دروس من قصص القرآن الكريم … قصة لوط -عليه السلام-
- تمثلت الانتكاسة الأخلاقية في قوم لوط في أمرين كلاهما من القبح بمكان أولهما اكتفاء الذكور منهم بالذكور واستحلال الاعتداء على الغريب بكل ألوان الاعتداء
- العذاب العام لا ينزل بقوم إلا إذا استحكم الفساد من جميعهم ولا يزالون في فسحة من أمرهم ما دام فيهم من ينكر عليهم فإذا وصل الإنكار إلى طريق مسدود حلت العقوبة
إن حياة أبي الأنبياء إبراهيم -عليه السلام- حافلة بالعظات والعبر، فقد كانت حياة مباركة، ارتبطت بها دعوة جميع الأنبياء الذين جاؤوا من بعده وذُكروا في القرآن الكريم، كونهم كلهم أو معظمهم جاؤوا من نسله، لكنَّ دعوته المباشرة وحياته كانت ذات ارتباط وثيق بثلاثة أنبياء تحديداً، وهم ابن أخيه لوط -عليه السلام-، وابناه إسماعيل وإسحاق -عليهما السلام-، فأما لوط -عليه السلام- فقد ذكرت قصة دعوته مع قومه في تسع سور مباركات، هي الأعراف وهود والحجر والأنبياء والشعراء والنمل والعنكبوت والصافات والقمر، وكان لوط قد هاجر مع عمه إبراهيم -عليهما السلام- من العراق إلى أرض الشام.
من العراق إلى سدوم
لقد بعث الله -تعالى- لوطا -عليه السلام- إلى أهل بلدة سدوم وما حولها، وهي قرى تقع في منطقة البحر الميت وغور الأردن، بعثه الله إليهم يدعوهم إلى التوحيد، ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ؛ لأنهم كانوا يعبدون الأصنام، ويرتكبون الفواحش والمنكرات التي انغمسوا فيها إلى الحد الذي جعلهم يأنفون من العفاف ويستهجنون الطهر، لقد استرسل أهل هذه القرى الظالمة في ملذاتهم، وجعلوا الحرية الشخصية مطلقة فيهم بلا قيد، حتى كانوا يجاهرون بالمعاصي التي تستحيي منها الحيوانات.
انتكاس الفطرة في قوم لوط
لقد تمثلت الانتكاسة الأخلاقية في قوم لوط في أمرين، كلاهما من القبح بمكان، ولو كان فيهم واحد من القبحين لكان كافياً لمقت الله لهم، لكن حِلم الله بهم شاء ألا ينزل العقاب بهم إلا حين استجمعوا الآفتين معاً، فأول الآفتين وأعظم القبحين، اكتفاء الذكور منهم بالذكور، واستحلال الاعتداء على الغريب بكل ألوان الاعتداء، يعتدون على ماله وعلى عرضه وعلى دمه، قال -تعالى-: {وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (28) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ}، (العنكبوت).
فكر الطغيان
فكان الفكر العام الذي يلف حياة ذلك المجتمع الذي فشت فيه الفاحشة يتسم بالطغيان، لقد أثر طغيان الشهوة على معايير العدل عندهم، ولا ريب، فقد جاء في الأدب الشعبي: إذا كان شخص قد جاوز الحد في الظلم قالوا: (أَجْوَرُ من قاضي سدوم)؛ لأن معايير العدل كانت عندهم قد اختلت، فصارت الشكوى إلى القاضي بسبب اعتداء أحدهم تجر على الشاكي العقوبة، لا على المشكو في حقه، وإذا كانت تفاصيل ذلك لم ترد بها أخبار صحيحة يمكن الاستدلال بها، فإن القرآن قد وصفهم بما يدل على ذلك بوضوح؛ ما يدل على أن المثل الشعبي السائد عن هؤلاء الفجرة له ظهير قوي في واقعهم؛ لأنهم تجاوزوا الحد في الظلم والفساد، قال -تعالى-: {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} (الأعراف:81)، وقال أيضا {وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ} (الأنبياء:74)، فوصفهم -سبحانه- بالإسراف وهو مجاوزة الحد في كل شين، وبالفسوق وهو الخروج على مقتضى الفطرة السوية.
مبدأ الشرر
لقد كان مبدأ الشرر في هؤلاء الهالكين أنهم استحسنوا ذلك الشذوذ، فسكتوا عليه حتى انتشر فيهم، ثم أعلنوا به ولم يعدوه عيبًا، بل كانوا يفعلون ذلك في ناديهم جهارا نهارا على مرأى ومسمع من الآخرين، وهم في نهمهم للذة المزعومة لا يكتفون بذلك الرجس فيما بينهم، بل تدفعهم النار التي ملأت قلوبهم من أثر طغيان الشهوة، إلى أن يقطعوا الطريق على المسافرين، ليعتدوا على أعراضهم، ثم تحوَّل ذلك الانفلات إلى قناعات عقلية راسخة بصواب فعلهم، وقبح التنزه عنه، فأصبحت الطهارة وفق معاييرهم جريمة، {قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ}(النمل:56)، ولم يعد في الإمكان تغيير تلك القناعات المنتكسة التي تجذرت في حسهم وإدراكهم وشعورهم: {قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}، (العنكبوت:29).
ما أشبه الليلة ببارحة سدوم!
حين يقص علينا القرآن الكريم نبأ قوم لوط، ندرك أن الشهوات المنفلتة، إذا أُطلق لها العنان، فإنها تهدم في طريقها كل القيم، ونحن نشاهد الآن ما يحدث في بعض المجتمعات، فقد كانت تلك المجتمعات إلى وقت ليس بالبعيد يُجرِّمُون إتيان تلك الفاحشة، ويفرضون عليها العقوبات، ثم إنهم عندما تساهلوا بدافع التعايش، وحب الآخر، وعدم التمييز، وهي كلها شعارات فارغة يقصد منها تجميل القبيح، وتزيين المنكر، حتى وصلوا الآن في كثير من بلادهم إلى حد تجريم استنكار ذلك المنكر، وأصبح التعرض لهؤلاء المنحرفين جريمة تعاقب عليها قوانينهم، فما أشبه ليلتهم ببارحة سدوم.
العمى المجتمعي عند قوم لوط
إن قضية قوم لوط لم تكن قضية أشخاص معدودين، بل ثقافة مجتمعية عامة، أصابها العمى والجهالة؛ فإنك لا تجد بيتا واحدا في تلك المدينة الكبيرة التي جاء في بعض الآثار أنها كانت تتكون من اثنتي عشرة قرية، تعداد سكانها أربعة آلاف ألف أي أربعة ملايين نفس، لم يؤمن منهم بلوط أحد، فلم يؤمن به -عليه السلام- منهم إلا بناتُه، وبلغ بهم الغي والتكذيب أن قالوا {ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}(العنكبوت:29)، وهم يقولون ذلك على سبيل الاستهزاء والسخرية، في دلالة واضحة على أن الدعوة إلى إصلاحهم قد وصلت إلى طريق مسدود، عند ذلك دعا -عليه السلام- ربه: {قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ} (العنكبوت:30)، ثم يَظهر لنا من الأحداث أن عملية الإهلاك لهؤلاء الفسقة جاءت في سياق مختلف عما كان عليه إهلاك السابقين.
الملائكة تنزل بالحسم
إن ملائكة الله قد تصورت في صورة بشرية، وذهبت أولاً إلى إبراهيم -عليه السلام-، تبشره بميلاد إسحاق، وأن الله سيمد في عمره حتى يرى حفيده يعقوب كذلك، {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} (هود:71)، لكنهم أخبروه قبل ذلك، حين خاف منهم؛ بسبب عدم أكلهم من الطعام الذي قدمه لهم، وفي كل ذلك يظنهم بشرا غرباء جاؤوا لأمر لا يعلمه، لكن هيئتهم لا تنبئ عن شر، حتى إذا لم يأكلوا، دخل قلبه الخوف، {وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ} (هود:70).
حكمة المرور بإبراهيم -عليه السلام-
إن مجيء الملائكة لإبراهيم أولاً قبل الذهاب إلى لوط -عليهما السلام-، في رحلة واحدة، لابد له من حكمة؛ لأن تبشيره بإسحاق كان من الممكن أن يتم بأسلوب آخر، لكن المجيء على هذا النحو له بُعد آخر؛ إذ فيه إشعار بمكانته -عليه السلام- عند ربه، لعظم قدره في العبودية له -سبحانه-؛ فإبراهيم -عليه السلام- جديرٌ بتشريف الله له على هذا النحو، ففي هذه الزيارة الملائكية منتهى التوقير والتقدير له -عليه السلام-، فقد بشروه بالولد، وطمأنوه أن ابن أخيه أيضًا سينجو مع بناته، بينما سينزل العذاب على امرأته مع الآخرين، ولقد نال إبراهيم -عليه السلام- تلك المنزلة بما وصفه الله حين قال: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} (هود:75)، فكان -عليه السلام- (حليمًا) شديد الحلم لا يغضب ولا يجهل على جهل الجاهلين، ولذلك حين علم بأن الملائكة جاءت لإهلاك قوم لوط طلب منهم أن يمهلوهم، رجاء أن يهتدوا في المستقبل، لكن الملائكة بينوا له أنهم قوم لا رجاء فيهم ولا فائدة من إمهالهم فقالوا: {يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ} (هود: 76)، وكان -عليه السلام-: (أواهًا)، أي متضرعًا إلى الله في كل الأوقات، و(منيبًا) أي يرجع إلى الله في كل شؤونه، بهذه الخصال الثلاث كان -عليه السلام- جديرًا بالخُلَّةِ وهي أعلى درجات المحبة، {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} (النساء:125)، ولذلك جاءته الملائكة قبل الذهاب إلى لوط -عليه السلام-.
حكمة تصور الملائكة
لقد جاءت ملائكة العذاب لإهلاك قوم لوط متمثلين في صورة شباب حِسان الصورة، لكي يقيموا الحجة عليهم قبل نزول العذاب بهم، ليكون آخر أمر هؤلاء الفجرة قبل تدميرهم هو سعيهم الحثيث للمعصية، والإصرار عليها، وعدم سماعهم لموعظة لوط -عليه السلام-.
أهم الدروس المستفادة
- أولاً: إذا فشت الفاحشة في قوم فشت فيهم سائر الموبقات والشرور؛ لأن المبدأ الذي به استحلوا الشهوة المحرمة سينطلقون منه إلى استحلال غيرها من الشرور والآثام.
- ثانياً: العذاب العام لا ينزل بقوم إلا إذا استحكم الفساد من جميعهم، رجالهم ونسائهم، ولا يزالون في فسحة من أمرهم ما دام فيهم من ينكر عليهم، فإذا وصل الإنكار إلى طريق مسدود حلت العقوبة.
اعداد: الشيخ: محمد محمود محمد