عرض مشاركة واحدة
  #607  
قديم 22-06-2025, 04:40 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 155,741
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"
محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الجن
المجلد السادس عشر
صـ 5957 الى صـ 5966
الحلقة (607)




القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الجن (72) : آية 28]
لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً (28)
لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ متعلق ب يَسْلُكُ غاية له. والضمير إما
(1)
أخرجه مسلم في: الفضائل، حديث 141.

ل (الرصد) ، وإما ل مَنِ ارْتَضى. والجمع باعتبار معنى (من) . أي ليبلغوا، فيظهر متعلق علمه. وإيراد علمه تعالى للعناية بأمر الإبلاغ، والإشعار بترتيب الجزاء عليه، والمبالغة في الحث عليه، والتحذير عن التفريط فيه. وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ أي بما عند الرصد، أو الرسل عليهم السلام. حال من فاعل يَسْلُكُ جيء بها لتحقيق استغنائه تعالى في العلم بالإبلاغ عما ذكر من سلك الرصد. وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً أي فردا فردا لسعة علمه. تقرير ثان لإحاطته بما عند الرسل من وحيه وكلامه، ووعد ووعيد كما عرف من نظائره.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة المزّمّل
قال المهايمي: سميت به لدلالته على عظم أمر الوحي، لأن أقوى الخلائق كان يرتعد عنده فيتزمل.
وهي مكية، قيل: إلا قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ إلى آخر السورة، وآيها عشرون.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المزمل (73) : الآيات 1 الى 4]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (4)
يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ أي المتزمل. من (تزمل) بثيابه إذا تلفف بها. فأدغم التاء في الزّاي خوطب صلّى الله عليه وسلم بحكاية حاله وقت نزول الوحي، ملاطفة وتأنيسا وتنشيطا للتشمر لقيام الليل، وقيل: معناه المتحمل أعباء النبوة، من تزمل الزّمل، إذا تحمل الحمل. ففيه استعارة. شبّه إجراء التبليغ بتحمل الحمل الثقيل، بجامع المشقة.
قال الشهاب: وأورد عليه أنه مع صحة المعنى الحقيقي، واعتضاده بالأحاديث الصحيحة، لا وجه لادعاء التجوز فيه.
وقد يجاب بأن الأحاديث رويت في نزول سورة (المدثر) لا في هذه السورة، كما سيأتي إن شاء الله، إلا أن يقال: هما بمعنى واحد.
قُمِ اللَّيْلَ أي: فيه للصلاة، ودع التزمل للهجوع إِلَّا قَلِيلًا أي بحكم الضرورة للاستراحة، ومصالح البدن ومهماته التي لا يمكن بقاؤه بدونها.
ثم بيّن تعالى قدر القيام مخيرا له بقوله: نِصْفَهُ أي نصف الليل بدل من الليل. أَوِ انْقُصْ مِنْهُ أي من النصف قَلِيلًا أي إلى الثلث.
أَوْ زِدْ عَلَيْهِ أي النصف إلى الثلثين، والمقصود التخيير بين قيام النصف وما فوقه وما دونه. ولا يقال: كيف يكون النصف قليلا وهو مساو للنصف الآخر؟ لأن القلة بالنسبة إلى الكل، لا إلى عديله.
وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا أي بيّنه تبيينا، وترسّل فيه ترسلا.
قال الزمخشريّ: ترتيل القرآن قراءته على ترسل وتؤدة، بتبيين الحرف، وإشباع الحركات، حتى يجيء المتلوّ منه شبيها بالثغر المرتل، وهو المفلج المشبه بنور الأقحوان، وأن لا يهذّه هذّا، ولا يسرده سردا.
تنبيه:
قال السيوطي: في الآية استحباب ترتيل القراءة، وأنه أفضل من الهذّ به، وهو واضح.
وقد ثبت في السنّة أنه صلى الله عليه وسلم كان يقطع قراءته آية آية، وأنها كانت مفسرة حرفا حرفا، وأنه كان يقف على رؤوس الآي.
واستدل بالآية على أن الترتيل والتدبّر، مع قلة القراءة أفضل من سرعة القراءة مع كثرتها، لأن المقصود من القرآن فهمه وتدبّره، والفقه فيه، والعمل به.
قال ابن مسعود: لا تهذّوا القرآن هذّ الشعر، ولا تنثروه نثر الدقل. قفوا عند عجائبه، وحرّكوا به القلوب، ولا يكن همّ أحدكم آخر السورة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المزمل (73) : آية 5]
إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (5)
إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا أي رصينا، لرزانة لفظه، ومتانة معناه، ورجحانه فيهما على ما عداه. ولما كان الراجح من شأنه ذلك، تجوّز بالثقيل عنه. أو ثقيلا على المتأمّل فيه، لافتقاره إلى مزيد تصفيه للسر، وتجريد للنظر. أو ثقيلا تلقّيه، لقول عائشة «1» رضي الله عنها: رأيته صلى الله عليه وسلم ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه، وإن جبينه ليتفصد عرقا. وعلى كل فالجملة معللة للأمر بالترتيل، وأن ثقله مما يستدعيه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المزمل (73) : آية 6]
إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (6)
(1)
أخرجه البخاري في: بدء الوحي، 4- حدثنا عبد الله بن يوسف، حديث رقم 2.

إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ أي نشأته وطبيعة خلقه ومظهره هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً أي مواقفة لما يراد منها من جمع الهم، وهدوء البال. وَأَقْوَمُ قِيلًا أي أشدّ مقالا وأصوبه.
قال ابن قتيبة: لأن الليل تهدأ فيه الأصوات، وتنقطع فيه الحركات، ويخلص القول، ولا يكون دون تسمّعه وتفهمه حائل.
ونقل السيوطي عن الجاحظ قال: ناشئة الليل هي المعاني المستنبطة من القرآن بالليل، أشد وطأ أبين أثرا. وأقوم قيلا، أصحّ مما تخرجه الأفكار بالنهار، لخلوّ السمع والبصر عن الاشتغال.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المزمل (73) : الآيات 7 الى 9]
إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (9)
إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا أي تقلبا في مهماتك، واشتغالا بها، فلذا أمرت بقيام الليل. وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ أي دم على ذكره ليلا ونهارا. قال الزمخشريّ:
وذكر الله يتناول كل ما كان من ذكر طيب: تسبيح وتهليل وتكبير وتمجيد وتوحيد وصلاة وتلاوة قرآن، ودراسة علم، وغير ذلك مما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغرق به ساعات ليله ونهاره. وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا أي أخلص إليه، بتجريد النفس عن غيره، إخلاصا عظيما. رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا أي تكل إليه مهامك، فإنه سيكفيكها.
قال ابن جرير: أي فيما يأمرك، وفوض إليه أسبابك.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المزمل (73) : الآيات 10 الى 14]
وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (11) إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً (12) وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً (14)
وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ أي من الأذى والفري وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا أي بالإعراض عن مكافأتهم بالمثل، كما قال تعالى: وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [الأحزاب: 48] ، وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أي دعني وإياهم، وكل أمرهم إليّ، فإن بي غنيمة عنك في الانتقام منهم. أُولِي النَّعْمَةِ أي التنعم، يريد صناديد قريش ومترفيهم.
وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا أي تمهل عليهم زمانا، أو إمهالا قليلا. إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا أي قيودا وَجَحِيماً أي نارا شديدة الحرّ والاتّقاد وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ أي يغصّ به آكله فلا يسيغه، وَعَذاباً أَلِيماً أي ونوعا آخر من أنواع العذاب مؤلما لا يعرف كنهه. أي فلا ترى موكولا إليه أمرهم ينتقم منهم بمثل ذلك الانتقام. يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ أي تضطرب وترتجّ بالزلزال، وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا أي رملا متفرقا منثورا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المزمل (73) : الآيات 15 الى 16]
إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (15) فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً (16)
إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شاهِداً عَلَيْكُمْ أي بإجابة من أجاب وإباء من أبى كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا أي يدعوه إلى الحق. فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلًا أي ثقيلا، وذلك بإهلاكه ومن معه، غرقا في اليم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المزمل (73) : الآيات 17 الى 19]
فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (17) السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (18) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (19)
فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً أي كيف تقون أنفسكم إن بقيتم على كفركم، ولم تؤمنوا بالحق، يوم القيامة، وحاله في الهول ما ذكر.
قال ابن أبي الحديد: يقال في اليوم الشديد: إنه ليشيب نواصي الأطفال، كلام جار مجرى المثل. وليس ذلك على حقيقته، لأن الأمة مجمعة على أن الأطفال لا تتغير حلاهم في الآخرة إلى الشيب. والأصل في هذا أن الهموم والأحزان إذا توالت على الإنسان شاب سريعا. قال أبو الطيب:
والهم يخترم الجسيم نحافة ... ويشيب ناصية الصبيّ ويهرم
السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ قال الزمخشري: وصف لليوم بالشدة أيضا. وأن السماء على عظمها وإحكامها تنفطر فيه، فما ظنك بغيرها من الخلائق؟
قال السمين: وإنما لم تؤنث الصفة لأحد وجوه: منها- تأويله بالمشتق.
ومنها- أنها على النسب، أي ذات انفطار، نحو: مرضع وحائض. ومنها- أنها تذكر وتؤنث. ومنها- أنها اسم جنس يفرق بينه وبين واحده بالتاء، فيقال: سماءة، وفي اسم الجنس التذكير والتأنيث. والباء في (به) سببية أو للاستعانة، أو بمعنى (في) .
كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا أي لأنه لا يخلف وعده، فاحذروا ذلك اليوم. إِنَّ هذِهِ أي الآيات الناطقة بالوعيد الشديد تَذْكِرَةٌ أي موعظة لمن اعتبر بها واتّعظ، فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا
أي بالإيمان به، والعمل بطاعته.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة المزمل (73) : آية 20]
إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)
إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ أي تتهجد فيه هذه التارات المختلفة، وتتشمر للعبادة فيه هذا التشمر امتثالا لأمره وتبتلا إليه، وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ أي يعلمهم كذلك، وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ أي أن يجعلهما على مقادير يجريان عليها، فتارة يعتدلان، وتارة يزيد أحدهما في الآخر، وبالعكس مما يشق لأجله المواظبة على قيامه بما علمه منكم- أشار إليه ابن كثير-. أو المعنى:
يقدر فيهما ما شاء من الأوامر. ومنه تقديره في قيام الليل ما قدره، مما أمر به أول السورة من التخيير، ترخيصا وتيسيرا. عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ أي قيام الليل، على النحو الذي دأبتم عليه، أو قيام الليل كله، للحرج والعسر فَتابَ عَلَيْكُمْ أي عاد عليكم باليسر ورفع الحرج. فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ أي في صلاة الليل بلا تقدير. أو المراد: لا تتجاوزوا ما قدره لكم، رحمة بأنفسكم. وفيه رد من غلوهم في قيام الليل كله، أو الحرص عليه، شوقا إلى العبادة، وسبقا إلى الكمالات.
قال مقاتل: كان الرجل يصلي الليل كله، مخافة أن لا يصيب مما أمر به من قيام ما فرض عليه- نقله الرازي-.
عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى أي يضعفهم المرض عن قيام الليل وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ أي للتجارة وغيرها، فيقعدهم ذلك عن قيام الليل وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي لنصرة الدين، فلا يتفرّغون للقيام فيه فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ أي من القرآن. ولا تحرّجوا أنفسكم، لأنه تعالى يريد بكم اليسر ولا يريد بكم العسر.
تنبيهات:
الأول- ذهب كثير من السلف إلى وجوب قيام الليل المفهوم من الأمر به طليعة السورة، منسوخ بهذه الآيات.
روى ابن جرير عن عائشة قالت: كنت أجعل لرسول الله صلى الله عليه وسلم حصيرا يصلي عليه من الليل، فتسامع به الناس فاجتمعوا، فخرج كالمغضب- وكان بهم رحيما- فخشي أن يكتب عليهم قيام الليل، فقال: يا أيها الناس؟ اكلفوا من الأعمال ما تطيقون، فإنه الله لا يمل من الثواب، حتى تملوا من العمل، وخير الأعمال ما دمتم عليه. ونزل القرآن. يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا ... الآية، حتى كان الرجل يربط الحبل ويتعلق، فمكثوا بذلك ثمانية أشهر، فرأى الله ما يبتغون من رضوانه فرحمهم، فردهم إلى الفريضة، وترك قيام الليل.
قال ابن كثير: والحديث في الصحيح بدون زيادة نزول هذه السورة. وهذا السياق قد يوهم أن نزول هذه السورة بالمدينة، وليس كذلك، وإنما هي مكية. انتهى كلامه.
أقول: وبمثل هذه الرواية يستدل على أن مراد السلف بقولهم: (ونزلت الآية) الاستشهاد بها في قضية تنطبق عليها- كما بيناه مرارا-.
وأخرج أيضا عن ابن عباس قال: أمر الله نبيه والمؤمنين بقيام الليل إلا قليلا.
فشق ذلك على المؤمنين، ثم خفف عنهم فرحمهم، وأنزل الله بعد هذا عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ ... الآية. فوسع الله- وله الحمد- ولم يضيق.
وعن أبي عبد الرحمن قال: لما نزلت يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قاموا بها حولا حتى ورمت أقدامهم وسوقهم، حتى نزلت فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ فاستراح الناس.
وهكذا روي عن سعيد والحسن وعكرمة وقتادة.
قال ابن حجر في (شرح البخاري) : ذهب بعضهم إلى أن صلاة الليل كانت مفروضة، ثم نسخت بقيام بعض الليل مطلقا، ثم نسخ بالخمس. وأنكره المروزيّ.
وذهب بعضهم إلى أنه لم يكن قبل الإسراء صلاة مفروضة.
وقال السيوطيّ في (الإكليل) : قوله تعالى قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا هو منسوخ بعد أن كان واجبا، بآخر السورة. وقيل: محكم، فاستدل به ندب قيام الليل. واستدل به طائفة على وجوبه على النبيّ صلى الله عليه وسلم خاصة. وآخرون على وجوبه على الأمة أيضا، ولكن ليس الليل كله، بل صلاة ما فيه، وعليه الحسن وابن سيرين. انتهى.
أقول: من ذهب إلى أن الأمر محكم وأنه للندب، يرى أن آخر السورة تعليم لهم الرفق بأنفسهم، لأنه تاب عليهم باليسر، ورفع عنهم الآصار. وفيه ما يدل على
عنايتهم بالمندوب، وحرصهم عليه، حتى أفضى الحال إلى الرفق بهم فيه. ويدل عليه أثر عائشة في ربطهم الحبل للتعلق به، استعانة على قراءة القرآن، وكثرة تلاوته.
الثاني- قال ابن كثير: في قوله تعالى: فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ تعبير عن الصلاة بالقراءة، كما قال في سورة سبحان وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ [الإسراء: 110] ، أي بقراءتك. وقد استدل أصحاب الإمام أبي حنيفة رحمه الله، بهذه الآية، على أنه لا تتعين قراءة الفاتحة في الصلاة، بل لو قرأ بها أو بغيرها من القرآن، ولو بآية، أجزأه.
واعتضدوا بحديث (المسيء صلاته) الذي في الصحيحين «1» : ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن. وقد أجابهم الجمهور بحديث عبادة بن الصامت، وهو في الصحيحين «2» أيضا،
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا صلاة إلا أن تقرأ بفاتحة الكتاب.
انتهى.
الثالث- في قوله تعالى: وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ علم من أعلام النبوّة.
قال ابن كثير: هذه الآية، بل السورة كلها، مكية. ولم يكن القتال شرع بعد، فهي من أكبر دلائل النبوّة، لأنه من باب الإخبار بالمغيبات المستقبلة.
الرابع- قال ابن الفرس: في قوله: وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ فضيلة التجارة، لسوقها في الآية مع الجهاد.
أخرج سعيد بن منصور عن عمر بن الخطاب قال: ما من حال يأتيني عليه الموت بعد الجهاد في سبيل الله، أحب إليّ أن يأتيني وأنا ألتمس من فضل الله. ثم تلا هذه الآية.
وقال السيوطي: هذه الآية أصل في التجارة.
وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ أي زكاة أموالكم.
قال ابن كثير: وهذا يدل لمن قال بأن فرض الزكاة نزل بمكة، لكن مقادير النصب والمخرج لم تبين إلا بالمدينة.
وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يعني به بذل المال في سبيل الخيرات على أحسن
(1)
أخرجه البخاري في: الأذان، 95- باب وجوب القراءة للإمام والمأموم، حديث رقم 461، عن أبي هريرة. وأخرجه مسلم في: الصلاة، حديث رقم 45.

(2)
أخرجه البخاري في: الأذان، 95- باب وجوب القراءة للإمام والمأموم، حديث رقم 460.

وأخرجه مسلم في: الصلاة، حديث 34 و 35 و 36.

وجه، كأن يكون من أطيب المال، وإعطاءه للمستحق من غير تأخير، واتقاء المنّ والأذى. وسر الأمر ب (الحسن) أن القرض لما كان يعطى بنية الأخذ، لا يبالي بأي شيء وأي مقدار يعطي منه، فأشير إلى إيثار المقام الأرفع. ولكونه محقق الرجوع إليه دل التعبير به على تحقق العوض هنا. وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ أي في الدنيا من صدقة أو نفقة في وجوه الخير، أو عمل بطاعة الله، أو غير ذلك من أعمال البر تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً أي ثوابا مما عندكم من متاع الدنيا.
وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ أي سلوه غفران ذنوبكم، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي ذو مغفرة لذنوب من تاب إليه وأناب، ورحمة أن يعاقبهم عليها بعد توبتهم منها.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 48.06 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 47.43 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.31%)]