وإذا عرفت ذلك فالآلام والمشاق إما إحسان ورحمة، وإما عدل وحكمة، وإما إصلاح وتهيئة لخير يحصل بعدها، وإما لدفع ألم هو أصعب منها، وإما لتولدها عن أمور لازمة لها، فمثلا ولادة الإنسان أو الحيوان مصلحة عظيمة، ولا يكون ذلك إلا بمعاناة أمه عند حمله، وآلام شديدة عند وضعه، لكن الخير الحاصل غالبا بتلك الولادة أرجح من تلك المفسدة، وهكذا كم في طلوع الشمس من ألم لمسافر وحاضر! وكم في نزول المطر والثلوج من أذى لبعض الناس! وكم في الحر والبرد من أذى مع أن فيها مصالح ومنافع عديدة! فلو كان الزمان كله فصلا واحدا لفاتت مصالح الفصول الباقية، فالله قدَّر الليل والنهار والشتاء والربيع والصيف والخريف لمصالح العباد وإن تأذى أو تضرر بعض الناس من بعضها، فالمصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة، ففي الشتاء تغور الحرارة في الأجواف والأرض والجبال فتتولد مواد الثمار وغيرها، وتبرد الظواهر، ويستكثف الهواء، فيحصل السحاب والمطر الذي به حياة الأرض وأهلها، ويحصل اشتداد أبدان الحيوان وقوتها، واستخلاف ما حللته حرارة الصيف من الأبدان، وفي الربيع تظهر المواد المتولدة في الشتاء، فيظهر النبات، ويتنور الشجر بالزهر، وفي الصيف يسخن الهواء فتنضج الثمار، فإذا جاء الخريف اعتدل الزمان، وصفا الهواء وبرد، وجنى الناس كثيرا من الثمار والفواكه التي بدأ تكون مادتها في الشتاء، ثم ظهرت في الربيع، ثم نضجت أثناء الصيف، فيأكلونها وقت الخريف، ومن حكمة الله ورحمته أن جعل الخريف برزخا بين حرارة الصيف وبرد الشتاء لئلا ينتقل الجسم فجأة من الحر الشديد إلى البرد الشديد فيعظم ضرره، فإذا انتقل الجسم إليه بتدريج لم يصعب عليه، وكذلك الربيع جعله الله برزخا بين الشتاء والصيف، ينتقل فيه الجسم من برد هذا إلى حر هذا بتدريج وترتيب، فمصالح العباد في الدنيا لا تكون إلا بالآلام، بل حتى الكمالات الإنسانية لا تنال إلا بالآلام والمشاق كطلب العِلم والبناء والصناعات، وإذا كانت الآلام أسبابا للذات أعظم منها وأدوم منها كان العقل يقضي باحتمالها.
واعلم أن الأمراض ليست شرا محضا، ففيها فوائد كثيرة، فمن رحمة الله أنه جعل بعض الأمراض أسبابا للصحة، ولولا تلك الآلام لاختلت صحة الإنسان، فمثلا الحمى فيها منافع للأبدان من إذابة الفضلات وإخراجها مما لا يصل إليه دواء غيرها، وفي المرض تكفير لسيئات المسلمين والمسلمات، وفي المرض رفع درجات الصابرين، والمرض سبب عظيم لرجوع العبد إلى ربه، وتوبته من سيئاته، والمرض يعرف الإنسان بضعفه فيتواضع لربه، ويترك الكِبر والطغيان والغرور، والمرض سبب لتوكل العبد على ربه في طلب الشفاء بالدعاء والأخذ بالأسباب المباحة من الأدوية التي يقررها له الأطباء، وإذا نزل الشفاء نفع الدواء، فيشكر المريض ربه على شفائه، فإن لم يشفه حمده على بلائه، وصبر ورضي بقضائه، وهذه فوائد خاصة للمرضى، ومن فوائد الأمراض العامة أنها سبب لرزق كثير من الناس، فبسبب الأمراض يرزق الله الأطباء والصيادلة وأصحاب شركات الأدوية والموظفين في المستشفيات والعيادات، فيسر الله أرزاقهم ببلاء غيرهم، ومصائب قوم عند قوم فوائد، ومن فوائد الأمراض العامة أنها سبب لموت كثير من الناس، وهذه حكمة عظيمة لتستمر الحياة في هذه الدنيا، فيذهب جيل ويأتي بعده جيل آخر، وتنتقل الأموال من أناس إلى آخرين، وهكذا، فلو بقي الناس منذ آدم عليه السلام إلى يومنا بلا موت لضاقت بالناس الأرض والأرزاق، فجعل الله بحكمته ورحمته الناس خلائف في الأرض يخلف بعضهم بعضا، فهذه الآلام والأمراض والمشاق من أعظم النِّعم؛ إذ هي أسباب استمرار حياة كل مخلوق إلى آخر أجله الذي قدره الله له بحكمته.
واعلم أن ما ينال الحيوانات غير المكلفة من الآلام والأمراض مغمور جدا بالنسبة إلى مصالحها ومنافعها، كما ينالها من حر الصيف، وبرد الشتاء، وسقوط المطر والثلج، وألم الحمل والولادة، والسعي في طلب أقواتها، وغير ذلك من مصالحها، ولكن لذاتها أضعاف أضعاف آلامها، وما ينالها من المنافع والخيرات أضعاف ما ينالها من الشرور والآلام، فسنة الله في خلقه وأمره هي التي أوجبها كمال علمه وحكمته وعزته، ولو اجتمعت عقول العقلاء كلهم على أن يقترحوا أحسن منها لعجزوا عن ذلك، فتبارك الله الحكيم الذي أخرج الأضداد من أضدادها، والأشياء من خلافها، فأخرج الحي من الميت، والميت من الحي، والرطب من اليابس، واليابس من الرطب، وأنشأ اللذات من الآلام، والآلام من اللذات، فأعظم اللذات ثمرات الآلام ونتائجها، وأعظم الآلام ثمرات اللذات ونتائجها، والحمد لله الذي جعل اللذة والسرور والخير والنِّعم والعافية والمصلحة والرحمة في الدنيا أكثر من المحن والبلاء وإن أنكر الإنسان الكنود، قال الله تعالى: { {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}} [الشرح: 5، 6]، ولن يغلب عسر يسرين، وهذا لأن رحمة الله غلبت غضبه، والخير في صفاته وأفعاله، والشر في مفعولاته لا في أفعاله، فأوصاف الله سبحانه كلها كمال، وأفعاله كلها خيرات، وقد أصلح الله الأرض وقسم فيها الأرزاق بحكمته ورحمته، وأمر الناس أن يأكلوا من رزقه ولا يفسدوا في الأرض بعد إصلاحها، ولكنَّ كثيرا من الناس خالفوا أمره وشرعه، فهم يفسدون في الأرض بالكفر والمعاصي والظلم والطغيان، قال الله تعالى: {{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}} [الروم: 41].
وإن من حكمة الله أن فاوت في أرزاق الناس ليستقيم عيش الناس في الحياة الدنيا، ولا تتحقق مصالح الناس إلا بهذا التدبير الحكيم، فالله يرزق الناس بعضهم من بعض، ولو كان الناس كلهم أغنياء لا يحتاجون إلى الأموال لفسدت الأرض، فمن سيزرع ويحصد؟! ومن سيسافر لجلب التجارات من بلد إلى بلد؟! ومن سيبيع الأقوات وما يحتاجه الناس إليه؟! ومن سيبني ويعمل بالأجرة لغيره إذا كان كل إنسان عنده كفايته من المال؟! لكن من حكمة الله أن جعل الناس يحتاح بعضهم إلى بعض، وينتفع بعضهم ببعض، فهذا يحتاج إلى عمل هذا، وهذا يحتاج إلى مال هذا، وبهذا تستمر الحياة، قال الله سبحانه: { {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} } [الزخرف: 32].
فتبين بهذا أن الله سبحانه لم يخلق الآلام والمشقات سدى وعبثا، وقد جعل الله في هذه الدنيا سننا كونية يستوي فيها المؤمن والكافر، والصالح والفاسد، فمن زرع حصد، ومن سقط من مكان مرتفع مات أو انكسر، سواء كان مسلما أو كافرا، ومن تعرَّض لأسباب المرض مرِض، سواء كان كبيرا أو صغيرا، وسواء كان صالحا أو فاسدا، فهذه سنن كونية تجري على جميع الناس، وهي أسباب تؤثر في مسبباتها بإذن الله سبحانه، وهذه الدنيا جعلها الله دار ابتلاء وتعب ومشقة كما قال تعالى: {{لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ}} [البلد: 4] أي: في تعب ومشقة، فلو كان الإنسان وغيره من الحيوانات لا يجوع ولا يعطش ولا يتألم ولا يموت لكانت هذه الدنيا دار الخلود، والله لم يجعلها كذلك، وإنما جعلها دارا يمتزج ألمها بلذتها، وسرورها بأحزانها وغمومها، وصحتها بسقمها، حتى لا يطمئن المؤمن إلى هذه الدنيا العاجلة، ويعلم حقيقتها وأنها فانية، فهي كالزهرة تسر الناظرين ولكن سرعان ما تذبل وتفنى، قال الله سبحانه: { {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا}} [الكهف: 45]، فالمؤمن لا يستحب الدنيا على الآخرة، فهو يعمل لدنياه وآخرته، ولا تشغله الدنيا عن عبادة ربه، وهمه أن ينجيه الله من عذاب الآخرة، كما قال تعالى معلما لنا أن ندعوه قائلين: {{رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} } [البقرة: 201]، وإذا مات المؤمن فهو يعلم أن ثواب الله للمؤمن في الجنة خير وأبقى، قال الله تعالى: { {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ}} [آل عمران: 198]، وقال جل جلاله: {{وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ} } [القصص: 60].
هذا المقال مأخوذ غالبه من كتاب ((شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل)) (ص: 169، 182، 248 - 251)، وكتاب ((مفتاح دار السعادة)) (1/ 208، 209)، كلاهما لابن القيم رحمه الله تعالى.