عرض مشاركة واحدة
  #463  
قديم 06-07-2025, 04:17 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,137
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (11)
سُورَةُ مريم
من صــ 114 الى صــ 123
الحلقة (463)



قوله تعالى : {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى} أي واقرأ عليهم من القرآن قصة موسى. {إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصاً} في عبادته غير مرائي. وقرأ أهل الكوفة بفتح اللام ؛ أي أخلصناه فجعلناه مختارا. {وَنَادَيْنَاهُ} أي كلمناه ليلة الجمعة. {مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ} أي يمين موسى ، وكانت الشجرة في جانب الجبل عن يمين موسى حين أقبل من مدين إلى مصر ؛ قاله الطبري وغيره فإن الجبال لا يمين لها ولا شمال. {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً} نصب على الحال ؛ أي كلمناه من غير وحي. وقيل : أدنيناه لتقريب المنزلة حتى كلمناه. وذكر وكيع وقبيصة عن سفيان عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قول الله عز وجل : {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً} أي أدني حتى سمع صرير الأقلام. {وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً} وذلك حين سأل فقال : {وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي ، هَارُونَ أَخِي} [طه : 29] .
الآيتان : 54 - 55 {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً ، وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً}
فيه ست مسائل : -
الأولى : قوله تعالى : {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ} اختلف فيه ؛ فقيل : هو إسماعيل بن حزقيل ، بعثه الله إلى قومه فسلخوا جلدة رأسه ، فخيره الله تعالى فيما شاء من عذابهم ، فاستعفاه ورضي بثوابه ، وفوض أمرهم إليه في عفوه وعقوبته. والجمهور أنه إسماعيل الذبيح أبو العرب بن إبراهيم. وقد قيل : إن الذبيح إسحاق ؛ والأول أظهر على ما تقدم ويأتي في "الصافات" إن شاء الله تعالى. وخصه الله تعالى بصدق الوعد وإن كان موجودا في غيره من الأنبياء تشريفا له إكراما ، كالتقليب بنحو الحليم والأواه والصديق ؛ ولأنه المشهور المتواصف من خصاله.
الثانية : صدق الوعد محمود وهو من خلق النبيين والمرسلين ، وضده وهو الخلف مذموم ، وذلك من أخلاق الفاسقين والمنافقين ما تقدم بيانه في "براءة" . وقد أثنى الله تعالى على نبيه إسماعيل فوصفه بصدق الوعد. واختلف في ذلك ؛ فقيل : إنه وعد من نفسه بالصبر على الذبح فصبر حتى فدى. هذا في قول من يرى أنه الذبيح. وقيل : وعد رجلا أن يلقاه في موضع فجاء إسماعيل وانتظر الرجل يومه وليلته ، فلما كان في اليوم الآخر جاء ؛ فقال له : ما زلت ها هنا في انتظارك منذ أمس. وقيل : انتظره ثلاثة أيام. وقيل فعل مثله نبينا صلى الله عليه وسلم قبل بعثه ؛ ذكره النقاش وخرجه الترمذي وغيره عن عبد الله بن أبى الحسماء قال : بايعت النبي صلى الله عليه وسلم ببيع قبل أن يبعث وبقيت له بقية فوعدته أن آتيه بها في مكانه فنسيت ، ثم ذكرت بعد ثلاثة أيام ، فجئت فإذا هو في مكانه ؛ فقال : "يا فتى لقد شققت علي أنا ها هنا منذ ثلاث أنتظرك" لفظ أبي داود. وقال يزيد الرقاشي : انتظره إسماعيل اثنين وعشرين يوما ؛ ذكره الماوردي. وفي كتاب ابن سلام أنه انتظره سنة. وذكره الزمخشري عن ابن عباس أنه وعد صاحبا له أن ينتظره في مكان فانتظره سنة. وذكره القشيري قال : فلم يبرح من مكانه سنة حتى أتاه جبريل عليه السلام فقال إن التاجر الذي سألك أن تقعد له حتى يعود هو إبليس فلا تقعد ولا كرامة له. وهذا بعيد ولا يصح. وقد قيل : إن إسماعيل لم يعد شيئا إلا وفى به ، وهذا قول صحيح ، وهو الذي يقتضيه ظاهر الآية ؛ والله أعلم.
الثالثة : من هذا الباب قوله صلى الله عليه وسلم : "العدة دين" . وفي الأثر "وأي المؤمن واجب" أي في أخلاق المؤمنين. وإنما قلنا أن ذلك ليس بواجب فرضا لإجماع العلماء على ما حكاه أبو عمر أن من وعد بمال ما كان ليضرب به مع الغرماء ؛ فلذلك قلنا إيجاب الوفاء به حسن مع المروءة ، ولا يقضى به والعرب تمتدح بالوفاء ، وتذم بالخلف والغدر ، وكذلك سائر الأمم ، ولقد أحسن القائل :
متى ما يقل حر لصاحب حاجة
نعم يقضها والحر للوأي ضامن
ولا خلاف أن الوفاء يستحق صاحبه الحمد والشكر ، وعلى الخلف الذم. وقد أثنى الله تبارك وتعالى على من صدق وعده ، ووفى بنذره ؛ وكفى بهذا مدحا وثناء ، وبما خالفه ذما. قال مالك : إذا سأل الرجل الرجل أن يهب له الهبة فيقول له نعم ، ثم يبدو له ألا يفعل فما أرى يلزمه.
الرابعة : قال مالك : ولو كان ذلك في قضاء دين فسأله أن يقضيه عنه فقال نعم ، وثم رجال يشهدون عليه فما أحراه أن يلزمه إذا شهد عليه اثنان. وقال أبو حنيفة وأصحابه والأوزاعي والشافعي وسائر الفقهاء : إن العدة لا يلزم منها شيء لأنها منافع لم يقبضها في العارية لأنها طارئة ، وفي غير العارية هي أشخاص وأعيان موهوبة لم تقبض فلصاحبها الرجوع فيها. وفي البخاري : {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} ؛ وقضى ابن أشوع بالوعد وذكر ذلك عن سمرة بن جندب. قال البخاري : ورأيت إسحاق بن إبراهيم يحتج بحديث ابن أشوع.
الخامسة : {وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً} قيل : أرسل إسماعيل إلى جرهم. وكل الأنبياء كانوا إذا وعدوا صدقوا ، وخص إسماعيل بالذكر تشريفا له. والله أعلم.
السادسة : قوله تعالى : {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ} قال الحسن : يعني أمته. وفي حرف ابن مسعود {وكان يأمر أهله جرهم وولده بالصلاة والزكاة} . {وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً} أي رضيا زاكيا صالحا. قال الكسائي والفراء : من قال مرضي بناه على رضيت قالا : وأهل الحجاز يقولون : مرضو. وقال الكسائي والفراء : من العرب من يقول رضوان ورضيان فرضوان على مرضو ، ورضيان على مرضي ولا يجيز البصريون أن يقولوا إلا رضوان وربوان. قال أبو جعفر النحاس : سمعت أبا إسحاق الزجاج يقول : يخطئون في الخط فيكتبون ربا بالياء ثم يخطئون فيما هو أشد من هذا فيقولون ربيان ولا يجوز إلا ربوان ورضوان قال الله تعالى : {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ} .
الآيتان : 56 - 57 {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً ، وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً}
قوله تعالى : {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَبِيّاً} إدريس عليه السلام أول من خط بالقلم وأول من خاط الثياب ولبس المخيط ، وأول من نظر في علم النجوم والحساب وسيرها. وسمي إدريس لكثرة درسه لكتاب الله تعالى. وأنزل الله تعالى عليه ثلاثين صحيفة كما في حديث أبي ذر. الزمخشري : وقيل سمي إدريس إدريس لكثرة درسه كتاب الله تعالى ؛ وكان اسمه أخنوخ وهو غير صحيح ؛ لأنه لو كان إفعيلا من الدرس لم يكن فيه إلا سبب واحد وهو العلمية وكان منصرفا ، فامتناعه من الصرف دليل لعجمة ؛ وكذلك إبليس أعجمي وليس من الإبلاس كما يزعمون ؛ ولا يعقوب من العقب ، ولا إسرائيل بإسرال كما زعم ابن السكيت ؛ ومن لم يحقق ولم يتدرب بالصناعة كثرت منه أمثال هذه الهنات ؛ يجوز أن يكون معنى إدريس عليه السلام في تلك اللغة قريبا من ذلك فحسبه الراوي من الدرس. قال الثعلبي والغزنوي وغيرهما : وهو جد نوح وهو خطأ ؛ وقد تقدم في "الأعراف : بيانه وكذا وقع في السيرة أن نوحا عليه السلام بن لامك بن متوشلخ بن أخنوخ وهو إدريس النبي فيما يزعمون ؛ والله تعالى أعلم. وكان أول من أعطى النبوة من بن آدم ، وخط بالقلم. ابن يرد بن مهلائيل بن قينان بن يانش بن شيث بن آدم صلى الله عليه وسلم."
قوله تعالى : {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} قال أنس بن مالك وأبو سعيد الخدري وغيرهما : يعني السماء الرابعة. وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ وقال كعب الأحبار. وقال ابن عباس والضحاك : يعني السماء السادسة ؛ ذكره المهدوي.
قلت : ووقع في البخاري عن شريك بن عبد الله بن أبي نمر قال سمعت أنس بن مالك يقول : ليلة أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم من الكعبة ، الحديث وفيه : كل سماء فيها أنبياء - قد سماهم - منهم إدريس في الثانية. وهو وهم ، والصحيح أنه في السماء
الرابعة ؛ كذلك رواه ثابت البناني عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ ذكره مسلم في الصحيح. وروى مالك بن صعصعة قال قال النبي صلى الله عليه وسلم : "لما عرج بي إلى السماء أتيت على إدريس في السماء الرابعة" . خرجه مسلم أيضا. وكان سبب رفعه على ما قال ابن عباس وكعب وغيرهما : أنه سار ذات يوم في حاجة فأصابه وهج الشمس ، فقال : "يا رب أنا مشيت يوما فكيف بمن يحملها خمسمائة عام في يوم واحد! اللهم خفف عنه من ثقلها. يعني الملك الموكل بفلك الشمس" ؛ يقول إدريس : اللهم خفف عنه من ثقلها واحمل عنه من حرها. فلما أصبح الملك وجد من خفة الشمس والظل مالا يعرف فقال : يا رب خلقتني لحمل الشمس فما الذي فيه ؟ فقال الله تعالى : أما إن عبد ي إدريس سألني أن أخفف عنك حملها وحرها فأجبته "فقال : يا رب اجمع بيني وبينه ، واجعل بيني وبينه خلة. فأذن الله له حتى أتى إدريس ، وكان إدريس عليه السلام يسأله. فقال أخبرت أنك أكرم الملائكة وأمكنهم عند ملك الموت ، فاشفع لي إليه ليؤخر أجلي ، فأزداد شكرا وعبادة. فقال الملك : لا يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها فقال للملك : قد علمت ذلك ولكنه أطيب لنفسي. قال نعم. ثم حمله على جناحه فرفعه إلى السماء ووضعه عند مطلع الشمس ، ثم قال لملك الموت : لي صديق من بني آدم تشفع بي إليك لتؤخر أجله. فقال : ليس ذلك إلي ولكن إن أحببت علمه أعلمته متى يموت. قال" : "نعم" ثم نظر في ديوانه ، فقال : إنك تسألني عن إنسان ما أراه يموت أبدا. قال "وكيف" ؟ قال : لا أجده يموت إلا عند مطلع الشمس. قال : فإني أتيتك وتركته هناك ؛ قال : انطلق فما أراك تجده إلا وقد مات فوالله ما بقي من أجل إدريس شيء. فرجع الملك فوجده ميتا. وقال السدي : إنه نام ذات يوم ، واشتد عليه حر الشمس ، فقام وهو منها في كرب ؛ فقال : اللهم خفف عن ملك الشمس حرها ، وأعنه على ثقلها ، فإنه يمارس نارا حامية. فأصبح ملك الشمس وقد نصب له كرسي من نور عنده سبعون ألف ملك عن يمينه ، ومثلها عن يساره يخدمونه ، ويتولون أمره وعمله من تحت حكمه ؛ فقال ملك الشمس : يا رب من أين لي هذا ؟ . قال "دعا لك رجل من بني آدم يقال له إدريس" ثم ذكر نحو حديث كعب قال فقال له ملك الشمس : أتريد حاجة ؟ قال : نعم وددت أني لو رأيت الجنة.
قال : فرفعه على جناحه ، ثم طار به ، فبينما هو في السماء الرابعة التقى بملك الموت ينظر في السماء ، ينظر يمينا وشمالا ، فسلم عليه ملك الشمس ، وقال : يا إدريس هذا ملك الموت فسلم عليه فقال ملك الموت : سبحان الله ! ولأي معنى رفعته هنا ؟ قال : رفعته لأريه الجنة. قال : فإن الله تعالى أمرني أن أقبض روح إدريس في السماء الرابعة. قلت : يا رب وأين إدريس من السماء الرابعة ، فنزلت فإذا هو معك ؛ فقبض روحه فرفعها إلى الجنة ، ودفنت الملائكة جثته في السماء الرابعة ، فذلك قوله تعالى : {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} .
قال وهب بن منبه : كان يرفع لإدريس كل يوم من العبادة مثل ما يرفع لأهل الأرض في زمانه ، فعجب منه الملائكة واشتاق إليه ملك الموت ، فاستأذن ربه في زيارته فأذن له ، فأتاه في صورة آدمي ، وكان إدريس عليه السلام يصوم النهار ؛ فلما كان وقت إفطاره دعاه إلى طعامه فأبى أن يأكل. ففعل به ذلك ثلاث ليال فأنكره إدريس ؛ وقال له : من أنت! قال أنا ملك الموت ؛ استأذنت ربي أن أصحبك فأذن لي ؛ فقال : إن لي إليك حاجة. قال : وما هي ؟ قال : أن تقبض روحي. فأوحى الله تعالى إليه أن اقبض روحه ؛ فقبضه ورده إليه بعد ساعة ، وقال له ملك الموت : ما الفائدة في قبض روحك ؟ قال : لأذوق كرب الموت فأكون له أشد استعدادا. ثم قال له إدريس بعد ساعة : إن لي إليك حاجة أخرى. قال : وما هي ؟ قال أن ترفعني إلى السماء فأنظر إلى الجنة والنار ؛ فأذن الله تعالى له في رفعه إلى السموات ، فرأى النار فصعق ، فلما أفاق قال أرني الجنة ؛ فأدخله الجنة ، ثم قال له ملك الموت : أخرج لتعود إلى مقرك. فتعلق بشجرة وقال : لا أخرج منها. فبعث الله تعالى بينهما ملكا حكما ، فقال مالك لا تخرج ؟ قال : لأن الله تعالى قال {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران : 185] وأنا ذقته ، وقال : {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم : 71] وقد وردتها ؛ وقال : {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الحجر : 48] فكيف أخرج ؟ قال الله تبارك وتعالى لملك الموت : "بإذني دخل الجنة وبأمري يخرج" فهو حي هنالك فذلك قوله {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} قال النحاس : قول إدريس {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} يجوز أن يكون الله أعلم هذا إدريس ، ثم نزل القرآن به. قال وهب بن منبه : فإدريس تارة يرتع في الجنة ، وتارة بعبد الله تعالى مع الملائكة في السماء.
الآية : 58 {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرائيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً}
فيه أربع مسائل : -
الأولى : قوله تعالى : {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ} يريد إدريس وحده. {وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} يريد إبراهيم وحده {وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ} يريد إسماعيل وإسحاق ويعقوب. {وَ} من ذرية {إِسْرائيلَ} موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى. فكان لإدريس ونوح شرف القرب من آدم ، ولإبراهيم شرف القرب من نوج ولإسماعيل وإسحاق ويعقوب شرف القرب من إبراهيم. {وَمِمَّنْ هَدَيْنَا} أي إلى الإسلام : {وَاجْتَبَيْنَا} بالإيمان. {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ} وقرأ شبل بن عباد المكي {يتلى} بالتذكير لأن التأنيث غير حقيقي مع وجود الفاصل. {خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً}
وصفهم بالخشوع لله والبكاء. وقد مضى في {سُبْحَانَ} [الإسراء : 1] . يقال بكى يبكي بكاء وبكى بكيا ، إلا أن الخليل قال : إذا قصرت البكاء فهو مثل الحزن ؛ أي ليس معه صوت كما قال الشاعر :
بكت عيني وحق لها بكاها
وما يغني البكاء ولا العويل
و {سُجَّداً} نصب على الحال {وَبُكِيّاً} عطف عليه.
الثانية : في هذه الآية دلالة على أن لآيات الرحمن تأثيرا في القلوب. قال الحسن {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً} الصلاة. وقال الأصم : المراد بآيات الرحمن الكتب المتضمنة لتوحيده وحججه ، وأنهم كانوا يسجدون عند تلاوتها ، ويبكون عند ذكرها. والمروى عن ابن عباس أن المراد به القرآن خاصة ، وأنهم كانوا يسجدون ويبكون
عند تلاوته ؛ قال الكيا : وفي هذا دلالة من قوله على أن القرآن هو الذي كان يتلى على جميع الأنبياء ، ولو كان كذلك لما كان الرسول عليه الصلاة والسلام مختصا بإنزاله إليه.
الثالثة : احتج أبو بكر الرازي بهذه الآية على وجوب سجود القرآن على المستمع والقارئ. قال الكيا : وهذا بعيد فإن هذا الوصف شامل لكل آيات الله تعالى. وضم السجود إلى البكاء ، وأبان به عن طريقة الأنبياء الصلاة والسلام في تعظيمهم لله تعالى وآياته ، وليس فيه دلالة على وجوب ذلك عند آية مخصوصة.
الرابعة : قال العلماء : ينبغي لمن قرأ سجدة أن يدعو فيها بما يليق بآياتها ، فإن قرأ سورة السجدة {الم تَنْزِيلُ} قال : اللهم اجعلني من الساجدين لوجهك ، المسبحين بحمدك ، وأعوذ بك أن أكون من المستكبرين عن أمرك. وإن قرأ سجدة "سبحان" قال : اللهم اجعلني من الباكين إليك ، الخاشعين لك. وإن قرأ هذه قال : اللهم اجعلني من عبادك المنعم عليهم ، المهديين الساجدين لك ، الباكين عند تلاوة آياتك.
الآيات : 59 - 63 {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً ، إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً ، جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً ، لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلَّا سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً ، تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيّاً}
فيه أربع مسائل : -
الأولى : قوله تعالى : {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} أي أولاد سوء. قال أبو عبيدة : حدثنا حجاج عن ابن جريج عن مجاهد قال : ذلك عند قيام الساعة ، وذهاب صالحي هذه الأمة
أمة محمد صلى الله عليه وسلم ينزو بعضهم على بعض في الأزقة زنى. وقد تقدم القول في {خَلْفٌ} في "الأعراف" فلا معنى للإعادة. {أَضَاعُوا الصَّلاةَ} وقرأ عبد الله والحسن {أَضَاعُوا الصَّلَوَاتِ} على الجمع. وهو ذم ونص في أن إضاعة الصلاة من الكبائر التي يوبق بها صاحبها ولا خلاف في ذلك ، وقد قال عمر : ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع. واختلفوا فيمن المراد بهذه الآية ؛ فقال مجاهد : النصارى خلفوا بعد اليهود. وقال محمد بن كعب القرظي ومجاهد أيضا وعطاء : هم قوم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في آخر الزمان ؛ أي يكون في هذه الأمة من هذه صفته لا أنهم المراد بهذه الآية. واختلفوا أيضا في معنى إضاعتها ؛ فقال القرظي : هي إضاعة كفر وجحد بها. وقال القاسم بن مخيمرة ، وعبد الله بن مسعود : هي إضاعة أوقاتها ، وعدم القيام بحقوقها وهو الصحيح ، وأنها إذا صليت مخلى بها لا تصح ولا تجزئ ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم للرجل الذي صلى وجاء فسلم عليه "ارجع فصل فإنك لم تصل" ثلاث مرات خرجه مسلم ، وقال حذيفة لرجل يصلي فطفف : منذ كم تصلي هذه الصلاة ؟ قال منذ أربعين عاما. قال : ما صليت ، ولومت وأنت تصلي هذه الصلاة لمت على غير فطرة محمد صلى الله عليه وسلم. ثم قال : إن الرجل ليخفف الصلاة ويتم ويحسن. خرجه البخاري واللفظ للنسائي ، وفي الترمذي عن أبي مسعود الأنصاري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا تجزئ صلاة لا يقيم فيها الرجل" يعني صلبه في الركوع والسجود ؛ قال : حديث حسن صحيح ؛ والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم ؛ يرون أن يقيم الرجل صلبه في الركوع والسجود ؛ قال الشافعي وأحمد وإسحاق : من لم يقم صلبه في الركوع والسجود فصلاته فاسدة ؛ قال صلى الله عليه وسلم "تلك الصلاة صلاة المنافق يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان قام فنقرها أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا" . وهذا ذم لمن يفعل ذلك. وقال فروة بن خالد بن سنان : استبطأ
أصحاب الضحاك مرة أميرا في صلاة العصر حتى كادت الشمس تغرب ؛ فقرأ الضحاك هذه الآية ، ثم قال : والله لأن أدعها أحب إلي من أن أضيعها. وجملة القول هذا الباب أن من لم يحافظ على كمال وضوئها وركوعها وسجودها فليس بمحافظ عليها ، ومن لم يحافظ عليها فقد ضيعها ، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع ، كما أن من حافظ عليها حفظ الله عليه دينه ، ولا دين لمن لا صلاة له. وقال الحسن : عطلوا المساجد ، واشتغلوا بالصنائع والأسباب. {وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} أي اللذات والمعاصي.
الثالثة : روى الترمذي وأبو داود عن أنس بن حكيم الضبي أنه أتى المدينة فلقي أبا هريرة فقال له : يا فتى ألا أحدثك حديثا لعل الله تعالى أن ينفعك به ؛ قلت : بلى. قال : "إن أول ما يحاسب به الناس يوم القيامة من أعمالهم الصلاة فيقول الله تبارك وتعالى لملائكته وهو أعلم انظروا في صلاة عبد ي أتمها أو نقصها فإن كانت تامة كتبت له تامة وإن كان انتقص منها شيئا قال انظروا هل لعبد ي من تطوع فإن كان تطوع قال أكملوا لعبد ي فريضته من تطوعه ومن تؤخذ الأعمال على ذلك" . قال يونس : وأحسبه عن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لفظ أبي داود. وقال : حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا حماد حدثنا داود بن أبي هند عن زوارة بن أوفى عن تميم الداري عن النبي صلى الله عليه وسلم بهذا المعنى. قال : "ثم الزكاة مثل ذلك" "ثم تؤخذ الأعمال على حسب ذلك" . وأخرجه النسائي عن همام عن الحسن عن حريث بن قبيصة عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة بصلاته فإن صلحت فقد أفلح وأنجح وإن فسدت فقد خاب وخسر - قال همام : لا أدري هذا من كلام قتادة أومن الرواية فإن انتقص من فريضته شيء قال انظروا هل لعبد ي من تطوع فيكمل به نقص من الفريضة ثم يكون سائر عمله على نحو ذلك" خالفه أبو العوام فرواه عن قتادة عن الحسن عن أبي رافع عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إن أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة صلاته فإن وجدت تامة كتبت تامة وإن كان انتقص منها شيء قال انظروا هل تجدون له من"




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 40.08 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 39.45 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.57%)]