شرح سنن أبي داود
(عبد المحسن العباد)
كتاب الإمارة
شرح سنن أبي داود [542]
الحلقة (572)
شرح سنن أبي داود [542]
جاء الإسلام بجمع الكلمة على إمام، وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن أقوام يأتون بعده، يخرجون على إمام المسلمين بالسيف، ووصفهم بالاجتهاد في العبادة، والفساد في العقيدة، حيث يقتلون أهل الإسلام ويتركون أهل الأوثان، ويكثرون من الصلاة والصيام، وقراءة القرآن، وأن فيهم رجلاً مثدون اليد هو علامة عليهم. وقد توعدهم النبي صلى الله عليه وسلم بالعذاب وذمهم، وأمر بقتالهم، وذكر الفضل العظيم في ذلك، مما جعل علياً رضي الله عنه يقدم قتالهم على قتال أهل الشام.
قتال الخوارج
شرح حديث أن من علامة الخوارج مودن اليد
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب في قتال الخوارج. حدثنا محمد بن عبيد و محمد بن عيسى المعنى، قالا: حدثنا حماد عن أيوب عن محمد عن عبيدة : أن علياً ذكر أهل النهروان فقال (فيهم رجل مودن اليد أو مخدج اليد أو مثدون اليد، لولا أن تبطروا لنبأتكم ما وعد الله الذين يقتلونهم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم قال: قلت: أنت سمعت هذا منه؟ قال: إي ورب الكعبة!)]. أورد أبو داود باباً في قتال الخوارج، وكان الباب الماضي في قتل الخوارج، والقتل كما هو معلوم يكون بدون قتال، وأما القتال فإنه على الذين برزوا وسلوا السيوف وأرادوا المقاتلة. فالقتال يكون من الجانبين، والقتل يكون من جانب واحد عندما يقتضي الأمر ذلك، ولا يندفع الشر إلا به. وهنا أورد أبو داود رحمه الله عدة أحاديث في قتال الخوارج أولها حديث علي رضي الله عنه أنه ذكر أهل النهروان فقال: (فيهم رجل مودن اليد أو مخدج اليد أو مثدون اليد) ]. والنهروان: هو محل الموقعة التي حصلت بينه وبين الخوارج، والتي قتل فيها الكثير منهم. والمودن اليد: قصيرها، أي: أن يده قصيرة، وفي طرفها قطعة من اللحم لها حلمة كلحمة ثدي المرأة، فهذه صفة لرجل منهم. قوله: [ (لولا أن تبطروا لنبأتكم ما وعد الله الذين يقتلونهم على لسان محمد صلى الله عليه وسلم)]. أي: أنه خاف عليهم البطر، وهو أن يحصل منهم تجاوز للحد في قتالهم من أجل أن يستأصلوهم ولا يبقوا على أحد منهم؛ لأنه ورد وعد عظيم في قتالهم، ولكن إذا حصل منهم أن تركوا وكفوا واستسلموا فإنه يمسك عنهم، فلعلهم أن يرجعوا. قوله: [ (قلت: أنت سمعت هذا منه؟ قال: إي ورب الكعبة)]. أراد عبيدة السلماني أن يتحقق من علي أنه سمع هذا منه، فأقسم علي رضي الله عنه برب الكعبة على أنه سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
تراجم رجال إسناد حديث أن من علامة الخوارج مودن اليد
قوله: [ حدثنا محمد بن عبيد ]. محمد بن عبيد بن حساب، وهو ثقة، أخرج له مسلم و أبو داود و النسائي . [ و محمد بن عيسى ]. محمد بن عيسى الطباع ثقة، أخرج له البخاري تعليقاً و أبو داود و الترمذي في الشمائل و النسائي و ابن ماجة . [ حدثنا حماد ]. وهو حماد بن زيد ، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن أيوب ]. أيوب بن أبي تميمة السختياني ، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن محمد ]. محمد بن سيرين ، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن عبيدة ]. عبيدة بن عمرو السلماني ، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ أن علياً ]. علي رضي الله عنه، أمير المؤمنين، ورابع الخلفاء الراشدين الهادين المهديين، صاحب المناقب الجمة والفضائل الكثيرة، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.
شرح حديث أبي سعيد في قتال الخوارج
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن أبيه عن ابن أبي نعم عن أبي سعيد الخدري قال: (بعث علي رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بذهيبة في تربتها، فقسمها بين أربعة: بين الأقرع بن حابس الحنظلي ثم المجاشعي ، وبين عيينة بن بدر الفزاري ، وبين زيد الخيل الطائي ، ثم أحد بني نبهان، وبين علقمة بن علاثة العامري ، ثم أحد بني كلاب، قال: فغضبت قريش والأنصار وقالت: يعطي صناديد أهل نجد ويدعنا؟! فقال: إنما أتألفهم. قال: فأقبل رجل غائر العينين، مشرف الوجنتين، ناتئ الجبين، كث اللحية، محلوق، قال: اتق الله يا محمد! فقال: من يطيع الله إذا عصيته؟ أيأمنني الله على أهل الأرض ولا تأمنوني؟ قال: فسأل رجل قتله أحسبه خالد بن الوليد ، قال: فمنعه، قال: فلما ولى قال: إن من ضئضىء هذا أو في عقب هذا قوماً يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية، يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، لئن أنا أدركتهم قتلتهم قتل عاد) ]. أورد بعد ذلك حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (بعث علي رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بذهيبة في تربتها). يعني: في ترابها ما نقيت ولا صفيت. قوله: [ (فقسمها بين أربعة) ] يعني ممن أسلموا حديثاً يريد أن يتألفهم على الإسلام، ويريد أن يثبت الإيمان في قلوبهم وأن يقوى إيمانهم؛ حتى يسلم بإسلامهم الفئام الكثيرة من الناس الذين يتبعونهم على ما هم عليه من الحق أو الباطل. فيريد أن يحسن إسلامهم، حتى يسلم أولئك الذين يتبعونهم في الشر، فيكونون تابعين في الخير، فحصل في نفوس القرشيين والأنصار من ذلك شيء وقالوا: يعطي هؤلاء ويدعنا، فبين صلى الله عليه وسلم السبب الذي أعطاهم من أجله؛ وهو أنه يتألفهم على الإسلام حتى يتبعهم الفئام الكثيرة من الناس. وهذا من حرصه صلى الله عليه وسلم على هداية الناس، وعلى خروجهم من الظلمات إلى النور؛ فإنه أعطى هؤلاء المتبوعين من أجل أن يحسن إسلامهم، ومن أجل أن يتبعهم أتباعهم في الخير كما كانوا يتبعونهم من قبل بالشر. ثم أنه جاء رجل غائر العينين، ناتئ الوجنتين، كث اللحية، محلوق الرأس، وقال: اتق الله يا محمد! فرد عليه الرسول عليه الصلاة والسلام وقال: (من يطيع الله إذا عصيته؟!) أي: إذا لم أتقه أنا فمن يطيعه؟! ومعلوم أن الناس الذين يطيعون الله إنما حصلت لهم هذه الفائدة من اتباعهم للرسول صلى الله عليه وسلم، وسيرهم على منهاجه صلوات الله وسلامه وبركاته عليه. وقوله: [ (أيأمنني الله على أهل الأرض ولا تأمنوني؟!) ]. يعني: يأمنني الله بأن بعثني إليهم، وجعلني أدعوهم إلى الهدى، وإلى الخروج من الظلمات إلى النور، ولا تأمنوني أنتم فيما يكون بين يدي أقسمه على حسب المصلحة، وعلى حسب الفائدة التي ترجع للإسلام والمسلمين؟! قوله: [ (محلوق) ] ومن أوصاف الخوارج أنهم يتميزون بحلق الرءوس، ومعلوم أن حلق الرءوس يمكن أن يكون من غيرهم، ولا يلزم أن يكون كل من حلق رأسه خارجياً، ولكن هذا شأنهم وهذه طريقتهم، أنهم يلتزمون التحليق، ولكن الحلق يمكن أن يحصل من غيرهم ولا يقال الفاعل ذلك: إنه خارجي؛ لأنه جاء في بعض الأحاديث ما يدل عليه؛ وهو أنه رأى صبياً قد حلق بعض رأسه وترك بعضه فقال: (احلقه كله أو دعه كله)، فيدل هذا على جواز الحلق، وعلى أنه سائغ. قوله: [ (قال: فسأل رجل قتله، أحسبه خالد بن الوليد) ]. أي: سأل خالد قتل هذا الرجل الذي قال هذا الكلام للرسول صلى الله عليه وسلم، لكنه صلى الله عليه وسلم منعه من ذلك. قوله: [ (فلما ولى قال: إن من ضئضىء هذا أو في عقب هذا قوماً يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم) ]. أي: إن من نسله قوماً يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، ومعناه أن عندهم عبادة، وعندهم قراءة للقرآن، ولكنه لا يجاوز تراقيهم؛ لما ابتلوا به من الانحراف عن الجادة والخروج عن المنهج القويم والصراط المستقيم، والمراد بذلك: الخوارج الذين خرجوا على علي رضي الله تعالى عنه وأرضاه. قوله: [ (يمرقون من الإسلام مروق السهم من الرمية، يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان)]. أي: هذا شأنهم، قد خرجوا على الإمام وقاتلوه؛ لأنه رأى التحكيم، وقالوا: لا حكم إلا لله، وهي كما قال علي : كلمة حق أريد بها باطل! فيكون شأنهم أنهم يتجهون بالقتل إلى أهل الإسلام ويتركون أهل الأوثان. قوله: [ (فإن أنا أدركتهم قتلتهم قتل عاد)]. ومعلوم أن الله أهلك عاداً بالريح، والمقصود من ذلك أن يستأصلهم ويقضي عليهم إذا أدركهم، وقد أخبر صلى الله عليه وسلم بأنه تقتلهم أولى الطائفتين بالحق، وقد قتلهم علي رضي الله عنه.
تراجم رجال إسناد حديث أبي سعيد في قتال الخوارج
قوله: [ حدثنا محمد بن كثير ]. محمد بن كثير العبدي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ أخبرنا سفيان ]. سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري ، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن أبيه ]. سعيد بن مسروق الثوري ، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن ابن أبي نعم ]. وهو عبد الرحمن بن أبي نعم ، وهو صدوق أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن أبي سعيد الخدري ]. سعد بن مالك بن سنان الخدري ، صاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
شرح حديث أنس وأبي سعيد في قتال الخوارج
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا نصر بن عاصم الأنطاكي حدثنا الوليد و مبشر -يعني ابن إسماعيل الحلبي - بإسناده عن أبي عمرو قال: -يعني الوليد - حدثنا أبو عمرو قال: حدثني قتادة عن أبي سعيد الخدري و أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (سيكون في أمتي اختلاف وفرقة، قوم يحسنون القيل ويسيئون الفعل، يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية لا يرجعون حتى يرتد على فوقة، هم شر الخلق والخليقة، طوبى لمن قتلهم وقتلوه، يدعون إلى كتاب الله وليسوا منه في شيء، من قاتلهم كان أولى بالله تعالى منهم. قالوا: يا رسول الله! ما سيماهم؟ قال: التحليق)]. أورد أبو داود حديث أنس بن مالك و أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنهما، وهو يتعلق بالخوارج وقتالهم. قوله: [ (سيكون في أمتي اختلاف وفرقة) ]. وهذا الافتراق والاختلاف قد حصل بين أهل العراق وأهل الشام، فأهل العراق مع علي رضي الله عنه وهو خليفة المسلمين، وأهل الشام مع معاوية رضي الله عنه الذي أراد أن يقتص من قتلة عثمان أولاً، وكان علي رضي الله عنه رأى أن المصلحة، أن يتم اتفاق الكلمة أولاً، ثم بعد ذلك يتصرف بالتصرف المطلوب أو الذي ينبغي، وكل وقف عند رأيه، وحصلت الفرقة واستمر الأمر على ذلك حتى حصل الاتفاق بجمع الكلمة على يد الحسن بن علي رضي الله عنه، الذي أخبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (إنه سيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين). وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين، تقتلهم أولى الطائفتين بالحق). قوله: [ (قوم يحسنون القيل ويسيئون الفعل) ]. أي: يحسنون القول ويسيئون الفعل، فالقول مثل القراءة، ولكن يسيئون الفعل، بكونهم خرجوا على الإمام ونابذوا المسلمين وتصدوا لهم وقاتلوهم. قوله: [ (يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية لا يرجعون حتى يرتد على فوقة)]. الفوق بضم الفاء موضع الوتر من السهم. وهذا تعليق بالمحال فإن ارتداد السهم على الفوق محال، ورجوعهم إلى الدين أيضاً محال. وهذه إشارة إلى شدة تمسكهم بالباطل وإصرارهم عليه، وتمكنه من نفوسهم حيث يعتقدون أنهم على حق وهم على باطل كما قال تعالى: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا [فاطر:8]. قوله: [ (هم شر الخلق والخليقة)]. ومعلوم أن الكفار الذين يقاتلون المسلمين قد وصفهم الله بقوله: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ [الأنفال:22]. ولاشك أنهم شر الخليقة باتفاق المسلمين وأنه لا نصيب لهم في الإسلام؛ أما الخوارج فأمرهم مشكوك فيه، ولكن هذا كله يدل على خبثهم وعلى منتهى قبحهم، وعلى حصول الضرر الكبير منهم للمسلمين؛ وذلك أنهم يشغلون الناس عن قتال الكفار وعن الجهاد في سبيل الله، مثلما حصل بالنسبة لأبي بكر رضي الله عنه حين شغله قتال مانعي الزكاة عن الفتوحات، فلما قضى عليهم، اتجه إلى تجهيز الجيوش للفرس وللروم. قوله: [ (طوبى لمن قتلهم وقتلوه)]. يعني: هذا يدل على فضل قتالهم وعلى فضل من قتلوه. قوله: [ (يدعون إلى كتاب الله وليسوا منه في شيء)]. كانوا يقولون: لا حكم إلا لله، وقوله: [ (يدعون إلى كتاب الله وليسوا منه في شيء) ] يوضح الجملة التي سبق أن مرت: (يحسنون القيل ويسيئون الفعل)، لأنه قال هنا: (يدعون إلى كتاب الله)، وهذا من أحسن القول، ولكن حقيقتهم أنهم (ليسوا منه في شيء)، يعني: أنهم من حيث التطبيق ومن حيث التنفيذ ليسوا منه في شيء. فهم يسيئون العمل، وذلك بالخروج على الأئمة وافتتانهم بآرائهم الفاسدة، وأفكارهم المنحرفة الشاذة. قوله: [ (من قاتلهم كان أولى بالله منهم)]. وهذا من جنس الأمثلة التي مر ذكرها قريباً، أي أنهم يظنون أنهم على حق، ومن قاتلهم فهو أولى بالله منهم. قوله: [ (قالوا: يا رسول الله! ما سيماهم؟ قال: التحليق)]. يعني: علامتهم حلق الرءوس، أي: التزام ذلك، وكونهم يعرفون بذلك. لكن كما عرفنا أنه ليس معناه أن من حلق رأسه فهو منهم، بل قد يكون من غيرهم، وذلك سائغ شرعاً.
تراجم رجال إسناد حديث أنس وأبي سعيد في قتال الخوارج
قوله: [ حدثنا نصر بن عاصم الأنطاكي ]. نصر بن عاصم الأنطاكي لين الحديث أخرج له أبو داود . [ حدثنا الوليد ]. هو الوليد بن مسلم ، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ و مبشر - يعني ابن إسماعيل - ]. مبشر بن إسماعيل ، وهو صدوق أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن أبي عمرو ]. أبو عمرو الأوزاعي وهو: عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي ، ثقة فقيه أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ حدثني قتادة ]. قتادة بن دعامة السدوسي ، مر ذكره. [ عن أبي سعيد الخدري و أنس بن مالك ]. أبو سعيد الخدري رضي الله عنه، مر ذكره. و أنس بن مالك رضي الله عنه خادم رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
شرح حديث أنس في ذكر التسبيد من سيما الخوارج
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا الحسن بن علي حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن قتادة عن أنس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحوه قال: (سيماهم التحليق والتسبيد، فإذا رأيتموهم فأنيموهم). قال أبو داود : التسبيد: استئصال الشعر ]. هذا الحديث الذي أورده أبو داود رحمه الله يتعلق بالحديث الذي قبله، وقد أحال في هذه الرواية على ما مضى وقال: [ نحوه ] أي: نحو الحديث المتقدم فيما يتعلق بالمتن، وأشار إلى أنه يوجد هنا اختلاف عما تقدم، وذلك في قوله: (سيماهم التحليق والتسبيد) فقوله: (سيماهم التحليق)، مر فيما مضى، يعني: أن هذه علامتهم التي يعرفون ويتميزون بها، وأنهم يحلقون رءوسهم ويستأصلون حلقها. وقد مر أن هذه العلامة لا تعني أنه لا يجوز حلق الرأس، بل يجوز حلقه ويجوز تركه، وقد دل على ذلك الحديث الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنه لما رأى صبياً قد حلق بعض رأسه وترك بعضه قال: احلقوه كله أو دعوه كله). والتسبيد: هو استئصال الشعر. وقوله: [ (فإذا لقيتموهم فأنيموهم) ]. الإنامة المقصود بها: القتل؛ لأن الإنسان إذا قتل فإنه يقع على الأرض كالنائم، وذلك ليسلم الناس من شرهم، ومعلوم أن النوم هو أخو الموت، وقد جاء في الحديث: (النوم أخو الموت، وأهل الجنة لا ينامون)، وقد جاء في القرآن: اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا [الزمر:42]، يعني: والتي لم تمت يتوفاها في منامها. قال أبو داود : [ التسبيد: استئصال الشعر ]. أي: هذا هو تفسير التسبيد الذي جاء معطوفاً على التحليق.
تراجم رجال إسناد حديث أنس في ذكر التسبيد من سيما الخوارج
قوله: [ حدثنا الحسن بن علي ]. الحسن بن علي الحلواني ، ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا النسائي . [ حدثنا عبد الرزاق ]. عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني ، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ أخبرنا معمر ]. معمر بن راشد الأزدي البصري ثم اليماني، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن قتادة ]. قتادة بن دعامة السدوسي البصري ، وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن أنس ]. أنس بن مالك رضي الله عنه، خادم رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
شرح حديث علي في فضل قتال الخوارج
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان حدثنا الأعمش عن خيثمة عن سويد بن غفلة قال: قال علي رضي الله عنه: إذا حدثتكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً، فلأن أخر من السماء أحب إلي من أن أكذب عليه، وإذا حدثتكم فيما بيني وبينكم فإنما الحرب خدعة. سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يأتي في آخر الزمان قوم حدثاء الأسنان سفهاء الأحلام، يقولون من قول خير البرية، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم؛ فإن قتلهم أجر لمن قتلهم يوم القيامة)]. أورد أبو داود رحمه الله حديث علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه. قوله: [ قال علي رضي الله عنه: إذا حدثتكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلأن أخر من السماء أحب إلي من أن أكذب عليه ]. يعني: أنه يتحرز في حديثه عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ويحتاط ويتوقى أن يزل بذكر شيء لم يقله رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل يحافظ على نصه ويأتي به كما تلقاه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
معنى الخدعة في الحرب
قوله: [ فإذا حدثتكم فيما بيني وبينكم فإنما الحرب خدعة ]. (خدعة) فيها عدة لغات: فهي بفتح الخاء وإسكان الدال، ويقال: بضم الخاء وفتح الدال. وفيها غير ذلك. والمعنى: أن الإنسان قد يوري في أمور تحتاج الحرب فيها إلى تورية، بأن يظهر للأعداء أشياء غير مطابقة للواقع من ناحية ما عند الناس من القوة، سواء كانت حسية أو معنوية، ولكنه يأتي بكلام لا يكون واضحاً جلياً في أنه مخالف للواقع وغير مطابق له. ومعلوم أن التورية يكون الإنسان فيها صادقاً؛ لأنه يقول كلاماً يريد به شيئاً وغيره يفهم غير ذلك. وهذا مما يحصل في الحرب من إظهار القوة وإن كان هناك شيء من الضعف، مثلما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم في عمرة القضاء، حين جلس الكفار في الجهة التي هي خلف الحجر ينظرون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهم يطوفون، فكان بعضهم يقول لبعض: يقدم عليكم قوم وهنتهم حمى يثرب، يعني: أنهم هزال ضعاف، فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه بأن يرملوا في الأشواط الثلاثة الأول، حتى إذا كانوا بين الركن والحجر الأسود لم يرملوا، بل يمشون ليحصل لهم شيء من الراحة بعد هذا الرمل، والمقصود من ذلك إظهار قوتهم لأعدائهم الذين قالوا تلك المقالة، حتى عاد بعضهم يحدث بعضاً ويقول: هذا الكلام الذي قلتموه غير صحيح، وذلك بعدما رأوهم يرملون. وكان هذا أول مشروعية الرمل، ثم إنه بعد ذلك شرع للناس حتى يتذكروا أن المسلمين كان فيهم ضعف ثم إن الله تعالى أعز الإسلام وأهله؛ ولهذا رمل الرسول صلى الله عليه وسلم لما حج حجة الوداع من الحجر إلى الحجر، في الأشواط الثلاثة. فمعنى كون الحرب خدعة: أن الإنسان يأتي بكلام أو بفعل يفهم منه الأعداء خلاف ما يحبونه وما يريدونه من ضعف المسلمين ومن عدم قوتهم. والتورية أيضاً تجوز في غير الحرب، وذلك في الأمور التي يُحَتاجُ فيها إلى التورية.