
30-06-2025, 12:23 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,377
الدولة :
|
|
رد: إنهم لن يضروا الله شيئا
أما قوله تعالى: ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللَّهُ﴾ [الزمر:68] ذكر العلماء أنه يستثنى من هذا من لا يموت ممن خُلقوا للبقاء كالولدان الذين في الجنة والحور اللاتي في الجنة.
وفي هذه الآية تعزية لجميع الناس، ووعد ووعيد للمصدق والمكذب.
﴿وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ﴾أي تكمل لكم أجوركم لا نقص فيها، والخطاب هنا للأشخاص لَا للنفوس وحدها.
وفيه تعريض بأنهم قد حصلت لهم أجور عظيمة في الدنيا على تأييدهم للدين: منها النصر يوم بدر، ومنها كف أيدي المشركين عنهم في أيام مقامهم إلى أن تمكنوا من الهجرة.
﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ تعطون جزاء أعمالكم وافياً يوم القيامة، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر. فأجر المؤمن ثواب، وأجر الكافر عقاب.
قال الزمخشري: فإن قلت: فهذا يوهم نفي ما يروى أن القبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار! قلت: كلمة التوفية تزيل هذا الوهم، لأن المعنى أن توفية الأجور وتكميلها يكون ذلك اليوم، وما يكون قبل ذلك فبعض الأجور.
وقال الرازي: بيّن تعالى أن تمام الأجر والثواب لا يصل إلى المكلف إلا يوم القيامة، لأن كل منفعة تصل إلى المكلف في الدنيا فهي مكدرة بالغموم والهموم، وبخوف الانقطاع والزوال، والأجر التام والثواب الكامل إنما يصل إلى المكلف يوم القيامة، لأن هناك يحصل السرور بلا غم، والأمن بلا خوف، واللذة بلا ألم، والسعادة بلا خوف الانقطاع. وكذا القول في العقاب، فإنه لا يحصل في الدنيا ألم خالص عن شوائب اللذة، بل يمتزج به راحات وتخفيفات، وإنما الألم التام الخالص الباقي هو الذي يكون يوم القيامة، نعوذ بالله منه.
﴿فَمَنْ زُحْزِحَ﴾ أبعد﴿عَنِ النَّارِ﴾التي هي مجمع الآفات والشرور﴿وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ﴾ الجامعة للَّذات والسرور.. وإنما جمع بين ﴿زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ﴾، مع أن في الثاني غُنْيَةً عن الأول، للدلالة على أن دخول الجنة يشمل على نعمتين عظيمتين: النجاة من النار، ونعيم الجنة.
﴿فَقَدْ فَازَ﴾حصل الفوز العظيم، وهو الظفر بالبغية، أعني النجاة من سخط الله والعذاب السرمد، ونيل رضوان الله والنعيم المخلد.
قال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنْ النَّارِ وَيُدْخَلَ الْجَنَّةَ، فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ) [مسلم].
وروى الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (إِنَّ مَوْضِعَ سَوْطٍ فِي الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا. اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: ﴿فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الغُرُورِ﴾ [آل عمران: 185]): «هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ»
﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا﴾ لذاتها﴿إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾المتاع: ما يتمتع وينتفع به، كالفأس والقدر والقصعة ثم يزول ولا يبقى ملكه.
والغُرور: غره، أي: خدعه وأطمعه بالباطل، وقيل: الغرور ما رأيت له ظاهرا تحبه، وفيه باطن مكروه أو مجهول.
والغَرور الشيطان؛ يغر الناس بالتمنية والمواعيد الكاذبة. والشيطان غرور؛ لأنه يحمل على محاب النفس، ووراء ذلك ما يسوء. ومن هذا بيع الغَرر، وهو ما كان له ظاهر بيع يغر وباطن مجهول.
وإنما وصف عيش الدنيا بذلك لما تمنِّيه لذاتها من طول البقاء، وأمل الدوام، فتخدعه ثم تصرعه.
قال الحسن: كخضرة النبات، ولعب البنات لا حاصل له.
وقال قتادة: هي متاع متروك توشك أن تضمحل بأهلها؛ فينبغي للإنسان أن يأخذ من هذا المتاع بطاعة الله سبحانه ما استطاع.
وقال بعض السلف: الدنيا متاع متروك يوشك أن يضمحل ويزول. فخذوا من هذا المتاع واعملوا فيه بطاعة الله ما استطعتم.
﴿ لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴾ [آل عمران:186].
بين الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة أن محنة أُحد كانت فيها العِبَر، وكانت تمحيصا لقلوب المؤمنين وصقلا لنفوسهم ثم ذكر سبحانه من بعد ذلك أن المستقبل سيكون من جنس الماضي، وأنه سينزل بالمؤمنين ضروب من البلاء كالتي نزلت أو أقوى، وأن واجب التبليغ والإيمان يتقاضاهم أن يتحملوا ذلك بصبر وتقوى واحتياط ولذلك قال سبحانه وتعالى:
﴿لَتُبْلَوُنَّ﴾ الابتلاء: الاختبار، ويراد به هنا لازمة وهو المصيبة، لأن في المصائب اختبارا لمقدار الثبات.
وقد أكد سبحانه وقوع الابتلاء بالقسم، واللام الموطئة للقسم، ونون التوكيد الثقيلة، وقد أكد بهذه التأكيدات ليكون الوقوع مستيقنا، وليستعدوا بالصبر والمجاهدة، والاعتماد على الله تعالى.
﴿فِي أَمْوَالِكُمْ﴾ بما يصيبها من الآفات بإنفاقه في سبيل الله تعالى، وتبديده بغارات الأعداء، وبالتكليفات الكثيرة المتعلقة به، وبالجوائح تنزل به، فكل هذا اختبار بالمال، وإنه ليسمى نفيسا؛ لأنه قرين النفس، وإن كان دونها، وهي أغلى منه، والمعنى: ليست أحوال المؤمن رخاء دائما، بل فيها شدة وبلاء يقتضي الصبر، وفيها نعمة وإحسان يقتضي الشكر.. وبدأ بذكر الأموال لكثرة المصائب بها.
﴿وَأَنْفُسِكُمْ﴾بالقتل والأسر والجراح، وما يرد عليها من صنوف المتاعب والأمراض والمخاوف والشدائد.
والآية استئناف لإيقاظ المؤمنين إلى ما يعترض أهل الحق وأنصار الرسل من البلوى، وتنبيه لهم على أنهم إن كانوا ممن توهنهم الهزيمة فليسوا أحرياء بنصر الحق، وأكد الفعل بلام القسم وبنون التوكيد الشديدة لإفادة تحقيق الابتلاء، إذ نون التوكيد الشديدة أقوى في الدلالة على التوكيد من الخفيفة.
وهذا كقوله تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾ [البقرة:155].
وفي مسند أحمد عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: قَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللهِ أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلاءً؟ قَالَ: (الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ، فَالْأَمْثَلُ، حَتَّى يُبْتَلَى الْعَبْدُ عَلَى قَدْرِ دِينِهِ، ذَاكَ فَإِنْ كَانَ صُلْبَ الدِّينِ ابْتُلِيَ عَلَى قَدْرِ ذَاكَ -وَقَالَ مَرَّةً: أَشَدُّ بَلاءً- وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى قَدْرِ ذَاكَ - وَقَالَ مَرَّةً: عَلَى حَسَبِ دِينِهِ - قَالَ: فَمَا تَبْرَحُ الْبَلايَا عَنِ الْعَبْدِ، حَتَّى يَمْشِيَ فِي الْأَرْضِ -يَعْنِي- وَمَا إِنْ عَلَيْهِ مِنْ خَطِيئَةٍ) [حسن]
﴿وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾وفي الجمع بين العالم بالكتاب والجاهل به إشارة إلى أنه عند وجود المعاندة يستوي العالم والجاهل، فإن الجاهل يَعْمهُ في عمياء جهالته، والعالم يطمس الله تعالى على قلبه، فيكون هو والجاهل سواء.
﴿أَذًى كَثِيرًا﴾من الافتراء على الله تعالى، والتهكم على القرآن، والسخرية من الشرع الإسلامي.. ولذلك وصفه هنا بالكثير، أي الخارج عن الحد الذي لا تحتمله النفوس غالبا، وكل ذلك مما يفضي إلى الفشل.
فهو كثير ليس بقليل في مقداره، ولا في نوعه، ولا في موضوعه، فالكثرة ليس المراد منها المقدار فقط، بل الكثرة تشمل: المقدار، والنوع، والطريقة، والموضوع.
قال البخاري: بَاب ﴿وَلَتَسْمَعُنَّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا﴾.
عن عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَكِبَ عَلَى حِمَارٍ عَلَى قَطِيفَةٍ فَدَكِيَّةٍ وَأَرْدَفَ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ وَرَاءَهُ يَعُودُ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ فِي بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ قَبْلَ وَقْعَةِ بَدْرٍ قَالَ حَتَّى مَرَّ بِمَجْلِسٍ فِيهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ فَإِذَا فِي الْمَجْلِسِ أَخْلَاطٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَالْيَهُودِ وَالْمُسْلِمِينَ وَفِي الْمَجْلِسِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ فَلَمَّا غَشِيَتْ الْمَجْلِسَ عَجَاجَةُ الدَّابَّةِ خَمَّرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ أَنْفَهُ بِرِدَائِهِ ثُمَّ قَالَ لَا تُغَبِّرُوا عَلَيْنَا فَسَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَيْهِمْ ثُمَّ وَقَفَ فَنَزَلَ فَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ وَقَرَأَ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنَ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ أَيُّهَا الْمَرْءُ إِنَّهُ لَا أَحْسَنَ مِمَّا تَقُولُ إِنْ كَانَ حَقًّا فَلَا تُؤْذِنَا بِهِ فِي مَجْلِسِنَا ارْجِعْ إِلَى رَحْلِكَ فَمَنْ جَاءَكَ فَاقْصُصْ عَلَيْهِ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ فَاغْشَنَا بِهِ فِي مَجَالِسِنَا فَإِنَّا نُحِبُّ ذَلِكَ فَاسْتَبَّ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْيَهُودُ حَتَّى كَادُوا يَتَثَاوَرُونَ فَلَمْ يَزَلْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخَفِّضُهُمْ حَتَّى سَكَنُوا ثُمَّ رَكِبَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دَابَّتَهُ فَسَارَ حَتَّى دَخَلَ عَلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَا سَعْدُ أَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالَ أَبُو حُبَابٍ يُرِيدُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ قَالَ كَذَا وَكَذَا قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ اعْفُ عَنْهُ وَاصْفَحْ عَنْهُ فَوَالَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ لَقَدْ جَاءَ اللَّهُ بِالْحَقِّ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ لَقَدْ اصْطَلَحَ أَهْلُ هَذِهِ الْبُحَيْرَةِ عَلَى أَنْ يُتَوِّجُوهُ فَيُعَصِّبُوهُ بِالْعِصَابَةِ فَلَمَّا أَبَى اللَّهُ ذَلِكَ بِالْحَقِّ الَّذِي أَعْطَاكَ اللَّهُ شَرِقَ بِذَلِكَ فَذَلِكَ فَعَلَ بِهِ مَا رَأَيْتَ فَعَفَا عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَكَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَصْحَابُهُ يَعْفُونَ عَنْ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ كَمَا أَمَرَهُمْ اللَّهُ وَيَصْبِرُونَ عَلَى الْأَذَى قَالَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: ﴿وَلَتَسْمَعُنَّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا﴾ الْآيَةَ وَقَالَ اللَّهُ: ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ﴾.
إِلَى آخِرِ الْآيَةِ وَكَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَتَأَوَّلُ الْعَفْوَ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ حَتَّى أَذِنَ اللَّهُ فِيهِمْ فَلَمَّا غَزَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَدْرًا فَقَتَلَ اللَّهُ بِهِ صَنَادِيدَ كُفَّارِ قُرَيْشٍ قَالَ ابْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ هَذَا أَمْرٌ قَدْ تَوَجَّهَ فَبَايَعُوا الرَّسُولَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمُوا.
﴿وَإِنْ تَصْبِرُوا﴾ على ذلك ﴿وَتَتَّقُوا﴾ مخالفة أمره تعال ى﴿فَإِنَّ ذَلِكَ﴾ الصبر والتقوى.
﴿مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ العزم: إمضاء الرأي وعدم التردد بعد تَبْيِينِ السَّدَادِ. والمراد هنا العزم في الخيرات.. والتقدير: وإن تصبروا وتتقوا تنالوا ثواب أهل العزم.
أي الصبر والتقوى من الأمور المعزومة التي تحتاج إلى عزم وإلى همة وإلى مكابدة لأنها شاقة على النفس، والعزم في الأمور من الصفات الحميدة التي وصف بها الكمّل من الخلق، قال تعالى: ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾ [الأحقاف:35]، فالعزم لا شك أنه خُلق عال يهبه الله عز وجل لمن يشاء، فإذا كان الإنسان عنده عزم في أموره فهذا هو الموفق، أما الإنسان الذي ليس عنده عزم فتجده دائماً في ملل، وفي كسل، وفي تهاون، فإن هذا لا شك خاسر، فالإنسان العازم في أموره هو الرابح دنيا وديناً.
وكان من قام بحق، أو أمر بمعروف، أو نهى عن منكر، فلا بد أن يؤذَى، فما له دواء إلا الصبر في الله، والاستعانة بالله، والرجوع إلى الله عز وجل.
وقد اختلف العلماء رحمهم الله: هل هذه الآية منسوخة وأننا نصبر ونتقي إذا كنا عاجزين عن الرد بالمثل، أو هي محكمة؟ والصحيح أنها محكمة، وأنها إنما تكون في حال يكون الصبر فيه على الأذى خيراً، أما إذا كان الأمر بالعكس فالرد أولى.. فالخير مطلوب في جميع الأحوال
.
فليست الآية مقتضية عدم الإذن بالقتال من حيث إنه أمرهم بالصبر على أذى الكفار حتى تكون منسوخة بآيات السيف، لأن الظاهر أن الآية نزلت بعد وقعة أحد، وهي بعد الأمر بالقتال.. قاله القفال.
﴿ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ﴾ [آل عمران:187].
﴿وَإِذْ﴾ واذكر إذ﴿أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ﴾ هو العهد الثقيل المؤكد الذي لَا يقبل تأويلا ولا احتمالا، مشتق من الوثاق، وهو الحبل الذي يشد به الإنسان ويربط؛ لأنه كالرباط للمعاهد.
﴿الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾هم علماء اليهود والنصارى، فالآية توبيخ لهم، ثم مع ذلك هو خبر عام لهم ولغيرهم.
والعالم لا يشعر بهذا الميثاق، لكن إيتاء الله العلم له يعتبر ميثاقاً، فالله تعالى لم يهبه هذا العلم إلا من أجل أن يبينه وإن كان الإنسان لا يستحضر أنه جرى بينه وبين الله عهد.
وقيل: هذا الميثاق أخذ على سلفهم من عهد رسولهم وأنبيائهم، وكان فيه ما يدل على عمومه لعلماء أمتهم في سائر أجيالهم إلى أن يجيء رسول.
﴿لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ﴾ لتظهرن جميع ما فيه من الأحكام والأخبار التي من جملتها أمر نبوته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
والآية التفات من الغائب إلى الخطاب؛ إذ إنه كان متحدثا عنهم، ثم فسر الكتاب بالخطاب، لتأكيد أخذ الميثاق بإعلان أنهم ما كانوا غائبين عند أخذه، بل كانوا حاضرين مخاطبين، فالعهد قد أخذ عليهم بألسنتهم.
﴿وَلَا تَكْتُمُونَهُ﴾ من النهي عن الكتمان، بعد الأمر بالبيان، مبالغة في إيجاب المأمور به. أي: لتبيننه بياناً لا كتمان فيه.
وأكد قوله تعالى: ﴿لَتُبَيِّنُنَّهُ للنَّاسِ﴾ بعدة توكيدات، بالقسم وبلامه، وبنون التوكيد الثقيلة، ولم يؤكد ﴿ولا تَكتمونه﴾؛ وذلك لأن طلب البيان مشدد ومؤكد، وبذلك يتأكد عدم الكتمان بتأكد طلب البيان، ولو أن أدوات التوكيد لحقت ﴿ولا تكتمونه﴾ لأوهم الأسلوب أن المنفي هو الكتمان المؤكد المبالغ، أما غيره فلا ينفي، فلو قيل: (ولا تكتمنّه) لأوهم الأسلوب أن المراد النهي عن المبالغة في الكتمان، فغير المبالغة في موضع الإباحة، وذلك غير معقول.
﴿فَنَبَذُوهُ﴾ أي: الميثاق، والنبذ الطرح، أي: فطرحوه ولم يراعوه. وعطف بالفاء الدالة على التعقيب للإشارة إلى مسارعتهم إلى ذلك.
﴿وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ﴾ مبالغة في الإطراح، وأنهم لن يعودوا إلى ما نبذوه.. ونبذُ الشيء وراء الظهر مثل في الاستهانة به، والإعراض عنه بالكلية. كما أن جعله نصب العين علم في كمال العناية به.
﴿وَاشْتَرَوْا بِهِ﴾استبدلوا به﴿ثَمَنًا قَلِيلًا﴾شيئاً حقيراً من حطام الدنيا.. من إبقاء رئاستهم وجاههم وسلطانهم على قومهم؛ لأن هؤلاء الأحبار والقسيسين لو تبعوا محمداً زالت رئاستهم ووجاهتهم وصاروا كعامة الناس.
وقال ابن عاشور: وهو ما يأخذونه من الرشى والجوائز من أهل الأهواء والظلم من الرؤساء والعامة على تأييد المظالم والمفاسد بالتأويلات الباطلة، وتأويل كل حكم فيه ضرب على أيدي الجبابرة والظلمة بما يطلق أيديهم في ظلم الرعية من ضروب التأويلات الباطلة، وتحذيرات الذين يصدعون بالمنكر. وهذه الآية وإن كانت في أهل الكتاب إلا أن حكمها يشمل من يرتكب مثل صنيعهم من المسلمين لاتحاد جنس الحكم والعلة فيه.
ووصف الله هذا بأنه (قليل)؛ لأن جميع ما في الدنيا قليل، وأنهم لم يأخذوا مقابله ولا مماثله ولا ما فوقه، لكنهم أخذوا بدله ثمناً قليلاً، مما يدل على خسة هممهم، وأن هممهم دنيئة حيث أخذوا الأدنى بدلاً عن الأعلى.
﴿فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ﴾بتغيير كلام الله ونبذ ميثاقه.
روى أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ، أُلْجِمَ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) [صحيح]
قال الحسن وقتادة: هي في كل من أوتي علم شيء من الكتاب. فمن علم شيئا فليعلمه، وإياكم وكتمان العلم فإنه هلكة.
وقال محمد بن كعب: لا يحل لعالم أن يسكت على علمه، ولا للجاهل أن يسكت على جهله؛ قال الله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ﴾ الآية. وقال: ﴿فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل:42].
وقال أبو هريرة: لولا ما أخذ الله -عز وجل- على أهل الكتاب ما حدثكم بشيء. ثم تلا: ﴿وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ.. ﴾ الآية.
وقال الحسن بن عمارة: أتيت الزهري بعد ما ترك الحديث، فألفيته على بابه فقلت: إن رأيت أن تحدثني. فقال: أما علمت أني تركت الحديث؟ فقلت: إما أن تحدثني وإما أن أحدثك. قال حدثني. قلت: حدثني الحكم بن عتيبة عن يحيى بن الجزار قال سمعت علي بن أبي طالب يقول: ما أخذ الله على الجاهلين أن يتعلموا حتى أخذ على العلماء أن يعلموا. قال: فحدثني أربعين حديثا.
قال العلامة الزمخشري: "كفى بهذه الآية دليلاً على أنه مأخوذ على العلماء أن يبينوا الحق للناس وما علموه، وأن لا يكتموا منه شيئاً لغرض فاسد من تسهيل على الظلمة، وتطييب لنفوسهم، واستجلاب لمسارّهم، أو لجر منفعة وحطام الدنيا، أو لتقية مما لا دليل عليه ولا أمارة، أو لبخل بالعلم، وغيرة أن ينسب إليه غيرهم".
قال العلامة أبو السعود: في تصوير هذه المعاملة بعقد المعاوضة، لاسيما بالاشتراء المؤذن بالرغبة في المأخوذ، والإعراض عن المعطي، والتعبير عن المشتري الذي هو العمدة في العقد والمقصود بالمعاملة بالثمن الذي شأنه أن يكون وسيلة إليه، وجعل الكتاب الذي حقه أن يتنافس فيه المتنافسون، مصحوباً بالباء الداخلة على الآلات والوسائل- من نهاية الجزالة والدلالة على كمال فظاعة حالهم وغاية قبحها بإيثارهم الدنيء الحقير، على الشريف الخطير، وتعكيسهم بجعلهم المقصد وسيلة، والوسيلة مقصداً- ما لا يخفي جلالة شأنه ورفعة مكانه.
﴿ لاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [آل عمران: 188].
﴿لاَ تَحْسَبَنَّ﴾تأكيد للنهي، وليس بتوكيد للظن﴿الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَواْ﴾فرح أشر وبطر ومِنّة على الله تعالى وعلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِمَا أَتَوا، أي بما أتوا من الأعمال التي يتقربون بها إلى الله على زعمهم.
﴿وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ﴾يعني بذلك المرائين المتكثرين بما لم يُعْطَوا ويبذلوا.
﴿فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ الْعَذَابِ﴾أي: بمنجاة من العذاب، وسمي موضع المخاوف كالصحاري مفازة على جهة التفاؤل؛ قاله الأصمعي. وقيل: إنما سميت مفازة؛ لأن من قطعها فاز.
﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ جملة استئنافية، لما بين أنهم ليسوا بمفازة من العذاب وليسوا ناجين أكد هذا بقوله: ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ بمعنى مؤلم أشد الإيلام، أو بكل ما يتصور العقل من إيلام، ولذلك جاءت كلمة ﴿أليم﴾ نكرة.
ولا شك أن من نسب إلى نفسه ما ليس لها من الخير، أو ادعى ما ليس عنده من الفضل، فقد كذب على نفسه، وكذب على الناس.
قال الشيخ السعدي رحمه الله: "أي: بالخير الذي لم يفعلوه، والحق الذي لم يقولوه، فجمعوا بين فعل الشر وقوله، والفرح بذلك ومحبة أن يحمدوا على فعل الخير الذي ما فعلوه".
وعَنْ عَائِشَةَ أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَقُولُ إِنَّ زَوْجِي أَعْطَانِي، مَا لَمْ يُعْطِنِي؟
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (الْمُتَشَبِّعُ بِمَا لَمْ يُعْطَ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ) [رواه مسلم].
قال النووي رحمه الله: قَالَ الْعُلَمَاء: مَعْنَاهُ الْمُتَكَثِّر بِمَا لَيْسَ عِنْده، بِأَنْ يَظْهَر أَنَّ عِنْده مَا لَيْسَ عِنْده، يَتَكَثَّر بِذَلِكَ عِنْد النَّاس، وَيَتَزَيَّن بِالْبَاطِلِ، فَهُوَ مَذْمُوم كَمَا يُذَمّ مَنْ لَبِسَ ثَوْبَيْ زُور.
قَالَ أَبُو عُبَيْد وَآخَرُونَ: هُوَ الَّذِي يَلْبَس ثِيَاب أَهْل الزُّهْد وَالْعِبَادَة وَالْوَرَع، وَمَقْصُوده أَنْ يَظْهَر لِلنَّاسِ أَنَّهُ مُتَّصِف بِتِلْكَ الصِّفَة، وَيَظْهَر مِنْ التَّخَشُّع وَالزُّهْد أَكْثَر مِمَّا فِي قَلْبه، فَهَذِهِ ثِيَاب زُور وَرِيَاء، وَقِيلَ: هُوَ كَمَنْ لَبِسَ ثَوْبَيْنِ لِغَيْرِهِ، وَأَوْهَمَ أَنَّهُمَا لَهُ، وَقِيلَ: هُوَ مَنْ يَلْبَس قَمِيصًا وَاحِدًا وَيَصِل بِكُمَّيْهِ كُمَّيْنِ آخَرَيْنِ، فَيَظْهَر أَنَّ عَلَيْهِ قَمِيصَيْنِ، وَحَكَى الْخَطَّابِيُّ قَوْلًا آخَر أَنَّ الْمُرَاد هُنَا بِالثَّوَابِ الْحَالَة وَالْمَذْهَب، وَالْعَرَب تَكْنِي بِالثَّوْبِ عَنْ حَال لَابِسه، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ كَالْكَاذِبِ الْقَائِل مَا لَمْ يَكُنْ، وَقَوْلًا آخَر أَنَّ الْمُرَاد الرَّجُل الَّذِي تُطْلَب مِنْهُ شَهَادَة زُور، فَيَلْبَس ثَوْبَيْنِ يَتَجَمَّل بِهِمَا، فَلَا تُرَدّ شَهَادَته لِحُسْنِ هَيْئَته، وَاللَّه أَعْلَم.
وعَنْ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (وَمَنْ ادَّعَى دَعْوَى كَاذِبَةً لِيَتَكَثَّرَ بِهَا لَمْ يَزِدْهُ اللَّهُ إِلَّا قِلَّةً) متفق عليه، واللفظ لمسلم.
قال ابن حجر: "ولا مانع من أن يتناول الآية كلَّ من أتى بحسنة وفَرِحَ بها فَرَحَ إعجاب، وأحب أن يحمده الناس ويثنوا عليه بما ليس فيه. والله تعالى أعلم".
وفي الحكم: «لا تُفرحكَ الطاعة من حيث إنها صَدَرَتْ منك، وافرح بها من حيث إنها هدية من الله عليك؛ ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ﴾ [ يُونس: 58 ]».
وفي صحيح البخاري عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ أَنَّ عَلْقَمَةَ بْنَ وَقَّاصٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ مَرْوَانَ قَالَ لِبَوَّابِهِ اذْهَبْ يَا رَافِعُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقُلْ لَئِنْ كَانَ كُلُّ امْرِئٍ فَرِحَ بِمَا أُوتِيَ وَأَحَبَّ أَنْ يُحْمَدَ بِمَا لَمْ يَفْعَلْ مُعَذَّبًا لَنُعَذَّبَنَّ أَجْمَعُونَ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمَا لَكُمْ وَلِهَذِهِ إِنَّمَا دَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَهُودَ فَسَأَلَهُمْ عَنْ شَيْءٍ فَكَتَمُوهُ إِيَّاهُ وَأَخْبَرُوهُ بِغَيْرِهِ فَأَرَوْهُ أَنْ قَدْ اسْتَحْمَدُوا إِلَيْهِ بِمَا أَخْبَرُوهُ عَنْهُ فِيمَا سَأَلَهُمْ وَفَرِحُوا بِمَا أُوتُوا مِنْ كِتْمَانِهِمْ ثُمَّ قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كَذَلِكَ حَتَّى قَوْلِهِ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا﴾.
وفي البخاري أيضا، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رِجَالًا مِنْ الْمُنَافِقِينَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ إِذَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى الْغَزْوِ تَخَلَّفُوا عَنْهُ وَفَرِحُوا بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَإِذَا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اعْتَذَرُوا إِلَيْهِ وَحَلَفُوا وَأَحَبُّوا أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا [أي ويحبون أن يحمدوا بأن لهم نية المجاهدين] فَنَزَلَتْ: ﴿لَا يَحْسِبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا﴾ الْآيَةَ
ولا منافاة بين الروايتين، لأن الآية عامة في جميع ما ذكر، ومعنى نزول الآية في ذلك وقوعها بعد ذلك، لا أن أحد الأمرين كان سبباً لنزولها.
وقد روى ابن مَرْدُويه عن محمد بن ثابت الأنصاري؛ أن ثابت بن قيس الأنصاري قال: يا رسول الله، والله لقد خشيت أن أكون هلكت. قال: "لم؟" قال: نهى الله المرء أن يُحِب أن يُحْمَدَ بما لم يفعل، وأجدني أُحِبُّ الحمدَ. ونهى الله عن الخُيلاء، وأجدني أحب الجمال، ونهى الله أن نرفع أصواتنا فوق صوتك، وأنا امرؤ جهوري الصوت. فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (ألا تَرْضى أن تَعِيش حَمِيدا، وتُقْتَل شَهِيدا، وتدخل الجنة؟) قال: بلى يا رسول الله. فعاش حميدا، وقُتل شهيدا يوم مُسَيْلَمة الكذاب.
وروى مسلم عَنْ هَمَّامِ بْنِ الْحَارِثِ أَنَّ رَجُلًا جَعَلَ يَمْدَحُ عُثْمَانَ فَعَمِدَ الْمِقْدَادُ فَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَكَانَ رَجُلًا ضَخْمًا فَجَعَلَ يَحْثُو فِي وَجْهِهِ الْحَصْبَاءَ فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ مَا شَأْنُكَ فَقَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: (إِذَا رَأَيْتُمْ الْمَدَّاحِينَ فَاحْثُوا فِي وُجُوهِهِمْ التُّرَابَ).
وقوله تعالى: ﴿لا تَحْسَبَنَّ ... فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ﴾ أسلوب توكيد، يسمى في علم البديع بالترديد، وإفادته التأكيد حاصلة بمجرد إعادة اللفظ.
ونظيره قوله تعالى: ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ﴾ [القمر:9]
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|