الإيمان بالحشر وما بعده
وأمور الآخرة أمور غيبية يجب التصديق بها دون أن يجعل الإنسان ذلك تابعاً لعقله، فإن الواجب على العقول التسليم والانقياد والاستسلام وعدم الاعتراض وعدم التردد في تصديق كل ما جاء عن الله وعن رسوله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه. ثم الناس عندما يخرجون من قبورهم يذهبون إلى المحشر، ويجتمعون في صعيد واحد، من لدن آدم إلى الذين قامت عليهم الساعة، ويموج بعضهم في بعض، ويصيبهم شدة، ويبحثون عمن يشفع لهم إلى الله لفصل القضاء بينهم، حتى يحاسبوا ويذهبوا إلى منازلهم من الجنة أو النار، فيأتون إلى آدم أبي البشر فيعتذر، ثم إلى نوح فيعتذر، ثم إلى إبراهيم فيعتذر، ثم إلى موسى فيعتذر، ثم إلى عيسى فيعتذر، ثم إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فيقول: (أنا لها) ثم يتقدم ويشفع ويفتح الله عليه بالمحامد، فيقال له: (ارفع رأسك وسل تعط، واشفع تشفع). وهذه هي الشفاعة العظمى، وهي التي تسمى: المقام المحمود؛ لأنه يحمده عليه الأولون والآخرون، صلوات الله وسلامه وبركاته عليه؛ لأن الكل يستفيد من شفاعته، ولهذا جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أنا سيد الناس يوم القيامة) فنص على يوم القيامة لأنه يظهر فيه السؤدد على الأولين والآخرين، وإلا فهو سيد الناس في الدنيا والآخرة، صلوات الله وسلامه وبركاته عليه. فيشفع الرسول صلى الله عليه وسلم، ويأتي الله لفصل القضاء بين العباد، ثم يحصل الحساب، ثم يحصل وزن الأعمال، ثم يذهبون إلى الجنة والنار، والنار تكون في الطريق إلى الجنة، لأن الصراط منصوب على متن جهنم، والناس يمرون على الصراط، فمن كان من أهل النار وقع في النار، ومن كان من أهل السعادة تجاوز هذا الصراط، وذهب إلى الجنة التي هي وراء النار، وكل هذه أمور غيبية يجب الإيمان والتصديق بها، وعدم الاعتراض عليها، وعدم التردد في قبول شيء منها، وأنها حقيقة وأنها واقعة، وأنها لابد وأن توجد. فأركان الإيمان كلها غيب؛ الإيمان بالله من علم الغيب، والإيمان بالملائكة من علم الغيب، والإيمان بالرسل من علم الغيب، والإيمان بالكتب من علم الغيب، والإيمان باليوم الآخر من علم الغيب، ولا يعرف الناس شيئاً منها إلا عن طريق الوحي من كتاب الله عز وجل، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد جاء الكتاب والسنة بهذه التفاصيل المتعلقة بالقبر وعذابه ونعيمه، وبالبعث وكيفيته، وبالحشر وما يجري فيه، ثم مجيء الله عز وجل لفصل القضاء ومحاسبة الناس، ثم بعد المحاسبة توزن الأعمال، ووزن الأعمال من أجل أن يعرف كل ما له وما عليه، والله عز وجل عالم بكل شيء، وعالم بالراجح والمرجوح، ولكن ذلك من أجل العباد أنفسهم حتى يعرفوا ما لهم وما عليهم، وليظهر عدل الله عز وجل فيهم، وأن من كان عنده حسنات فإنه لا ينقص منها شيء، ومن كان عنده سيئات فإنه لا يزاد عليها شيء، بل كل ما حصَّل من خير فسيجده أمامه، وما حصل من شر فسيجده أمامه، كما قال الله عز وجل: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:7-8]. وقال في الحديث القدسي: (يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه) . والصراط منصوب على متن جهنم، والناس يمرون عليه، وهم متفاوتون في المرور عليه على حسب ما عندهم من الإيمان والأعمال الصالحة، فمنهم من يمر بسرعة البرق، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كأجاود الخيل، ومنهم من يزحف زحفاً، ومنهم من تخطفه الكلاليب فيقع في النار، ولكن من وقع في النار وهو من أهل الإيمان فإنه لا يخلد فيها، بل لابد وأن يخرج منها ويدخل الجنة، ولا يبقى في النار أبد الآباد إلا الكفار الذين لا سبيل لهم إلى الخروج منها؛ لأن الجنة حرمت عليهم، والنار هي مقرهم، وهم متفاوتون فيها في الدركات. ويدخل في الإيمان باليوم الآخر الإيمان بالجنة والنار، وما في الجنة من النعيم المقيم، مما جاء بيانه في القرآن، وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وما في النار من العذاب الأليم الذي جاء بيانه في القرآن وسنة الرسول الكريم صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، وكل ذلك يجب الإيمان والتصديق به، وأنه حق على حقيقته، وأن كل ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم من أخبار ذلك اليوم فإنه يقع طبقاً لما أخبر به عليه الصلاة والسلام. ثم الإيمان بالقدر، وهو الركن السادس من أركان الإيمان، وقد مر الكلام فيه قريباً.
معنى الإحسان في حديث جبريل
ثم سأل جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإحسان فقال: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك). وهذا فيه بيان عظم شأن الإحسان، وأنه منزلة عالية رفيعة وأنه أعلى من الإسلام والإيمان؛ لأن فيه قدراً زائداً على ذلك، وهو أن الإنسان يعبد الله وكأنه واقف بين يديه، ومن كان كذلك فإنه يتقن عمله فيأتي به على الوجه الأكمل، ولا يحصل منه إخلال فيه. والإحسان كما هو معلوم يكون في عمل الإنسان القاصر مثل الصلاة، فيصلي كأنه واقف بين يدي الله، فهو مقبل على صلاته، ومحافظ عليها وآت بكل ما يلزم فيها، وكذلك يكون في العمل المتعدي، وذلك بالإحسان إلى الناس بالقول أو بالمال، وذلك بإخراج الواجب والمستحب من المال في الزكاة والصدقات، وما إلى ذلك، ويكون أيضاً بالإحسان بالعلم، والدعوة إلى الخير، والتبصير بالحق والهدى، وتعليم العلم النافع، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن هذا كله إحسان إلى من بذل له؛ لأنه يستفيد هدى، ويستفيد علماً نافعاً، يسير به إلى الله عز وجل على بصيرة. ويكون الإحسان بالجاه في وجوه كثيرة، لكن كون الإنسان يأتي بمثل الصلاة، وهو مقبل على الله، ويستشعر بأنه بين يدي الله، فهذه درجة كاملة، ودرجة الكمال لا تحصل لكل أحد، ولا تتيسر لكل أحد. وكذلك إذا لم يكن يراه فإنه يستشعر أن الله مطلع عليه، وأن الله تعالى رقيب عليه، وأنه لا تخفى عليه خافية، فكل حركاته وسكناته يراها الله تعالى، ويطلع عليها، فإن ذلك أيضاً يدفعه إلى العناية بالعمل، وإلى الإتيان بالعمل على الوجه المطلوب، ولهذا يقول العلماء: إن الإسلام والإيمان والإحسان هي درجات، فالمحسن هو مؤمن ومسلم، ودونه المؤمن فإنه مؤمن مسلم، ودونه المسلم، إذ ليس كل مسلم مؤمناً، وليس كل مؤمن يكون محسناً، أي: بالغاً هذه الدرجة التي جاء وصفها في هذا الحديث عن رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه. والناس متفاوتون في الإيمان وفيما يقوم منه بقلوبهم وفي أعمالهم، وليسوا على حد سواء.
شرح علامات الساعة من حديث جبريل
بعد ذلك سأل جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الساعة: (قال: فأخبرني عن الساعة؟ قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل). أي: علمي وعلمك فيها سواء، والمعنى: أننا لا نعلم شيئاً من ذلك؛ لأن علم الساعة من الأمور التي اختص الله بها فلم يطلع عليها أحداً، فلا يعلم متى تقوم الساعة.. في أي سنة، وفي أي شهر من السنة، وفي أي يوم من الشهر إلا الله، نعم جاء في السنة ما يدل على أنها تقوم يوم الجمعة، فلا تكون في بقية الأيام، لكن في أي يوم من الشهر وفي أي سنة، لا يعلم ذلك إلا الله عز وجل، ولهذا جاء في الحديث: (خمس لا يعلمهن إلا الله: لا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله) . وهذا يدلنا على أنه لا يعلم الغيب على الإطلاق إلا الله سبحانه وتعالى، فرسول الله صلى الله عليه وسلم قد أطلعه الله على كثير من الغيوب وأخفى عليه ما شاء من الغيوب، ومما أخفاه عليه قيام الساعة، ولهذا أجاب النبي صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام بهذا الجواب فقال: (ما المسئول عنها بأعلم من السائل)، وإنما أتى بهذا الجواب ليبين أنه هو الجواب الذي يصلح عند كل سؤال عن شيء لا يعلمه السائل ولا المسئول. قوله: (أخبرني عن أماراتها) . الأمارات هي: العلامات، والساعة لها علامات قريبة من قيامها وهي العلامات الكبرى، وعلامات في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وعلامات بعد ذلك وبين ذلك، والرسول صلى الله عليه وسلم قد قال: (بعثت أنا والساعة كهاتين) يعني: أن زمن بعثته قريب من الساعة. وقد جاءت أحاديث تدل على أشراط الساعة، وقد مضى شيء من أشراطها، وهناك أشياء لم تمض، ولكنها لا تعتبر من أشراطها العظام. وهناك أشراط عظام هي التي تكون بين يديها، مثل خروج الدجال وخروج المهدي ، ونزول عيسى بن مريم، وخروج يأجوج ومأجوج، وخروج الدابة، وطلوع الشمس من مغربها. والرسول صلى الله عليه وسلم عندما سئل عن الساعة في حديث جبريل أجاب بهذا الجواب، وفي مواضع أخرى أجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيان شيء من أماراتها، وكان يرشد إلى ما ينبغي أن يكون عليه الإنسان من الاستعداد لها؛ فإنه صلى الله عليه وسلم سأله ذات مرة سائل فقال: (يا رسول الله! متى الساعة؟ فقال له عليه الصلاة والسلام: وماذا أعددت لها؟ قال: أعددت لها حب الله ورسوله، فقال عليه الصلاة والسلام: المرء مع من أحب) . فلفت نظره إلى شيء أهم مما سأل عنه، وهو الاستعداد للساعة بالعمل الصالح الذي يجده إذا قامت الساعة، فهذا هو المهم، وليس المهم أن يسأل عن الساعة، فإن الساعة آتية وكل آت قريب، ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله سبحانه وتعالى. وهذا يدل على أن المهم في أمر المسلم أن يكون مشتغلاً بالأعمال الصالحة التي تقربه إلى الله عز وجل، ليجدها أمامه إذا قامت الساعة، كما قال الله عز وجل: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:7-8] وقال في الحديث القدسي: (إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه) . وجاء عليه الصلاة والسلام مرة رجل وهو بين أصحابه يحدثهم، فوقف وقال: يا رسول الله متى الساعة؟ فأعرض عنه واشتغل مع أصحابه في الحديث الذي هو معهم فيه، ولما فرغ من الحديث مع أصحابه الذين كانوا معه قبل أن يأتي هذا السائل قال: (أين السائل عن الساعة؟ فقال: أنا يا رسول الله، قال: إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة، قال: وكيف إضاعتها؟ قال: إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة)، فهذا سأله عن الساعة فأجابه بشيء من أماراتها. وأما جبريل فإنه سأله عن أمارات الساعة، وفي بعض الروايات أنه قال: (سأخبرك بشيء من أماراتها)، ثم إنه قال: (أن تلد الأمة ربتها -أو ربها-)، وفسر هذا بأن المراد منه أن يكثر السبي حتى يطأهن أسيادهن وحتى تلد الولد من سيدها فيكون بمنزلة سيدها وإن لم يكن هو سيدها، ولكنه بمنزلة السيد؛ لأنه ابنه وقائم مقامه، وأمهات الأولاد استيلادهن من أسباب عتقهن. ومنهم من قال: إنها تلد من يكون سيداً لقومه أو سيداً للناس، ويكون مسئولاً، كأن يكون ملكاً أو تكون له سلطة فيكون راعياً وإماماً لكل هؤلاء ومنهم أمه. ومنهم من قال: إن هذا إشارة إلى العقوق، وأنه يحصل أن الأمة تلد من يكون سيداً لها، أو يوصف بأنه سيد لها أو أنه ربها، بمعنى: أنه يتسلط عليها ويحصل منه شيء من الإيذاء ومن العقوق لأمه وكأنه بمنزلة من يكون مالكاً لها يتصرف فيها كيف يشاء، وهذا المعنى هو الذي رجحه الحافظ ابن حجر في فتح الباري وقال: إن هذه كلها صفات مذمومة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أجاب بصفات مذمومة، وهذا مذموم، وكذلك كون الذين كانوا بعيدين عن المدن، وما عندهم إلا الجفاء والغلظة في بداوتهم ينتقلون إلى أن يتطاولوا في البنيان، فيقول: إن هذا الأمارات كلها من باب واحد، وهي تتعلق بالذم. قوله: [ (وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان) ] الحفاة هم الذين ليس على أرجلهم نعال، والعراة هم الذين لباسهم قليل، وليس معنى ذلك أنهم يمشون عراة ليس عليهم شيء، وإنما المعنى أنهم وإن كان عليهم ما يسترهم إلا أن ثيابهم تكون بالية، فهم بمثابة العاري لضعف حالهم ولقلة مالهم، فتجد الإنسان قد يملك ما يستر عورته، وقد يكون عنده أكثر من ذلك، لكنه لا يخرج عن كونه عارياً، بمعنى أن قلة ذات يده جعلته بهذا الوصف، ولا يعني ذلك أنهم يمشون عراة ليس عليهم شيء يغطون به سوءاتهم وعوراتهم. والعالة: الفقراء، وهذا يرجع إلى الاثنين؛ لأن من شأن من يكون حافياً ويكون عارياً أن ذلك حصل له من أجل فقره. فكلمة (العالة) يدخل تحتها ما تقدم من كونهم حفاة عراة. قوله: (رعاء الشاء) أي: الذي كان شأنهم رعي الغنم والإبل في البادية، وليس عندهم إلا الجهل والجفاء والغلظة. قوله: (يتطاولون في البنيان) أي يتحولون من محل البادية إلى أن يكونوا في الحاضرة وأن يكونوا بهذا الوصف الذي بينه الرسول صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، والمعروف عن المتقدمين في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم أن منازلهم كانت بسيطة، وكان فيها تواضع وسهولة وليس فيها تكلف، وليست مكونة من أدوار كثيرة، وقد جاء في قصة مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ونزوله ضيفاً عند أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه ما يدل على أن بيته مكون من دورين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نزل في الأسفل، وكان أبو أيوب في المكان الأعلى، ثم إنه قال: يا رسول الله تنتقل إلى المكان الأعلى، وأنا أكون في المكان الأسفل؛ لأن غرضه من ذلك ألا يكون فوق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يكون الرسول صلى الله عليه وسلم فوقه؛ ولكن الغالب أنهم كانوا يبنون من غير تكرر الأدوار. وأيضاً يكون السقف قريباً، وقد ذكر بعض أهل العلم آثاراً تدل على هذا المعنى.
حديث جبريل بيان لمراتب الدين
ثم إن جبريل مضى بعدما انتهت هذه الأسئلة، قال عمر : (فلبثنا ثلاثاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا عمر أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم، فقال عليه الصلاة والسلام: هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم). وهذا فيه بيان أن كل ما مضى ذكره يدخل تحت الدين، فهناك أخبار وهناك أحكام، فشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت؛ كل هذه أحكام يفعلها الإنسان، وأركان الإيمان أمور تعتقد، وهي إخبار عن الله وعن ملائكته، وذلك من الغيب الذي يجب الإيمان به وكذلك الإيمان بالرسل والكتب واليوم الآخر والقدر، فكل ما جاء عنها وما يتعلق بها هي أخبار يجب التصديق بها. والإحسان عمل، وقد وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بالوصف الذي بينه. وأما ما سأل به عن الساعة وعن أماراتها؛ فإن تلك من الأمور المغيبة التي يجب التصديق بها، وألا يتكلم فيها إلا بعلم؛ لأن العلامات والإخبار عن أمور مستقبلة هي من علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، ولا يعرف شيء منه إلا ما جاء به الوحي عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم في الكتاب والسنة. والحاصل أن حديث جبريل المشهور حديث عظيم مشتمل على أمور كثيرة مهمة وعلى أصول عظيمة في العبادات، وفيما يتعلق بما يقوم بالقلوب، وبما يقوم بالجوارح، وبما يقوم باللسان، وفيه إخبار عن أمور مغيبة لا تعرف إلا عن طريق الوحي. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم) وقد أثنى العلماء على هذا الحديث وبينوا عظيم شأنه وأهميته، وأنه مشتمل على أصول عظيمة ولذا فإن الإمام مسلم رحمه الله صدر به صحيحه، فكان أول حديث عنده في كتاب الإيمان.
تراجم رجال إسناد حديث جبريل في مراتب الدين
قوله: [ حدثنا عبيد الله بن معاذ ]. هو عبيد الله بن معاذ بن معاذ العنبري ، وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري و مسلم و أبو داود و النسائي . [ حدثنا أبي ]. هو معاذ بن معاذ العنبري ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ حدثنا كهمس ]. هو كهمس بن الحسن وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن ابن بريدة ]. هو عبد الله بن بريدة بن الحصيب ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن يحيى بن يعمر ]. وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عبد الله بن عمر ]. هو عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما، أحد العبادلة الأربعة من الصحابة، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم. [ حدثني عمر بن الخطاب ]. عمر بن الخطاب أمير المؤمنين، وثاني الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، صاحب المناقب الجمة والفضائل الكثيرة، رضي الله تعالى عنه وأرضاه وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.
الأسئلة
معنى قول المعتزلة عليم بذاته
السؤال: ما معنى قول المعتزلة: عليم بذاته، قدير بذاته، سميع بذاته، وهل يفهم من ذلك أنهم يثبتون الصفات؟ الجواب: المعتزلة يثبتون الأسماء ولا يثبتون الصفات، فهم يقولون: سميع بلا سمع، ومعناه: أن اسمه سميع، ولكنه سميع بذاته، وليس بسمعه.
تقدم الحساب في القبر على وزن الأعمال
السؤال: يقام يوم القيامة الميزان بالقسط، فلماذا يبدأ الحساب في القبر؟ الجواب: القبر كما هو معلوم فيه امتحان واختبار، وأما الميزان الذي هو لحصر الأعمال، ومعرفة الحسنات والسيئات، والوزن إنما يكون يوم القيامة، ولكن الجزاء يكون في القبر لمن كان مستحقاً لأن يجازى ويعذب في القبر.
كل رسول قد نزل عليه كتاب من عند الله
السؤال: ذكرتم في التفريق بين النبي والرسول أن الرسول ينزل عليه كتاب بشريعة جديدة، ألا يشكل على ذلك سليمان، فهو رسول، ولمن ينزل عليه كتاب بشريعة؟ وكذلك آدم؟ الجواب: ما هو الدليل على أنه لم ينزل عليه كتاب؟ فإن عدم ذكر الكتاب الذي أنزل عليه لا يدل على أنه لم ينزل عليه كتاب، وقد جاء في القرآن أن كل رسول أنزل الله عليه كتاباً: (( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ )) والألف واللام في (الكتاب) للجنس وليست لكتاب معين؛ لأن الله ما أنزل على رسله كتاباً واحداً وإنما أنزل عليهم كتباً، ولهذا لفظ الكتاب يأتي كثيراً في القرآن ويراد به الجنس، كما أنه يراد به العهد الذهني مثل قول الله عز وجل: الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:1-2] أي: القرآن؛ لأن (أل) للعهد الذهني، يعني: الكتاب المعهود بالأذهان، وقول الله عز وجل: (( لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ )) المراد به: الكتب لأن المراد به: الجنس. وقول الله عز وجل: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ [المائدة:48] فالأول القرآن والثاني الكتب السابقة، وكلها بلفظ الإفراد إلا أن هذا للجنس وهذا للإفراد. وكما قال الله عز وجل: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ [البقرة:177] أي: الكتب، وكذلك قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ [النساء:136] وهو القرآن وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ قَبْلُ [النساء:136] أي: الكتب. وكذلك أيضاً يأتي الكتاب مضافاً إلى معرفة فيكون عاماً ويراد به الكتب، كما في قول الله عز وجل في آخر سورة التحريم: وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ [التحريم:12] على قراءة جمهور القراء ( كتابه ) وهي لا تخالف قراءة: (( وَكُتُبِهِ )) لأن الكتاب المقصود به الكتب؛ لأنه مفرد مضاف إلى معرفة فيكون عاماً. فالحاصل أن الكتاب يأتي مفرداً محلى بالألف واللام، ويأتي مضافاً إلى معرفة فيراد به الجنس، ولا يراد به خصوص كتاب معين. وأما آدم فهو نبي وهو رسول إلى أولاده، ونوح إنما أرسل بعدما حصل الشرك وتغيرت الفطرة، وأما آدم فإنه يعمل بما أوحى الله تعالى به إليه، وكذلك أبناؤه يعملون بما أوحي إليه به، ولا ينافي هذا ما جاء في حق نوح: كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ [النساء:163] لأن نوحاً عليه السلام أرسل بعدما وجد الشرك، وأما في زمن آدم فلم يحصل الخروج عن الشيء الذي فطر الله الناس عليه، كما جاء في الحديث: (خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين) وكما جاء في الحديث الآخر: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه).
ترتيب مشاهد يوم القيامة
السؤال: ما هو الترتيب الصحيح لمشاهد يوم القيامة: الشفاعة، والحوض، والميزان، وغيرها؟ الجواب: الحوض قيل: إنه في عرصات القيامة؛ لأن الناس يخرجون من قبورهم عطاشاً، فيأتون للحوض ليشربوا منه، فيذاد عنه من يذاد ويشرب منه من يشرب، والناس يجتمعون في صعيد واحد بعد أن يخرجوا من قبورهم ويذهبون إلى المحشر، ثم يأتي الله لفصل القضاء بينهم، ويحاسبهم على أعمالهم، ثم تنصب الموازين وتوزن الأعمال، ثم بعد ذلك يكون العبور على الصراط، والذهاب إلى الجنة أو النار، والنار في الطريق إلى الجنة، والصراط منصوب عليها، والناس يمرون عليه من فوق جهنم، فمن وقع فيها وقع، ومن سلمه الله تجاوز ودخل الجنة.
كلام الشيخ ابن عثيمين على تعريف الإيمان بالتصديق
السؤال: أنكر الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في شرح العقيدة الواسطية تعريف الإيمان لغة بالتصديق، وذكر أن آمن فعل متعد لغيره، وصدق متعد بنفسه، فنرجو التوضيح. الجواب: لا أتذكر هذا التفصيل، لكن الإيمان في اللغة هو التصديق كما قيل.
الجمع بين حديث ( الدنيا ملعونه ... ) وبين النهي عن سب الدهر
السؤال: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الدنيا ملعونة ملعون ما فيها) هل هذا يعتبر من سب الدهر؟ الجواب: ليس هذا من سب الدهر، وإنما هو بيان لحقارة الدنيا وضآلتها، وأنه لا خير فيها إلا ما كان على الطريقة الصحيحة كما قال: (إلا ذكر الله وما والاه) . وأكثر الناس هالكون، والناجون هم القليلون، قال الله عز وجل: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف:103] وقال: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأنعام:116] فالشر واسع، والمهتدون قليلون، ولهذا يقول بعض أهل العلم: لا تغتر بطريق الشر ولو كثر السالكون، ولا تزهد في طريق الخير لقلة السالكين، فليس العجب ممن هلك كيف هلك، وإنما العجب ممن نجا كيف نجا!
حكم الصلاة في الدور الثاني من المسجد النبوي
السؤال: بعض الناس لا يصلي في الدور الثاني في المسجد النبوي بحجة أنهم يكونون في مكان فوق قبر النبي صلى الله عليه وسلم، كما حصل من أبي أيوب الأنصاري عندما طلب من النبي أن يصعد إلى الدور الأعلى من بيته عندما نزل ضيفاً عليه في أول الهجرة فما رأيكم؟ الجواب: هذا ليس بصحيح؛ لأن سطح المسجد منه، و أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه أراد ألا يكون النبي صلى الله عليه وسلم تحته في المنزل، وأما المسجد فسواء كان من دور أو دورين فالصلاة في أي دور هي صلاة في المسجد، والإنسان الذي يصلي في سطح المسجد حكمه مثل الذي يصلي في أسفل المسجد، فتكون صلاته بألف صلاة."