شرح سنن أبي داود
(عبد المحسن العباد)
كتاب الإمارة
شرح سنن أبي داود [545]
الحلقة (575)
شرح سنن أبي داود [545]
إن النبي صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين جاء بالرحمة والخير والتيسير فندب أمته إلى اختيار أيسر الأمور في كثير من مجالات الحياة، فدعاهم إلى العفو والصفح بدل الانتقام، وإلى الحلم على العبيد والخدم والنساء، بل الشدة والغلظة، كما دعاهم إلى الرفق بالآخرين وعدم التشهير بهم إذا كان منهم خطأ، وأن يختار الناصح أحسن الألفاظ حتى لا يثير المنصوح أو يشهر به، ثم جعل صلى الله عليه وسلم الحياء هو أساس الخير وروح الأخلاق.
التجاوز في الأمر
شرح حديث (ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمرين إلا اختار أيسرهما...)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب في التجاوز في الأمر. حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً، فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه، إلا أن تنتهك حرمة الله تعالى فينتقم لله بها) ]. يقول الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى: [ باب في التجاوز في الأمر ]. معنى ذلك الأخذ بالأيسر، والتسامح فيه، وعدم الأخذ بما هو شاق، وقد أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً، وما انتقم لنفسه صلى الله عليه وسلم قط، إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله عز وجل). ففيه: أن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ما عرض له أمران أحدهما فيه مشقة والآخر فيه سهولة ويسر إلا اختار الأيسر والأسهل، إلا إذا كان ذلك الأيسر فيه إثم فإنه أبعد الناس عنه صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، وكذلك ما انتقم لنفسه، بمعنى أنه يسيء إليه من يسيء فيصفح ويتجاوز، ولا يقابل الإساءة بأن يعاقب عليها، بل يعفو ويصفح صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، فهو لا ينتقم لنفسه، ولكنه ينتقم إذا كان ذلك الشيء يتعلق بالله عز وجل، وهذا يدلنا على كمال خلقه صلى الله عليه وسلم، وعلى شفقته على أمته وحرصه عليها، وعلى ابتعاده عن كل شيء يكون فيه مشقة وضرر عليها؛ لأنه صلى الله عليه وسلم يختار الأيسر في الأمرين الحاصلين اللذين لا بد من أخذ واحد منهما. وقد ذكر صاحب عون المعبود معنى ذلك حيث قال: (قال القاضي: ويحتمل أن يكون تخييره صلى الله عليه وسلم هاهنا من الله تعالى فيخيره فيما فيه عقوبتان، أو فيما بينه وبين الكفار من القتال وأخذ الجزية، أو في حق أمته في المجاهدة في العبادة، أو الاقتصاد). كان صلى الله عليه وسلم يخير بين القتال وبين أخذ الجزية، وأخذ الجزية أيسر من القتال؛ لأن أخذ الجزية فيه مصلحة؛ وهي أنهم يبقون تحت حكم الإسلام، وتطبق أحكام الإسلام بينهم، فيكون في مشاهدتهم لأحوال المسلمين، وفي تطبيق أحكام الإسلام ما يكون سبباً في دخولهم في الإسلام، بخلاف كونه يقاتلهم ويستأصلهم، فإن ذلك فيه مضرة وقد تفوت هذه المصلحة التي تحصل بأخذ الجزية، وهي أسهل من القتال لما يترتب عليها من التمكن من الدخول في الإسلام بعد مشاهدة حسنها وفائدتها ومصلحتها. وكذلك يخير بين عقوبتين فإنه يختار أيسرهما وهي الأخف. وكذلك في حق أمته في المجاهدة في العبادة أو الاقتصاد، أي: الاجتهاد في العبادة والإكثار منها، أو الاقتصاد والتوسط وعدم الإكثار، ومعلوم أن الإكثار الذي يحصل معه الملل ثم الانقطاع ليس بمحمود، ولكن القليل الذي يدوم ويتمكن من الإتيان به والمداومة عليه هو الذي فيه المصلحة؛ ولهذا ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن أحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه وإن قل)؛ لأن قليلاً تداوم عليه، خير من كثير تنقطع عنه، والإنسان إذا اجتهد في وقت من الأوقات، ثم كسل وحصل له الملل وترك العمل نهائياً فهذا سيئ، ولكن كونه يأتي بشي قليل ويداوم ويستمر عليه على مدى الأيام فإن هذا أولى، كأن يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، فهذا أفضل من أن يصوم شهراً أو شهرين ثم يتعب ويترك، وكذلك كونه يكثر من العبادة فيمل ويترك فهذا سيئ، وخير منه أن يحافظ على شيء قليل محدد يداوم عليه. قوله: [ (ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً) ]. (ما لم يكن إثماً) هذا يكون فيما بينه وبين الناس، يعني: التخيير في أمور تجري بينه وبين الناس. قوله: [ (فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه، وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه، إلا أن تنتهك حرمة الله تعالى فينتقم لله بها) ]. يعني: أنه يتجاوز عن حقه ويصفح، ولا ينتقم لنفسه، ولكن إذا انتهكت حرمات الله فإنه ينتقم لله عز وجل وليس لنفسه صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
تراجم رجال إسناد حديث (ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمرين إلا اختار أيسرهما...)
قوله: [ حدثنا عبد الله بن مسلمة ]. هو عبد الله بن مسلمة القعنبي ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجة . [ عن مالك ]. هو مالك بن أنس إمام دار الهجرة، المحدث الفقيه، أحد أصحاب المذاهب الأربعة المشهورة من مذاهب أهل السنة، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة. [ عن ابن شهاب ]. ابن شهاب هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن عروة بن الزبير ]. هو عروة بن الزبير بن العوام ، وهو ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة. [ عن عائشة ]. هي عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها وأرضاها، وهي الصديقة بنت الصديق ، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
شرح حديث (ما ضرب رسول الله خادماً ولا امرأة قط)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا مسدد حدثنا يزيد بن زريع حدثنا معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة عليها السلام قالت: (ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم خادماً ولا امرأةً قط) ]. أورد المصنف حديث عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم ما ضرب خادماً ولا امرأةً قط) وذلك لكرم أخلاقه ولسماحته ولحسن معاشرته صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، فإنه لم يحصل منه أن ضرب خادماً من الخدم الذين يخدمونه، ولم يضرب أحداً من زوجاته عليه الصلاة والسلام، بل كان رفيقاً رحيماً سمحاً يحب الرفق صلوات الله وسلامه وبركاته عليه. وهذا يدل على كمال أخلاقه عليه الصلاة والسلام، مع أنه قد يحصل من الخدم مخالفات وأمور يستحق بعضهم أن يعاقب عليها، ولكن شأنه وطريقته الرفق والتسامح والتجاوز في الأمور صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
تراجم رجال إسناد حديث (ما ضرب رسول الله خادماً ولا امرأة قط)
قوله: [ حدثنا مسدد ]. هو مسدد بن مسرهد البصري ، وهو ثقة، أخرج له البخاري و أبو داود و الترمذي و النسائي . [ حدثنا يزيد بن زريع ]. يزيد بن زريع ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ حدثنا معمر ]. هو معمر بن راشد الأزدي البصري اليماني ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن الزهري ]. الزهري مر ذكره. [ عن عروة عن عائشة ]. عروة و عائشة مر ذكرهما.
شرح حديث (...أمر نبي الله أن يأخذ العفو من أخلاق الناس)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا يعقوب بن إبراهيم حدثنا محمد بن عبد الرحمن الطفاوي عن هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله يعني: ابن الزبير في قوله: خُذِ الْعَفْوَ [الأعراف:199] قال: (أمر نبي الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ العفو من أخلاق الناس) ]. أورد أبو داود أثر عبد الله بن الزبير في قول الله عز وجل: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ [الأعراف:199]، وفسره بأن يأخذ العفو من أخلاق الناس، يعني: ما كان حسناً من أخلاق الناس فإنه يؤخذ، وما كان سيئاً فإنه يتجاوز عنه ويصفح عنه.
تراجم رجال إسناد حديث (...أمر نبي الله أن يأخذ العفو من أخلاق الناس)
قوله: [ حدثنا يعقوب بن إبراهيم ]. هو يعقوب بن إبراهيم الدورقي ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو شيخ لأصحاب الكتب الستة. [ حدثنا محمد بن عبد الرحمن الطفاوي ]. محمد بن عبد الرحمن الطفاوي صدوق يهم، أخرج له البخاري و أبو داود و الترمذي و النسائي . [ عن هشام بن عروة ]. هشام بن عروة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن أبيه عن عبد الله يعني: ابن الزبير ]. أبوه هو عروة بن الزبير وقد مر ذكره. وعبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنه الصحابي الجليل، وهو أحد العبادلة الأربعة من الصحابة وهم: عبد الله بن الزبير و عبد الله بن عمر و عبد الله بن عمرو و عبد الله بن عباس رضي الله عنهم وعن الصحابة أجمعين. وحديث عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما أخرجه أصحاب الكتب الستة.
ما جاء في حسن العشرة
شرح حديث (كان النبي إذا بلغه عن الرجل الشيء لم يقل ما بال فلان يقول؟...)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب في حسن العشرة. حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا عبد الحميد يعني: الحماني حدثنا الأعمش عن مسلم عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بلغه عن الرجل الشيء لم يقل: ما بال فلان يقول؟ ولكن يقول: ما بال أقوام يقولون كذا وكذا؟) ]. أورد المصنف هذه الترجمة: [ باب في حسن العشرة ] أي: المعاشرة والمعاملة للناس، وكان عليه الصلاة والسلام أحسن الناس خلقاً. وقد أورد أبو داود حديث عائشة : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا حصل من الشخص شيء يحتاج إلى أن ينبه عليه فإنه لا ينبه عليه على الملأ، ويقول: ما بال فلان يقول كذا وكذا؟ فهو يمكن أن يكلمه فيما بينه وبينه، ولكنه من أجل أن يبين للناس الطريقة الصحيحة في مثل هذا الحادث أو في مثل هذا الأمر الذي عرض، دون أن يعرفوا الشخص الذي حصل منه ذلك الشيء الذي هو السبب في إيراد الكلام، فما كان يقول: ما بال فلان يقول كذا وكذا؟ والناس يسمعون، وإنما يقول: (ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا؟) ولا يسمي الشخص. وفي هذا مصلحة للشخص نفسه؛ لأنه داخل في الخطاب وهو يعرف أنه حصل منه هذا المحذور، وغيره يعلم أن ذلك لا يصلح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أنكره. والمقصود من ذلك تعميم الفائدة ومعرفة الجميع للحكم الشرعي في هذه المسألة التي حصل فيها ذلك الشيء الذي لا يسوغ ولا يجوز، مثلما جاء في قصة بريرة وأسيادها الذين قالوا: إنهم يبيعونها ولكن بشرط أن يكون لهم الولاء، حيث كاتبوها وأرادت عائشة أن تدفع لهم الشيء الذي تحملته لهم، وتكون هي التي تعتقها، فشرطوا هذا الشرط فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله، إنما الولاء لمن أعتق).
تراجم رجال إسناد حديث (كان النبي إذا بلغه عن الرجل الشيء لم يقل ما بال فلان يقول؟...)
[ حدثنا عثمان بن أبي شيبة ]. عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي و إلا النسائي فقد أخرج له في عمل اليوم والليلة. [ حدثنا عبد الحميد يعني: الحماني ]. هو عبد الحميد بن عبد الرحمن الحماني ، وهو صدوق يخطئ، أخرج له البخاري و مسلم في المقدمة و أبو داود و الترمذي و ابن ماجة . [ حدثنا الأعمش ]. هو سليمان بن مهران الكاهلي ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن مسلم ]. هو مسلم بن صبيح أبو الضحى، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن مسروق ]. هو مسروق بن الأجدع ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن عائشة ]. عائشة رضي الله عنها مر ذكرها.
حكم التصريح باسم الشخص إذا كان شره شائعاً
والحديث فيه دلالة على عدم مشروعية ذكر اسم المردود عليه، وتشهيره عند الناس، لكن إذا كان قد حصل منه أمور منكرة، وقد كتبها ودونها، وانتشر كتابه وظهر منه ذلك، فإنه يذكر اسمه ويذكر كتابه حتى يعرف الكتاب الذي فيه السوء فيحذر.
شرح حديث (أن رجلاً دخل على رسول الله وعليه أثر صفرة...)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا عبيد الله بن عمر بن ميسرة حدثنا حماد بن زيد حدثنا سلم العلوي عن أنس : (أن رجلاً دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه أثر صفرة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قلما يواجه رجلاً في وجهه بشيء يكرهه، فلما خرج قال: لو أمرتم هذا أن يغسل ذا عنه). قال أبو داود : سلم ليس هو علوياً، كان يبصر في النجوم وشهد عند عدي بن أرطاة على رؤية الهلال فلم يجز شهادته ]. ثم أورد أبو داود حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: أن رجلاً دخل على النبي صلى الله عليه وسلم وعليه أثر صفرة، يعني: زعفران، وسواء كان ذلك في جسده أو في ثوبه، ومعلوم أن التزعفر لا يصلح للرجال، كما سبق أن مر ذلك في أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان قلما يواجه شخصاً بشيء يكرهه، فلما خرج طلب ممن حوله أن يأمروه أن يزيل هذا الخلوق، أو يزيل هذه الصفرة عنه. والمقصود أنه قلما يواجه شخصاً بشيء يكرهه، وأنه أمرهم أن يخبروه بذلك الأمر الذي أراد أن يخبره به. والحديث في سنده سلم العلوي هذا، وهو ضعيف، لذا فالحديث ليس بثابت عن رسول الله صلوات الله وسلامه وبركاته عليه.
تراجم رجال إسناد حديث (أن رجلاً دخل على رسول الله وعليه أثر صفرة...)
قوله: [ حدثنا عبيد الله بن عمر بن ميسرة ]. هو عبيد الله بن عمر بن ميسرة القواريري ، وهو ثقة، أخرج له البخاري و مسلم و أبو داود و النسائي . [ حدثنا حماد بن زيد ]. هو حماد بن زيد بن درهم البصري ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ حدثنا سلم العلوي ]. سلم العلوي ضعيف، أخرج له البخاري في الأدب المفرد و أبو داود و الترمذي في الشمائل و النسائي في عمل اليوم والليلة. قال أبو داود : سلم لم يكن علوياً كما هو المتبادر من النسبة؛ لأنه إذا قيل علوي فمعناه أنه ينسب إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وأنه من ذريته، كما ينسب العباسي إلى العباس ، فالمشهور فيمن ينتسب إلى علي أن يقال عنه: علوي، وبين أن هذه النسبة ليست كما يتبادر إلى الذهن، وإنما يقال له: العلوي ؛ لأنه كان ينظر للعلو، يعني: في النجوم، ومثل هذا يقال له: نسبة إلى أدنى مناسبة، إذ هي ليست نسبة واضحة؛ لأن النسبة منها ما يكون واضحاً ويتبارد إلى الذهن، ومنها ما يكون بعيداً ولا يتبادر إلى الذهن، مثل هذا الذي قيل له: العلوي ؛ لأنه ينظر إلى العلو، وهذا شيء غير متبادر إلى الذهن. ومثل ذلك: خالد الحذاء تلقيبه بالحذاء لم يكن لكونه يصنع الأحذية أو يبيعها، وإنما لأنه كان، يجلس عند الحذائين فقيل له: الحذاء ، وهي نسبة غير متبادرة إلى الذهن. وكذلك يزيد بن صهيب الفقير فلقب الفقير يتبادر إلى الذهن أنه لكونه فقيراً، ولكنه سمي بذلك لأنه كان يشكو فقار ظهره، وهي نسبة ليست مما يتبادر إلى الذهن، فكذلك العلوي هنا هو من هذا القبيل. قوله: [ عن أنس ]. أنس رضي الله عنه خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم. [ قال أبو داود : سلم ليس هو علوياً كان يبصر في النجوم، وشهد عند عدي بن أرطأة على رؤية الهلال فلم يجز شهادته ]. هو نفسه ضعيف لا يحتج بحديثه وقد ردت شهادته بسبب شيء فيه، ولكن عموماً هو ضعيف، والضعيف كما هو معلوم حديثه غير معتمد.
كلام محمد عوامة في نسبة سلم العلوي وسبب رد شهادته
وهناك معنىً آخر ذكره محمد عوامة في حاشيته وهو أنه كان حاد البصر، ويرى الهلال قبل الناس، ولذلك ردت شهادته. فيقول: على حاشية نسخة حاء بخط الحافظ يوسف بن خليل ، وإملاء الملك المحسن قال أحمد بن يوسف : سلم العلوي ليس هو من ولد علي بن أبي طالب كما قال أبو داود وأما هو فمنسوب إلى بني علي بن سود، وهو معروف بهم، وقول أبي داود : يبصر في النجوم سهو منه. وذكر صاحب عون المعبود أنه كان يسبق الناس، وكونه يسبق الناس إذا كان المقصود بأنه يرى الهلال ليلة ترائي الهلال والناس ما رأوه فهذا ممكن، وهو المشاهد والواقع؛ لأنه ما كل يرى الهلال أول ليلة، فبعض الناس لا يراه إلا بعد ليلتين، مما يعني أن الناس ليسوا على حد سواء. قال محمد عوامة : كان يبصر الهلال قبل الناس بيوم لشدة بصره، وهو معروف بذلك، وقيل: إنه كان يبصر النجوم كالدلاء لحدة بصره. ولقد قال له أنس بن مالك : يا سلم خل بين الناس وبين هلالهم حتى يروه. وهو ضعيف. فهو حديد يبصر النجوم، لا يبصر في النجوم، بمعنى أنه كان منجماً. انتهى. بينما أبو داود يقول: ويبصر في النجوم. فكونه يبصر النجوم، المقصود: أنه يرى النجوم في العلو، ولهذا قالوا: علوي نسبة إلى العلو.
شرح حديث (المؤمن غر كريم، والفاجر خب لئيم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا نصر بن علي أخبرني أبو أحمد حدثنا سفيان عن الحجاج بن فرافصة عن رجل عن أبي سلمة عن أبي هريرة ح وحدثنا محمد بن المتوكل العسقلاني حدثنا عبد الرزاق أخبرنا بشر بن رافع عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة رفعاه جميعاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المؤمن غر كريم، والفاجر خب لئيم) ]. أورد أبو داود رحمه الله حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المؤمن غر كريم، والفاجر خب لئيم). ويجوز في (خب) فتح أوله وكسره. ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: (المؤمن غر) أي أنه لا يشغل نفسه بتتبع الأمور التي يكون فيها مضرة، أو الأمور التي ليست حسنة فيشغل نفسه بها. وقوله: (كريم)؛ لأن كرمه هو الذي يدفعه إلى أنه لا يشغل نفسه بمثل هذه الأمور بعكس الفاجر فإنه خَب أو خِب، بمعنى أنه يقدم على أشياء فيها فساد وفيها مضرة؛ لأن نفسه تشتهي ذلك وتميل إليه، فيكون لؤمه هو الذي دفعه إلى أن يقدم على شغل نفسه بأمور محذورة فيها فساد ومضرة، وقد يكون معنى قوله: (خب) أنه يجتهد في الشيء الذي فيه مضرة مثلما يقال: خَبَّ، بمعنى: أقدم وأسرع، أو من التخبيب الذي هو الإفساد، مثل: تخبيب المرأة على زوجها، فيكون المؤمن عنده غفلة عن الأمور التي لا حاجة إليها، وينشغل بما هو أهم منها، والفاجر بعكس ذلك.
تراجم رجال إسناد حديث (المؤمن غر كريم والفاجر خب لئيم)
قوله: [ حدثنا نصر بن علي ]. هو نصر بن علي الجهضمي ، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ أخبرني أبو أحمد ]. أبو أحمد الزبيري هو محمد بن عبد الله بن الزبير ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ حدثنا سفيان ]. هو سفيان الثوري ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن الحجاج بن فرافصة ]. الحجاج بن فرافصة صدوق يهم، أخرج له أبو داود و النسائي . [ عن رجل عن أبي سلمة ]. هذا الرجل مبهم، ولكن جاء في الرواية الثانية أنه يحيى بن أبي كثير فيكون قد عرف. و أبو سلمة هو ابن عبد الرحمن بن عوف ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن أبي هريرة ]. هو أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه، صاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأكثر أصحابه حديثاً على الإطلاق. [ ح وحدثنا محمد بن المتوكل العسقلاني ]. ثم قال: ح وهي للتحول من إسناد إلى إسناد. و محمد بن المتوكل العسقلاني صدوق له أوهام كثيرة، أخرج له أبو داود . [ حدثنا عبد الرزاق ]. هو عبد الرزاق بن همام الصنعاني اليماني ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ أخبرنا بشر بن رافع ]. بشر بن رافع ضعيف الحديث، أخرج له البخاري في الأدب المفرد و أبو داود و الترمذي و ابن ماجة . [ عن يحيى بن أبي كثير ]. هو يحيى بن أبي كثير اليمامي ، وهو الذي يروي عن أبي سلمة، وقد مر ذكره. [ عن أبي سلمة عن أبي هريرة ]. أبو سلمة و أبو هريرة مر ذكرهما. [ رفعاه جميعاً ]. يعني: ذكراه مرفوعاً.
شرح حديث (...إن شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة من ودعه الناس لاتقاء فحشه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا مسدد قال حدثنا سفيان عن ابن المنكدر عن عروة عن عائشة قالت: (استأذن رجل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: بئس ابن العشيرة، أو بئس رجل العشيرة! ثم قال: ائذنوا له، فلما دخل ألان له القول، فقالت عائشة : يا رسول الله! ألنت له القول وقد قلت له ما قلت؟! قال: إن شر الناس عند الله منزلةً يوم القيامة من ودعه -أو تركه- الناس لاتقاء فحشه) ]. أرود أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها أن رجلاً استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم، فلما سمع صلى الله عليه وسلم باسمه قال: (بئس رجل العشيرة، أو بئس ابن العشيرة). وهذا فيه ذم له، ولما دخل ألان له القول، فلما خرج قالت عائشة : يا رسول الله، إن فلاناً قلت فيه كذا وكذا، ثم ألنت له القول، تعني: أنه ما حصل منه شيء يطابق الذي قاله عنه في الأول، وإنما ألان له القول، فقال عليه الصلاة والسلام: (إن شر الناس منزلةً عند الله من ودعه الناس اتقاء فحشه) أي: تركه الناس اتقاء فحشه، أو اتقاء شره، وذلك كإنسان يكون عند بذاءة في اللسان وعنده تطاول على الناس، فالناس يحرصون على أن يتخلصوا منه، ولا يدخلون معه في مصادمات؛ لأنه يؤذيهم، وقد بذل نفسه للإيذاء فما يكون من الناس إلا أن يلينوا له القول لاتقاء شره، فبدلاً من أن يحصل منهم أمر يدفعه إلى أن يتطاول عليهم ويؤذيهم ويسبهم ويفحش في القول فيهم، يلينوا له القول من أجل أن يتقوا شره؛ لأن سلامة الناس من شره أمر مقصود.
تراجم رجال إسناد حديث (...إن شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة من ودعه الناس لاتقاء فحشه)
قوله: [ حدثنا مسدد حدثنا سفيان ]. سفيان هو ابن عيينة ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن ابن المنكدر ]. هو محمد بن المنكدر ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن عروة عن عائشة ]. عروة و عائشة مر ذكرهما.