شرح سنن أبي داود
(عبد المحسن العباد)
كتاب الإمارة
شرح سنن أبي داود [549]
الحلقة (579)
شرح سنن أبي داود [549]
من الآداب التي ينبغي على المسلم مراعاتها: التبشير وعدم التنفير، وعدم المراء والجدال، وأن يكون كلامه مفهوماً لا غموض فيه، وأن يحمد الله عز وجل ويثني عليه في بداية الكلام، وأن ينزل الناس منازلهم على حسب مراتبهم ومكانتهم.
كراهية المراء
شرح حديث (... بشروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب في كراهية المراء. حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا أبو أسامة حدثنا بريد بن عبد الله عن جده أبي بردة عن أبي موسى رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث أحداً من أصحابه في بعض أمره قال: بشروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا) ]. أورد الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله تعالى هذه الترجمة بعنوان: باب في كراهية المراء. والمراء: هو الجدال، والجدال يؤدي إلى التشاحن، وإلى كلام لا ينبغي، وأما المجادلة بالتي هي أحسن للوصول إلى الحق، فإن هذا سائغ ولا بأس به. وقد أورد أبو داود حديث أبي موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث أحداً في بعض أمره) أي: في أمر من الأمور من أجل الدعوة إلى الله عز وجل، أو من أجل القيام بعمل يقوم به بأمر من النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه يوصيه بهذه الوصية فيقول: (بشروا ولا تنفروا) أي: بشروا بهذا الدين، وبتعاليمه والخير، وبما فيه من الهدى، ولا تنفروا عن الدين. وقوله: (ويسروا) من التيسير وعدم التعسير، وقوله: (ولا تعسروا)، التعسير هو ضد التيسير، فيكون الإنسان في أعماله ميسراً غير معسر. وإيراد الحديث تحت الترجمة التي هي: كراهية المراء؛ لأن التبشير والدعوة إلى الله عز وجل تكون بالحكمة، والحرص على إيصال الخير، وبيان أن هذا هو الطريق الصحيح والمسلك الصحيح، وليس بالمراء والجدال الذي يؤدي إلى الخصام والتشاحن، ويؤدي إلى العداوة والبغضاء، فلعل إيراد الحديث تحت هذه الترجمة هو من هذه الناحية، وهو أن التبشير وعدم التنفير هو الذي ينبغي عند الدعوة إلى الله عز وجل بالحكمة، وأما إذا كان هناك مراء وجدال ومخاصمة فإنه يترتب على ذلك الوحشة وتنافر القلوب.
تراجم رجال إسناد حديث (... بشروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا)
قوله: [ حدثنا عثمان بن أبي شيبة ]. عثمان بن أبي شيبة ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي والنسائي فقد أخرج له في عمل اليوم والليلة. [ حدثنا أبو أسامة ]. هو حماد بن أسامة ، وهو ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة، وهو ممن وافقت كنيته اسم أبيه، وهذا نوع من أنواع علوم الحديث، وفائدة معرفته: ألا يظن التصحيف فيما لو ذكر بكنيته مع اسمه في بعض الأحيان، ثم ذكر بنسبته، أي: باسم أبيه، فلا يظن أن هناك تصحيفاً إذا قيل: حماد بن أسامة ، أو قيل: حماد أبو أسامة ، فكل ذلك صحيح، ولا فرق بين هذا وهذا؛ لأنه هو حماد بن أسامة ، وهو حماد أبو أسامة ، فإذا ذكر بكنيته مع اسمه، أو ذكر بنسبته إلى أبيه مع اسمه، فهو شخص واحد، وفائدة معرفة ذلك ألا يظن التصحيف؛ لأن من لا يعرفه إلا بابن أسامة إذا جاء حماد أبو أسامة يظن أن (أبو) مصحفة عن (ابن)، فهذا نوع من أنواع علوم الحديث، وهو يأتي في كثير من الرواة الذين تطابق كناهم أسماء آبائهم. [ حدثنا بريد بن عبد الله ]. هو بريد بن عبد الله بن أبي بردة بن أبي موسى، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن جده أبي بردة ]. جده هو أبو بردة بن أبي موسى، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن أبي موسى ]. هو أبو موسى الأشعري رضي الله عنه صاحب رسول الله عليه الصلاة والسلام، واسمه عبد الله بن قيس ، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
شرح حديث السائب (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فجعلوا يثنون عليّ...)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن سفيان قال: حدثني إبراهيم بن المهاجر عن مجاهد عن قائد السائب عن السائب رضي الله عنه قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فجعلوا يثنون علي ويذكروني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا أعلمكم -يعني: به- قلت: صدقت بأبي أنت وأمي كنت شريكي فنعم الشريك، كنت لا تداري ولا تماري) ]. أورد أبو داود حديث السائب بن أبي السائب المخزومي ، وكان شريكاً للنبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، وأنه جاء إليه وقد أسلم، فجعلوا يثنون على السائب ، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أنا أعلمكم به)؛ لأنه كان شريكه، فقال السائب : (صدقت بأبي أنت وأمي، كنت شريكي فنعم الشريك، كنت لا تماري ولا تداري)، وهذا وصف للرسول صلى الله عليه وسلم في معاملته إياه، فإنه كان شريكه قبل البعثة، فوصفه السائب بهذا الوصف: أنه نعم الشريك، وكان لا يماري، أي: لا يخاصم وينازع ويجادل، ولا يداري، أي: لا يخالف ولا يمانع، فهو سائغ، وأخلاقه حسنة، وليس من النوع الذي يخالف ويمانع مع شريكه، وإنما كان سهلاً وصاحب خلق كريم، وهذا يدل على حسن أخلاقه صلى الله عليه وسلم قبل البعثة وبعدها، فكان قبل أن يبعثه الله عز وجل على الأخلاق الكريمة وعلى الصفات الحميدة، وهذا من فضل الله عز وجل، إذ جعل نبيه صلى الله عليه وسلم على هذه الصفة التي كانوا يعرفونه بها قبل أن يبعثه الله عز وجل، وما حصل منهم بعد بعثته من العداء له-أي: من الكفار- إنما كان حسداً، وإنما كان اتباعاً لما كان عليه الآباء والأجداد، وإلا فإنه ما كان معروفاً عندهم إلا بالصدق والأمانة، وبالصفات الحميدة، والأخلاق الكريمة، فصلوات الله وسلامه وبركاته عليه. وقوله: [ عن السائب قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فجعلوا يثنون علي). جاء في بعض الروايات أنه جاء عام الفتح، فجعلوا يثنون على السائب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا أعلمكم به) أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان شريكاً له قبل البعثة، فقال السائب : (نعم بأبي أنت وأمي)، وهذا ليس قسماً، وإنما هو فداء، أي: أنت مفدي بأبي وأمي، أو أفديك بأبي وأمي، وهذه كلمة تقال كثيراً يقولها الصحابة وغير الصحابة، فإنهم كانوا يقولون في حق النبي صلى الله عليه وسلم: فداه أبي وأمي، أو بأبي هو وأمي، أي: هو مفدي، وهذه كلمة تقال في تعظيمه صلى الله عليه وسلم، واحترامه وتوقيره، فهو مفدي بالآباء والأمهات؛ لأن فضله أعظم من فضل الآباء والأمهات على الناس، وذلك أن الله عز وجل ساق على يديه أعظم نعمة، وأجل نعمة، وهي نعمة الإسلام، ومعلوم أن نعمة الإسلام هي أجل النعم، وأعظمها، والأبوان لهما حقوق على الولد، وقد قاما بتنشئته وتربيته، وتعبا عليه حتى بلغ مبلغ الرجال، ولكن ما قام به الأبوان ليس شيئاً بالنسبة إلى ما حل بالمسلم بسبب النبي صلى الله عليه وسلم من الهداية التي ساقها الله للمسلمين على يديه؛ ولهذا جاء في الحديث: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين) فصلوات الله وسلامه وبركاته عليه. ثم إن السائب ذكر صفة النبي صلى الله عليه وسلم التي عرفها عنه بسبب المخالطة والمشاركة؛ لأنه كان شريكه فقال له: (إنك نعم الشريك، كنت لا تماري ولا تداري).
تراجم رجال إسناد حديث السائب (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فجعلوا يثنون عليَّ...)
قوله: [ حدثنا مسدد ]. هو مسدد بن مسرهد البصري، وهو ثقة، أخرج له البخاري و أبو داود و الترمذي و النسائي . [ حدثنا يحيى ]. هو يحيى بن سعيد القطان البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن سفيان ]. هو سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، وهو ثقة فقيه، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن إبراهيم بن المهاجر ]. إبراهيم بن المهاجر صدوق لين الحفظ، أخرج له مسلم وأصحاب السنن. [ عن مجاهد ]. هو مجاهد بن جبر المكي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن قائد السائب ]. قائد السائب لا يعرف اسمه، ولا حاله. [ عن السائب ]. هو السائب بن أبي السائب، وهو صحابي أخرج له أبو داود و النسائي و ابن ماجة . والحديث في إسناده قائد السائب وهو الذي ذكر بلقبه، ولم يذكر باسمه، ولا يعرف حاله، و الألباني صححه، ولعله باعتبار أنه جاء مجاهد أنه كان يرويه عن السائب نفسه، فالحديث جاء عن عن قائد السائب عن السائب، وجاء من طريق أخرى عن السائب نفسه، وإلا فإن الرجل الذي يروي عن السائب في هذه الطريق مبهم لا يعرف اسمه ولا حاله، وبعض أهل العلم تكلم فيه من جهة أن أكثر الأسانيد فيها قائد السائب عن السائب نفسه، و الألباني صححه، ولعله من أجل أن مجاهداً رواه عن السائب نفسه. وقال الحافظ في ترجمة السائب في التقريب: وفي إسناد الحديث اضطراب. أي: من ناحية أنه جاء بطرق معتددة، بعضها فيه ذكر مجاهد عن هذا، و بعضها السائب عن كذا، وهناك أيضاً ألفاظ أخرى، والحافظ في البلوغ ذكر من رواه، ولم يتكلم عليه بشيء، وإنما قال: رواه الإمام أحمد و أبو داود و ابن ماجة .
حكم قول بأبي وأمي لقبر الرسول صلى الله عليه وسلم
وقبر الرسول صلى الله عليه وسلم لا يقال له: بأبي وأمي؛ لأن القبر مكان، والمقبور هو الذي يقال له: بأبي وأمي، وليس القبر.
الهدي في الكلام
شرح حديث (كان رسول الله إذا جلس يتحدث يكثر أن يرفع طرفه إلى السماء)
قال المصنف رحمه الله تعالى:[ باب الهدي في الكلام. حدثنا عبد العزيز بن يحيى الحراني حدثنا محمد -يعني ابن سلمة - عن محمد بن إسحاق عن يعقوب بن عتبة عن عمر بن عبد العزيز عن يوسف بن عبد الله بن سلام عن أبيه رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس يتحدث يكثر أن يرفع طرفه إلى السماء) ]. أورد أبو داود هذه الترجمة وهي: باب الهدي في الكلام، أي: الذي ينبغي أن يكون عليه الإنسان في كلامه، في صفة كلامه وهيئته، هذا هو المقصود بالترجمة. وقد أورد حديث عبد الله بن سلام رضي الله تعالى عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا جلس يتحدث يكثر أن يرفع طرفه إلى السماء)، وهذا بيان للهيئة التي يكون عليها حين الكلام، فهيئته وهديه أنه كان حين يتكلم يكثر أن يرفع رأسه إلى السماء، ولكن الحديث فيه ضعف من جهة ابن إسحاق، فقد رواه بالعنعنة، وهو مدلس، وإذا روى بالعنعنة فإنه لا يعول على روايته، وهو لم يعب عليه إلا التدليس، فهو إذا ثبت تصريحه بالسماع والتحديث فإنه يكون حديثه حسناً لذاته، ولكن إذا روى بالعنعنة فإن ذلك علة قادحة في روايته.
تراجم رجال إسناد حديث (كان رسول الله إذا جلس يتحدث يكثر أن يرفع طرفه إلى السماء)
قوله: [ حدثنا عبد العزيز بن يحيى الحراني ]. عبد العزيز بن يحيى الحراني صدوق ربما وهم، أخرج له أبو داود و النسائي . [ حدثنا محمد يعني ابن سلمة ]. هو محمد بن سلمة الحراني، وهو ثقة، أخرج حديثه البخاري في جزء القراءة و مسلم وأصحاب السنن، وهذا في طبقة شيوخ شيوخ أبي داود ، فإذا جاء محمد بن سلمة في طبقة شيوخ شيوخ أبي داود فالمراد به الحراني الباهلي ، وإذا جاء في طبقة شيوخه محمد بن سلمة فالمراد به المرادي المصري ، وهذا في طبقة شيوخ شيوخه، فهو الباهلي الحراني . [ عن محمد بن إسحاق ]. هو محمد بن إسحاق المدني، وهو صدوق، أخرج حديثه البخاري تعليقاً و مسلم وأصحاب السنن. [ عن يعقوب بن عتبة ]. يعقوب بن عتبة ثقة، أخرج له أبو داود و النسائي و ابن ماجة . [ عن عمر بن عبد العزيز ]. هو عمر بن عبد العزيز الخليفة المشهور ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن يوسف بن عبد الله بن سلام ]. يوسف بن عبد الله بن سلام اختلف في صحبته، فقيل: إنه صحابي صغير، وقيل: إنه ثقة، أخرج حديثه البخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن. [ عن أبيه ]. أبوه هو عبد الله بن سلام رضي الله تعالى عنه، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة.
شرح حديث (كان في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ترتيل أو ترسيل)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا محمد بن العلاء حدثنا محمد بن بشر عن مسعر قال: سمعت شيخاً في المسجد يقول: سمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول: (كان في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ترتيل أو ترسيل) ]. أورد أبو داود هذا الحديث عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال: (كان في كلام النبي صلى الله عليه وسلم ترتيل أو ترسيل) والترسيل : هو الترتيل، أي: كان كلامه كان يخرج مرتلاً، لا بسرعة، ولا ببطء شديد، وإنما كان كلامه ترتيلاً أو ترسيلاً، وهما بمعنى واحد، وكلمة (أو) هنا هي للشك، هل قال: ترتيل أو قال: ترسيل، ومعناهما واحد، والمقصود: أن كلامه كان يخرج مرتلاً ليس بسرعة، بحيث يفوت منه شيء، وإنما هو كلام مفهوم ويتمكن من تلقيه وتحمله وأخذه؛ لأنه كان عليه الصلاة والسلام يأتي به بهذه الهيئة وبهذه الصفة.
تراجم رجال إسناد حديث ( كان في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ترتيل أو ترسيل)
قوله: [ حدثنا محمد بن العلاء ]. هو محمد بن العلاء بن كريب أبو كريب، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ حدثنا محمد بن بشر ]. هو محمد بن بشر، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن مسعر ]. مسعر بن كدام ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ قال: سمعت شيخاً في المسجد ]. هذا الشيخ مبهم. [ يقول: سمعت جابر بن عبد الله ]. هو جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه، وهو صحابي جليل، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم. والحديث لا شك أن معناه صحيح، وهذه هي صفة كلامه وتكلمه صلى الله عليه وسلم، وأنه كان مرتلاً، ولكن الحديث فيه هذا الرجل المبهم الذي لم يسم، و الألباني صحح الحديث، ولا أدري هل له شواهد أم لا، وأما من حيث المعنى فهو صحيح؛ لأنه جاء في الأحاديث ما يدل على أن هذا هو طريقة كلامه وقراءته صلى الله عليه وسلم.
شرح حديث (كان كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كلاماً فصلاً يفهمه كل من سمعه)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا عثمان و أبو بكر ابنا أبي شيبة قالا: حدثنا وكيع عن سفيان عن أسامة عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كلاماً فصلاً يفهمه كل من سمعه) ]. أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها الذي تبين فيه صفة كلامه صلى الله عليه وسلم، وأنه كان كلاماً فصلاً، لا يدخل بعضه في بعض، وأنما يفهمه كل من سمعه؛ لوضوحه وجلائه، وتفصيله إياه، فكان كلامه صلوات الله وسلامه وبركاته عليه مفصلاً، أي: مبيناً واضحاً جلياً، يفهمه كل من سمعه صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، وهذا الحديث هو بمعنى ما تقدم في الحديث السابق أنه كان في كلامه ترتيل أو ترسيل.
تراجم رجال إسناد حديث (كان كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كلاماً فصلاً يفهمه كل من سمعه)
قوله: [ حدثنا عثمان و أبو بكر ابنا أبي شيبة ]. عثمان مر ذكره، و أبو بكر هو عبد الله بن محمد ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي . [ قالا: حدثنا وكيع ]. هو وكيع بن الجراح الرؤاسي الكوفي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن سفيان ]. هو الثوري ، وقد مر ذكره، وإذا جاء وكيع يروي عن سفيان غير منسوب، فإن المراد به سفيان الثوري . [ عن أسامة ]. هو أسامة بن زيد الليثي، وهو صدوق يهم، أخرج له البخاري تعليقاً و مسلم وأصحاب السنن. [ عن الزهري ]. هو محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن عروة ]. هو عروة بن الزبير بن العوام، وهو ثقة فقيه، أحد فقهاء المدينة السبعة في عصر التابعين، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة. والفقهاء السبعة في عصر التابعين هم: عروة بن الزبير و سعيد بن المسيب و خارجة بن زيد بن ثابت و سليمان بن يسار و عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود و القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق ، هؤلاء الستة متفق على عدهم من الفقهاء السبعة، والسابع فيه ثلاثة أقوال: فقيل: هو سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب ، وقيل: هو أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، وقيل: هو أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف ، فستة متفق على عدهم في الفقهاء السبعة في عصر التابعين في المدينة، والسابع فيه خلاف على ثلاثة أقوال، و عروة بن الزبير هو أحد الستة المتفق على عدهم في الفقهاء السبعة، وقد ذكرهم ابن القيم في أول كتابه إعلام الموقعين، وجعل السابع منهم أبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، وذكر بيتين من الشعر يجمعهما فقال: إذا قيل من في العلم سبعة أبحر روايتهم ليست عن العلم خارجة فقل هم عبيد الله عروة قاسم سعيد أبو بكر سليمان خارجة [ عن عائشة ]. عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها الصديقة بنت الصديق ، وهي واحدة من سبعة أشخاص عرفوا بكثرة الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
شرح حديث (كل كلام لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا أبو توبة قال: زعم الوليد عن الأوزاعي عن قرة عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل كلام لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم) ] . أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (كل كلام لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم) أي: أنه كاليد الجذماء، أي: المقطوعة أو التي أصابها جذام، فلا فائدة فيها، ولا يستفيد صاحبها منها، وهذا يتعلق بالهدي في الكلام، أي: أنه يبدأ فيه بحمد الله عز وجل، ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبدأ خطبه بالحمد لله عز وجل، والفاتحة بدأت بالحمد: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، وبعض سور القرآن بدأت بالحمد لله. والحديث اختلف فيه، فمنهم من حسنه، ومنهم من ضعفه، و الألباني ممن ضعفه.
تراجم رجال إسناد حديث (كل كلام لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم)
قوله: [ حدثنا أبو توبة ]. هو أبو توبة الربيع بن نافع الحلبي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة إلا الترمذي . [ قال: زعم الوليد ]. (زعم) هنا بمعنى الخبر المحقق؛ لأن (زعم) تأتي في الخبر المحقق، وتأتي للذم، فإذا قيل: زعم فلان كذا وكذا في باب الذم، فالمراد أنه من الزعم الباطل، وهنا المقصود بها الخبر المحقق؛ لأنها تأتي في أحاديث وتأتي في أسانيد الحديث بهذا المعنى الذي هو الخبر المحقق. والوليد بن مسلم الدمشقي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ عن الأوزاعي ]. هو عبد الرحمن بن عمرو أبو عمرو الأوزاعي، فقيه الشام ومحدثها، وحديثه أخرجه أصحاب الكتب الستة. [ عن قرة ]. هو قرة بن عبد الرحمن، وهو صدوق له مناكير، أخرج حديثه مسلم وأصحاب السنن. [ عن الزهري عن أبي سلمة ]. الزهري قد مر ذكره، وأبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة، وهو أحد الثلاثة الذين اختلف في عدهم من الفقهاء السبعة. [ عن أبي هريرة ]. هو أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأكثر أصحابه حديثاً. والذين تكلموا في هذا الحديث تكلموا فيه من جهة قرة بن عبد الرحمن .
ورود حديث (كل كلام لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم) عن الزهري مرسلاً
[ قال أبو داود : رواه يونس و عقيل و شعيب و سعيد بن عبد العزيز عن الزهري عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً ]. يعني: أن هؤلاء خالفوا قرة و قرة خالفهم، فهؤلاء -وهم ثقات أثبات- خالفوه فرووه مرسلاً، وأما هو فرواه متصلاً، أي: أنه ذكر أبا سلمة و أبا هريرة بين الزهري وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما هؤلاء فرروا أن الزهري أضافه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، و الزهري من صغار التابعين، فهؤلاء رووه مرسلاً. وقرة رواه متصلاً، وهو صدوق له مناكير، وأولئك ثقات.
تراجم رجال إسناد حديث: (كل كلام لايبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم) عن الزهري مرسلاً
قوله: [ رواه يونس ]. هو يونس بن يزيد الأيلي ، وهو من المكثرين عن الزهري ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ و عقيل ]. هو عقيل بن خالد بن عقيل المصري ، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ و شعيب ]. هو شعيب بن أبي حمزة الحمصي، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ و سعيد بن عبد العزيز ]. هو سعيد بن عبد العزيز الدمشقي ، وهو ثقة، أخرج له البخاري في الأدب المفرد و مسلم وأصحاب السنن.
الهدي في الخطبة
شرح حديث (كل خطبة ليس فيها تشهد فهي كاليد الجذماء)
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب في الخطبة. حدثنا مسدد و موسى بن إسماعيل قالا: حدثنا عبد الواحد بن زياد حدثنا عاصم بن كليب عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (كل خطبة ليس فيها تشهد فهي كاليد الجذماء) ]. أورد أبو داود هذه الترجمة بعنوان: باب في الخطبة، أي: الهدي في الخطبة، وما ينبغي أن يكون فيها، وقد أورد أبو داود حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (كل خطبة ليس فيها تشهد فهي كاليد الجذماء)، والمقصود بالتشهد: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، أو أشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على أن الخطب لابد فيها من ذكر الشهادتين: الشهادة لله بالإلوهية والوحدانية، ولنبيه محمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة، وكذلك أيضاً لابد أن تبدأ بالحمد؛ فإن هديه صلى الله عليه وسلم أنه كان يبدأ خطبه بالحمد.
تراجم رجال إسناد حديث (كل خطبة ليس فيها تشهد فهي كاليد الجذماء)
قوله: [ حدثنا مسدد و موسى بن إسماعيل ]. هو موسى بن إسماعيل التبوذكي البصري، وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ قالا: حدثنا عبد الواحد بن زياد ]. عبد الواحد بن زياد ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. [ حدثنا عاصم بن كليب ]. عاصم بن كليب صدوق، أخرج له البخاري تعليقاً و مسلم وأصحاب السن. [ عن أبيه ]. أبوه هو كليب بن شهاب ، وهو صدوق، أخرج حديثه البخاري في رفع اليدين وأصحاب السنن. [ عن أبي هريرة ]. أبو هريرة رضي الله عنه قد مر ذكره.
تنزيل الناس منازلهم
شرح حديث (أنزلوا الناس منازلهم)
قال المصنف رحمه الله تعالى:[ باب في تنزيل الناس منازلهم. حدثنا يحيى بن إسماعيل و ابن أبي خلف أن يحيى بن اليمان أخبرهم عن سفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن ميمون بن أبي شبيب أن عائشة رضي الله عنها مر بها سائل فأعطته كسرة، ومر بها رجل عليه ثياب وهيئة فأقعدته فأكل، فقيل لها في ذلك، فقالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنزلوا الناس منازلهم) . قال أبو داود : وحديث يحيى مختصر. قال أبو داود : ميمون لم يدرك عائشة ]. أورد أبو داود هذه الترجمة وهي: تنزيل الناس منازلهم، أي: أن كلاً ينزل منزلته التي تناسبه، فليس الناس كلهم على حد سواء، فمن الناس من يكون له شأن ومنزلة، سواء في العلم أو في غيره، فينزل المنزلة التي تليق به، وليس هو مثل سائر الناس، فكل يعامل بما يستحقه، وينزل المنزلة التي يستحقها. وقد أورد أبو داود حديث عائشة رضي الله عنها أنه جاءها رجل سائل فأعطته كسرة، وجاء آخر عليه هيئة جميلة فأقعدته وأكل، فقيل لها في ذلك، أي: كيف ميزت بين هذا وهذا؟ فقالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنزلوا الناس منازلهم) ، فهي أنزلت كلاً منزلته، لكن هذا الحديث غير صحيح، فلم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن فيه ميمون بن أبي شبيب وروايته عن عائشة مرسلة؛ كما قال أبو داود : ميمون لم يدرك عائشة . وهذا معناه: أن روايته عنها مرسلة، ففي الحديث انقطاع، وقد قيل فيه: هو معروف بالإرسال، والحديث أيضاً في إسناده حبيب بن أبي ثابت وهو كثير التدليس والإرسال، وقد روى بالعنعنة، فالحديث فيه علل متعددة. والإمام مسلم ذكر هذا الحديث في كتابه في المقدمة معلقاً فقال: وذكر عن عائشة أنها قالت: (أمرنا رسول الله أن ننزل الناس منازلهم) . ولم يذكره مسنداً، وإنما ذكره معلقاً بهذا الصيغة (ذكر)، ولكن معناه صحيح؛ إذ لا شك أن الناس ينزلون منازلهم، وليسوا كلهم بمنزلة واحدة، وهذا لا إشكال فيه.