
06-07-2025, 05:02 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,122
الدولة :
|
|
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى

تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (11)
سُورَةُ طه
من صــ 234 الى صــ 243
الحلقة (475)
من القبط ، وكان جارا لموسى أمن به وخرج معه. وقيل : كان عظيما من عظماء بني إسرائيل ، من قبيلة تعرف بالسامرة وهم معروفون بالشام. قال سعيد بن جبير : كان من أهل كرمان.
قوله تعالى : {فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً} حال وقد مضى في "الأعراف". {قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً} وعدهم عز وجل الجنة إذا أقاموا على طاعته ، ووعدهم أنه يسمعهم كلامه ، في التوراة على لسان موسى ؛ ليعملوا بما فيها فيستحقوا ثواب عملهم. وقيل : وعدهم النصر والظفر. وقيل : وعده قوله : {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ} الآية. {أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ} أي أفنسيتم ؛ كما قيل ؛ والشيء قد ينسى لطول العهد. {أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ} {يَحِلَّ} أي يجب وينزل. والغضب العقوبة والنقمة. والمعنى أم أردتم أن تفعلوا فعلا يكون سبب حلول غضب الله بكم ؛ لأن أحدا لا يطلب غضب الله ، بل قد يرتكب ما يكون سببا للغضب. {فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي} لأنهم وعدوه أن يقيموا على طاعة الله عز وجل إلى أن يرجع إليهم من الطور. وقيل : وعدهم على أثره للميقات فتوقفوا. {قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا} بفتح الميم ، وهي قراءة نافع وعاصم وعيسى بن عمر. قال مجاهد والسدي : ومعناه بطاقتنا. ابن زيد : لم نملك أنفسنا أي كنا مضطرين. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر {بِمِلْكِنَا} بكسر الميم. واختاره أبو عبيد وأبو حاتم ؛ لأنها اللغة العالية. وهو مصدر ملكت الشيء أملكه ملكا. والمصدر مضاف إلى الفاعل والمفعول محذوف ؛ كأنه قال : بملكنا الصواب بل أخطأنا فهو اعتراف منهم بالخطأ. وقرأ حمزة والكسائي {بِمُلْكنَا} بضم الميم والمعنى بسلطاننا. أي لم يكن لنا ملك فنخلف موعدك. ثم قيل قوله : {قَالُوا} عام يراد به الخاص ، أي قال الذين ثبتوا على طاعة الله إلى أن يرجع إليهم من الطور : {مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا} وكانوا اثني عشر ألفا وكان جميع بني إسرائيل ستمائة ألف.
قوله تعالى : {وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا} بضم الحاء وتشديد الميم مكسورة ؛ قرأه نافع وابن كثير وابن عامر وحفص ورويس. الباقون بفتح الحرفين خفيفة. واختاره أبو عبيد وأبو حاتم ؛ لأنهم حملوا حلي القوم
معهم وما حملوه كرها. {أَوْزَاراً} أي أثقالا {مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ} أي من حليهم ؛ وكانوا استعاره حين حين أرادوا الخروج مع موسى عليه السلام ، وأوهموهم أنهم يجتمعون في عيد لهم أو وليمة. وقيل : هو ما أخذوه من آل فرعون ، لما قذفهم البحر إلى الساحل. وسميت أوزارا بسبب أنها كانت آثاما. أي لم يحل لهم أخذها ولم تحل لهم الغنائم ، وأيضا فالأوزار هي الأثقال في اللغة. {فَقَذَفْنَاهَا} أي ثقل علينا حمل ما كان معنا من الحلي فقذفناه في النار ليذوب ، أي طرحناه فيها. وقيل : طرحناه إلى السامري لترجع فترى فيها رأيك. قال قتادة : إن السامري قال لهم حين استبطأ القوم موسى : إنما احتبس عليكم من أجل ما عندكم من الحلي ؛ فجمعوه ودفعوه إلى السامري فرمى به في النار وصاغ لهم منه عجلا ، ثم ألقى عليه قبضة من أثر فرس الرسول وهو جبريل عليه السلام. وقال معمر : الفرس الذي كان عليه جبريل هو الحياة ، فلما ألقى عليه القبضة صار عجلا جسدا له خوار. والخوار صوت البقر. وقال ابن عباس : لما انسكبت الحلي في النار ، جاء السامري وقال لهارون : يا نبي الله أؤلقي ما في يدي - وهو يظن أنه كبعض ما جاء به غيره من الحلي - فقذف التراب فيه ، وقال : كن عجلا جسدا له خوار ؛ فكان كما قال للبلاء والفتنة ؛ فخار خورة واحدة لم يتبعها مثلها. وقيل : خواره وصوته كان بالريح ؛ لأنه كان عمل فيه خروقا فإذا دخلت الريح في جوفه خار ولم تكن فيه حياة. وهذا قول مجاهد. وعلى القول الأول كان عجلا من لحم ودم ، وهو قول الحسن وقتادة والسدي. وروى حماد عن سماك عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : مر هارون بالسامري وهو يصنع العجل فقال : ما هذا ؟ فقال : ينفع ولا يضر ؛ فقال : اللهم أعطه ما سألك على ما في نفسه ؛ فقال : اللهم إني أسألك أن يخور. وكان إذا خار سجدوا ، وكان الخوار من دعوة هارون. قال ابن عباس : خار كما يخور الحي من العجول. وروى أن موسى قال : يا رب هذا السامري أخرج لهم عجلا جسدا له خوار من حليهم ، فمن جعل الجسد والخوار ؟ قال الله تبارك وتعالى : أنا. قال موسى صلى الله عليه وسلم : وعزتك وجلالك وارتفاعك وعلوك وسلطانك ما أضلهم غيرك. قال : صدقت يا حكيم
الحكماء. وقد تقدم. {فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى} أي قال السامري ومن تبعه وكانوا ميالين إلى الشبيه ؛ إذا قالوا {اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} . "الأعراف 138" {فَنَسِيَ} أي فضل موسى [وذهب] بطلبه فلم يعلم مكانه ، وأخطأ الطريق إلى ربه. وقيل معناه : فتركه موسى هنا وخرج يطلبه. أي ترك موسى إلهه هنا. وروى إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس قال : أي فنسي موسى أن يذكر لكم أنه إلهه. وقيل : الخطاب خبر عن السامري. أي ترك السامري ما أمره به موسى من الإيمان فضل ؛ قاله ابن العربي. {أَفَلا يَرَوْنَ} فقال الله تعالى محتجا عليهم : {أَفَلا يَرَوْنَ} أي يعتبرون ويتفكرون في {أَنـ} ـه {لاَ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً} أي لا يكلمهم. وقيل : لا يعود إلى الخوار والصوت. {وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً} فكيف يكون إلها ؟ والذي يعبد ه موسى صلى الله عليه وسلم وينفع ويثيب ويعطي ويمنع. {أَنْ لاَ يَرْجِعُ} تقديره أنه لا يرجع فلذلك ارتفع الفعل فخففت "أن" وحذف الضمير. وهو الاختيار في الرؤية والعلم والظن. قال :
في فتية من سيوف الهند قد علموا ... أن هالك كل من يحفى وينتعل
وقد يحذف مع التشديد ؛ قال :
فلو كنت ضبيا عرفت قرابتي ... ولكن زنجي عظيم المشافر
أي ولكنك.
الآيات : 90 - 93 {وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي ، قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى ، قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا ، أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي}
قوله تعالى : {وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ} أي من قبل أن يأتي موسى ويرجع إليهم {يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ} أي ابتليتم وأضللتم به ؛ أي بالعجل. {وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ}
لا العجل. {فَاتَّبِعُونِي} في عبادته. {وَأَطِيعُوا أَمْرِي} لا أمر السامري. أو فاتبعوني في مسيري إلى موسى ودعوا العجل. فعصوه و {قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ} أي لن نزال مقيمين على عبادة العجل. {حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} فينظر هل يعبد ه كما عبد ناه ؛ فتوهموا أن موسى يعبد العجل ، فاعتزلهم هارون في اثني عشر ألفا من الذين لم يعبد وا العجل ، فلما رجع موسى وسمع الصياح والجلبة وكانوا يرقصون حول العجل قال لسبعين معه هذا صوت الفتنة ؛ فلما رأى هارون أخذ شعر رأسه بيمينه ولحيته بشماله غضبا و {قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا} أي أخطؤوا الطريق وكفروا. {أَلَّا تَتَّبِعَنِ} {لا} زائدة أي أن تتبع أمري ووصيتي. وقيل : ما منعك عن اتباعي في الإنكار عليهم. وقيل : معناه هلا قاتلتهم إذ قد علمت أني لو كنت بينهم لقاتلتهم على كفرهم. وقيل : ما منعك من اللحوق بي لما فتنوا. {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} يريد أن مقامك بينهم وقد عبد وا غير الله تعالى عصيان منك لي ؛ قال ابن عباس. وقيل : معناه هلا فارقتهم فتكون مفارقتك إياهم تقريعا لهم وزجرا. ومعنى : {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} قيل : إن أمره ما حكاه الله تعالى عنه {وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف 142] ، فلما أقام معهم ولم يبالغ في منعهم والإنكار عليهم نسبه إلى عصيانه ومخالفة أمره.
مسألة : وهذا كله أصل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وتغييره ومفارقة أهله ، وأن المقيم بينهم لا سيما إذا كان راضيا حكمه كحكمهم. وقد تقدم. وسئل الإمام أبو بكر الطرطوشي رحمه الله : ما يقول سيدنا الفقيه في مذهب الصوفية ؟ وأعلم - حرس الله مدته - أنه اجتمع جماعة من رجال ، فيكثرون من ذكر الله تعالى ، وذكر محمد صلى الله عليه وسلم ، ثم إنهم يوقعون بالقضيب على شيء من الأديم ، ويقوم بعضهم يرقص ويتواجد حتى يقع مغشيا عليه ، ويحضرون شيئا يأكلونه. هل الحضور معهم جائز أم لا ؟ أفتونا مأجورين ، وهذا القول الذي يذكرونه :
يا شيخ كف عن الذنوب ... قبل التفرق والزلل
واعمل لنفسك صالحا ... ما دام ينفعك العمل
أما الشباب فقد مضى ... ومشيب رأسك قد نزل
وفي مثل هذا نحوه. الجواب - يرحمك الله - مذهب الصوفية بطالة وجهالة وضلالة ، وما الإسلام إلا كتاب الله وسنة رسول ، وأما الرقص والتواجد فأول من أحدثه أصحاب السامري ، لما اتخذ لهم عجلا جسدا له خوار قاموا يرقصون حواليه ويتواجدون ؛ فهو دين الكفار وعباد العجل ؛ وأما القضيب فأول من اتخذه الزنادقة ليشغلوا به المسلمين عن كتاب الله تعالى ؛ وإنما كان يجلس النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه كأنما على رؤوسهم الطير من الوقار ؛ فينبغي للسلطان ونوابه أن يمنعهم عن الحضور في المساجد وغيرها ؛ ولا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يحضر معهم ، ولا يعينهم على باطلهم ؛ هذا مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم من أئمة المسلمين وبالله التوفيق.
الآيات : 94 - 96 {قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي ، قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ ، قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي}
الآية : ]97 [ {قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً}
الآية : ] 98[ {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً}
قوله تعالى : {قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي} ابن عباس : أخذ شعره بيمينه ولحيته بيساره ؛ لأن الغيرة في الله ملكته ؛ أي لا تفعل هذا فيتوهموا أنه منك استخفاف
أو عقوبة. وقد وقيل : إن موسى عليه السلام إنما فعل هذا على غيرا ولا عقوبة كما يأخذ الإنسان بلحية نفسه. وقد مضى هذا في "الأعراف" مستوفى. {إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائيلَ} أي خشيت أن أخرج وأتركهم وقد أمرتني أن أخرج معهم فلو خرجت لا تبعني قوم ويتخلف مع العجل قوم ؛ وربما أدى الأمر إلى سفك الدماء ؛ وخشيت إن زجرتهم أن يقع قتال فتلومني على ذلك. وهذا جواب هارون لموسى السلام عن قوله {أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} وفي الأعراف {إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ} [الأعراف : 150] لأنك أمرتني أن أكون معهم. وقد تقدم. ومعنى {وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} لم تعمل بوصيتي في حفظه ؛ قاله مقاتل. وقال أبو عبيدة : لم تنظر عهدي وقدومي. فتركه موسى ثم أقبل على السامري فـ {قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ} أي ، ما أمرك وشأنك ، وما الذي حملك على ما صنعت ؟ قال قتادة : كان السامري عظيما في بني إسرائيل من قبيلة يقال لها سامرة ولكن عدو الله نافق بعد ما قطع البحر مع موسى ، فلما مرت بنو إسرائيل بالعمالقة وهم يعكفون على أصنام لهم {قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف : 138] فاغتنمها السامري وعلم أنهم يميلون إلى عبادة العجل فاتخذ العجل. فـ {قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ} {قَالَ} السامري مجيبا لموسى {قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ} بعني : رأيت ما لم يروا ؛ رأيت جبريل عليه السلام على فرس الحياة ، فألقى في نفسي أن أقبض من أثره قبضة ، فما ألقيته على شيء إلا صار له روح ولحم ؛ ودم فلما سألوك أن تجحل لهم إلها زينت لي نفسي ذلك. وقال علي رضي الله عنه : لما نزل جبريل ليصعد بموسى عليه السلام ، إلى السماء ، وأبصره السامري من بين الناس فقبض قبضة من أثر الفرس. وقيل قال السامري رأيت جبريل على الفرس وهى تلقي خطوها مد البصر فألقي في نفسي أن أقبض من أثرها فما ألقيته على شيء إلا صار له روح ودم. وقيل : رأى جبريل يوم نزل على رمكة وديق ، فتقدم خيل فرعون في ورود البحر. ويقال : إن أم السامري جعلته حين وضعته في غار خوفا
من أن يقتله فرعون ؛ فجاءه جبريل عليه السلام ، فجعل كف السامري في فم السامري ، فرضع العسل واللبن فاختلف إليه فعرفه من حينئذ. وقد تقدم هذا المعنى في "الأعراف". ويقال : إن السامري سمع كلام موسى عليه السلام ، حيث عمل تمثالين من شمع أحدهما ثور والآخر فرس فألقاهما في النيل طلب قبر يوسف عليه السلام وكان في تابوت من حجر في النيل فأتى به الثور على قرنه ، فتكلم السامري بذلك الكلام الذي سمعه من موسى ، وألقى القبضة في جوف العجل فخار. وقرأ حمزة والكسائي والأعمش وخلف {بمَا لمَ ْتَبْصُرُوا} بالتاء على الخطاب. الباقون بالياء على الخبر. وقرأ أبي بن كعب وابن مسعود والحسن وقتادة {فَقَبَصْتُ قَبصَةً} بصاد غير معجمة. وروي عن الحسن ضم القاف من "قبصة" والصاد غير معجمة. الباقون : { قَبَضْتُ قَبْضَةً} بالضاد المعجمة. والفرق بينهما أن القبض بجميع الكف ، والقبص بأطراف الأصابع ، ونحوهما الخضم والقضم ، والقبضة بضم القاف القدر المقبوض ؛ ذكره المهدوي. ولم يذكر الجوهري {قُبْصة} بضم القاف والصاد غير معجمة ، وإنما ذكر {القُبْضة} بضم القاف والضاد المعجمة وهو ما قبضت عليه من شيء ؛ يقال : أعطاه قبضة من سويق أو تمر أي كفا منه ، وربما جاء بالفتح. قال : والقبض بكسر القاف والصاد غير المعجمة العدد الكثير من الناس ؛ قال الكميت :
لكم مسجدا الله المزوران والحصى ... لكم قبصه من بين أثرى وأقترى
{فَنَبَذْتُهَا} أي طرحتها في العجل. {وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي} أي زينته ؛ قاله الأخفش. وقال ابن زيد : حدثتني نفسي. والمعنى متقارب.
قوله تعالى : {قَالَ فَاذْهَبْ} أي قال له موسى فاذهب أي من بيننا {فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ} أي لا أمس ولا أمس طول الحياة. فنفاه موسى عن قومه وأمر بني إسرائيل ألا يخالطوه ولا يقربوه ولا يكلموه عقوبة له. قال الشاعر :
تميم كرهط السامري وقوله ... ألا لا يريد السامري مساسا
قال الحسن جعل الله عقوبة السامري ألا يماس الناس ولا يماسوه عقوبة له ولمن كان منه إلى يوم القيامة ؛ وكأن الله عز وجل شدد عليه المحنة ، بأن جعله لا يماس أحدا ولا يمكن من أن يمسه أحد ، وجعل ذلك عقوبة له في الدنيا. ويقال : ابتلى بالوسواس وأصل الوسواس من ذلك الوقت. وقال قتادة : بقاياهم إلى اليوم يقولون ذلك - لا مساس - وإن مس واحد من غيرهم أحدا منهم حم كلاهما في الوقت. ويقال : إن موسى هم بقتل السامري ، فقال الله تعالى له : لا تقتله فإنه سخي. ويقال لما قال له موسى : {فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ} خاف فهرب فجعل يهيم في البرية مع السباع والوحشي ، لا يجد أحدا من الناس يمسه حتى صار كالقائل لا مساس ؛ لبعده عن الناس وبعد الناس عنه ؛ كما قال الشاعر :
حمال رايات بها قناعسا ... حتى تقول الأزد لا مسابسا
مسألة : هذه الآية أصل في نفي أهل البدع والمعاصي وهجرانهم وألا يخالطوا ، وقد فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بكعب بن مالك والثلاثة الذين خلفوا. ومن التجأ إلى الحرم وعليه قتل لا يقتل عند بعض الفقهاء ، ولكن لا يعامل ولا يبايع ولا يشارى ، وهو إرهاق إلى الخروج. ومن هذا القبيل التغريب في حد الزنى ، وقد تقدم جميع هذا كله في موضعه ، فلا معنى لإعادته. والحمد لله وحده. وقال هارون القارئ : ولغة العرب لا مساس بكسر السين وفتح الميم ، وقد تكلم النحويون فيه ؛ فقال سيبويه : هو مبني على الكسر كما يقال اضرب الرجل. وقال أبو إسحاق : لا مساس نفي وكسرت السين لأن الكسرة من علامة التأنيث ؛ تقول فعلت يا امرأة. قال النحاس وسمعت علي بن سليمان يقول سمعت محمد بن يزيد يقول : إذا اعتل الشيء من ثلاث جهات وجب أن يبني ، وإذا اعتل من جهتين وجب ألا ينصرف ؛ لأنه ليس بعد ترك الصرف إلا البناء ؛ فمساس ودراك اعتل من ثلاث جهات : منها أنه معدول ، ومنها أنه مؤنث ، وأنه معرفة ؛ فلما وجب البناء فيه وكانت الألف قبل السين ساكنة كسرت السين لالتقاء الساكنين ؛ كما تقول اضرب الرجل. ورأيت أبا إسحاق
يذهب إلى أن هذا القول خطأ ، وألزم أبا العباس إذا سمى امرأة بفرعون يبنيه ، وهذا لا يقول أحد. وقال الجوهري في الصحاح : وأما قول العرب لا مساس مثال قطام فإنما بني على الكسر لأنه معدول عن المصدر وهو المس. وقرأ أبو حيوة {لا مَساسِ} . {وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ} يعني يوم القيامة. والموعد مصدر ؛ أي إن لك وعدا لعذابك. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو {تُخْلِفَهُ} بكسر اللام وله
معنيان :
أحدهما : ستأتيه ولن تجده مخلفا ؛ كما تقول : أحمدته أي وجدته محمودا.
والثاني : على التهديد أي لا بد لك من أن تصير إليه. والباقون بفتح اللام ؛ بمعنى : إن الله لن يخلفك إياه.
قوله تعالى : {وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً} أي دمت وأقمت عليه. {عَاكِفاً} أي ملازما ؛ وأصله ظللت ؛ قال :
خلا أن العتاق من المطايا ... أحسن به فهن أليه شوس
أي أحسن. وكذلك قرأ الأعمش بلامين على الأصل. وفي قراءة ابن مسعود {ظَلْتَ} بكسر الظاء. يقال : ظللت أفعل كذا إذا فعلته نهارا وظلت وظلت ؛ فمن قال : ظلت حذف اللام الأولى تخفيفا ؛ ومن قال : ظلت ألقى حركة اللام على الظاء. {لَنُحَرِّقَنَّهُ} قراءة العامة بضم النون وشد الراء من حرق يحرق. وقرأ الحسن وغيره بضم النون وسكون الحاء وتخفيف الراء من أحرقه يحرقه. وقرأ علي وابن عباس وأبو جعفر وابن محيصن وأشهب العقيلي {لَنَحْرُقَنَّهُ} بفتح النون وضم الراء خفيفة ، من حرقت الشيء أحرقه حرقا بردته وحككت بعضه ببعض ، ومنه قولهم : حرق نابه يحرقه ويحرقه أي سحقه حتى سمع له صريف ؛ فمعنى هذه القراءة لنبردنه بالمبارد ، ويقال للمبرد المحرق. والقراءتان الأوليان معناهما الحرق بالنار. وقد يمكن جمع ذلك فيه ؛ قال السدي : ذبح العجل فسال منه كما يسيل من العجل إذا ذبح ، ثم برد عظامه بالمبر حرقه وفي حرقه ابن مسعود "لنذبحنه ثم لنحرقنه" واللحم والدم إذا أحرقا
صارا رمادا تذريته في اليم فأما الذهب فلا يصير رمادا وقيل عرف موسى ما صير به الذهب رمادا ، وكان ذلك من آياته. ومعنى {لَنَنْسِفَنَّهُ} لنطيرنه. وقر أبو رجاء {لَنَنْسُفَنَّهُ} بضم السين لغتان ، والنسف نفض الشيء ليذهب به الريح وهو التذرية ، والمنسف ما ينسف به الطعام ؛ وهو شيء متصوب الصدر أعلاه مرتفع ، والنسافة ما يسقط منه ؛ يقال : اعزل النسافة وكل من الخالص. ويقال : أتانا فلان كأن لحيته منسف ؛ حكاه أبو نصر أحمد بن حاتم. والمنسفة آلة يقلع بها البناء ، ونسفت البناء نسفا قلعته ، ونسفت البعير الكلأ ينسفه بالكسر إذا اقتلعه بأصله ، وانتسفت الشيء اقتلعته ؛ عن أبي زيد. {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} لا العجل ؛ أي وسع كل شيء علمه ؛ يفعل الفعل عن العلم ؛ ونصب على التفسير. وقرأ مجاهد وقتادة {وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} .
الآيات : 99 - 101 {كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً ، مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً ، خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلاً}
الآية : ]102 [ {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً}
الآية : ] 103 [ {يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً}
الآية : ] 104 [ {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً}
قوله تعالى : {كَذَلِكَ} الكاف في موضع نصب نعت لمصدر محذوف. أي كما قصصنا عليك خبر موسى {كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ} قصصا كذلك من أخبار ما قد سبق ؛ ليكون تسلية لك ، وليدل على صدقك. {وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً} يعني القرآن. وسمي القرآن ذكرا ؛ لما فيه من الذكر كما سمي الرسول ذكرا ؛ الذكر كان ينزل عليه. وقيل : {آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً} أي شرفا ، كما قال تعالى {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ} [الزخرف : 44] أي شرف وتنويه باسمك.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|