عرض مشاركة واحدة
  #465  
قديم 06-07-2025, 04:25 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,137
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (11)
سُورَةُ مريم
من صــ 134 الى صــ 143
الحلقة (465)



{ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ} ثم لننزعن من كل فرقة الأعتى فالأعتى. كأنه يبتدأ بالتعذيب بأشدهم عتيا ثم الذي يليه وهذا نص كلام أبي إسحاق في معنى الآية. وقال يونس : {لَنَنْزِعَنَّ} بمنزلة الأفعال التي تلغى ورفع {أَيُّهم} على الابتداء المهدوي والفعل هو {لننزعن} عند يونس معلق قال أبو علي : معنى ذلك أنه يعمل في موضع {أَيُّهُمْ أَشَدُّ} لا أنه ملغى. ولا يلعق عند الخليل وسيبويه مثل {لننزعن} إنما يعلق بأفعال الشك وشبهها ما لم يتحقق وقوعه وقال سيبويه : {أَيُّهُمْ} مبني على الضم لأنها خالفت أخواتها في الحذف ؛ لأنك لو قلت : رأيت الذي أفضل ومن أفضل كان قبيحا ، حتى تقول من هو أفضل ، والحذف في {أيهم} جائز. قال أبو جعفر : وما علمت أحدا من النحويين إلا وقد خطأ سيبويه في هذا وسمعت أبا إسحاق يقول : ما يبين لي أن سيبويه غلط في كتابه إلا في موضعين هذا أحدهما ؛ قال وقد علمنا أن سيبويه أعرب أيا وهى مفردة لأنها تضاف ، فكيف يبنيها وهي مضافة ؟ ! ولم يذكر أبو إسحاق فيما علمت إلا هذه الثلاثة الأقوال أبو علي إنما وجب البناء على مذهب سيبويه لأنه حذف منه ما يتعرف به وهو الضمير مع افتقار إليه كما حذف في {مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} ما يتعرفان به مع افتقار المضاف إلى المضاف إليه لأن الصلة تبين الموصول وتوضحه كما أن المضاف إليه يبين المضاف ويخصصه قال أبو جعفر وفيه أربعة أقوال سوى هذه الثلاثة التي ذكرها أبو إسحاق قال الكسائي {لَنَنْزِعَنّ} واقعة على المعنى كما تقول لبست من الثياب وأكلت من الطعام ، ولم يقع {لَنَنْزِعَنَّ} على {أَيُّهُمْ} فينصبها. زاد المهدوي : وإنما الفعل عنده واقع على موضع {مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ} وقوله : {أَيُّهُمْ أَشَدُّ} جملة مستأنفة مرتفعة بالابتداء ولا يرى سيبويه زيادة {مِنْ} في الواجب وقال الفراء المعنى ثم لننزعن بالنداء ومعنى {لَنَنْزِعَنّ} لننادين المهدى ونادى فمل يعلق إذا كان بعده جملة كظننت فتعمل في المعنى ولا تعمل في اللفظ قال أبو جعفر وحكى أبو بكر بن شقير أن بعض الكوفيين يقول في {أيهم} معنى الشرط والمجازاة فلذلك لم يعمل فيها ما قبلها والمعنى ثم لننزعن من كل فرقة إن تشايعوا أو لم يتشايعوا كما تقول ضربت القوم أيهم غضب والمعنى إن غضبوا أو لم يغضبوا قال أبو جعفر فهذه ستة
أقوال وسمعت علي بن سليمان يحكي عن محمد بن يزيد قال {أَيُّهُمْ} متعلق بـ {شيعة} فهو مرفوع بالابتداء والمعنى ثم لننزعن من الذين تشايعوا أيهم أي من الذين تعاونوا فنظروا أيهم أشد على الرحمن عتيا وهذا قول حسن وقد حكى الكسائي أن التشايع التعاون و {عِتِيّاً} نصب على البيان
قوله تعالى : {ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيّاً} أي أحق بدخول النار يقال صلى يصلى صليا ونحو مضى الشيء يمضي مضيا إذا ذهب وهوى يهوي هويا وقال الجوهري ويقال صليت الرجل نارا إذا أدخلته النار وجح لحته يصلاها فإن ألقيته فيها إلقاء كأنك تريد الإحراق قلت : أصليته بالألف وصليته تصلية وقرئ {وَيُصَلَّّى سَعِيراً} ومن خفف فهو من قولهم : صلي فلان بالنار "بالكسر" يصلى صليا أحترق قال الله تعالى {هُمْ أَوْلَى بِهَا صُلِيّاً} قال العجاج :
والله لولا النار أن نصلاها
ويقال أيضا صلي بالأمر إذا قاسى حره وشدته قال الطهوي :
ولا تبلى بسالتهم وإن هم
صلوا بالحرب حينا بعد حين
واصطليت بالنار وتصليت بها قال أبو ربيد :
وقد تصليت حر حربهم
كما تصلى المقرور من قرس
وفلان لا يصطلى بناره إذا كان شجاعا لا يطاق.
الآيتان : 71 - 72 {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً}
فيه خمس مسائل : -
الأولى : قوله تعالى {وَإِنْ مِنْكُمْ} هذا قسم والواو ينضمنه ويفسره حديث النبي صلى الله عليه وسلم "لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد فتمسه النار إلا تحلة"
القسم "قال الزهري : كأنه يريد هذه الآية {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} ذكره داود الطيالسي فقوله" إلا تحلة القسم "يخرج في التفسير المسند لأن القسم المذكور هذا الحديث معناه عند أهل العلم قوله تعالى {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} وقد قيل إن المراد بالقسم قوله تعالى {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً} إلى قوله {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ ، وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ} والأول أشهر ؛ والمعنى متقارب"
الثانية : واختلف الناس في الورود فقيل الورد الدخول روي عن جابر بن عبد الله قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "الورود الدخول لا يبقى بر ولا فاجر إلا دخلها فتكون على المؤمنين بردا وسلاما كما كانت على إبراهيم . {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً} أسنده أبو عمر في كتاب "التمهيد" وهو قول ابن عباس وخالد بن معدان وابن جريج وغيرهم وروي عن يونس أنه كان يقرأ {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} الورود الدخول على التفسير للورود فغلط فيه بعض الرواة فألحقه بالقرآن وفي الدرامي عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" يرد الناس النار ثم يصدرون منها بأعمالهم فمنهم كلمح البصر ثم كالريح ثم كحضر الفرس ثم كالراكب المجد في رحله ثم كشد الرجل في مشيته "وروي عن ابن عباس أنه قال في هذه المسألة لنافع بن الأزرق الخارجي "أما أنا وأنت فلا بد أن نردها أما أنا فينجيني الله منها وأما أنت فما أظنه ينجيك لتكذيبك" وقد أشفق كثير من العلماء من تحقق الورود والجهل بالصدر وقد بيناه في "التذكرة" وقالت فرقة الورود الممر على الصراط وروي عن ابن عباس وابن مسعود وكعب الأحبار والسدي ورواه السدي ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم وقاله الحسن أيضا قال "ليس الورود الدخول إنما تقول وردت البصرة ولم أدخلها قال فالورود أن يمروا على الصراط" قال أبو بكر الأنباري وقد بنى على مذهب الحسن قوم من أهل اللغة واحتجوا بقول الله تعالى : إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا"
مُبْعَدُونَ قالوا : فلا يدخل النار من ضمن الله أن يبعده منها وكان هؤلاء يقرؤون {ثَمَّ} بفتح الثاء {نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} واحتج عليهم الآخرون أهل المقالة الأولى بأن معنى قوله : {أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} عن العذاب فيها والإحراق بها قالوا فمن دخلها وهو لا يشعر بها ولا يحس منها وجعا ولا ألما فهو مبعد عنها في الحقيقة ويستدلون بقوله تعالى {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} بضم الثاء فـ {ثم} تدل على نجاء بعد الدخول.
قلت وفي صحيح مسلم "ثم يضرب الجسر على جهنم وتحل الشفاعة فيقولون اللهم سلم سلم" قيل : يا رسول الله وما الجسر ؟ قال : "دحض مزلة فيه خطاطيف وكلاليب وحسك تكون بنجد فيها شويكة يقال لها السعدان فيمر المؤمنون كطرف العين وكالبرق وكالريح وكالطير وكأجاويد الخيل والركاب فناج مسلم ومخدوش مرسل ومكدوس في نار جهنم" الحديث وبه احتج من قال إن الجواز على الصراط هو الورود الذي تضمنه هذه الآية لا الدخول فيها وقالت فرقة بل هو ورود إشراف واطلاع وقرب وذلك أنه يحضرون موضع الحساب وهو بقرب جهنم فيرونها وينظرون إليها في حالة الحساب ثم ينجي الله الذين اتقوا مما نظروا إليه ويصار بهم إلى الجنة {وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ} أي يؤمر بهم إلى النار قال الله تعالى {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ} أي أشرف عليه لا أنه دخله وقال زهير :
فلما وردن الماء زرقا جمامه ... وضعن عصي الحاضر المتخيم
وروت حفصة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا يدخل النار أحد من أهل بدر والحديبية" قالت فقلت يا رسول الله وأين قول الله تعالى {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "فَمَهْ {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً} " . أخرجه مسلم من حديث أم مبشر قالت سمعت النبي صلى الله عليه وسلم عند حفصة
الحديث ورجح الزجاج هذا القول بقوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} وقال مجاهد : ورود المؤمنين النار هو الحمى التي تصيب المؤمن في دار الدنيا ، وهي حظ المؤمن من النار فلا يردها. روى أبو هريرة أن رسول الله صلى عليه وسلم عاد مريضا من وعك به فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : "أبشر فإن الله تبارك وتعالى يقول "هي ناري أسلطها على عبد ي المؤمن لتكون حظه من النار"" أسنده أبو عمر قال : حدثنا عبد الوارث بن سفيان قال حدثنا قاسم بن أصبغ قال حدثنا محمد بن إسماعيل الصائغ قال حدثنا أبو أسامة قال حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن إسماعيل بن عبيدالله "عن أبي صالح" الأشعري عن أبي هريرة عن النبي عاد مريضا وفي كره وفي الحديث "الحمى حظ المؤمن من النار" وقالت فرقة الورود النظر إليها في القبر فينجي منها الفائز ويصلاها من قدر عليه دخولها ، ثم يخرج منها بالشفاعة أو بغيرها من رحمة الله تعالى واحتجوا بحديث ابن عمر : "إذا مات أحدكم عرض عليه مقعده بالغداة والعشي" الحديث وروى وكيع عن شعبة عن عبد الله بن السائب عن رجل عن ابن عباس أنه قال في قول الله تعالى : {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} قال : هذا خطاب للكفار. وروي عنه أنه كان يقرأ "وإن منهم" ردا على الآيات التي قبلها في الكفار : قوله {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً.ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيّاً.ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيّاً.وَإِنْ مِنْهُمْ} ]مريم : 68] وكذلك قرأ عكرمة وجماعة وعليها فلا شعب في هذه القراءة وقالت فرقة المراد بـ {مِنْكُمْ} الكفرة والمعنى قل لهم يا محمد وهذا التأويل أيضا سهل التناول والكاف في {مِنْكُمْ} راجحة إلى الهاء في {لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً} فلا ينكر رجوع الكاف إلى الهاء ؛ فقد عرف ذلك في قوله عز وجل {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً} . {إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً} [الإنسان : 21 - 22] معناه كان لهم فرجعت الكاف إلى الهاء. وقال الأكثر : المخاطب العالم كله بد من ورود الجميع وعليه نشأ
الخلاف في الورود وقد بينا أقوال العلماء فيه وظاهر الورود الدخول لقول عليه الصلاة والسلام "فتمسه النار" لأن المسيس حقيقته في اللغة المماسة إلا أنها تكون بردا وسلاما على المؤمنين وينجون منها سالمين قال خالد بن معدان : إذا دخل أهل الجنة الجنة قالوا ألم يقل ربنا إنا نرد النار ؟ فيقال لقد وردتموها فألقيتموها رمادا.
قلت : وهذا القول يجمع شتات لأقوال فإن من وودها ولم تؤذه بلهبها وحرها فقد أبعد عنها ونجي منها نجانا الله تعالى منها وكرمه وجعلنا ممن وردها فدخلها سالما وخرج منها غانما. فان قيل : فهل يدخل الأنبياء النار ؟ قلنا لانطلق هذا ولكن نقول : إن الخلق جميعا يردونها كما دل عليه حديث جابر أول الباب فالعصاة يدخلونها بجرائمهم ، والأولياء والسعداء لشفاعتهم فبين الدخولين بون وقال ابن الأنباري محتجا لمصحف عثمان وقراءة العامة جائز في اللغة أن يرجع من خطاب الغيبة إلى لفظ المواجهة بالخطاب كما قال {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً. إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً} فأبدل الكاف من الهاء. وقد تقدم هذا المعنى في "يونس".
الثالثة : الاستثناء في قوله عليه السلام "إلا تحلة القسم" يحتمل أن يكون استثناء منقطعا لكن تحلة القسم وهذا معروف في كلام العرب والمعنى ألا تمسه النار أصلا وتم الكلام هنا ثم ابتدأ "إلا تحلة القسم" أي لكن تحله القسم لابد منها في قوله تعالى {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} وهو الجواز على الصراط أو الرؤية أو الدخول دخول سلامة ، فلا يكون في ذلك شيء من مسيس لقوله عليه الصلاة والسلام "لا يموت لأحدكم ثلاثة من الولد فيحتسبهم إلا كانوا له جنة من النار" والجنة الوقاية والستر ومن وقي النار سترعنها فلن تمسه أصلا ولو مسته لما كان موقى
الرابعة : هذا الحديث يفسر الأول لأن فيه ذكر الحسبة ؛ ولذلك جعله مالك بأثره مفسرا له ويقيد هذا الحديث الثاني أيضا ماروا البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم "من مات له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث كان له حجابا من النار- أو-"
دخل الجنة "فقوله عليه السلام" لم يبلغوا الحنث "ومعناه عند أهل العلم لم يبلغوا الحلم ولم يبلغوا أن يلزمهم حنث دليل على أن أطفال المسلمين في الجنة والله أعلم لأن الرحمة إذا نزلت بآبائهم استحال أن يرحموا من أجل "من" ليس بمرحوم. وهذا إجماع من العلماء في أن أطفال المسلمين في الجنة ولم يخالف في ذلك إلا فرقة شذت من الجبرية فجعلتهم المشيئة وهو قول مهجور مردود بإجماع الحجة الذين لا تجوز مخالفتهم ، ولا يجوز على مثلهم إلى ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من أخبار الآحاد الثقات العدول ؛ وأن قوله عليه الصلاة والسلام" الشقي من شقي في بطن أمه والسعيد من سعد في بطن أمه وأن الملك ينزل فيكتب أجله وعمله ورزقه "الحديث مخصوص ، وأن من مات من أطفال المسلمين قبل الاكتساب فهو ممن سعد في بطن أمه ولم يثق بدليل الأحاديث والإجماع وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله تعالى عنها :" يا عائشة إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلا وهم في أصلاب آبائهم وخلق النار وخلق لها أهلا وهم في أصلاب آبائهم "ساقط ضعيف مردود بالإجماع والآثار وطلحة بن يحيى الذي يرويه ضعيف لا يحتج به وهذا الحديث مما انفرد به فلا يعرج عليه. وقد روى شعبة عن معاوية بن قرة بن إياس المزني عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا من الأنصار مات له ابن صغير فوجد عليه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم" أما يسرك ألا تأتى بابا من أبواب الجنة إلا وجدته يستفتح لك "فقالوا يا رسول الله أله خاصة أم للمسلمين عامة ؟ قال" بل للمسلمين عامة "قال أبو عمر هذا حديث ثابت صحيح يعني ما ذكرناه مع إجماع الجمهور ؛ وهو يعارض حديث يحيى ويدفعه قال أبو عمر : الوجه عندي في هذا الحديث وما أشبهه من الآثار أنها لمن حافظ على أداء فرائضه واجتنب الكبائر ، وصبر واحتسب في مصيبته ؛ فإن الخطاب لم يتوجه في ذلك العصر إلا إلى قوم الأغلب من أمرهم ما وصفنا وهم الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين وذكر النقاش عن بعضهم أنه قال : نسخ قوله تعالى {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} قوله إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا"
مُبْعَدُونَ [الأنبياء : 101] وهذا ضعيف ، وهذا ليس موضع نسخ. وقد بينا أنه إذا لم تمسه النار فقد أبعد عنها وفي الخبر : "تقول النار للمؤمن يوم القيامة جزيا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي" .
الخامسة : قوله تعالى : {كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً} الحتم إيجاب القضاء أي كان ذلك حتما. {مَقْضِيّاً} أي قضاه الله تعالى عليكم وقال ابن مسعود أي قسما واجبا {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} أي نخلصهم {وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً} وهذا مما يدل على أن الورود الدخول لأنه لم يقل وندخل الظالمين وقد مضى هذا المعنى مستوفى. والمذهب أن صاحب الكبيرة وإن دخلها فإنه يعاقب بقدر ذنبه ثم ينجو وقالت المرجئة لا يدخل. وقالت الوعيدية : يخلد وقد مضى بيان هذا في غير موضع وقرأ عاصم الجحدري ومعاوية بن قرة {ثُمَّ نُنْجِي} مخففة من أنجى وهي قراءة حميد ويعقوب والكسائي وثقل الباقون وقرأ ابن أبي ليلى {ثَمَّهْ} بفتح الثاء أي هناك و {ثَمَّ} ظرف إلا أنه مبني لأنه غير محصل فبني كما بني ذا ؛ والهاء يجوز أن تكون لبيان الحركة فتحذف في الوصل ويجوز أن تكون لتأنيث البقعة فشبت في الوصل تاء.
الآيتان : 73 - 74 {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً ، وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِئْياً}
قوله تعالى : {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} أي على الكفار الذين سبق ذكرهم في قوله تعالى {أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً} [مريم : 66] وقال فيهم {وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً} أي هؤلاء إذا قرئ عليهم القرآن تعززوا بالدنيا ، وقالوا : فما بالنا إن كنا على باطل أكثر أموالا وأعز نقرا وغرضهم إدخال الشبهة المستضعفين وإيهامهم أن من كثر ماله دل ذلك على أنه
المحق في دينه وكأنهم لم يروا فيهم فقيرا ولا في المسلمين غنيا ولم يعلموا أن الله تعالى نحى أولياءه عن الاغترار بالدنيا وفرط الميل إليها. و {بَيِّنَاتٍ} معناه مرتلات الألفاظ ملخصة المعاني ، مبينات المقاصد ؛ إما محاكمات ، أو متشابهات قد تبعها البيان بالمحكمات ، أو تبيين الرسول صلى قولا أو فعلا أو ظاهرات الإعجاز تحدى بها فلم يقدر على معارضتها. أو حججا وبراهين. والوجه أن تكون حالا مؤكدة كقوله تعالى {وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً} لأن آيات الله تعالى لا تكون إلا واضحة. {قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} يريد مشركي قريش النضر بن الحرث وأصحابه. {لِلَّذِينَ آمَنُوا} يعني فقراء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وكانت فيهم قشافة ، وفي عيشهم خشونة وفي ثيابهم رثاثة وكان المشركون يرجلون شعورهم ويدهنون رؤوسهم ويلبسون خير ثيابهم ، فقالوا للمؤمنين {أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً} قرأ ابن كثير وابن محيصن وحميد وشبل بن عباد {مُقَاماً} بضم الميم وهو موضع الإقامة. ويجوز أن يكون مصدرا بمعنى الإقامة الباقون {مَقَاماً} بالفتح ؛ أي منزلا ومسكنا. وقيل : المقام الموضع الذي يقام فيه بالأمور الجليلة ؛ أي أي الفريقين أكثر جاها وأنصارا. {وَأَحْسَنُ نَدِيّاً} أي مجلسا ؛ عن ابن عباس وعنه أيضا المنظر وهو المجلس في اللغة وهو النادي ومنه دار الندوة لأن المشركين كانوا يتشاورون فيها في أمورهم وناداه جالسه في النادي قال :
أنادي به آل الوليد وجعفرا
والندي على فعيل مجلس القوم ومتحدثهم ، وكذلك الندوة والنادي [والمنتدى] والمتندى ، فإن تفرق القوم فليس بندي قاله الجوهري.
قوله تعالى : {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ} أي من أمة وجماعة. {هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِئْياً}
أي متاعا كثيرا ؛ قال :
وفرع يزين المتن أسود فاحم ... أثيث كقنو النخلة المتعثكل
والأثاث متاع البيت. وقيل : هو ماجد الجراثي والخرثي ما لبس منها وأنشد الحسن بن علي الطوسي فقال :
تقادم العهد من أم الوليد بنا ... دهرا وصار أثاث البيت خرثي
وقال ابن عباس : هيئة مقاتل ثيابا {وَرِئْياً} أي منظرا حسنا. وفيه خمس قراءات قرأ أهل المدينة "وريا" بغير همز. وقرأ أهل الكوفة {ورِئياً} بالهمز. وحكى يعقوب أن طلحة قرأ {وَرِياً} بياء واحدة مخففة. وروى سفيان عن الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس {هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَزِيّاً} بالزاي ؛ فهذه أربع قراءات قال أبو إسحاق ويجوز {هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثَا وَريْئاً} بياء بعدها همزة. النحاس : وقراءة أهل المدينة في هذا حسنة وفيها
تقريران :
أحدهما : أن تكون من رأيت ثم خففت الهمزة فأبدل منها ياء وأدغمت الياء في الياء. وكان هذا حسنا لتتفق رؤوس الآيات لأنها غير مهموزات. وعلى هذا قال ابن عباس : "الرئي المنظر" فالمعنى : هم أحسن أثاثا ولباسا.
والوجه الثاني : أن جلودهم مرتوية من النعمة ؛ فلا يجوز الهمز على هذا. وفي رواية ورش عن نافع وابن ذكوان عن ابن عامر {ورِئياً} بالهمز تكون على الوجه الأول. وهي قراءة أهل الكوفة وأبي عمرو من رأيت على الأصل. وقراءة طلحة بن مصرف {ورِياً} بياء واحدة مخففة أحسبها غلطا. وقد زعم بعض النحويين أنه كان أصلها الهمز فقلبت الهمزة ياء ، ثم حذفت إحدى اليائين. المهدوي : ويجوز أن يكون {رِيْئاً} فقلبت ياء فصارت رييا ثم نقلت حركة الهمزة على الياء وحذفت. وقد قرأ بعضهم {وريّاً} على القلب وهي القراءة الخامسة. وحكى سيبويه راء بمعنى رأى. الجوهري : من همزه جعله من المنظر من رأيت ، وهو ما رأته العين من حال حسنة وكسوة ظاهرة وأنشد أبو عبيدة لمحمد بن نمير الثقفي فقال :
أشاقتك الظعائن يوم بانوا ... بذي الرئي الجميل من الأثاث
ومن لم يهمز إما أن يكون على تخفيف الهمزة أو يكون من رويت ألوانهم وجلودهم ريا ؛ أي امتلأت وحسنت. وأما قراءة ابن عباس وأبي بن كعب وسعيد بن جبير والأعسم المكي
ويزيد البربري {وزياً} بالزاي فهو الهيئة والحسن. ويجوز أن يكون من زويت أي جمعت ؛ فيكون أصلها زيا فقلبت الواو ياء. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : "زويت لي الأرض" أي جمعت ؛ أي فلم يغن ذلك عنهم شيئا من عذاب الله تعالى ؛ فليعش هؤلاء ما شاؤوا فمصيرهم إلى الموت والعذاب وإن عمروا ؛ أو العذاب العاجل يأخذهم الله تعالى به.
قوله تعالى : {قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ} أي في الكفر {فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدّاً} أي فليدعه في طغيان جهله وكفره فلفظه لفظ الأم ومعناه الخبر أي من كان الضلالة مده الرحمن مدا حتى يطول اغتراره فيكون ذلك اشد لعقابه نظيره {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً} [آل عمران : 178] وقوله : {وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام : 110] ومثله كثير ؛ أي فليعش ما شاء ، وليوسع لنفسه في العمر ؛ فمصيره إلى الموت والعقاب. وهذا غاية في التهديد والوعيد. وقيل : هذا دعاء أم به النبي صلى الله عليه وسلم ؛ تقول : من سرق مالي فليقطع الله تعالى يده ؛ فهو دعاء على السارق. وهو جواب الشرط وعلى هذا فليي ؟ ؟ قوله {فَلْيَمْدُدْ} خبرا. {حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ} قال {رَأَوْا} لأن لفظ {مَنْ} يصلح للواحد والجمع. و {إِذَا} مع الماضي بمعنى المستقبل ؛ أي حتى يروا ما يوعدون والعذاب هنا إما أن يكون بنصر المؤمنين عليهم فيعذبونهم بالسيف والأسر ؛ وإما أن تقوم الساعة فيصيرون إلى النار. {فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً} أي تنكشف حينئذ الحقائق وهذا رد لقولهم : {أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً} .
الآية : 76 {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ مَرَدّاً}
قوله تعالى : {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً} أي ويثبت الله المؤمنين على الهدى ويزيدهم في النصرة وينزل من الآيات ما يكون سبب زيادة اليقين مجازاة لهم وقيل يزيدهم هدى بتصديقهم بالناسخ والمنسوخ الذي كفر به غيرهم قال معناه الكلبي ومقاتل




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 44.29 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 43.66 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.42%)]