عرض مشاركة واحدة
  #598  
قديم 21-06-2025, 10:23 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 155,393
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله




تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الملك
المجلد السادس عشر
صـ 5866 الى صـ 5875
الحلقة (598)




(1)
أخرجه البخاري في: الأدب، 104- باب قول الرجل جعلني الله فداك، حديث رقم 246، عن أنس بن مالك.

أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ، فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [الروم: 9] .
ثالثا- البحث والتنقيب في أنحاء المسكونة بالنظر في الكون، وفي الفنون، للوصول إلى معرفة مبدع هذا العالم تعالى، كما يحثنا الكتاب الكريم على تسنم هذا المرتقى العالي بقوله: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ [العنكبوت:
20] .
رابعا- الحصول على ربح التجارة كما نتعلم ذلك من قول الكتاب الكريم وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [المزمل: 20] .
فهل ترى هذه الفوائد ذات البال مختصة بالرجل دون الأنثى، حتى يكون السير خاصّا بالرجل؟ كلا! وقد امتن الله على أهل سبأ بما حكاه بقوله: وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ، سِيرُوا فِيها لَيالِيَ، وَأَيَّاماً آمِنِينَ [سبأ: 18] . وامتن على جميع عباده بقوله: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [يونس: 22] ، وقال تعالى مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ [المائدة: 96] ، فهل يجوز أن نذهب إلى أن هذه المنن هي من مخصوصات الرجل دون النساء؟ كلا! بل الكل مغمور بهذه المنّات، كما هو مقتضى عموم الآيات. انتهى ملخصا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التحريم (66) : آية 6]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (6)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً أي سببها. وذلك بترك المعاصي، وفعل الطاعات، والقيام على تأديب الأهل، وأخذهن بما تأخذون به أنفسكم وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أي تتّقد بهما اتقاد غيرها بالحطب عَلَيْها مَلائِكَةٌ أي تلي أمرها وتعذيب أهلها، زبانية غِلاظٌ شِدادٌ أي جفاة قساة لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ قال الزمخشريّ. وليست الجملتان في معنى واحد. فإن معنى الأولى: أنهم يتقبلون أوامره ويلتزمونها ولا يأبونها ولا ينكرونها ومعنى الثانية: أنهم يؤدون ما يؤمرون به، لا يتثاقلون عنه، ولا يتوانون فيه. انتهى.
وقيل: الجملة الأولى لبيان استمرار إتيانهم بأوامره، والثانية لأنهم لا يفعلون شيئا ما لم يؤمروا به، كقوله تعالى: وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ [الأنبياء: 27] ، فإن
استمرارهم على فعل ما يؤمرون به يفيده، فلا تكرار. وقيل: إنه من الطرد والعكس، وهو يكون في كلامين، يقرر منطوق أحدهما مفهوم الآخر، وبالعكس.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التحريم (66) : آية 7]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي يقال لهم ذلك عند دخولهم النار. فالمراد ب (اليوم) وقت دخولهم إياها. فتعريفه للعهد، والنهي عن الاعتذار لأنه لا عذر لهم، أو العذر لا ينفعهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التحريم (66) : آية 8]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً أي توبة ترقع الخروق، وترتق الفتوق، وتصلح الفاسد، وتسد الخلل. من (النصح) بمعنى الخياطة. أو توبة خالصة عن شوب الميل إلى الحال الذي تاب عنه، والنظر إليه بعدم الالتفات، وقطع النظر عنه. من (النصوح) بمعنى الخلوص عَسى رَبُّكُمْ أي بمناصحة أنفسكم بالتوبة النصوح أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ
أي لا يذلّهم. تعريض لأعدائهم بالخزي والصغار نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا أي أدمه أو زده وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التحريم (66) : آية 9]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9)
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ أي بالسنان والبرهان وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ أي فيما تجاهدهم به، لتنكسر صلابتهم، وتلين شكيمتهم وعريكتهم، فتنقهر نفوسهم وتذل وتخضع. وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التحريم (66) : آية 10]
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10)
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ أي حالهما كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما أي بالمظاهرة عليهما والكفر والعصيان، مع تمكنهما من الطاعة والإيمان فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ أي من عذابه شَيْئاً وَقِيلَ أي لهما عند موتهما، أو يوم القيامة: ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ أي مع سائر الداخلين من الفجرة الذين لا وصلة بينهم وبين الأنبياء.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة التحريم (66) : الآيات 11 الى 12]
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (12)
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي من عملهم وعذابهم وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها أي حفظته وصانته فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا يعني جبريل عليه السلام، أو من روح خلقناه بلا توسط، وهو عيسى عليه السلام وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها أي بصحفه المنزلة من عنده وَكُتُبِهِ أي الموحاة.
والعطف للتفسير، أو الكلمات أعم من المكتوب والمحفوظ من أوامره ووصاياه المتوارثة، والكتب خاصة بالمخطوط من الأسفار. وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ أي من المواظبين على الطاعة لله، والخضوع لأحكامه. والتذكير للتغليب.
تنبيهات:
الأول: قال الزمخشريّ: مثل الله عز وجل حال الكفار في أنهم يعاقبون على كفرهم وعداوتهم للمؤمنين معاقبة مثلهم، من غير إبقاء ولا محاباة ولا ينفعهم مع عداوتهم لهم ما كان بينهم وبينهم من لحمة نسب، أو وصلة صهر، لأن عداوتهم
لهم، وكفرهم بالله ورسوله، قطع العلائق، وبت الوصل، وجعلهم أبعد من الأجانب وأبعد، وإن كان المؤمن الذي يتصل به الكافر، نبيّا من أنبياء الله- بحال امرأة نوح وامرأة لوط لما نافقتا وخانتا الرسولين لم يغن الرسولان عنهما، بحق ما بينهما وبينهما من وصلة الزواج، إغناء ما من عذاب الله. ومثل حال المؤمنين في وصلة الكافرين لا تضرهم، ولا تنقص شيئا من ثوابهم وزلفاهم عند الله- بحال امرأة فرعون، ومنزلتها عند الله تعالى، مع كونها زوجة أعدى أعداء الله، الناطق بالكلمة العظمى. ومريم ابنة عمران، وما أوتيت من كرامة الدنيا والآخرة والاصطفاء على نساء العالمين، مع أن قومها كانوا كفارا. وفي طيّ هذين التمثيلين تعريض بأمّي المؤمنين المذكورتين في أول السورة، وما فرط منهما من التظاهر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، بما كرهه، وتحذير لهما على أغلظ وجه وأشده، لما في التمثيل من ذكر الكفر. ونحوه في التغليظ قوله تعالى: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ [آل عمران: 97] ، وإشارة إلى أن من حقهما أن تكونا في الإخلاص والكمال فيه كمثل هاتين المؤمنتين، وأن لا تتكلا على أنهما زوجا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن ذلك الفضل لا ينفعهما إلا مع كونهما مخلصتين. والتعريض بحفصة أرجح، لأن امرأة لوط أفشت عليه كما أفشت حفصة على رسول الله. وأسرار التنزيل ورموزه في كل باب، بالغة من اللطف والخفاء حدّا يدق عن تفطن العالم ويزل عن تبصره. انتهى.
الثاني: قال الإمام ابن القيم في (أعلام الموقعين) اشتملت هذه الآيات على ثلاثة أمثال: مثل للكفار، ومثلين للمؤمنين.
فتضمن مثل الكفار أن الكافر يعاقب على كفره وعداوته لله ورسوله وأوليائه، ولا ينفعه مع كفره ما كان بينه وبين المؤمنين من لحمة نسب، أو وصلة صهر، أو سبب من أسباب الاتصال. فإن الأسباب كلها تنقطع يوم القيامة، إلا ما كان منها متصلا بالله وحده على أيدي رسله، فلو نفعت وصلة القرابة والمصاهرة أو النكاح، مع عدم الإيمان، لنفعت الوصلة التي كانت بين نوح ولوط وامرأتيهما. فلما لم يغنيا عنهما من الله شيئا وقيل ادخلا النار مع الداخلين. قطعت الآية حينئذ طمع من ركب معصية الله، وخالف أمره، ورجا أن ينفعه صلاح غيره من قريب أو أجنبيّ، ولو كان بينهما في الدنيا أشد الاتصال. فلا اتصال فوق اتصال البنوة والأبوة والزوجية، ولم يغن نوح عن ابنه، ولا إبراهيم عن أبيه، ولا نوح ولوط عن امرأتيهما من الله شيئا. قال تعالى: لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ، يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ [الممتحنة: 3] ، وقال تعالى: يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً
[الانفطار: 19] ،
وقال تعالى: وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً [البقرة: 48 و 123] ، وقال: وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً، إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ [لقمان: 33] ، وهذا كله تكذيب لأطماع المشركين الباطلة أن من تعلقوا به من دون الله، من قرابة أو صهر أو نكاح أو صحبة ينفعهم يوم القيامة، أو يجيرهم من عذاب الله أو يشفع لهم عند الله. وهذا أصل ضلال بني آدم وشركهم وهو الشرك الذي لا يغفره الله، وهو الذي بعث الله جميع رسله، وأنزل جميع كتبه، بإبطاله، ومحاربة أهله ومعاداتهم.
وأما المثلان اللذان للمؤمنين. فأحدهما امرأة فرعون، ووجه المثل أن اتصال المؤمن بالكافر لا يضره شيئا إذا فارقه في كفره وعمله، فمعصية الغير لا تضر المؤمن المطيع شيئا في الآخرة، وإن تضرر بها في الدنيا بسبب العقوبة التي تحل بأهل الأرض إذا أضاعوا أمر الله، فتأتي عامة. فلم يضر امرأة فرعون اتصالها به، وهو أكفر الكافرين، ولم ينفع امرأة نوح ولوط اتصالهما بهما، وهما رسولا رب العالمين.
المثل الثاني للمؤمنين: مريم، التي لا زوج لها، لا مؤمن ولا كافر.
فذكر ثلاثة أصناف النساء: المرأة الكافرة التي لها وصلة بالرجل الصالح، والمرأة الصالحة التي لها وصلة بالرجل الكافر، والمرأة العزب التي لا وصلة بينها وبين أحد. فالأولى لا تنفعها وصلتها وسببها، والثانية لا تضرها وصلتها وسببها، والثالثة لا يضرها عدم الوصلة شيئا.
ثم في هذه الأمثال من الأسرار البديعة ما يناسب سياق السورة، فإنها سيقت في ذكر أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم، والتحذير من تظاهرهن عليه، وأنهن إن لم يطعن الله ورسوله، ويردن الدار الآخرة، لم ينفعهن اتصالهن برسول الله صلى الله عليه وسلم، كما لم ينفع امرأة نوح ولوط اتصالهما بهما، ولهذا إنما ضرب في هذه السورة مثل اتصال النكاح دون القرابة.
قال يحيى بن سلام: ضرب الله المثل الأول يحذر عائشة وحفصة. ثم ضرب لهما المثل الثاني يحرضهما على التمسك بالطاعة. وفي ضرب المثل للمؤمنين بمريم اعتبار آخر: وهو أنها لم يضرها عند الله شيئا، قذف أعداء الله اليهود لها، ونسبتهم إياها وابنها إلى ما برأها الله عنه، مع كونها الصديقة الكبرى المصطفاة على نساء العالمين، فلا يضر الرجل الصالح قدح الفجار والفساق فيه. وفي هذه تسلية لعائشة أم المؤمنين إن كانت السورة نزلت بعد قصة الإفك، وتوطين نفسها على
ما قال فيها الكاذبون، إن كانت قبلها. كما في ذكر التمثيل بامرأة نوح ولوط تحذير لها ولحفصة مما اعتمدتاه في حق النبيّ صلى الله عليه وسلم. فتضمنت هذه الأمثال التحذير لهن، والتخويف والتحريض لهن على الطاعة والتوحيد والتسلية وتوطين النفس لمن أوذي منهن وكذب عليه. وأسرار التنزيل فوق هذا وأجل منه، ولا سيما أسرار الأمثال التي لا يعقلها إلا العالمون. انتهى.
الثالث- قال القاشانيّ: بيّن تعالى أن الوصل الطبيعية، والاتصالات الصورية غير معتبرة في الأمور الأخروية. بل المحبة الحقيقية، والاتصالات الروحانية، هي المؤثرة فحسب. والصورية التي بحسب اللحمة الطبيعية والخلطة والمعاشرة لا يبقى لها أثر فيما بعد الموت، ولا تكون إلا في الدنيا، بالتمثيلين المذكورين. وإن المعتبر في استحقاق الكرامة عند الله هو العمل الصالح، والاعتقاد الحق، كإحصان مريم، وتصديقها بكلمات ربها، وطاعتها المعدة إياها لقبول نفخ روح الله فيها. وقد يلوح بينهما أن النفس الخائنة التي لا تفي بالطاعة، ولا تحفظ الأسرار، وتبيح المخالفة، داخلة في نار الحرمان، وجحيم الهجران مع المحجوبين، ولا تغني هداية الروح عنها شيئا من الإغناء في باب العذاب. وأن القلب المقهور تحت استيلاء النفس الأمارة الفرعونية، الطالب للخلاص بالالتجاء إلى الحق الذي قويت فيه قوة محبة الله لصفائه، وضعفت قوة قهره للنفس والشيطان لعجزه وضعفه، لا يبقى في العذاب مخلدا ويخلص إلى النجاة، ويبقى في النعيم سرمدا، وإن تعذب بمجاورتها حينا، وتألم بأفعالها برهة. وأن النفس المتزينة بفضيلة العفة المشار إليها بإحصان الفرج، هي القابلة لفيض روح القدس المتنورة بنور الروح المصدقة بكلمات الرب، من العقائد الحكمية، والشرائع الإلهية، المطيعة لله مطلقا، علما وعملا، سرّا وجهرا.
انتهى ملخصا.
الرابع- في (الإكليل) : استدل بقوله تعالى امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ على صحة أنكحة الكفار. أقول: ويستدل بقوله تعالى امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ إلى قوله:
فَخانَتاهُما على جواز استدامة الرجل الصالح نكاح امرأته الفاسقة العاصية، وعلى أن استبقاءها بدون مفارقة لا يعد من قلة التورع. وهو جليّ. ويستدل بذلك أيضا على أن نكاح المشركات كان جائزا في شرع من قبلنا، وقد حظره الإسلام أشد الحظر، كما مرّ في آيات عديدة.
الخامس: قال ابن كثير في قوله تعالى عن حكاية امرأة فرعون رَبِّ ابْنِ لِي
عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ
قال العلماء: اختارت الجار قبل الدار، وقد ورد شيء من ذلك في حديث مرفوع.
السادس- قال الزمخشريّ: في دعاء امرأة فرعون دليل على أن الاستعاذة بالله، والالتجاء إليه، ومسألة الخلاص منه عند المحن والنوازل من سير الصالحين، وسنن الأنبياء. والمرسلين فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الشعراء: 118] ، رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ [يونس: 85- 86] .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سورة الملك
قال المهايميّ: سميت به لاشتمالها على كثير مما ينبغي أن يكون عليه الملك من كثرة الخيرات، وعموم القدرة، والإحياء والإماتة، واختبار أعمال الناس، والغلبة والغفران، ورفع الأبنية لخدامه وعدم التفاوت في رعاياه، وتزيين بلاده، والقهر على الأعداء، والترحم على الأولياء، والأمن ورخص الأسعار، وأن لا يقدر أحد على نصر من عاداه، ولا على رزق من منعه. انتهى.
وتسمى سورة (تبارك) . وهي مكية. وآيها ثلاثون.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الملك (67) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)
تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ قال ابن جرير: أي تعاظم الذي بيده ملك الدنيا والآخرة، وسلطانهما، نافذ فيهما أمره وقضاؤه، وهو على ما يشاء فعله ذو قدرة، لا يمنعه مانع، ولا يحول بينه وبينه عجز.
وقال القاشانيّ: الملك، عالم الأجسام، كما أن الملكوت عالم النفوس.
ولذلك وصف ذاته باعتبار تصريفه عالم الملك، بحسب مشيئته بالتبارك، الذي هو غاية العظمة، ونهاية الازدياد في العلوّ والبركة. وباعتبار تسخيره عالم الملكوت، بمقتضى إرادته بالتسبيح، الذي هو التنزيه، كقوله فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ [يس: 83] ، كلّا بما يناسبه، لأن العظمة والازدياد والبركة تناسب الأجسام، والتنزه يناسب المجردات عن المادة. فمعنى (تبارك) تعالى وتعاظم، الذي يتصرف في عالم الملك بيد قدرته، لا يتصرف فيه غيره فبيده كل ما وجد من الأجسام، لا بيد غيره، يصرفها كما يشاء، وهو القادر على كل ما عدم من الممكنات، يوجدها على ما يشاء.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 42.78 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 42.15 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.47%)]