﴿قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا﴾من اليهود.. وإيراد صيغة الجمع في الآية مع كون القائل واحداً، كما روي، لرضا الباقين بذلك، ونظائره في التنزيل كثيرة.
﴿إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ﴾قال أهل التفسير: لما أنزل الله تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً﴾ [البقرة:245].. قال قوم من اليهود - منهم حيي بن أخطب؛ في قول الحسن. وقال عكرمة وغيره: هو فنحاص بن عازوراء- إن الله فقير ونحن أغنياء يقترض منا.
ولكن الله -عز وجل- في كتابه لا يذكر شيئاً خاصاً إلا لسبب، لابد معه من تعيين الشخص، ولهذا لم يذكر الله -عز وجل- أحداً باسمه في القرآن من هذه الأمة إلا رجلاً مؤمناً ورجلاً كافراً فقط. الرجل المؤمن زید بن حارثة ﴿فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا﴾ [الأحزاب:37]، والرجل الكافر من هذه الأمة أبو لهب؛ لأن الوصف أكثرفائدة لوجهين:
الأول: أنه قد تتغير حال المعين، يكون بالأول فاسقاً مارداً كافراً، ثم يسلم ويتوب الله عليه، فإذا تاب ولم يذكر اسمه في القرآن كان أحسن مما لو ذكر، فإنه لو ذكر اسمه لبقي العار عليه ولو تاب .
الثاني: أنه أعم؛ لأن تعليق الحكم بالوصف أعم من تعليقه بالشخص، ولهذا إذا عُلِّق الحكم بالشخص احتمل الخصوصية، وإذا قلنا بعموم الحكم المعلق بالشخص فإنه ليس عموماً شمولياً، ولكنه عموم تمثيلي، يعني بالقياس.
وهذه مسألة دل عليها القرآن وكذلك السنة أيضاً دلت عليها، فكان الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا يقول: ما بال فلان يقول كذا؟ بل كان يقول: ما بال أقوام.
والله -عزّ وجل- جعل الإنفاق في سبيله بمنزلة القرض له، إشعاراً للمنفق بأنه سوف يجازي عليه، كما أن المقترض يجب عليه أن يوفي مقرضه، فهكذا جعل الله العمل له بمنزلة القرض تفضلاً منه -عز وجل- وإحساناً للعباد.
واليهود لا يستغرب منهم أن يصفوا الله بمثل هذا، فهم قالوا: يد الله مغلولة، فوصفوه بالبخل، وهم قالوا: إن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام، ثم تعب واستراح يوم السبت، ولهذا يجعلون يوم السبت هو يوم الراحة عندهم -قاتلهم الله- وهم كاذبون في هذا، قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُغُوبِ﴾ [ق:38].
وقيل: إنما قالوا هذا تمويها على ضعفائهم، لا أنهم يعتقدون هذا؛ لأنهم أهل كتاب. ولكنهم كفروا بهذا القول؛ لأنهم أرادوا تشكيك الضعفاء منهم ومن المؤمنين، وتكذيب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. أي إنه فقير على قول محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ لأنه اقترض منا.
﴿وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ﴾ فجعلوا أنفسهم أكمل من الله، وهذا غاية ما يكون من الوقاحة.
﴿سَنَكْتُبُ﴾بنون العظمة.. والكتابة هنا كتابة الله عزّ وجل بملائكته؛ لأنهم يكتبون بأمره وهم جنده وفيه من التهديد والوعيد ما لا يخفى.
فالظاهر أنه أريد من الكتابة عدم الصفح ولا العفو بل سيثبت لهم ويجاوزون عنه فتكون الكتابة كناية عن لزوم المحاسبة.
﴿مَا قَالُوا﴾ما قالوه من هذه العظيمة الشنعاء في صحائف الحفظة. وهذا كقوله: ﴿وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ﴾ [الأنبياء:94]. وقيل: مقصود الكتابة الحفظ، أي سنحفظ ما قالوا لنجازيهم.
﴿وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ﴾إنما نظم مع ما قبله زيادة في مذمتهم بذكر مساوي أسلافهم، لأن الذين قتلوا الأنبياء هم غير الذين قالوا: ﴿إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ﴾ بل هم من أسلافهم، فذكر هنا ليدل على أن هذه بشاعة قديمة فيهم، وهي الاجتراء على الله ورسله، وأنه ليس أول جريمة ارتكبوها، وأن من اجترأ على قتل الأنبياء لم يستبعد منه هذا الكلام، وأن هؤلاء اعتدوا على حق الله وعلى حق رسله وأنبيائه.
أي: ونكتب قتلهم الأنبياء، أي رضاهم بالقتل. والمراد قتل أسلافهم الأنبياء؛ لكن لما رضوا بذلك صحت الإضافة إليهم.
روي أنه حسّن رجل عند الشعبي، قتل عثمان -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فقال له الشعبي: شركت في دمه. فجعل الرضا بالقتل قتلا؛ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-.
وهذه مسألة عظمى، حيث يكون الرضا بالمعصية معصية. وقد روى أبو داود عَنِ الْعُرْسِ ابْنِ عَمِيرَةَ الْكِنْدِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (إِذَا عُمِلَتِ الْخَطِيئَةُ فِي الْأَرْضِ، كَانَ مَنْ شَهِدَهَا فَكَرِهَهَا - وَقَالَ مَرَّةً: «أَنْكَرَهَا» - كَانَ كَمَنْ غَابَ عَنْهَا، وَمَنْ غَابَ عَنْهَا فَرَضِيَهَا، كَانَ كَمَنْ شَهِدَهَا)وهذا نص.
﴿بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ هذا قيد كاشف وليس احترازي، يعني أن قتلهم للأنبياء بغير حق، وليس المعنى أن الأنبياء ينقسم قتلهم إلى قتل بحق وقتل بغير حق، فكل قتل للأنبياء إنما هو بغير حق، ومع ذلك لا يقتلون النبي لشخصه، وإنما يقتلونه لما جاء به من الحق أي أنهم يقتلونهم لكونهم أنبياء.
ففي هذا القيد فائدتان:
الأولى: بيان الواقع، فهي صفة كاشفة.
والثانية: المبالغة في التشنيع عليهم.. فإنهم يقتلونهم بغير حق وذلك للإشارة إلى شناعة أفعالهم، وعظم شرهم، وأنهم لَا يبالون أكان فعلهم في موضعه أم في غير موضعه.
﴿وَنَقُولُ﴾أي يقال لهم هذا في جهنم، أو عند الموت، أو عند الحساب.. ثم هذا القول من الله تعالى، أو من الملائكة؛ قولان.
﴿ذُوقُوا﴾الذوق إدراك الطعوم، ثم اتسع فيه لإدراك سائر المحسوسات والحالات، وذكره ههنا، لأن العذاب مرتب على قولهم الناشئ عن البخل، والتهالك على المال، وغالب حاجة الإنسان إليها لتحصيل المطاعم، ومعظم بخله به للخوف من فقدانه، ولذلك كثر ذكر الأكل مع المال - أفاده البيضاوي–.
وقيل: الذوق هو الإحساس، وهو هنا الإحساس بالألم، والتأصل في الذوق أن يكون في أمر مرغوب في ذوقه وطلبه، وهو هنا للألم، فالتعبير فيه تهكم عليهم، كما قال تعالى: ﴿فَبَشِّرْهم بِعَذَابٍ أَلِيم﴾[آل عمران:21].
﴿عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾الحريق النار الملتهبة، وإضافة عذاب الحريق بيانية، أي: العذاب الذي هو الحريق.
وهو قول يقصد به الإهانة والإذلال وإلا فإنهم سيذوقون عذاب الحريق، قيل لهم ذلك أم لم يقل، فهو حق.
فهؤلاء سوف يذوقون العذاب بالألم البدني والألم النفسي في قوله: ﴿وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾، ففي الحريق: ألم بدني، وفي قوله ﴿ذُوقُوا﴾: ألم نفسي؛ لأن هذا توبيخ وإهانة، فالأمر هنا للتوبيخ والإهانة.
♦ وفيه: بيان قدرة الله -عز وجل- حيث يحترق هؤلاء وتنضج جلودهم، وكلما نضجت جلودهم بدلوا جلوداً غيرها، ومع ذلك لا يموتون مع أن مثل هذا الحريق لو أصاب أحداً في الدنيا لهلك كما قال سبحانه: ﴿ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى﴾ [الأعلى:13] فلا يموت ويستريح، ولا يحيا حياة هنيئة.
﴿ذَلِكَ بِمَا﴾ الباء للسببية على أن هذا العذاب لعظم هوله مما يتساءل عن سببه، ففيه تهويل للعذاب.
﴿قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ وتخصيص الأيدي بالذكر؛ للدلالة على التمكن من الفعل وإرادته، ولأن أكثر الشر يكون ببطش اليد، ولأن نسبة الفعل إلى اليد تفيد الالتصاق به، والاتصال بذاته.
والتعبير بالأيدي عن الأنفس من حيث أن عامة أفاعيلها إنما تزاول بهنّ، فهو من قبيل التعبير عن الكل بالجزء الذي مدار جلّ العمل عليه.
﴿وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ يقال لهم ذلك تقريعاً وتوبيخاً وتحقيراً وتصغيراً، بسبب هتكهم حرمة الله، وحرمة كلامه وأنبيائه المبلغين له.
إن قيل: ظلاّم صيغة مبالغة من الظلم، تفيد الكثير، ولا يلزم من نفي الظلم الكثير نفي الظلم القليل، فلو قيل: بظالم، لكان أدل على نفي الظلم قليله وكثيره!
فالجواب عنه من أوجه:
أحدها: أن الصيغة للنسب من قبيل نجار وعطّار لا للمبالغة، والمعنى: لا ينسب إلى الظلم.
الثاني: أن فعالاً قد جاء لا يراد به الكثرة. وهذا يدل على نفي البخل في كل حال، ولأن تمام المدح لا يحصل بإرادة الكثرة.
والثالث: أن المبالغة لرعاية جمعية العبيد، من قولهم: فلان ظالم لعبده، وظلام لعبيده، فالصيغة للمبالغة كماً لا كيفاً.
الرابع: أنه إذا نفي الظلم الكثير انتفى الظلم القليل ضرورة، لأن الذي يظلم إنما يظلم لانتفاعه بالظلم، فإذا ترك الظلم الكثير مع زيادة نفعه في حق من يجوز عليه النفع والضر، كان للظلم القليل المنفعة أترك.
الخامس: إن المبالغة لتأكيد معنى بديع، وذلك لأن جملة: ﴿وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبلها، أي: والأمر أنه تعالى ليس بمعذب لعبيده بغير ذنب من قبلهم.
والتعبير عن ذلك بنفي الظلم لبيان كمال نزاهته تعالى عن ذلك بتصويره بصورة ما يستحيل صدوره عنه سبحانه من الظلم، كما يعبر عن ترك الإثابة على الأعمال بإضاعتها. وصيغة المبالغة لتأكيد هذا المعنى بإبراز ما ذكر من التعذيب بغير ذنب في صورة المبالغة في الظلم.
والصفات المنفية لا يُراد بها مجرد النفي، بل المراد انتفاء هذه الصفة لثبوت كمال الضد، فإذا نفى أن يكون ظلاماً للعبيد فذلك لكمال عدله، وإذا نفى أن تأخذه سنة ولا نوم فذلك لكمال حياته وقيوميته، وإذا نفى أن يصيبه لغوب فذلك لكمال قوته، وهكذا.
﴿الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [آل عمران: 183].
﴿الَّذِينَ قَالُوا﴾ هم الذين قالوا.. سيقت للذم، وفيه ذكر قولة أخرى شنيعة منهم.
﴿إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا﴾ أمرنا، أو أوصانا وصية موثقة بالعهد.
﴿أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ﴾ نصدقه ونذعن لما يدعو إليه ونخضع؛ إذ المطلوب منهم هو الإذعان للحق والخضوع له والتسليم به.
﴿حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ﴾ فالرسول هو الذي يأتي بالقربان من النعم مما يتقرب به إلى الله تعالى ذبحا، ويقدمه هو، ثم تنزل نار البيضاء من السماء فتأكله، فليسوا هم الذين يقدمون القربان الذي تأكله النار، بل الذي يفعل ذلك هو الرسول إعجازا، ولبيان أنه رسول، وتكون معجزة وآية كما حصل في عهد موسى وهارون من نزول النار وأكلها المحرقة.. إلا أنها معجزة لا تطرد لسائر الأنبياء كما زعمه اليهود لأن معجزات الرسل تجيء على ما يناسب تصديق الأمة.
وقيل: كان أمر القرابين ثابتا إلى أن نسخت على لسان عيسى ابن مريم. وكان النبي منهم يذبح ويدعو فتنزل نار بيضاء لها دوي وحفيف لا دخان لها، فتأكل القربان.
واعلم أن القربان -بضم القاف- معناه لغةً: ما يتقرب به إلى الله تعالى وسيلة لمرضاته. قال في «مرشد الطالبين»: ذبائح العبرانيين عديدة جداً، وكان المستعمل من هذه الذبيحة -بتعيين الله-: الثيران والنعاج والمعز والحمام واليمام.
وكانت الذبائح نوعين عامّين: إحداهما كانت تقرّب لتكفير الخطايا، والأخرى شكراً لله على مراحمه وبركاته.
ثم قال: فالذبيحة اليومية كانت مشهورة جداً، وهي خروف بلا عيب، يقدم وقوداً لله كفارة للخطايا، وذلك مرتان صباحاً ومساءً، طول مدة السنة، فالتي في الصباح تقدم عن خطايا الشعب ليلاً، والتي في المساء عن خطاياهم نهاراً.
وقبل فعل الذبيحة تعترف كل الشعوب بخطاياها فوق الحيوان المراد ذبحه على يد الكاهن الخادم، وبهذا كان ينقل الإثم إليه بواسطة وضع وكلاء الشعب أيديهم على رأسه، ثم يذبح ويقرب وقوداً.
وفي غضون ذلك تسجد الجماعة في الدار، وتبخر الكهنة على المذابح الذهبية، ويقدمون الطلبات لله عن الشعب، وأما في يوم السبت، فكانت تتضاعف الذبيحة، ويقرب في كل دفعة خروفان.
ويوم الكفارة كان ممتازاً بالذبيحة السنوية، وهي أنه بعد أن يقرب الكاهن ثوراً كفارة لخطايا عائلته يقرب ماعزان كفارة لخطايا الشعب. انتهى
﴿قُلْ﴾يا محمد تبكيتاً لهم، وإظهاراً لكذبهم ﴿قَدْ جَاءَكُمْ﴾يا معشر يهود ﴿رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ﴾ الآيات والمعجزات الواضحةالدالة على رسالتهم وصدقهم.
﴿وَبِالَّذِي قُلْتُمْ﴾ بعينه من نار تأكل القرابين المتقبلة.
وقدم قوله بالبينات ليدل على أن ما قالوه وإن كان آية، لكنه دون البينات التي جاؤوا بها؛ لأنهم جاؤوا بأعظم من هذا، فمثلاً موسى -عليه الصلاة والسلام- جاء ببينة أعظم من ذلك: كان يلقي العصا فتكون حية، ويحملها فتكون عصا، وكان يدخل يده في جيبه فتخرج بيضاء لكن من غير عيب أو من غير برص، كذلك عيسى كان يخرج الأموات من القبور أحياء، أو يقف على الميت قبل أن يدفن فيحيا بإذن الله، ويخلق من الطين كهيئة الطير بإذن الله فينفخ فيه فيكون طيراً، أو فيكون طائراً فيه قراءتان.
فأيهما أعظم.. هذه البينات أم أن تنزل من السماء نار تأكل القربان؟!
﴿فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ﴾فلم قابلتموهم بالتكذيب والمخالفة والمعاندة وقتلتموهم. إذ إن القتل لَا يكون إلا أثرا من آثار التكذيب العنيد، والجحود الشديد
فقتلتم زكريا ويحيى وشعيا، وسائر من قتلوا من الأنبياء عليهم السلام ولم تؤمنوا بهم.. أراد بذلك أسلافهم.
وهذه الآية هي التي تلاها عامر الشعبي رضي الله عنه، فاحتج بها على الذي حسّن قتل عثمان -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- كما بيناه.
والله تعالى سمى اليهود قتلة لرضاهم بفعل أسلافهم، وإن كان بينهم نحو من سبعمائة سنة، ولأنهم تكلموا عن الماضين منهم بأنهم منهم فقالوا: ﴿إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا﴾، مع أن الأمر كان في هؤلاء الماضين لَا فيهم، لذلك كان عليهم أن يتحملوا وصف الإجرام الذي وقع من الماضين حتى يتخلصوا من تلك الأمة الخاسرة، ويدخلوا في أمة الإيمان وأهل الإذعان.
﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ في أنكم تتبعون الحق وتنقادون للرسل.
والاستفهام إنكاري ينفي أن يكون ثمة مبرر للقتل على أي وجه كان المبرر، وينفي أيضا صدقهم.
﴿ فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ ﴾ [آل عمران:184].
﴿فَإِنْ كَذَّبُوكَ﴾بعد بطلان عذرهم المذكور﴿فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ﴾ فلا تحزن.
﴿جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ﴾الآيات البينات الشرعية والكونية، فالآيات الشرعية هي الكتب التي جاءوا بها، والآيات الكونية هي ما يُسمى بالمعجزات الحسية.
﴿وَالزُّبُرِ﴾ الكتب الموحاة منه تعالى.. الكتب المزبورة، يعني المكتوبة. والزبر جمع زبور وهو الكتاب. وأصله من زبرت أي كتبت. وكل زبور فهو كتاب.
وقيل: الزبور ما اشتمل على المواعظ والزواجر، ولهذا كان الزبور الذي أوتيه داود أكثره مواعظ وزواجر. وأما الكتاب فما اشتمل على الأحكام الشرعية.
﴿وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ﴾ الواضح الجلي. والزبور والكتاب واحد في الأصل، وإنما ذكرا لاختلاف الوصفين. فالزبور فيه حكم زاجرة، والكتاب المنير هو المشتمل على جميع الشريعة.
وقيل: جمع بين الزبر والكتاب -وهما بمعنى- لاختلاف لفظهما.
وقيل: عطف من باب عطف الصفة على الصفة الأخرى؛ لأن الزبر تتضمن الكتاب المنير وعطف الصفات بعضها على بعض موجود في القرآن، ومنه: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى * وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى﴾ [الأعلى:1-4] فالتغاير تغاير صفة وليس تغاير ذات.
﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾ [آل عمران:185].
﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾ هذه الآية مرتبطة بأصل الغرض المسوق له الكلام، وهو تسلية المؤمنين على ما أصابهم يوم أحد، وتفنيد شبه المنافقين في مزاعمهم أن الناس لو استشاروهم في القتال لأشاروا بما فيه سلامتهم فلا يهلكوا.
وهنا إشارة بيانية أخرى رائعة هي أنه أسند ذوق الموت إلى النفس، ولم يسنده إلى الشخص؛ لأن النفس روح، والشخص جزءان جسد ونفس، وإن النفس تبقى بعد مفارقة الجسد، فهي التي تذوق الموت، كما ذاقت الحياة الدنيا، فإسناد الذوق إليها لأنها باقية.
وعبر بالذوق لأنه أبلغ في الحصول؛ فالذوق يحصل به حق اليقين، وقد قسم العلماء اليقين إلى ثلاث درجات: علم، وعين، وحق. العلم بالخبر، والعين بالمشاهدة، والحق بالذوق.
والآية كقوله تعالى: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ﴾ [الرحمن:26-27] فهو تعالى وحده هو الحي الذي لا يموت والإنس والجن يموتون، وكذلك الملائكة وحملة العرش، وينفرد الواحد الأحد القهار بالديمومة والبقاء، فيكون آخرًا كما كان أولا.