شرح كتاب الحج من صحيح مسلم – باب: الاشْتَراكُ في الهَدْي
- الهَدْيُ والنَّحْرُ مِنْ شَعائرِ الحَجِّ وفيه قُربَةٌ للهِ وإطعامٌ للفُقَراء والمساكين وقدْ بيَّن النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أحكامَه وأنَّه يَصِحُّ أنْ يَشتَرِكَ سَبْعَةُ أشخاصٍ في بَدَنَةٍ واحدةٍ وتُجزِئُ عنْهم
عَنْ جَابِرٍ - رضي الله عنه - قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مُهِلِّينَ بِالْحَجِّ، فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ نَشْتَرِكَ فِي الْإِبِلِ والبَقَرِ، كُلُّ سَبْعَةٍ مِنَّا فِي بَدَنَةٍ، الحديث رواه مسلم في الحج (2/955) باب: الاشْتراك في الهدي، وإجزاء البقرة والبدنة كل منهما عن سبعة.
في هذا الحديثِ يُخبِرُ جابِرُ بنُ عبداللهِ -رَضِي اللهُ عنهما- أنَّهم عِندما كانوا مع النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في الحجِّ، أَمَرَهم رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يشْتركَ في الإبِلِ والبَقَرِ، كلُّ سَبعةٍ منْهم في بَدَنةٍ، وهذا يَعني: أنَّ الهَدْيَ إذا كان جَمَلًا أو بَقرةً، أجْزَأَ فيه أن يَشترِكَ فيها سَبعةٌ، وفي رِواية أُخرى عندَ مُسلمٍ: «اشتَرَك كلُّ سَبْعةٍ منْهم في بَدَنَةٍ». والبَدَنةُ: تكونُ مِن الإبلِ خاصَّةً، وقيل: البُدْنُ تُطلَقُ على الإبلِ والبقَرِ.
وفي رواية له: فقال رجُلٌ لجابرٍ: «أَيُشْتَرَكُ في البَدنةِ، ما يُشتَرَكُ في الجَزُورِ؟» والجَزُورُ: هو الصَّغِيرُ مِن الجِمَالِ، وقيل: إنَّ البَدَنةَ هي الَّتي تُهدَى للبيتِ قبْلَ الإحرامِ بالنُّسُكِ، وأمَّا الجَزورُ فهو ما اشْتُرِيَ مِن الإبِلِ وأُهدِيَ للبيتِ بعْدَ الإحرامِ، ولذلك سَألَ الرَّجلُ عنها: وهلْ يَجوزُ الاشْتراكُ فيها أيضًا؟ فقال له جابرٌ: «ما هي إلَّا مِن البُدْنِ» أي: إنَّ الجَزُورَ لَمَّا اشتُرِيَت للنُّسُكِ صار حُكمُها كالبُدْنِ.
حضور جابر - رضي الله عنه - الحديبية
وأخبَرَ أبو الزُّبيرِ- وهو راوي الحديثِ عن جابرٍ - رضي الله عنه - أنَّ جابرًا قد حضَر الحُدَيْبِيَةَ، وهي الواقعةُ الَّتي مُنِع فيها النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - والمسلِمون مِن دُخولِ مَكَّةَ لأداءِ العُمرةِ، فحَلَّ ونَحَر الهَدْيَ في مكانِه الَّذي أُحصِرَ فيه، وكانت في السَّنةِ السَّادسةِ مِن الهجرةِ، والحُدَيبيَةُ اسمٌ لبِئرٍ يقَعُ بالقُربِ مِن مكَّةَ على بُعدِ حوالَيْ 20 كم على طَريقِ جُدَّةَ القَديمِ.
وأخبَرَ جابرٌ - رضي الله عنه - أنَّهم نَحَروا يومئذٍ سَبعينَ بَدَنةً، اشترَكَ كلُّ سَبعةٍ في بَدَنةٍ، وفي رِوايةٍ: «فأَمَرَنا» أي: النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - «إذا أَحْلَلْنا أنْ نُهدِيَ، ويَجتمِعَ النَّفَرُ منَّا في الهَدِيَّةِ» أي: يَشترِكَ الجماعةُ إلى السَّبعةِ في البَدَنةِ الواحدةِ، «وذلك حينَ أمَرَهم أنْ يَحِلُّوا مِن حَجِّهم» أمَّا الحجُّ فأراد به حَجَّةَ الوداعِ، وأمَّا العمرةُ فأراد بها عُمرةَ الحُدَيبيةِ، كما يُشيرُ إليه قولُه: «وحضَرَ جابرٌ الحُدَيبيةَ».
فوائد الحديث
- مَشروعيَّةُ اشتراكِ السَّبعةِ في البَدَنة الواحدةِ، لإهْدائِها للحجِّ.
- أنّ الهَدْيُ والنَّحْرُ مِنْ شَعائرِ الحَجِّ، وفيه قُربَةٌ للهِ، وإطعامٌ للفُقَراء والمساكين، وقدْ بيَّن النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أحكامَه، وأنَّه يَصِحُّ أنْ يَشتَرِكَ سَبْعَةُ أشخاصٍ في بَدَنَةٍ واحدةٍ وتُجزِئُ عنْهم.
باب: الهَدْي مِنَ البَقَر
عَنْ جَابِرٍ - رضي الله عنه - قَالَ: ذَبَحَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ عَائِشَةَ بَقَرَةً يَوْمَ النَّحْرِ. الحديث رواه مسلم في الحج (2/956) الباب السابق، ورواه البخاري في كتاب الحَج (1709): باب ذَبحُ الرجلِ البَقر عن نِسَائه منْ غيرِ أمْرهنّ.
رواه عن عمرة بنت عبدالرحمن عن عائشة -رضي الله عنها- تقول: خرجنا مع رسُول الله -صلى الله عليه وسلم - لخَمْسٍ بقين من ذي القعدة لا نَرَى إلا الحجّ، فلمّا دَنَونا مِنْ مكّة، أمَرَ رسُول الله - صلى الله عليه وسلم - مَنْ لمْ يكنْ مَعَه هَدْيٌ، إذا طَافَ وسَعَى بينَ الصّفَا والمَرْوة أنْ يُحلّ. قالت: فدُخلَ علينا يومَ النّحر بلَحْمِ بَقَر، فقلتُ: ما هذا؟ قال: نَحَرَ رسُول الله -صلى الله عليه وسلم - عن أزْواجه.
قال الحافظ: قوله: باب: ذَبْح الرّجل البَقَر عن نِسائه مِنْ غيرِ أمْرِهنّ، أمّا التّعبير بالذّبح مع أنّ حديث الباب بلفظ النّحر، فإشارةٌ إلى ما ورد في بعض طرقه بلفظ «الذّبح»، ونَحْرُ البقر جائزٌ عند العلماء، إلا أنّ الذّبحَ مُسْتحبٌ عندهم، لقوله -تعالى-: {إِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُوا بَقَرَةً} (البقرة:67). وخالف الحسن بن صالح فاستحبّ نَحْرها.
قوله: «مِنْ غيرِ أمْرهِنّ»
وأما قوله: «مِنْ غيرِ أمْرهِنّ» فأخَذه منْ اسْتفهام عائشة عن اللّحم، لمّا دَخَل به عليها، ولو كان ذَبَحه بِعِلْمها، لمْ تَحتَج إلى الاسْتفهام، لكنْ ليسَ ذلك دافعاً للاحتمال، فيجوز أنْ يكونَ علمُها بذلك تقدم بأن يكون استأذنهن في ذلك لكن لما أدخل اللحم عليها احتمل عندها أن يكون هو الذي وقع الاستئذان فيه وأن يكون غير ذلك فاستفهمت عنه لذلك.
قولها: «فدُخلَ علينا»
وقولها: «فدُخلَ علينا» بضم الدال على البناء للمَجْهول. «بلَحْم بَقر» قال ابنُ بطّال: أخذ بظاهره جَماعة، فأجازُوا الاشْتراك في الهَدْي والأضْحية، ولا حُجّة فيه؛ لأنّه يحتمل أنْ يكون عن كلّ واحدةٍ بَقرة، وأمّا رواية يونس، عن الزهري عن عمرة عن عائشة: أنّ رسُول الله -صلى الله عليه وسلم - نحر عن أزواجه بقرة واحدة. فقد قال إسماعيل القاضي: تفرد يونس بذلك وقد خالفه غيره اهـ.
فتعقّبه الحافظ بقوله: رواية يونس أخرجها النسائي وأبو داود وغيرهما، ويونس ثقةٌ حافظ، وقد تابعه معمر عند النسائي أيضاً، ولفظه أصْرح من لفظ يونس، قال: ما ذبح عن آل مُحمّد في حجّة الوداع إلا بقرة. وروى النسائي أيضا من طريق يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: ذَبَحَ رسُول الله - صلى الله عليه وسلم - عمّن اعْتَمرَ مِنْ نِسائه في حَجّة الوداع بقرة بينهن. صحّحه الحاكم، وهو شاهدٌ قويٌ لرواية الزهري.
قال: واستدلّ به على أنّ الإنْسان قد يلحقه مِنْ عَملِ غيرِه، ما عَمِله عنه بِغيرِ أمْره، ولا عِلْمه، وتُعقّب باحْتِمال الاسْتئذان كما تقدم في الكلام على التّرجمة.
وفيه: جَوازُ الأكل مِنَ الهَدْي والأضْحية، وسيأتي نقلُ الخِلاف فيه. انتهى مختصراً.
وقيل: فيه إشْكال أنّ زوجات النّبي - صلى الله عليه وسلم - كنّ تسعة، والبَقَرة لا تجزئ إلا عن سبعة، لكن قد يقال: إنّ الثّنتين الباقيتين ذبح عنهنّ شاة شاة، والله أعلم.
تعظيم الله -عزّوجل-
من عظم الله -سبحانه- وقدره حق قدره، تحقق فلاحه ونجاحه وسعادته في دنياه وأخراه، بل إنَّ تعظيمه -سبحانه- أساس الفلاح، وكيف يفلح ويسعد قلب لا يعظم ربه وخالقه وسيده ومولاه؟! ومن عظم الله عرف أحقية الله -عزّ وجل- بالذل والخضوع والخشوع والانكسار له، وعظّم شرعه، وعظّم دينه، وعرف مكانة رسله.
وهذا التعظيم لله -سبحانه- يعد أساسا متينا يقوم عليه دين الإسلام، بل إن روح العبادة في الإسلام هو التعظيم، وقد ثبت في الحديث الصحيح عن نبينا - صلى الله عليه وسلم - (سيد ولد آدم إمام الأولين والآخرين وقدوة الخلائق أجمعين وأتقى الناس لرب العالمين) أنه -صلى الله عليه وسلم - كان يقول في ركوعه وسجوده -بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم -: «سُبْحَانَ ذِى الْجَبَرُوتِ وَالْمَلَكُوتِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ»، وكان يقول -صلى الله عليه وسلم -: «فَأَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ -عزّ وجل-»، وكان -صلى الله عليه وسلم - يقول في ركوعه: «سُبْحَانَ رَبِّىَ الْعَظِيمِ»، ويقول في سجوده: «سُبْحَانَ رَبِّىَ الأَعْلَى»، ويقول -صلى الله عليه وسلم -: «كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ثَقِيلَتَانِ فِى الْمِيزَانِ حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ»، ومن أسماء ربنا وخالقنا ومولانا الحسنى «العظيم»، وهو -جل وعلا- عظيم في أسمائه، وعظيم في صفاته ، وعظيم في أفعاله، وعظيم في كلامه، وعظيم في وحيه وشرعه وتنزيله، بل لا يستحقّ أحدٌ التّعظيم والتكبير والإجلال والتمجيد غيره، فيجب على العباد أن يعظّموه بقلوبهم وألسنتهم وأعمالهم، وذلك ببذل الجهد في معرفته ومحبّته والذّل له والخوف منه، ومن تعظيمه -سبحانه- أن يطاع فلا يُعصى، ويُذكر فلا يُنسى، ويُشكر فلا يُكفر، ومن تعظيمه وإجلاله أن يخضع لأوامره وشرعه وحكمه، وألا يُعترض على شيء من شرعه، وهو -جل وعلا- عظيم مستحق من عباده أن يعظموه حق التعظيم ، وأن يقدروه حق قدره ، قال الله -تعالى-: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} (الزمر:67)، وفي الصحيحين من حديث ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: «جاء حبر من الأحبار إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم - فقال: يا محمد، إنا نجد أن الله يجعل السموات على إصبع، والأرضين على إصبع ، والشجر على إصبع ، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلائق على إصبع فيقول: أنا الملك؛ فضحك النبي -صلى الله عليه وسلم - حتى بدت نواجذه؛ تصديقاً لقول الحبر! ثم قرأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}.
اعداد: الشيخ: د. محمد الحمود النجدي