عرض مشاركة واحدة
  #450  
قديم 06-07-2025, 01:37 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,240
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (10)
سُورَةُ الكهف
من صــ 406 الى صــ 415
الحلقة (450)






بِرَبِّي أَحَداً دل مفهومه على أن الأخ الآخر كان مشركا بالله تعالى يعبد غيره. ويحتمل أنه أراد لا أرى الغني والفقر إلا منه ، واعلم أنه لو أراد أن يسلب صاحب الدنيا دنياه قدر عليه ؛ وهو الذي آتاني الفقر. ويحتمل أنه أراد جحودك البعث مصيره إلى أن الله تعالى لا يقدر عليه ، وهو تعجيز الرب سبحانه وتعالى ، ومن عجزه سبحانه وتعالى شبهه بخلقه ؛ فهو إشراك.
الآية : 39 {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالاً وَوَلَداً}
الآية : 40 {فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً}
الآية : 41 {أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً}
قوله تعالى : {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ} فيه مسألتان : -
الأولى : - قوله تعالى : {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ} أي بالقلب ، وهو توبيخ ووصية من المؤمن للكافر ورد عليه ، إذ قال : {مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً} لكهف : 35] و "ما" في موضع رفع ، تقديره : هذه الجنة هي ما شاء الله. وقال الزجاج والفراء : الأمر ما شاء الله ، أو هو ما شاء الله ؛ أي الأمر مشيئة الله تعالى. وقيل : الجواب مضمر ، أي ما شاء الله كان ، وما لا يشاء لا يكون. {لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ} أي ما اجتمع لك من المال فهو بقدرة الله تعالى وقوته لا بقدرتك وقوتك ، ولو شاء لنزع البركة منه فلم يجتمع.
الثانية : - قال أشهب قال مالك : ينبغي لكل من دخل منزله أن يقول هذا. وقال ابن وهب وقال لي حفص بن ميسرة : رأيت على باب وهب بن منبه مكتوبا "ما شاء الله لا قوة إلا بالله" . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأبي هريرة : "ألا أدلك على كلمة من كنوز الجنة - أو قال كنز من كنوز الجنة" قلت : بلى يا رسول الله ، قال "لا حول ولا قوة إلا بالله إذا قالها العبد قال الله عز وجل أسلم عبدي واستسلم" أخرجه مسلم
في صحيحه من حديث أبي موسى. وفيه : فقال "يا أبا موسى أو يا عبدالله بن قيس ألا أدلك على كلمة من كنز الجنة - في رواية على كنز من كنوز الجنة -" قلت : ما هي يا رسول الله ، قال : "لا حول ولا قوة إلا بالله" . وعنه قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ألا أدلك على كلمة من كنوز الجنة أو قال كنز من كنوز الجنة" قلت : بلى ؛ فقال "لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم" . وروي أنه من دخل منزل أو خرج منه فقال : باسم الله ما شاء الله لا قوة إلا بالله تنافرت عنه الشياطين من بين يديه وأنزل الله تعالى عليه البركات. وقالت عائشة : إذا خرج الرجل من منزله فقال باسم الله قال الملك هديت ، وإذا قال ما شاء الله قال الملك كفيت ، وإذا قال لا قوة إلا بالله قال الملك وقيت. خرجه الترمذي من حديث أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من قال - يعني إذا خرج من بيته - باسم الله توكلت على الله لا حول ولا قوة إلا بالله يقال كفيت ووقيت وتنحى عنه الشيطان" هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. خرجه أبو داود أيضا وزاد فيه - فقال له : "هديت وكفيت ووقيت" . وأخرجه ابن ماجة من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إذا خرج الرجل من باب بيته أو باب داره كان معه ملكان موكلان به فإذا قال باسم الله قالا هديت وإذا قال لا حول ولا قوة إلا بالله قالا وقيت وإذا قال توكلت على الله قالا كفيت قال فيلقاه قريناه فيقولان ماذا تريدان من رجل قد هدي ووقي وكفي" . وقال الحاكم أبو عبدالله في علوم الحديث : سئل محمد بن إسحاق بن خزيمة عن قول النبي صلى الله عليه وسلم : "تحاجت الجنة والنار فقالت هذه - يعني الجنة - يدخلني الضعفاء" من الضعيف ؟ قال : الذي يبرئ نفسه من الحول والقوة يعني في اليوم عشرين مرة أو خمسين مرة. وقال أنس بن مالك قال النبي صلى الله عليه وسلم : "من رأى شيئا فأعجبه فقال ما شاء الله لا قوة إلا بالله لم يضره عين" . وقد قال قوم : ما من أحد قال ما شاء الله كان فأصابه شيء إلا رضي به. وروي أن من قال أربعا أمن من أربع : من قال هذه أمن من العين ، ومن قال حسبنا الله ونعم الوكيل أمن من كيد الشيطان ، ومن قال وأفوض أمري إلى الله أمن مكر الناس ، ومن قال لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين أمن من الغم.
قوله تعالى : {إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالاً وَوَلَداً} "إن" شرط "ترن" مجزوم به ، والجواب "فعسى ربي" و "أنا" فاصلة لا موضع لها من الإعراب. ويجوز أن تكون في موضع نصب توكيدا للنون والياء. وقرأ عيسى بن عمر "إن ترن أنا أقل منك" بالرفع ؛ يجعل "أنا" مبتدأ و "أقل" خبره ، والجملة في موضع المفعول الثاني ، والمفعول الأول النون والياء ؛ إلا أن الياء حذفت لأن الكسرة تدل عليها ، وإثباتها جيد بالغ وهو الأصل لأنها الاسم على الحقيقة. و {فَعَسَى} بمعنى لعل أي فلعل ربي. {أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ} أي في الآخرة. وقيل في الدنيا. {وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا} أي على جنتك. {حُسْبَاناً مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً} أي مرامي من السماء ، وأحدها حسبانة ؛ قاله الأخفش والقتبي وأبو عبيدة. وقال ابن الأعرابي : والحسبانة السحابة ، والحسبانة الوسادة ، والحسبانة الصاعقة. وقال الجوهري : والحسبان "بالضم" : العذاب. وقال أبو زياد الكلابي : أصاب الأرض حسبان أي جراد. والحسبان أيضا الحساب ، قال الله تعالى : {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} [الرحمن : 5] . وقد فسر الحسبان هنا بهذا. قال الزجاج : الحسبان من الحساب ؛ أي يرسل عليها عذاب الحساب ، وهو حساب ما اكتسبت يداك ؛ فهو من باب حذف المضاف. والحسبان أيضا : سهام قصار يرمى بها في طلق واحد ، وكان من رمي الأكاسرة. والمرامي من السماء عذاب. {فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً} يعني أرضا بيضاء لا ينبت فيها نبات ولا يثبت عليها قدم ، وهي أضر أرض بعد أن كانت جنة أنفع أرض ؛ و "زلقا" تأكيد لوصف الصعيد ؛ أي وتزل عنها الأقدام لملاستها. يقال : مكان زلق "بالتحريك" أي دحض ، وهو في الأصل مصدر قولك : زلقت رجله تزلق زلقا ، وأزلقها غيره. والزلق أيضا عجز الدابة. قال رؤبة :
كأنها حقباء بلقاء الزلق
والمزلقة والمزلقة : الموضع الذي لا يثبت عليه قدم. وكذلك الزلاقة. والزلق الحلق ، زلق رأسه يزلقه زلقا حلقه ؛ قال الجوهري. والزلق المحلوق ، كالنقض والنقض. وليس المراد
أنها تصير مزلقة ، بل المراد أنها لا يبقى فيها نبات كالرأس إذا حلق لا يبقى عليه شعر ؛ قاله القشيري. {أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْراً} أي غائرا ذاهبا ، فتكون أعدم أرض للماء بعد أن كانت أوجد أرض للماء. والغور مصدر وضع موضع الاسم ؛ كما يقال : رجل صوم وفطر وعدل ورضا وفضل وزور ونساء نوح ؛ ويستوي فيه المذكر والمؤنث والتثنية والجمع. قال عمرو بن كلثوم :
تظل جياده نوحا عليه ... مقلدة أعنتها صفونا
آخر :
هريقي من دموعهما سجاما ... ضباع وجاوبي نوحا قياما
أي نائحات. وقيل : أو يصبح ماؤها ذا غور ؛ فحذف المضاف ؛ مثل : {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف : 82] ذكره النحاس. وقال الكسائي : ماء غور. وقد غار الماء يغور غورا وغوورا ، أي سفل في الأرض ، ويجوز الهمزة لانضمام الواو. وغارت عينه تغور غورا وغوورا ؛ دخلت في الرأس. وغارت تغار لغة فيه. وقال :
أغارت عينه أم لم تغارا
وغارت الشمس تغور غيارا ، أي غربت. قال أبو ذؤيب :
هل الدهر إلا ليلة ونهارها ... وإلا طلوع الشمس ثم غيارها
{فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً} أي لن تستطيع رد الماء الغائر ، ولا تقدر عليه بحيلة. وقيل : فلن تستطيع طلب غيره بدلا منه. وإلى هذا الحديث انتهت مناظرة أخيه وإنذاره.
الآية : 42 {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً}
قوله تعالى : {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} اسم ما لم يسم فاعله مضمر ، وهو المصدر. ويجوز أن يكون المخفوض في موضع رفع. ومعنى "أحيط بثمره" أي أهلك ماله كله. وهذا أول ما حقق الله تعالى به إنذار أخيه. {فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا} أي فأصبح الكافر يضرب إحدى
يديه على الأخرى ندما ؛ لأن هذا يصدر من النادم. وقيل : يقلب ملكه فلا يرى فيه عوض ما أنفق ؛ وهذا لأن الملك قد يعبر عنه باليد ، من قولهم : في يده مال ، أي في ملكه مال. ودل قوله "فأصبح" على أن هذا الإهلاك جرى بالليل ؛ كقوله : {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ} [القلم : 19] ويقال : أنفقت في هذه الدار كذا وأنفقت عليها. {وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} أي خالية قد سقط بعضها على بعض ؛ مأخوذ من خوت النجوم تخوى خيا أمحلت ، وذلك إذا سقطت ولم تمطر في نوئها. وأخوت مثله. وخوت الدار خواء أقوت ، وكذلك إذا سقطت ؛ ومنه قوله تعالى : {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا} [النمل : 52] ويقال ساقطة ؛ كما يقال فهي خاوية على عروشها أي ساقطة على سقوفها ؛ فجمع عليه بين هلاك الثمر والأصل ، وهذا من أعظم الجوانح ، مقابلة على بغية. {وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً} أي يا ليتني عرفت نعم الله علي ، وعرفت أنها كانت بقدرة الله ولم أكفر به. وهذا ندم منه حين لا ينفعه الندم.
الآية : 43 {وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً}
قوله تعالى : {وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ} "فئة" اسم "تكن" و "له" الخبر. "ينصرونه" في موضع الصفة ، أي فئة ناصرة. ويجوز أن يكون "ينصرونه" الخبر. والوجه الأول عند سيبويه أولى لأنه قد تقدم "له" . وأبو العباس يخالفه ، ويحتج بقول الله عز وجل {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص : 4] . وقد أجاز سيبويه الآخر. و "ينصرونه" على معنى فئة ؛ لأن معناها أقوام ، ولو كان على اللفظ لقال ولم تكن له فئة تنصره ؛ أي فرقة وجماعة يلتجئ إليهم.
قوله تعالى : {وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً} أي ممتنعا ؛ قاله قتادة. وقيل : مستردا بدل ما ذهب منه. وقد تقدم اشتقاق الفئة في "آل عمران" . والهاء عوض من الياء التي نقصت
من وسطه ، أصله فيء مثل فيع ؛ لأنه من فاء ، ويجمع على فئون وفئات ، مثل شيات ولدات ومئات. أي لم تكن له عشيرة يمنعونه من عذاب الله ، وضل عنه من افتخر بهم من الخدم والولد.
الآية : 44 {هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً}
قوله تعالى : {هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ} اختلف في العامل في قوله "هنالك" وهو ظرف ؛ فقيل : العامل فيه : {وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ} ولا كان هنالك ؛ أي ما نصر ولا انتصر هنالك ، أي لما أصابه من العذاب. وقيل : تم الكلام عند قوله : {مُنْتَصِراً} . والعامل في قوله : {هُنَالِكَ الْوَلايَةُ} . وتقديره على التقديم والتأخير : الولاية لله الحق هنالك ، أي في القيامة. وقرأ أبو عمرو والكسائي "الحق" بالرفع نعتا للولاية. وقرأ أهل المدينة وحمزة "الحق" بالخفض نعتا لله عز وجل ، والتقدير : لله ذي الحق. قال الزجاج : ويجوز "الحق" بالنصب على المصدر والتوكيد ؛ كما تقول : هذا لك حقا. وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي "الولاية" بكسر الواو ، الباقون بفتحها ، وهما بمعنى واحد كالرضاعة والرضاعة. وقيل : الولاية بالفتح من الموالاة ؛ كقوله : {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة : 257] . {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا} [محمد : 11] . وبالكسر يعني السلطان والقدرة والإمارة ؛ كقوله : {وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار : 19] أي له الملك والحكم يومئذ ، أي لا يرد أمره إلى أحد ؛ والملك في كل وقت لله ولكن تزول الدعاوي والتوهمات يوم القيامة. وقال أبو عبيد : إنها بفتح الواو للخالق ، وبكسرها للمخلوق. {هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً} أي الله خير ثوابا في الدنيا والآخرة لمن آمن به ، وليس ثم غير يرجى منه ، ولكنه أراد في ظن الجهال ؛ أي هو خير من يرجى. {وَخَيْرٌ عُقْباً} قرأ عاصم والأعمش وحمزة ويحيى "عقبا" ساكنة القاف ، الباقون بضمها ، وهما بمعنى واحد ؛ أي هو خير عافية لمن رجاه وآمن به. يقال : هذا عاقبة أمر فلان وعقباه وعقبه ، أي آخره.
الآية : 45 {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً}
قوله تعالى : {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي صف لهؤلاء المتكبرين الذين سألوك طرد فقواء المؤمنين مثل الحياة الدنيا ، أي شبهها. {كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ} أي بالماء. {نَبَاتُ الْأَرْضِ} حتى استوى. وقيل : إن النبات اختلط بعضه ببعض حين نزل عليه الماء ؛ لأن النبات إنما يختلط ويكثر بالمطر. وقد تقدم هذا المعنى في "يونس" مبينا. وقالت الحكماء : إنما شبه تعالى الدنيا بالماء لأن الماء لا يستقر في موضع ، كذلك الدنيا لا تبقى على واحد ، ولأن الماء لا يستقيم على حالة واحدة كذلك الدنيا ، ولأن الماء لا يبقى ويذهب كذلك الدنيا تفنى ، ولأن الماء لا يقدر أحد أن يدخله ولا يبتل كذلك الدنيا لا يسلم أحد دخلها من فتنتها وآفتها ، ولأن الماء إذا كان بقدر كان نافعا منبتا ، وإذا جاوز المقدار كان ضارا مهلكا ، وكذلك الدنيا الكفاف منها ينفع وفضولها يضر. وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم قال له رجل : يا رسول الله ، إني أريد أن أكون من الفائزين ؛ قال : "ذر الدنيا وخذ منها كالماء الراكد فإن القليل منها يكفي والكثير منها يطغي" . وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم : "قد أفلح من أسلم ورزق كفافا وقنعه الله بما أتاه" . {فَأَصْبَحَ} أي النبات {هَشِيماً} أي متكسرا من اليبس متفتتا ، يعني بانقطاع الماء عنه ، فحذف ذلك إيجازا لدلالة الكلام عليه. والهشم : كسر الشيء اليابس. والهشيم من النبات اليابس المتكسر ، والشجرة البالية يأخذها الحاطب كيف يشاء. ومنه قولهم : ما فلان إلا هشيمة كرم ؛ إذا كان سمحا. ورجل هشيم : ضعيف البدن. وتهشم عليه فلان إذا تعطف.واهتشم
واهتشم ما في ضرع الناقة إذا احتلبه. ويقال : هشم الثريد ؛ ومنه سمي هاشم بن عبد مناف واسمه عمرو ، وفيه يقول عبدالله بن الزبعرى :
عمرو العلا هشم الثريد لقومه ... ورجال مكة مسنتون عجاف
وكان سبب ذلك أن قريشا أصابتهم سنون ذهبن بالأموال فخرج هاشم إلى الشام فأمر بخبز كثير فخبز له ، فحمله في الغرائر على الإبل حتى وافى مكة ، وهشم ذلك الخبز ، يعني كسره وثرده ، ونحر تلك الإبل ، ثم أمر الطهاة فطبخوا ، ثم كفأ القدور على الجفان فأشبع أهل مكة ؛ فكان ذلك أول الحباء بعد السنة التي أصابتهم ؛ فسمي بذلك هاشما. {تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ} أي تفرقه ؛ قاله أبو عبيدة. ابن قتيبة : تنسفه. ابن كيسان : تذهب به وتجيء. ابن عباس : تديره ؛ والمعنى متقارب. وقرأ طلحة بن مصرف "تذريه الريح" . قال الكسائي : وفي قراءة عبدالله "تذريه" . يقال : ذرته الريح تذروه ذروا و [تذريه] ذريا وأذريه تذريه إذراء إذا طارت به. وحكى الفراء : أذريت الرجل عن فرسه أي قلبته. وأنشد سيبويه والفراء :
فقلت له صوب ولا تجهدنه ... فيذرك من أخرى القطاة فتزلق
قوله تعالى : { وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً} من الإنشاء والإفناء والإحياء ، سبحانه.
الآية : 46 {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً}
قوله تعالى : {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} ويجوز "زينتا" وهو خبر الابتداء في التثنية والإفراد. وإنما كان المال والبنون زينة الحياة الدنيا لأن في المال جمالا ونفعا ، وفي البنين قوة ودفعا ، فصارا زينة الحياة الدنيا ، لكن معه قرينة الصفة للمال
والبنين ؛ لأن المعنى : المال والبنون زينة هذه الحياة المحتقرة فلا تتبعوها نفوسكم. وهو رد على عيينة بن حصن وأمثاله لما افتخروا بالغنى والشرف ، فأخبر تعالى أن ما كان من زينة الحياة الدنيا فهو غرور يمر ولا يبقى ، كالهشيم حين ذرته الريح ؛ إنما يبقى ما كان من زاد القبر وعدد الآخرة. وكان يقال : لا تعقد قلبك مع المال لأنه فيء ذاهب ، ولا مع النساء لأنها اليوم معك وغدا مع غيرك ، ولا مع السلطان لأنه اليوم لك وغدا لغيرك. ويكفي قي هذا قول الله تعالى : {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن : 15] . وقال تعالى : {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن : 14] .
قوله تعالى : {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ} أي ما يأتي به سلمان وصهيب وفقراء المسلمين من الطاعات {خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً} أي أفضل {وَخَيْرٌ أَمَلاً} أي أفضل أملا من ذي المال والبنين دون عمل صالح ، وليس في زينة الدنيا خير ، ولكنه خرج مخرج قوله : {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرّاً} [الفرقان : 24] . وقيل : خير في التحقيق مما يظنه الجهال أنه خير في ظنهم.
واختلف العلماء في {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ} ؛ فقال ابن عباس وابن جبير وأبو ميسرة وعمرو ابن شرحبيل : هي الصلوات الخمس. وعن ابن عباس أيضا : أنها كل عمل صالح من قول أو فعل يبقى للآخرة. وقاله ابن زيد ورجحه الطبري. وهو الصحيح إن شاء الله ؛ لأن كل ما بقي ثوابه جاز أن يقال له هذا. وقال علي رضي الله عنه : الحرث حرثان فحرث الدنيا المال والبنون ؛ وحرث الآخرة الباقيات الصالحات ، وقد يجمعهن الله تعالى لأقوام. وقال الجمهور : هي الكلمات المأثور فضلها : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. خرجه مالك في موطئه عن عمارة بن صياد عن سعيد بن المسيب أنه سمعه يقول في الباقيات الصالحات : إنها قول العبد : الله أكبر وسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله. أسنده النسائي عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال : "استكثروا من الباقيات الصالحات" قيل : وما هي يا رسول الله ؟ قال : "التكبير والتهليل والتسبيح والحمد لله ولا حول ولا قوة إلا بالله" . صححه أبو محمد عبدالحق رحمه الله. وروى قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ غصنا فخرطه حتى سقط ورقه وقال : "إن المسلم إذا قال سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر تحاتت خطاياه كما تحات هذا خذهن إليك أبا الدرداء قبل أن يحال بينك وبينهن فإنهن من كنوز الجنة وصفايا الكلام وهن الباقيات الصالحات" . ذكره الثعلبي ، وخرجه ابن ماجة بمعناه من حديث أبي الدرداء قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "عليك بسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر فإنهن يعني يحططن الخطايا كما تحط الشجرة ورقها" . وأخرجه الترمذي من حديث الأعمش عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بشجرة يابسة الورقة فضربها بعصاه فتناثر الورق فقال : "إن الحمد لله وسبحان الله ولا إله إلا الله والله أكبر لتساقط من ذنوب العبد كما تساقط ورق هذه الشجرة" . قال : هذا حديث غريب ولا نعرف للأعمش سماعا من أنس ، إلا أنه قد رآه ونظر إليه. وخرج الترمذي أيضا عن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لقيت إبراهيم عليه السلام ليلة أسري بي فقال يا محمد أقرئ أمتك مني السلام واخبرهم أن الجنة طيبة التربة عذبة الماء وأنها قيعان وأن غراسها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر" قال : حديث حسن غريب ، خرجه الماوردي بمعناه. وفيه - فقلت : ما غراس الجنة ؟ قال : "لا حول ولا قوة إلا بالله" . وخرج ابن ماجة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر به وهو يغرس غرسا فقال : "يا أبا هريرة ما الذي تغرس" قلت غراسا. قال : "ألا أدلك على غراس خير من هذا سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر يغرس لك بكل واحدة شجرة في الجنة" . وقد قيل : إن الباقيات الصالحات هي النيات والهمات ؛ لأن بها تقبل الأعمال وترفع ؛ قال الحسن. وقال عبيد بن عمير : هن البنات ؛ يدل عليه أوائل ، الآية ؛ قال الله تعالى : {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} ثم قال : {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ} يعني البنات الصالحات هن عند الله لآبائهن خير ثوابا ،




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 42.35 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 41.72 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.48%)]