة: 57] . وقال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً [النساء: 144] ، وقال تعالى: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ [آل عمران: 28] . ولهذا قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم عذر حاطب، لما ذكر أنه إنما فعل ذلك مصانعة لقريش، لأجل ما كان له عندهم من الأموال والأولاد. انتهى.
أي أنه قبل عذره فيما قام في ظنه من كون ذلك ليس بكبيرة، وإن أخطأ.
والمجتهد المخطئ معذور. وقد تبيّن خطؤه بصريح النهي عن معاودة مثله الذي لأجله نزلت السورة، ولذلك قال الإمام إلكيا الهرّاسي: يؤخذ من الآية أن الخوف على المال والولد لا يبيح الفتنة في دين الله، وهو ظاهر، وليس هذا من التقية، لأنها في موضوع آخر. وقد بسط الكلام على الولاء والبراء السيد ابن المرتضى في (إيثار الحق) . في المسألة الثامنة. قال (بعد أن أورد الآيات والأحاديث) : هذا كله في
الحب الذي هو في القلب، والمخالصة لأجل الدين، وذلك للمؤمنين المتقين بالإجماع، وللمسلمين الموحّدين، إذا كان لأجل إسلامهم وتوحيدهم عند أهل السنة.
وأما المخالفة والمنافعة، وبذل المعروف، وكظم الغيظ، وحسن الخلق، وإكرام الضيف، ونحو ذلك، فيستحب بذله لجميع الخلق، إلا ما كان يقتضي مفسدة كالذلة. فلا يبذل للعدو في حال الحرب، كما أشارت إليه الآية لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ- كما يأتي- وأما التقية، فتجوز للخائف من الظالمين القادرين. وأما الفرق بين ما يجوز من المنافعة والمداهنة وما لا يجوز من الرياء، فما كان من بذل المال والمنافع فهو جائز، وهو المنافعة، وربما عبروا عنه بالمداهنة والمداراة والمخالقة. وما كان من أمر الدين فهو الرياء الحرام.
ومن كلام الإمام الداعي إلى الله تعالى، يحيى بن المحسن عليه السلام في (الرسالة المخرسة، لأهل المدرسة) : لا يجوز أن تكون الموالاة هي المتابعة فيما يمكن التأويل فيه. لأن كثيرا من أهل البيت عليهم السلام قد عرف بمتابعة الظلمة لوجه يوجب ذلك، فتولّى الناصر الكثير منهم، وصلى بهم الجمعة جعفر الصادق، وصلى الحسن السبط على جنائزهم.
وذكر الإمام المهديّ محمد بن المطهّر عليهما السلام أن الموالاة المحرمة بالإجماع، هي موالاة الكافر لكفره، والعاصي لمعصيته، ونحو ذلك.
قال السيد: وهو كلام صحيح، والحجة على صحة الخلاف فيما عدا ذلك أشياء كثيرة، منها قوله تعالى في الوالدين المشركين بالله وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً [لقمان: 15] . ومنها قوله تعالى: لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ ... [الممتحنة: 8] الآيتين، وفي الحديث أنها نزلت في قتيلة أم أسماء، بعد آيات التحريم، رواه أحمد والبزار والواحدي، وتأخرهما واضح في سياق الآيات، وقرينة الحال مع هذا الحديث. ولو لم يصح تأخر ذلك، فالخاص مقدم على العام عند جهل التاريخ عند الجمهور. ورجحه ابن رشد في (نهايته) بالنصوصية على ما هو خاص فيه. ويدل عليه ما ثبت في القرآن والسنة الصحيحة المتفق عليها من حديث عليّ عليه السلام في قصة حاطب، على ما ذكره الله تعالى في أول سورة الممتحنة- هذه- وذكره أهل الحديث وأهل التفسير جميعا، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم عذره بالخوف على أهله في مكة، والتقية فيما لا يضر في ظنه.
فإن قيل: القرآن دال على أنه قد أذنب لقوله: وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ فكيف يقبل ما جاء من قبول عذره؟
قلت: إنما قبل عذره في بقائه على الإيمان، وعدم موالاة المشركين لشركهم، ولذلك خاطبه الله بالإيمان فقال يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا والعموم نص في سببه.
فاتفق القرآن والحديث. وأما ذنبه فإنه لا يحل مثل ما فعله لأحد من الجيش إلا بإذن أميرهم، لقوله تعالى: وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ ...
[النساء: 83] . ولأن تحريم مثل ذلك بغير إذن الأمير إجماع، ومع إذنه يجوز، فقد أذن في أكثر من ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حيلة في حفظ المال. فلو كان مثل ذلك موالاة لم يأذن فيه صلى الله عليه وسلم. فدل على أن ذنب حاطب هو الكتم، لما فيه من الخيانة، لا نفس الفعل، لو تجرد من الكتم والخيانة- والله أعلم- انتهى.
ويضاف إلى الكتم والخيانة ما أفادته الآية من التودّد بذلك إليهم، والمناصحة لهم، مما يشفّ عن كون الآتي بذلك متزلزلا في عقده، مضطربا في حقه، فيصبح عمله حجة على دينه، ويكون ذلك سببا لافتتان المشركين المفسدين بصحيح الدين القويم. وهذا هو السر في الحقيقة، كما بينه آية رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا [الممتحنة: 5] . وسيأتي بيانه.
ثم علّم تعالى عباده المؤمنين التأسي بإبراهيم عليه السلام في البراءة من المشركين ومصارمتهم ومجانبتهم، وبقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الممتحنة (60) : آية 4]
قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4)
قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ أي قدوة حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ أي أتباعه الذين آمنوا معه، كلوط عليه السلام إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ يعني الذين أشركوا بالله وعبدوا الطاغوت إِنَّا بُرَآؤُا جمع بريء، كظريف وظرفاء مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ أي بدينكم ومعبودكم. قال ابن جرير: أي أنكرنا ما أنتم عليه من الكفر بالله، وجحدنا عبادتكم ما تعبدون من دون الله أن تكون حقا وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ أي لا صلح بيننا ولا مودة إلى أن تؤمنوا بالله وحده. أي توحدوه وتفردوه بالعبادة إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ استثناء من قوله: أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ قال ابن جرير: أي قد كانت لكم أسوة حسنة
في إبراهيم والذين معه في هذه الأمور التي ذكرناها، من مباينة الكفار ومعاداتهم، وترك موالاتهم، إلا في قوله إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك، فإنه لا أسوة لكم فيه في ذلك، لأن ذلك كان من إبراهيم لأبيه عن موعدة وعدها إياه قبل أن يتبين له أنه عدو لله، فلما تبين له أنه عدوّ لله تبرأ منه. يقول تعالى ذكره: فكذلك أنتم أيها المؤمنون بالله، تبرءوا من أعداء الله المشركين به، ولا تتخذوا منهم أولياء، وأظهروا لهم العداوة والبغضاء، حتى يؤمنوا بالله وحده، ويتبرءوا عن عبادة ما سواه.
ثم روي عن مجاهد أنه قال في الآية: نهوا أن يتأسوا باستغفار إبراهيم لأبيه، فيستغفروا للمشركين.
وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ أي وما أدفع عنك من عقوبة الله شيئا إن أراد عقابك. والجملة من تمام المستثنى، إلا أنه لا يلزم من استثناء المجموع استثناء عموم أفراده، ولذا قال الزمخشريّ: القصد إلى موعد الاستغفار وما بعده مبنيّ عليه، وتابع له، كأنه قال: أنا أستغفر لك، وما في طاقتي إلا الاستغفار.
وقوله تعالى: رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ متصل بما قبل الاستثناء، وهو من جملة الأسوة الحسنة، أو أمر منه تعالى للمؤمنين بأن يقولوا ذلك، تتميما لما وصّاهم به من قطع الصلات المضرّة بينهم وبين المحاربين لهم.
ومعنى إِلَيْكَ أَنَبْنا أي إليك رجعنا بالتوبة مما تكره، إلى ما تحب وترضى.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 41.36 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 40.73 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.52%)]