مكارم الأخلاق (4) صدق الحديث
هل يمكن أن نصنف الأخلاق إلى: فرائض وواجبات وسنن؟
- لم أطلع على كتاب يصنفها بهذه الطريقة، ولكن لا شك بعضها أهم من بعض؛ فالصدق والأمانة أهم من التغافل وقبول الأعذار، وكلها مهم للمسلم.
والرسول - صلى الله عليه وسلم - ذكر لنا بعض أخلاق المنافقين، حتى نحرص أشد الحرص بألا نتخلق بها، كما في الحديث، «آية المنافق ثلاث، إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان»، وفي رواية: «وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم» (متفق عليه).
وفي الحديث الآخر: «أَرْبَعٌ مَن كُنَّ فيه كانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، ومَن كَانَتْ فيه خَصْلَةٌ منهنَّ كَانَتْ فيه خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حتَّى يَدَعَهَا: إذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وإذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وإذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وإذَا خَاصَمَ فَجَرَ». (متفق عليه)؛ فهذه الأخلاق أول ما ينبغي على المسلم أن تكون فيه.
صاحبي كثير السفر إلى الشارقة، ابنه وابنته يدرسان هناك، البنت صيدلة والولد طب أسنان، استأجر لهما شقة في منطقة مميزة، يذهب كل شهر للاطمئنان عليهما وللراحة والاستجمام! يدعوني لمرافقته؛ لأنه اعتاد النزول في فندق مطل على (بحيرة خالد).
- إن اكتساب الأخلاق الحميدة والتخلص من الأخلاق الذميمة من أفضل العبادات التي ينبغي أن يحرص عليها المسلم؛ فهي أهم من نوافل العبادات كالصلاة والصيام والصدقة والعمرة، ومع ذلك لا ينتبه لها كثير من الناس.
- دعنا نفصل في خلق (صدق الحديث).
- ونحن نتكلم هنا عن صدق الحديث مع البشر، وإلا فصدق القلب ركن وأساس للدخول في الإسلام؛ فمن كان كاذبا في القلب فهو منافق نفاقا أكبر: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (المنافقون).
وهؤلاء -والعياذ بالله- في الدرج الأسفل من النار! صدق الحديث: هو أن يتحرى العبد ألا يقول إلا حقا، ولاسيما إذا ترتب على ذلك بيان حق وإثبات ملك أو ضياعه، كما في الشهادة عند القاضي؛ وذلك أن الكذب في الشهادة يسمى زورا، كما في حديث أبي بكرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟! قلنا بلى يا رسول الله، قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئا فجلس؛ فقال: ألا وقول الزور وشهادة الزور، ألا وقول الزور وشهادة الزور! فما زال يقولها حتى قلت: لا يسكت» (البخاري)، وفي رواية: «حتى قلنا: ليته سكت»، من شدة ما حذر منها.
فالمؤمن يتحرى الصدق في كل حديثه، ولاسيما إذا كان ينقل حديثا عن غيره أو واقعة شهدها؛ حتى لا يترتب على ما يقول مفسدة. و«التحلي بالصدق» يُكتسب بالممارسة، والمران، كما في حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «عليكم بالصدق؛ فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق، حتى يكتب عند الله صديقا، وإياكم والكذب! فإنه يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب، حتى يكتب عند الله كذابا» (متفق عليه واللفظ من صحيح الترمذي). المراد هنا (يتحرى الصدق) يجتهد أن يكون دقيقا صادقا في نقله للأحداث والأقوال، لا يزيد ولا ينقص، ومن لم يكن دقيقا فلا ينبغي أن ينقل كلام غيره! ففي ذلك مفسدة عظيمة.
قاطعني صاحبي.
- صدقت، لدي أخت -هداها الله- رغم صفاء نيتها، ونقاء سريرتها إلا أن نقلها للأحاديث غير دقيق؛ فتسبب مشكلات بين الإخوان، وأحيانا بين الأزواج، دون أن تقصد، حتى ثبت عندنا ألا نأخذ كلامها أنه حق إلا بعد التثبت!
- إن اكتساب الصدق لا يتحقق إلا بالممارسة، حتى يصبح الصدق سجية وخلقا، فلا يكذب وإن كان مازحا!
كنا بانتظار وصول المطعم العائم، قارب يقدم وجبة العشاء مع رحلة هادئة في البحيرة.
بحث صاحبي في هاتفه.
- اسمع هذا الحديث عن الحسن بن علي بن أبي طالب -رضي الله عنهما- قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك؛ فان الصدق طمأنينة، وإن الكذب ريبة». (صحيح الترمذي).
- كم كان عمر الحسن بن علي، عندما توفي النبي -صلى الله عليه وسلم -؟
- كان في الثامنة، مما يدل على فطنته وحذقه وضبطه للحديث!
- نعم، ومن الأمور التي ينبغي أن يعود العبد نفسه عليها، ألا يتحدث بكل ما يسمع، فإنه عرضة أن يقع في الخطأ، في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما يسمع» (مسلم)؛ وذلك أنه وإن كان صادقا فيما يحدث به، قد يكون مصدره كاذبا، أو غير دقيق في نقله، فلا عذر له في نقل كلام خطأ من أصله، كما في حديث أبي قلابة عبدالله بن زيد - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «بئس مطية الرجل زعموا» (صحيح أبي داوود)، فهو شريك في هذه الكذبة لعدم تثبته فيما نقل!
- إن الحديث عن خلق (صدق اللسان) لا ينتهي، ولكنه خلق يجب على المؤمن اكتسابه، ذلك أن الكذب -وإن لم يكن عن قصد- خلق سيئ، يحبط العمل ويمحو الأجر.
دعني أنقل لك بعض ما جمعت عن الصدق.
قسم الله -سبحانه- الناس إلى صادق ومنافق؛ فقال: {لِّيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا} (الأحزاب:24)، والإيمان أساسه الصدق، والنفاق أساسه الكذب؛ فلا يجتمع كذب وإيمان إلا وأحدهما محارب للآخر، وأخبر -سبحانه- أنه في يوم القيامة لا ينفع العبد وينجيه من عذاب الله إلا صدقه، قال -تعالى-: {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (المائدة: 119).
وكان لأبي بكر الصديق -رضى الله عنه وأرضاه-: ذروة سنام الصديقية سمي الصديق على الإطلاق، والصديق أبلغ من الصدوق، والصدوق أبلغ من الصادق، فأعلى مراتب الصدق، مرتبة الصديقية، وهي كمال الانقياد للرسول مع كمال الإخلاص.
وقد أمر الله -تعالى- رسوله - صلى الله عليه وسلم -: أن يسأله أن يجعل مدخله ومخرجه على الصدق فقال: {وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا} (الإسراء:80)، وأخبر عن خليله إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- أنه سأله أنه يهب له لسان صدق في الآخرين فقال: {وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} (الشعراء:84)، وبشر عباده فقال -تعالى-: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ} (يونس:2)، وقال: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ} (القمر)؛ فهذه خمسة أشياء: مدخل الصدق، ومخرج الصدق، ولسان الصدق، وقدم الصدق، ومقعد الصدق.
اعداد: د. أمير الحداد