عرض مشاركة واحدة
  #477  
قديم 06-07-2025, 06:46 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,561
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (11)
سُورَةُ طه
من صــ 254 الى صــ 263
الحلقة (477)



الأولى : قوله تعالى : {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا} أي في الجنة {وَلا تَعْرَى} . {وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا} أي لا تعطش. والظمأ العطش. {وَلا تَضْحَى} أي تبرز للشمس فتجد حرها. إذ ليس في الجنة شمس ، إنما هو ظل ممدود ، كما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس. قال أبو العالية : نهار الجنة هكذا : وأشار إلى ساعة المصلين صلاة الفجر. قال أبو زيد : ضحا الطريق يضحو ضحوا إذا بدا لك وظهر. وضحيت وضحيت "بالكسر" ضحا عرقت. وضحيت أيضا للشمس ضحاء ممدود برزت وضحيت "بالفتح" مثله ، والمستقبل أضحى في اللغتين جميعا ؛ قال عمر بن أبي ربيعة :
رأت رجلا أيما إذا الشمس عارضت ... فيضحى وأما بالعشي فيخصر
في الحديث أن ابن عمر رأى رجلا محرما قد استظل ، فقال : أضح لمن أحرمت له. هكذا يرويه المحدثون بفتح الألف وكسر الحاء من أضحيت. وقال الأصمعي : إنما هو أضح لمن أحرمت له ؛ بكسر الألف وفتح الحاء من ضحيت أضحى ؛ لأنه أمره بالبروز للشمس ؛ ومنه قوله تعالى : {وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى} وأنشد :
ضحيت له كي أستظل بظله ... إذا الظل أضحى في القيامة قالصا
وقرأ أبو عمرو والكوفيون إلا عاصما في رواية أبو بكر عنه {وَأَنَّكَ} بفتح الهمزة عطفا على {أَلَّا تَجُوعَ} . ويجوز أن يكون في موضع رفع عطفا على الموضع ، والمعنى : ولك أنك لا تظمأ فيها. الباقون بالكسر على الاستئناف ، أو على العطف على {إِنَّ لَكَ} .
الآيات : 120 - 122 {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى ، فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ، ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى}
قوله تعالى : {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ} تقدم. {قَالَ} يعني الشيطان {يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى} وهذا يدل على المشافهة ، وأنه دخل الجنة في جوف الحية على ما تقدم في "البقرة". {فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ} تقدم. وقال الفراء : {وَطَفِقَا} في العربية أقبلا ؛ قال وقيل : جعل يلصقان عليهما ورق التين.
قوله تعالى : {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} فيه ست مسائل : -
الأولى : قوله تعالى : {وَعَصَى} تقدم في "البقرة" في ذنوب الأنبياء. وقال بعض المتأخرين من علمائنا والذي ينبغي أن يقال : إن الله تعالى قد أخبر بوقوع ذنوب من بعضهم ، ونسبها إليهم ، وعاتبهم عليها ، وأخبروا بذلك عن نفوسهم وتنصلوا منها ، واستغفروا منها وتابوا ، وكل ذلك ورد في مواضع كثيرة لا يقبل التأويل جملتها ، وإن قبل ذلك آحادها ، وكل ذلك مما لا يزرى بمناصبهم ، وإنما تلك الأمور التي وقعت منهم جهة الندور ، وعلى جهة الخطأ والنسيان ، أو تأويل دعا إلى ذلك ، فهي بالنسبة إلى غيرهم حسنات ، وفي حقهم سيئات بالنسبة إلى مناصبهم ، وعلو أقدارهم ؛ إذ قد يؤاخذ الوزير بما يثاب عليه السائس ؛ فأشفقوا من ذلك في موقف القيامة ، مع علمهم بالأمن والأمان والسلامة. قال : وهذا هو الحق ولقد أحسن الجنيد حيث قال : حسنات الأبرار سيئات المقربين ؛ فهم صلوات الله وسلامه عليهم - وإن كانوا قد شهدت النصوص بوقوع ذنوب منهم ، فلم يخل ذلك بمناصبهم ، ولا قدح في رتبتهم ، بل قد تلافاهم ، واجتباهم وهداهم ، ومدحهم وزكاهم واختارهم واصطفاهم ؛ صلوات الله عليه وسلامه.
الثانية : قال القاضي أبو بكر بن العربي : لا يجوز لأحد منها اليوم أن يخبر بذلك عن آدم إلا إذا ذكرناه في أثناء قوله تعالى عنه ، أو قول نبيه ، فأما أن يبتدئ ذلك من قبل
نفسه فليس بجائز لنا في آبائنا الأدنين إلينا ، المماثلين لنا ، فكيف في أبينا الأقدم الأعظم الأكرم النبي المقدم ، الذي عذره الله سبحانه وتعالى وتاب عليه وغفر له.
قلت : وإذا كان هذا في المخلوق لا يجوز ، فالإخبار عن صفات الله عز وجل كاليد والرجل والإصبع والجنب والنزول إلى غير ذلك أولى بالمنع ، وأنه لا يجوز الابتداء بشيء من ذلك إلا في أثناء قراءة كتابه أو سنة رسوله ، ولهذا قال الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه من وصف شيئا من ذات الله عز وجل مثل قوله : {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة 64] فأشار بيده إلى عنقه قطعت يده ، وكذلك في السمع والبصر يقطع ذلك منه ؛ لأنه شبه الله تعالى بنفسه.
الثالثة : روى الأئمة واللفظ [المسلم] عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "احتج آدم وموسى فقال موسى يا آدم أنت أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة فقال آدم يا موسى أصطفاك الله عز وجل بكلامه وخط لك بيده يا موسى : أتلومني على أمر قدّره الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة فحج آدم موسى ثلاثا" قال المهلب قوله : "فحج آدم موسى" أي غلبه بالحجة. قال الليث بن سعد إنما صحت الحجة في هذه القصة لآدم على موسى عليهما السلام من أجل أن الله تعالى قد غفر لآدم خطيئته وتاب عليه ، فلم يكن لموسى أن يعيره بخطيئة قد غفرها الله تعالى له ، ولذلك قال آدم : أنت موسى الذي أتاك الله التوراة ، وفيها علم كل شيء ، فوجدت فيها أن الله قد قدر علي المعصية ، وقدر علي التوبة منها ، وأسقط بذلك اللوم عني أفتلومني أنت والله لا يلومني وبمثل هذا احتج ابن عمر على الذي قال له : إن عثمان فر يوم أحد ؛ فقال ابن عمر : ما على عثمان ذنب لأن الله تعالى قد عفا عنه بقوله : {وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ} [آل عمران 155] وقد قيل : إن آدم عليه السلام أب وليس تعييره من بره أن لو كان مما يعير به غيره ؛ فإن الله تبارك وتعالى يقول في الأبوين الكافرين : {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان 5 1] ولهذا إن إبراهيم عليه السلام لما قال ل أبوه وهو كافر : {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً. قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ } [مريم : 46] فكيف بأب هو نبي قد اجتباه ربه وتاب عليه وهدى.
الرابعة : وأما من عمل الخطايا ولم تأته المغفرة ؛ فإن العلماء مجمعون على أنه لا يجوز له أن يحتجا بمثل حجة آدم ، فيقول تلومني على أن قتلت أو زنيت أو سرقت وقد قدر الله علي ذلك ؛ والأمة مجمعة حلى جواز حمد المحسن على إحسانه ، ولوم المسيء على إساءته ، وتعديد ذنوبه عليه.
الخامسة : قوله تعالى : {فَغَوَى} أي ففسد عليه عيشه ، حكاه النقاش واختاره القشيري. وسمعت شيخنا الأستاذ المقرئ أبا جعفر القرطبي يقولك {فَغَوَى} ففسد عيشه بنزول إلى الدنيا ، والغي الفساد ؛ وهو تأويل حسن وهو أولى من تأويل من يقول : {فَغَوَى} معناه ضل ؛ من الغي الذي هو ضد الرشد. وقيل معناه جهل موضع رشده ؛ أي جهل أن تلك الشجرة هي التي نهي عنها ؛ والغي الجهل. وعن بعضهم {فَغَوَى} فبشم من كثرة الأكل ؛ الزمخشري وهذا وإن صح على لغة من يقلب الياء المكسورة ما قبلها ألفا ؛ فيقول في فني وبقي وهم بنو طي تفسير خبيث.
السادسة : قال القشيري أبو نصر قال قوم يقال : عصى آدم وغوى ولا يقال له عاص ولا غاو ، كما أن من خاط مرة يقال له : خاط ولا يقال له خياط ما لم يتكرر منه الخياطة. وقيل : يجوز للسيد أن يطلق في عبد ه عند معصيته ما لا يجوز لغيره أن يطلقه ، وهذا تكلف ؛ وما أضيف من هذا إلى الأنبياء فإما أن تكون صغائر ، أو الأولى ، أو قبل النبوة.
قلت : هذا حسن. قال الإمام أبو بكر بن فورك رحمه الله تعالى : كان هذا من آدم قبل النبوة ، {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} فذكر أن الاجتباء والهداية كانا بعد العصيان ، وإذا كان هذا قبل النبوة فجائز عليهم الذنوب وجها واحدا ؛ لأن قبل النبوة لا شرع علينا تصديقهم ، فإذا بعثهم الله تعالى إلى خلقه وكانوا مأمونين في الأداء معصومين لم يضر ما قد سلف منهم من الذنوب. وهذا نفيس والله أعلم.
الآيات : 123 - 127 قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى ، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ،
قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً ، قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ، وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى
قوله تعالى : {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً} خطاب آدم وإبليس. {مِنْهَا} أي من الجنة. وقد قال لإبليس : {قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُوماً مَدْحُوراً} [الأعراف 18] فلعله أخرج من الجنة إلى موضع من السماء ، ثم أهبط إلى الأرض. {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} أي أنت عدو للحية ولإبليس وهما عدوان لك. وهذا يدل على أن قول {اهْبِطَا} ليس خطابا لآدم وحواء ؛ لأنهما ما كانا متعاديين ؛ وتضمن هبوط آدم هبوط حواء. {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً} أي رشدا وقولا حقا. {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ} يعني الرسل والكتب. {فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} قال ابن عباس : ضمن الله تعالى لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه ألا يضل في الدنيا ، ولا يشقى في الآخرة ، وتلا الآية. من قرأ واتبع ما فيه هداه الله من الضلالة ، ووقاه يوم القيامة سوء الحساب ، ثم تلا الآية. {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي} أي ديني ، وتلاوة كتابي ، والعمل بما فيه. وقيل : عما أنزلت من الدلائل. ويحتمل أن يحمل الذكر على الرسول ؛ لأنه كان منه الذكر. {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} أي عيشا ضيقا ؛ يقال منزل ضنك وعيش ضنك يستوي فيه الواحد والاثنان والمؤنث والجمع ؛ قال عنترة :
إن يلحقوا أكرر وإن يستحلوا ... أشدد وإن يلفوا بضنك أنزل
وقال أيضا :
إن المنية لو مثل مثلت ... مثلي إذا نزلوا بضنك المنزل
وقرئ {ضَنْكَى} على وزن فعلى : ومعنى ذلك أن الله عز وجل جعل مع الدين التسليم والقناعة والتوكل عليه وعلى قسمته ، فصاحبه ينفق مما رزقه الله - عز وجل - بسماح وسهولة
ويعيش عيشا رافغا ؛ كما قال الله تعالى : {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل 97] . والمعرض عن الدين مستول عليه الحرص الذي لا يزال يطمح به إلى الازدياد من الدنيا ، مسلط عليه الشح ، الذي يقبض يده عن الإنفاق ، فعيشه ضنك ، وحاله مظلمة ، كما قال بعضهم : لا يعرض أحد عن ذكر ربه إلا أظلم عليه وقته وتشوش عليه رزقه ، وكان في عيشة ضنك. وقال عكرمة : {ضَنْكاً} كسبا حراما. الحسن : طعام الضريع والزقوم. وقول رابع وهو الصحيح أنه عذاب القبر ؛ قاله أبو سعيد الخدري وعبد الله بن مسعود ، ورواه أبو هريرة مرفوعا عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد ذكرناه في كتاب "التذكرة" ؛ قال أبو هريرة : يضيق على الكافر قبره حتى تختلف فيه أضلاعه ، وهو المعيشة الضنك. {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} قيل : أعمى في حال وبصيرا في حال ؛ وقد تقدم في آخر {سُبْحَانَ} [الإسراء 1] وقيل : أعمى عن الحجة ؛ قاله مجاهد. وقيل : أعمى عن جهات الخير ، لا يهتدي لشيء منها. وقيل : عن الحيلة في دفع العذاب عن نفسه ، كالأعمى الذي لا حيلة له فيما لا يراه. {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى} أي بأي ذنب عاقبتني بالعمى. {وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً} أي في الدنيا ، وكأنه يظن أنه لا ذنب له. وقال ابن عباس ومجاهد : أي {لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى} عن حجتي {وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً} أي عالما بحجتي ؛ القشيري : وهو بعيد إذ ما كان للكافر حجة في الدنيا. {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا} أي قال الله تعالى له {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا} أي دلالاتنا على وحدانيتنا وقدرتنا. {فَنَسِيتَهَا} أي تركتها ولم تنظر فيها ، وأعرضت عنها. {وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} أي تترك في العذاب ؛ يريد جهنم. {وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ} أي وكما جزينا من أعرض عن القرآن ، وعن النظر في المصنوعات ، والتفكير فيها ، وجاوز الحد في المعصية. {وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ} أي لم يصدق بها. {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ} أي أفظع من المعيشة الضنك ، وعذاب القبر. {وَأَبْقَى} أي أدوم وأثبت ؛ لأنه لا ينقطع ولا ينقضي.
الآيات : 128 - 130 {أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهَى ، وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُسَمّىً ، فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى}
قوله تعالى : {أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ} يريد أهل مكة ؛ أي أفلم يتبين لهم خبر من أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إذا سافروا وخرجوا في التجارة طلب المعيشة ، فيرون بلاد الأمم الماضية ، والقرون الخالية خاويه ؛ أي أفلا يخافون أن يحل بهم مثل ما حل بالكفار قبلهم. وقرأ ابن عباس والسلمي وغيرهما {نَهْدِ لَهُمْ} بالنون وهي أبين. و {يَهْدِ} بالياء مشكل لأجل الفاعل ؛ فقال الكوفيون {كَمْ} الفاعل ؛ النحاس : وهذا خطأ لأن "كم" استفهام فلا يعمل فيها ما قبلها. وقال الزجاج المعنى أو لم يهد لهم الأم بإهلاكنا من أهلكنا. وحقيقة "يهد" على الهدى ؛ فالفاعل هو الهدى تقديره أفلم يهد الهدى لهم. قال الزجاج : "كم" في موضع نصب {أَهْلَكْنَا} .
قوله تعالى : {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً} فيه تقديم وتأخير ؛ أي ولولا كلمة سبقت من ربك وأجل مسمى لكان لزاما ؛ قاله قتادة. واللزام الملازمة ؛ أي لكان العذاب لازما لهم. وأضمر اسم كان. {وَأَجَلٌ مُسَمّىً} قال الزجاج : عطف على "كلمة" . قتادة : والمراد القيامة ؛ وقاله القتبي. وقيل تأخيرهم إلى يوم بدر.
قوله تعالى : {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} أمره تعالى بالصبر على أقوالهم : إنه ساحر ؛ إنه كاهن ؛ إنه كذاب ؛ إلى غير ذلك. والمعنى لا تحفل بهم ؛ فان لعذابهم وقتا مضروبا لا يتقدم ولا يتأخر. ثم قيل : هذا منسوخ بآية القتال. وقيل : ليس منسوخا ؛ إذ لم يستأصل الكفار بعد آية القتال بل بقي المعظم منهم.
قوله تعالى : {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ} قال أكثر المتأولين : هذا إشارة إلى الصلوات الخمس {قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ} صلاة الصبح {وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} صلاة العصر {وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ} العتمة {وَأَطْرَافَ النَّهَارِ} المغرب والظهر ؛ لأن الظهر في آخر طرف النهار الأول ، وأول طرف النهار الآخر ؛ فهي في طرفين منه ؛ والطرف الثالث غروب الشمس وهو وقت المغرب. وقيل : النهار ينقسم قسمين فصلهما الزوال ، ولكل قسم طرفان ؛ فعند الزوال طرفان ؛ الآخر من القسم الأول والأول من القسم الآخر ؛ فقال عن الطرفين أطرافا على نحو {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم : 4] وأشار إلى هذا النظر ابن فورك في المشكل. وقيل : النهار للجنس فلكل يوم طرف ، وهو إلى جمع لأنه يعود في كل نهار. و {آنَاءِ اللَّيْلِ} ساعاته وواحد الآناء إني وإنى وأنى. وقالت فرقة : المراد بالآية صلاة التطوع ؛ قاله الحسن. {لَعَلَّكَ تَرْضَى} بفتح التاء ؛ أي لعلك تثاب على هذه الأعمال بما ترضى به. وقرأ الكسائي وأبو بكر عن عاصم "تُرْضَى" بضم التاء ؛ أي لعلك تعطى ما يرضيك.
الآيتان : 131 - 132 {وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى ، وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى}
قوله تعالى : {وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ} وقد تقدم. {أَزْوَاجاً} مفعول بـ "متعنا". و {زَهْرَةَ} نصب على الحال. وقال الزجاج : {زَهْرَةَ} منصوبة بمعنى {مَتَّعْنَا} لأن معناه جعلنا لهم الحياة الدنيا زهرة ؛ أو بفعل مضمر وهو "جعلنا" أي جعلنا لهم زهرة الحياة الدنيا ؛ عن الزجاج أيضا. وقيل : هي بدل من الهاء في "به" على الموضع كما تقول : مررت به أخاك. وأشار الفراء إلى نصبه على الحال ؛ والعامل فيه "متعنا" قال : كما تقول مررت به المسكين ؛ وقدره : متعناهم به زهرة الحياة في الدنيا وزينة فيها. ويجوز أن على المصدر مثل {صُنْعَ اللهِ} و {وَعْدَ اللهِ} وفيه
نظر. والأحسن أن ينتصب على الحال ويحذف التنوين لسكونه وسكون اللام من الحياة ؛ كما قرئ {وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارَ} بنصب النهار بسابق على تقدير حذف التنوين لسكونه وسكون اللام ، وتكون "الحياة" مخفوضة على البدل من {مَا} في قوله : {إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ} فيكون التقدير : ولا تمدن عينيك إلى الحياة الدنيا زهرة أي في حال زهرتها. ولا يحسن أن يكون {زَهْرَةَ} بدلا من {مَا} على الموضع في قوله : {إِلَى مَا مَتَّعْنَا} لأن {لِنَفْتِنَهُمْ} متعلق و {مَتَّعْنَا} و {زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} يعني زينتها بالنبات. والزهرة ، بالفتح في الزاي والهاء نور النبات. والزهرة بضم الزاي وفتح الهاء النجم. وبنو زهرة بسكون الهاء ؛ قاله ابن عزيز. وقرأ عيسى بن عمر {زَهْرَةَ} بفتح الهاء مثل نهر ونهر. ويقال : سراج زاهر أي له بريق. وزهر الأشجار ما يروق من ألوانها. وفي الحديث : كان النبي صلى الله عليه وسلم أزهر اللون أي نير اللون ؛ يقال لكل شيء مستنيرك زاهر ، وهو أحسن الألوان. {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} أي لنبتليهم. وقيل : لنجعل ذلك فتنة لهم وضلالا ، ومعنى الآية : لا تجعل يا محمد لزهرة الدنيا وزنا ، فإنه لا بقاء لها. {وَلا تَمُدَّنَ} أبلغ من لا تنظرن ، لأن الذي يمد بصره ، إنما يحمله على ذلك حرص مقترن ، والذي ينظر قد لا يكون ذلك معه.
مسألة : قال بعض الناس سبب نزول هذه الآية ما رواه أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال نزل ضيف برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأرسلني عليه السلام إلى رجل من اليهود ، وقال قل له يقول لك محمد : نزل بنا ضيف ولم يلق عندنا بعض الذي يصلحه ؛ فبعني كذا وكذا من الدقيق ، أو أسلفني إلى هلال رجب فقال : لا ، إلا برهن. قال : فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال : "والله إني لأمين في السماء أمين في الأرض ولو أسلفني أو باعني لأديت إليه اذهب بدرعي إليه" ونزلت الآية تعزية له عن الدنيا. قال ابن عطية وهذا معترض أن يكون سببا ؛ لأن السورة مكية والقصة المذكورة مدنية في آخر عمر النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه مات ودرعه مرهونة عند يهودي بهذه القصة التي ذكرت ؛ وإنما الظاهر أن الآية متناسقة مع ما قبلها ، وذلك أن الله تعالى
وبخهم على ترك الاعتبار بالأمم السالفة ثم توعدهم بالعذاب المؤجل ، ثم أمر نبيه بالاحتقار لشأنهم ، والصبر على أقوالهم ، والإعراض عن أموالهم وما في أيديهم من الدنيا ؛ إذ ذلك منصرم عنهم صائر إلى خزي.
قلت : وكذلك ما روي عنه عليه السلام أنه مر بابل بني المصطلق وقد عبست في أبوالها [وأبعارها] من السمن فتقنع بثوبه ثم مضى ، لقوله عز وجل : {وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ} الآية. ثم سلاه فقال : {وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} أي ثواب الله على الصبر وقلة المبالاة بالدنيا أولى ؛ لأنه يبقى والدنيا تفنى. وقيل : يعني بهذا الرزق ما يفتح الله على المؤمنين من البلاد والغنائم.
قوله تعالى : {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ} أمره تعالى بأن يأمر أهله بالصلاة ويمتثلها معهم ، ويصطبر عليها ويلازمها. وهذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ويدخل في عمومه جميع أمته ؛ وأهل بيته على التخصيص. وكان عليه السلام بعد نزول هذه الآية يذهب كل صباح إلى بيت فاطمة وعلي رضوان الله عليهما فيقول "الصلاة" . ويروى أن عروة بن الزبير رضي الله عنه كان إذا رأى شيئا من أخبار السلاطين وأحوالهم بادر إلى منزل فدخله ، وهو يقرأ {وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ} الآية إلى قوله : {وَأَبْقَى} ثم ينادي بالصلاة الصلاة يرحمكم الله ؛ ويصلي. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوقظ أهل داره لصلاة الليل ويصلي وهو يتمثل بالآية.
قوله تعالى : {لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً} أي لا نسألك أن ترزق نفسك وإياهم ، وتشتغل عن الصلاة بسبب الرزق ، بل نحن نتكفل برزقك وإياهم ، فكان عليه السلام إذا نزل بأهله ضيق أمرهم بالصلاة. وقد قال الله تعالى : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعبد ونِ. مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ. إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ} [الذاريات 56] . {وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} أي الجنة لأهل التقوى ؛ يعني العاقبة المحمودة. وقد تكون لغير التقوى عاقبة ولكنها مذمومة فهي كالمعدومة.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 41.66 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 41.03 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.51%)]