شرح سنن أبي داود
(عبد المحسن العباد)
كتاب الإمارة
شرح سنن أبي داود [448]
الحلقة (480)
شرح سنن أبي داود [448]
في القرآن الكريم ألفاظ كثيرة تنطق على لهجات مختلفة، وقد وردت القراءة بالنطق بها مختلفة، وكل ذلك جائز إذا صحت القراءة به عن النبي صلى الله عليه وسلم، كجبريل وجبرائيل وحامية وحمئة.
تابع ما جاء في الحروف والقراءات
شرح حديث (حدث رسول الله حديثاً ذكر فيه جبريل وميكال...)
قال الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى في كتاب الحروف والقراءات: [ حدثنا عثمان بن أبي شيبة و محمد بن العلاء أن محمد بن أبي عبيدة حدثهم قال: حدثنا أبي عن الأعمش عن سعد الطائي عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (حدث رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً ذكر فيه جبريل وميكال، فقال: جبرائيل وميكائيل). قال أبو داود : قال خلف : منذ أربعين سنة لم أرفع القلم عن كتابة الحروف، ما أعياني شيء ما أعياني جبريل وميكائل. حدثنا زيد بن أخزم حدثنا بشر -يعني: ابن عمر - حدثنا محمد بن خازم قال: ذكر كيف قراءة جبرائيل وميكائيل عند الأعمش ، فحدثنا الأعمش عن سعد الطائي عن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحب الصور فقال: (عن يمينه جبرائيل وعن يساره ميكائيل) ]. سبق ذكر جملة من الأحاديث المتعلقة بالحروف والقراءات، وبقيت في هذا الكتاب جملة من تلك الأحاديث في كتاب الحروف والقراءات. أورد أبو داود حديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه قال: (حدث رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاًَ ذكر فيه جبريل وميكال) فهذا حديث، ولكن لا يتعلق بالقراءات، ولكنه بلفظ ما جاء في القرآن، ومعلوم أنه جاء في القرآن: (جبريل وميكال) كما في سورة البقرة، فهذا فيه الإشارة إلى تلك القراءة، وهذه القراءة هي إحدى القراءات المتواترة والموجودة في المصحف الذي بين أيدينا، وهي قراءة عاصم بن أبي النجود ، ففيها جبريل وميكال في سورة البقرة: مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ [البقرة:98] وفي سورة التحريم قول الله عز وجل: وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ [التحريم:4]، و(جبريل) فيه قراءة أخرى بفتح الجيم، وقراءة على وزن سلسبيل، وكل هذه الثلاث من القراءات المتواترة. وكذلك أيضاً (ميكال) جاءت به قراءة متواترة في سورة البقرة، والحديث كما هو واضح فيه ذكر هذا اللفظ الذي جاء في الحديث، وهو مطابق لإحدى القراءات المتواترة التي جاءت في القرآن الكريم. ثم بعد ذلك ذكر أبو داود مقولة خلف ، ويحتمل أن يكون أحد القراء العشرة، ويحتمل أن يكون أحد الرواة عن القراء السبعة، ولا أدري من المراد بخلف هذا الذي أشار إليه أبو داود والذي قال: [ منذ أربعين سنة لم أرفع قلمي عن كتابة الحروف ]، وهذا يبين لنا أن الحروف يراد بها القراءات لا الأحرف السبعة، وقد أشرت فيما مضى إلى أن قوله: [ كتاب الحروف والقراءات ] المقصود به القراءات، فتكون الحروف والقراءات من الألفاظ المترادفة، المتفقة في المعنى المختلفة في اللفظ، مثل قول الشاعر: (وألفى قولها كذباً ومينا)، والكذب هو المين، فيعطف الشيء على نفسه مع التغاير في اللفظ، وليس مع اتحاد اللفظ. والعبارة التي ذكرها أبو داود عن خلف تبين أن المقصود بالحروف القراءات وليس الأحرف السبعة، وسبق أن أشرت إلى أن الأحرف السبعة ذكرها أبو داود في كتاب الوتر حيث عقد لذلك باباً وقال: [ باب أنزل القرآن على سبعة أحرف ]. [ قال أبو داود : قال خلف: منذ أربعين سنة لم أرفع القلم عن كتابة الحروف، ما أعياني شيء ما أعياني جبريل وميكائيل ]. وذلك لكثرة اللغات والقراءات فيها؛ لأن فيها قراءات ولغات كثيرة تبلغ ثلاث عشرة، لكن المتواتر منها هو: جبريل وجبرائيل. وفي الحديث الآخر: عن أبي سعيد قال: (ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم صاحب الصور، فقال: عن يمينه جبرائيل وعن يساره ميكائيل). وهذا حديث آخر، وصاحب الصور المراد به الذي ينفخ في الصور، وقد اشتهر بأنه إسرافيل، ولا نعلم حديثاً صحيحاً يدل على تسميته بذلك ولكنه مشهور، وذكره ابن كثير في تفسيره وقال: الصحيح أنه إسرافيل، وأن إسرافيل ينفخ في الصور، وذلك في سورة الأنعام عند قوله: قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ [الأنعام:73] لكن لم أقف على حديث في الصحيح يدل على التسمية، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يتوسل إلى الله عز وجل بربوبيته لجبريل وميكائيل وإسرافيل كما جاء في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم)، فكان يتوسل إلى الله عز وجل بهؤلاء الأملاك الثلاثة. وقال بعض العلماء في سبب نصه على هؤلاء الملائكة الثلاثة: لأن كل واحد منهم موكل بنوع من أنواع الحياة، فجبريل موكل بالوحي الذي به حياة القلوب، وميكائيل موكل بالقطر الذي به حياة الأبدان، وإسرافيل موكل بالنفخ في الصور الذي به الحياة بعد الموت، فكان صلى الله عليه وسلم يتوسل لله بربوبيته لهؤلاء الأملاك الثلاثة لأنهم موكلون بأنواع الحياة: حياة القلوب، وحياة الأبدان، والحياة بعد الموت عند نفخة البعث التي يخرج الناس بها من القبور. وقيل: إن الذي يتولى ذلك هو إسرافيل وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر:68] نفخة الموت ونفخة البعث؛ لأن نفخة الموت إذا حصلت يموت من كان حياً، فيتساوى أول الخلق وآخرهم بالموت، ثم تحصل النفخة الثانية فيقوم الأولون والآخرون من قبورهم من لدن آدم إلى الذين قامت عليهم الساعة، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أول من ينشق عنه القبر، كما جاء في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أنا سيد الناس يوم القيامة، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع وأول مشفع) فقبر رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أول القبور انشقاقاً عن صاحبه صلوات الله وسلامه وبركاته عليه. قال صاحب العون: وأخرج سعيد بن منصور و أحمد و الحاكم وصححه و البيهقي في البعث عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم (إسرافيل صاحب الصور، وجبريل عن يمينه، وميكائيل عن يساره، وهو بينهما) كذا في الدر المنثور. لكن لا أدري عن صحته، لكن ابن كثير رحمه الله قال: في الصحيح، ولا أدري ما المقصود بالصحيح، وغالباً أنه عندما يذكر الصحيح يقصد الصحيحين أو أحدهما، وقد يراد به الحديث الصحيح، فيكون أعم من أن يكون في الصحيحين وفي غيرهما.
تراجم رجال إسناد حديث (حدث رسول الله حديثاً ذكر فيه جبريل وميكال...)
قوله: [ حدثنا عثمان بن أبي شيبة ]. عثمان بن أبي شيبة الكوفي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي وإلا النسائي فقد أخرج له في عمل اليوم والليلة. [ ومحمد بن العلاء ]. محمد بن العلاء بن كريب أبو كريب البصري ، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ أن محمد بن أبي عبيدة ]. محمد بن أبي عبيدة ثقة أخرج له مسلم و أبو داود و النسائي و ابن ماجة . [ حدثنا أبي ]. أبوه ثقة أخرج له مسلم و أبو داود و النسائي و ابن ماجة . [ عن الأعمش ]. الأعمش هو سليمان بن مهران الكاهلي الكوفي ، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن سعد الطائي ]. سعد الطائي لا بأس به، وهي بمعنى صدوق، أخرج له البخاري و أبو داود و الترمذي و ابن ماجة . [ عن عطية العوفي ]. عطية بن سعد العوفي صدوق يخطئ كثيراً ويدلس، وحديثه أخرجه البخاري في الأدب المفرد و أبو داود و الترمذي و ابن ماجة . [ عن أبي سعيد الخدري ]. أبو سعيد الخدري رضي الله عنه هو سعد بن مالك بن سنان صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم. [ قال أبو داود : قال خلف ]. وخلف بن هشام هو الذي يروي عن حمزة الزيات ، وهو ينفرد أحياناً بقراءة مستقلة، فلذلك يقولون: يخالف له اختيارات. خلف بن هشام ثقة أخرج له مسلم و أبو داود . [ حدثنا زيد بن أخزم ]. زيد بن أخزم ثقة أخرج له البخاري وأصحاب السنن. [ حدثنا بشر -يعني: ابن عمر - ]. بشر بن عمر ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
دقة علماء الحديث في أسانيد الأحاديث وتراجم الرواة
كلمة [ يعني: ابن عمر ] المقصود منها: أن زيد بن أخزم تلميذ بشر بن عمر عبر عنه ببشر فقط ولم ينسبه، ولم يقل: ابن عمر، فمن دون أبي داود من الرواة عن أبي داود هم الذين نسبوه فقالوا: ابن عمر. وهذا من دقة المحدثين أنهم يأتون بالإسناد على ما هو عليه، وإذا زادوا شيئاً للتوضيح فيأتون بعبارة تبين أن هذه الزيادة ليست من التلميذ، والتلميذ اقتصر على الاسم، فمن جاء من دون التلميذ وأراد أن ينسبه نسبة يتبين ويعرف بها أتى بكلمة (يعني) حتى يعرف أنها ليست من التلميذ، وهذا من الدقة وتمام العناية في الرواية والمحافظة على الألفاظ في الأسانيد، وعدم الزيادة فيها، وإذا وجدت زيادة فإنه يؤتى بما يدل عليها، إما بكلمة (يعني) كما هنا أو بكلمة (هو) وتأتي كثيراً في بعض الأسانيد: فلان هو ابن فلان، عن فلان هو ابن فلان، فيعبر بـ: هو، أو يعبر بـ: يعني. وكلمة (يعني) فعل مضارع لها قائل ولها فاعل، ففاعلها ضمير مستتر يرجع إلى التلميذ الذي هو زيد بن أخزم ، والذي قالها هو أبو داود أو من دون أبي داود من أجل التوضيح والبيان.
ترجمة أبي معاوية الضرير وروايته لحديث جبرائل وميكائل
[ حدثنا محمد بن خازم ]. محمد بن خازم هو أبو معاوية الكوفي الضرير ، مشهور بكنيته، وكثيراً ما يأتي بكنيته فيقال: أبو معاوية ، وأحياناً يأتي باسمه كما هنا، وأكثر ما يأتي في الروايات بكنيته، وإتيانه باسمه قليل. ومعرفة الكنى للمحدثين هي من أنواع علوم الحديث التي تأتي في علم المصطلح؛ لأن من علوم الحديث التي هي جزئيات علم المصطلح معرفة الكنى، قالوا: وفائدة معرفتها ألا يظن الشخص الواحد شخصين، بحيث إذا ذكر مرة باسمه ومرة بكنيته فالذي لا يعرف الحقيقة يظن أن أبا معاوية شخص وأن محمد بن خازم شخص آخر، لكن من كان على علم بأن محمد بن خازم كنيته: أبو معاوية ، فلا يلتبس عليه الأمر، إن جاء محمد بن خازم فهو الذي يكنى بأبي معاوية ، وإن جاء بأبو معاوية فاسمه: محمد بن خازم ، وليس في ذلك لبس. وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ ذكر كيف قراءة جبرائيل وميكائيل عند الأعمش ، فحدثنا الأعمش عن سعد الطائي عن عطية العوفي عن أبي سعيد ]. ثم إنه قال: أبو معاوية ذكر قراءة جبريل وميكائيل عند الأعمش فذكر عن سعد الطائي عن عطية عن أبي سعيد قال: (ذكر صلى الله عليه وسلم صاحب الصور فقال: عن يمينه جبرائل وعن يساره ميكائل). تنبيه: جبريل وميكال هي قراءة حفص عن عاصم ، أما شعبة عن عاصم فقرأ: جبرائيل وميكائيل يعني: القراءة التي بأيدينا قراءة عاصم بن أبي النجود من رواية حفص ، ومعلوم أن من رواته حفص و شعبة ، والمصحف الذي بين أيدينا هو من رواية حفص . والمشهور عند الناس أن اسم ملك الموت: عزرائيل، ولكن لا أعلم لذلك شيئاً يدل عليه.
شرح حديث (... يقرءون (مالك يوم الدين) وأول من قرأها...)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن الزهري -قال معمر : وربما ذكر ابن المسيب - قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم و أبو بكر و عمر و عثمان رضي الله عنهم يقرءون: (مالك يوم الدين) وأول من قرأها: (ملك يوم الدين) مروان). قال أبو داود : هذا أصح من حديث الزهري عن أنس ، و الزهري عن سالم عن أبيه ]. أورد أبو داود أثراً مرسلاً عن الزهري ، وربما ذكر سعيد بن المسيب ، فيكون مرسلاً من الزهري أو من سعيد بن المسيب و سعيد بن المسيب من كبار التابعين، و الزهري من صغار التابعين يروي عن صغار الصحابة؛ لأنه يروي عن أنس بن مالك وهو من صغار الصحابة الذين عمروا حتى أدركهم مثل الزهري وروى عنهم. وسواء كان المرسل هو الزهري أو سعيد بن المسيب فكل يقال له مرسل، والمرسل: هو الذي يقول فيه التابعي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، ويضيف المتن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو المرسل في اصطلاح المحدثين ومعنى ذلك أن الواسطة محذوفة. (كان النبي صلى الله عليه وسلم و أبو بكر و عمر و عثمان يقرءون: (مالك يوم الدين)) يعني: بالألف بعد الميم، وهي قراءة متواترة، وكذلك قراءة: ( ملك يوم الدين ) قراءة متواترة، والحديث هذا وإن كان مرسلاً والمرسل من قسم الضعيف وهو لا يصح؛ لأن المشهور المعروف عند المحدثين أن التابعي إذا قال قال رسول صلى الله عليه وسلم يحتمل أن يكون المحذوف صحابياً وأن يكون المحذوف تابعياً، وعلى احتمال أنه تابعي يحتمل أن يكون ثقة وأن يكون ضعيفاً، فمن أجل ذلك رد المرسل؛ لكن القراءة متواترة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي القراءة التي في المصحف التي بأيدينا كقراءة حفص عن عاصم . قال: [ وأول من قرأها: ( ملك يوم الدين ) مروان ]. يعني: أنه سمع منه ذلك، أو أنه أظهر ذلك، وإلا فإن القراءة ثابتة، وأول من قرأ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن القراءات كلها مأخوذة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أيضاً قضية أول من قرأ بها من الأمراء هذا يحتاج إلى بحث ونظر؛ لأنه يحتاج إلى أن ينظر في الخلفاء الراشدين وكذلك من بعدهم مثل معاوية هل حصل منهم هذه القراءة أم لا؟
تراجم رجال إسناد حديث (... يقرءون (مالك يوم الدين) وأول من قرأها ...)
قوله: [ حدثنا أحمد بن حنبل ]. هو أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني الإمام المحدث الفقيه، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ حدثنا عبد الرزاق ]. عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني ، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ أخبرنا معمر ]. معمر بن راشد الأزدي البصري ثم اليماني، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن الزهري ]. محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري ثقة فقيه أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ قال معمر : وربما ذكر ابن المسيب ]. أي: قال معمر : وربما ذكر الزهري ابن المسيب ، ومعناه: أن الإرسال قد يكون من ابن المسيب ، وقد يكون من الزهري، وعلى كل حال هو مرسل، سواء كان الذي أرسله الزهري أو ابن المسيب .
فقهاء المدينة السبعة
وابن المسيب ثقة، وأحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة، والفقهاء السبعة ستة متفق على عدهم وواحد مختلف فيه، والمتفق على عدهم هم: سعيد بن المسيب و خارجة بن زيد و القاسم بن محمد و سليمان بن يسار و عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود و عروة بن الزبير . والسابع فيه ثلاثة أقوال: قيل: أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، وقيل: سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب ، وقيل: أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف ، هؤلاء الثلاثة مختلف في عدهم في الفقهاء السبعة. و ابن القيم رحمه الله في كتابه إعلام الموقعين ذكر في مقدمته جملة من الفقهاء المفتين المعروفين بالفتوى في مختلف الأمصار من الصحابة والتابعين، ولهذا يقال للكتاب: إعلام الموقعين وليس أعلام الموقعين، لأنه ليس كتاب تراجم حتى يقال له أعلام، وإنما هو إعلام، بمعنى إخبار الموقعين، وهم الذين يفتون ويبينون الأحكام الشرعية، ويوقعون عن الله بأن يبينوا الأحكام الشرعية، فذكر في أول كتابه إعلام الموقعين جملة من أهل الفتوى من الصحابة ومن بعدهم في مختلف الأمصار في المدينة ومكة والبصرة والشام ومصر، ولما جاء عند المدينة وجاء عند ذكر التابعين ذكر أن منهم الفقهاء السبعة، وذكر السابع منهم: أبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وما ذكر غيره، وذكر بيتين من الشعر يشتمل البيت الثاني منهما على السبعة: إذا قيل من في العلم سبعة أبحر روايتهم ليست عن العلم خارجة فقل هم عبيد الله عروة قاسم سعيد أبو بكر سليمان خارجة فهذا البيت الثاني يشتمل على أسماء الفقهاء السبعة والسابع فيهم هو أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام . [ قال أبو داود : هذا أصح من حديث الزهري عن أنس والزهري عن سالم عن أبيه ]. ومعلوم أن هذا الذي ذكره مرسل ليس بصحيح، لكن سواء صح أو لم يصح فإن القراءة متواترة: ( مالك يوم الدين )، وهي القراءة التي في المصحف الذي بين أيدينا.
المكثرون في رواية الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم
[ عن أنس ]. أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، و الزهري يروي عن أنس ، وأنس من صغار الصحابة والزهري من صغار التابعين، فصغار التابعين يروون عن صغار الصحابة. [ و الزهري عن سالم عن أبيه ]. الزهري عن سالم عن أبيه من طريق آخر، وسالم هو ابن عبد الله بن عمر بن الخطاب وهو أحد فقهاء المدينة السبعة على أحد الأقوال الثلاثة في السابع، وأبوه عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما الصحابي الجليل، وأحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وهم: عبد الله بن عمر و عبد الله بن عمرو و عبد الله بن عباس و عبد الله بن الزبير . وهو أيضاً أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وهم: أبو هريرة و ابن عمر و ابن عباس و أبو سعيد و جابر و أنس وأم المؤمنين عائشة ، ستة رجال وامرأة واحدة، وقد جمعهم السيوطي في ألفيته بقوله: والمكثرون في رواية الأثر أبو هريرة يليه ابن عمر وأنس والحبر كالخدري وجابر وزوجة النبي والمشهور عند العلماء أن المرسل ليس بحجة، وإن كانوا متفقين على قبول مراسيل سعيد لكن كما عرفنا أن المقصود بالحديث ليس فيه إشكال؛ لأن القراءة متواترة.
شرح حديث قراءة (ملك يوم الدين...)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا سعيد بن يحيى الأموي حدثني أبي حدثنا ابن جريج عن عبد الله بن أبي مليكة عن أم سلمة رضي الله عنها: (أنها ذكرت -أو كلمة غيرها- قراءة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: بسم الله الرحمن الرحيم الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:1-4]، يقطع قراءته آية آية). قال أبو داود : سمعت أحمد يقول: القراءة القديمة ( مالك يوم الدين ) ]. أورد أبو داود حديث أم سلمة الذي فيه: أنها ذكرت -أو كلمة نحو كلمة ذكرت- يعني: عبارة تشبهها ليس متأكداً من لفظ الكلمة التي ذكرت عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقطع قراءته فيقول: ( بسم الله الرحمن الرحيم الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:1-4] يقف عند كل آية، ويأتي بكل آية على حدة، ويقف على رأس كل آية. و(ملك يوم الدين) هذه التي جاءت في هذه الرواية عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها في كيفية قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم لسورة الفاتحة كما عرفنا هي إحدى القراءات المتواترة. [ قال أبو داود : سمعت أحمد يقول: القراءة القديمة ( مالك يوم الدين ) ]. هي كلها متواترة كما عرفنا، فلا أدري ما وجه التعبير بالقديمة، لأنها كلها ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
تراجم رجال إسناد حديث قراءة (ملك يوم الدين...)
قوله: [ حدثنا سعيد بن يحيى الأموي ]. سعيد بن يحيى الأموي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة . [ حدثني أبي ]. أبوه هو يحيى بن سعيد الأموي ، وهو صدوق يغرب أخرج له أصحاب الكتب الستة. و يحيى بن سعيد في الصحيحين أربعة أشخاص: اثنان في طبقة، واثنان في طبقة، فاثنان في طبقة متقدمة وهم: يحيى بن سعيد الأنصاري المدني ، و يحيى بن سعيد التيمي ، في طبقة صغار التابعين، و يحيى بن سعيد الأموي و يحيى بن سعيد القطان في طبقة متأخرة؛ لأن كلاً منهما من طبقة شيوخ شيوخ أبي داود ، قالوا: و يحيى الأموي يعرف برواية ابنه عنه، فاثنان في طبقة متأخرة وهي طبقة شيوخ شيوخ أصحاب الكتب الستة، وطبقة متقدمة وهي طبقة صغار التابعين. [ حدثنا ابن جريج ]. ابن جريج هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي ، ثقة فقيه أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن عبد الله بن أبي مليكة ]. عبد الله بن أبي مليكة ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن أم سلمة ]. أم سلمة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، وحديثها أخرجه أصحاب الكتب الستة.
شرح حديث (... فإنها تغرب في عين حامية)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا عثمان بن أبي شيبة و عبيد الله بن عمر بن ميسرة المعنى، قالا: حدثنا يزيد بن هارون عن سفيان بن حسين عن الحكم بن عتيبة عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر رضي الله عنه قال: كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو على حمار، والشمس عند غروبها، فقال: (هل تدري أين تغرب هذه؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنها تغرب في عين حامية) ]. أورد أبو داود حديث أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أتدري أين تغرب الشمس؟). قوله: (كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار)، هذا يفيد بأن أبا ذر ممن أردفه النبي صلى الله عليه وسلم على حمار، وقد جمع ابن مندة الذين أردفهم النبي صلى الله عليه وسلم خلفه فبلغوا ثلاثين رجلاً، وأفردهم ابن مندة رحمه الله في جزء، ومنهم أبو ذر كما جاء في هذا الحديث، ومنهم معاذ في الحديث المشهور: (أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟). قال: (هل تدري أين تغرب هذه؟ قلت: الله ورسوله أعلم) والصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم عندما يسألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء وهم لا يعرفون جوابه، يقولون: الله ورسوله أعلم، والرسول صلى الله عليه وسلم يسألهم مثل هذا السؤال من أجل أن يتهيئوا ويستعدوا لمعرفة الجواب، فإذا كان لا يعلم يقول: الله ورسوله أعلم، ويكون في ذلك استعداد وتهيؤ لمعرفة الجواب، وكثيراً ما يحصل من رسول الله عليه الصلاة والسلام، أن يسأل مثل هذا السؤال فيقول المسئول: الله ورسوله أعلم. وقول: (الله ورسوله أعلم) كان عندما يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم، أما بعد ذلك فإن المسئول يقول: الله أعلم، ولا يقول: الله ورسوله أعلم، لأنه قد يسأل عن أمر غيبي لا يعلمه إلا الله، مثل لو أن إنساناً قال: متى تقوم الساعة؟ فلا يجوز لأحد أن يقول: الله ورسوله أعلم؛ لأن الرسول لا يعلم وقت قيام الساعة، ولكن يضاف العلم إلى الله عز وجل فيقال: الله أعلم، ولا يقال: الله ورسوله أعلم، وإنما كان هذا يقوله الصحابة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما كان يسألهم. وهذا السؤال من كمال بيانه صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، فإنه يأتي بطرق من أجل فهم الشيء مثل هذا السؤال، ومثل كونه يأتي بالشيء موصوفاً بأوصاف، مثل قوله: (كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان)، يصف الكلمتين بأوصاف تجعل الذي يسمع يتشوف إلى معرفة هاتين الكلمتين، ثم قال: (سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم) إلى أمثال ذلك، فهذا من كمال بيانه وفصاحته وبلاغته وكمال نصحه صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، فهو عليه الصلاة والسلام أنصح الناس للناس، وأكملهم بياناً وأفصحهم لساناً صلوات الله وسلامه وبركاته عليه. قال: (تغرب في عين حامية) وهذه قراءة أيضاً متواترة، وفي القراءة التي سبق أن مرت: (عين حمئة)، وهي التي في المصحف الذي بين أيدينا، والمقصود من ذلك أنها في نهايتها، فعندما يكون الإنسان في نهاية الأرض فإنه يراها رأي العين كأنها تسقط في البحر، ومعلوم أنها تدور في فلكها، وهي تغيب عن أناس وتظهر على أناس، لا أنها تغادر وتبقى الدنيا كلها في ظلام دامس لا وجود لها، بل إنها تكون موجودة، ولكنها تغيب عن أناس وتظهر على أناس، كما هو الواقع المشاهد وكما هو معلوم من قبل. جاء عن ابن عباس في حديث صحيح ذكره ابن أبي حاتم في تفسيره، وابن كثير أورده عنه في تفسير سورة لقمان عند قول الله عز وجل: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ [لقمان:29] وقال: إنه إسناد صحيح، وذكر عن ابن عباس : (أن الشمس عندما تغرب تكون عند أناس آخرين وأنها تكون في جهة أخرى). وهذا يبين أيضاً أن الأرض كروية؛ لأنها لو كانت مسطحة فإنها إذا ظهرت ظهرت على الأرض كلها من أولها إلى آخرها، لكن كونها تظهر على أناس وتغيب عن أناس هذه دلالة على أنها كروية، وهذا شيء معروف من قديم الزمان، وليس هذا من المحدثات التي وجدت في هذا العصر، فيذكرون في علم الجغرافيا من الأدلة التي تدل على كرويتها أن الإنسان لو وضع له ثلاثة أعمدة متساوية وجعل بعضها وراء بعض ثم نظر من مكان بعيد رأى أنها غير متساوية، فهذا من الأدلة الحسية التي يستدلون بها على أن الأرض كروية. وقد ذكر أبو محمد الجويني والد إمام الحرمين وكان إماماً أشعرياً ووفقه الله عز وجل إلى ترك مذهب الأشاعرة إلى مذهب أهل السنة، فألف رسالة قيمة ينصح فيها شيوخه وتلاميذه وزملاءه أن يكونوا على منهج وطريقة السلف في إثبات الصفات وترك التأويل، وهي رسالة من أحسن الرسائل وفائدتها قيمة، وذلك أنه كما يقولون: حديث القلب، أو من القلب إلى القلب؛ لأنه حريص على هداية شيوخه، ويحب أن يهتدوا كما اهتدى، فله رسالة قيمة وهي مطبوعة ضمن مجموعة الرسائل المنيرية، وقد ذكر فيها شيئاً حول الأرض وكرويتها، قال: لو أن إنساناً انطلق من نقطة معينة متجهاً إلى الغرب ثم واصل السير باستمرار وبدون انقطاع فإنه سيئول به الأمر إلى أن يصل إلى مكان نقطته من الشرق. وعندما وجد العلم الحديث وحصلت الاتصالات تأكد الناس أن جماعة عندهم ليل وجماعة عندهم نهار. إذاً: هذا شيء معروف من قديم الزمان. إذاً: من يكون في آخر اليابس وطرف البحر أو من يكون مثلاً في مكان غربه بحر فإنه يرى أن الشمس كأنها غربت في البحر وهي ما دخلت فيه، وإنما هي في مسارها، لكن في رأي العين هي كذلك.