
06-07-2025, 06:53 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,450
الدولة :
|
|
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى

تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (11)
سُورَةُ الأنبياء
من صــ 274 الى صــ 283
الحلقة (479)
قوله تعالى : {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً} يريد مدائن كانت باليمن. وقال أهل التفسير والأخبار : إنه أراد أهل حضور وكان بعث إليهم نبي اسمه شعيب بن ذي مهدم ، وقبر شعيب هذا باليمن بجبل يقال له ضنن كثير الثلج ، وليس بشعيب صاحب مدين ؛ لأن قصة حضور قبل مدة عيسى عليه السلام ، وبعد مئين من السنين من مدة سليمان عليه السلام ، وأنهم قتلوا نبيهم وقتل أصحاب الرسول في ذلك التاريخ نبيا لهم اسمه حنظلة بن صفوان ، وكانت حضور بأرض الحجاز من ناحية الشام ، فأوحى الله إلى أرميا أن أيت بختنصر فأعلمه أني قد سلطته على أرض العرب وأني منتقم بك منهم ، وأوحى الله إلى أرميا أن احمل معد بن عدنان على البراق إلى أرض العراق ؛ كي لا تصيبه النقمة والبلاء معهم ، فإني مستخرج من صلبه نبيا في آخر الزمان اسمه محمد ، فحمل معدا وهو ابن اثنتا عشرة سنة ، فكان مع بني إسرائيل إلى أن كبر وتزوج امرأة اسمها معانة ؛ ثم إن بختنصر نهض بالجيوش ، وكمن للعرب في مكان - وهو أول من اتخذ المكامن فيما ذكروا - ثم شن الغارات على حضور فقتل وسبى وخرب العامر ، ولم يترك بحضور أثرا ، ثم نصرف راجعا إلى السواد. و"كم" في موضع نصب بـ {قَصَمْنَا} . والقصم الكسر ؛ يقال : قصمت ظهر فلان وانقصمت سنه إذا انكسرت والمعني به ههنا الإهلاك. وأما الفصم "بالفاء" فهو الصدع في الشيء من غير بينونة ؛ قال الشاعر :
كأنه دملج من فضه نبه ... في ملعب من عذاري الحي مفصوم
ومنه الحديث "فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا" . وقوله : {كَانَتْ ظَالِمَةً} أي كافرة ؛ يعني أهلها. والظلم وضع الشيء في غير موضعه ، وهم وضعوا الكفر موضع الإيمان.
قوله تعالى : {وَأَنْشَأْنَا} أي أوجدنا وأحدثنا بعد إهلاكهم {فَلَمَّا أَحَسُّوا} أي رأوا عذابنا ؛ يقال : أحسست منه ضعفا. وقال الأخفش : {أَحَسُّوا} خافوا وتوقعوا. {إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ} أي يهربون ويفرون. والركض العدو بشدة الوطء. والركض
تحريك الرجل ؛ ومنه قوله تعالى : {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} [ص : 42] وركضت الفرس برجلي استحثثته ليعدو ثم كثر حتى قيل ركض الفرس إذا عدا وليس بالأصل ، والصواب ركض الفرس على ما لم يسم فاعله فهوم مركوض.
قوله تعالى : {لا تَرْكُضُوا} أي لا تفروا. وقيل : إن الملائكة نادتهم لما انهزموا استهزاء بهم وقالت : {لا تَرْكُضُوا} {وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ} أي إلى نعمكم التي كانت سبب بطركم ، والمترف المتنعم ؛ يقال : أترف على فلان أي وسع عليه في معاشه. وإنما أترفهم الله عز وجل كما قال : {وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [المؤمنون : 33] . {لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ} أي لعلكم تسألون شيئا من دنياكم ؛ استهزاء بهم ؛ قاله قتادة. وقيل : المعنى {لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ} عما نزل بكم من العقوبة فتخبرون به. وقيل : المعنى {لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ} أي تؤمنوا كما كنتم تسألون ذلك قبل نزول البأس بكم ؛ قيل لهم ذلك استهزاء وتقريعا وتوبيخا. {قَالُوا يَا وَيْلَنَا} لما قالت لهم الملائكة : {لا تَرْكُضُوا} ونادت بالثارات الأنبياء! ولم يروا شخصا يكلمهم عرفوا أن الله عز وجل هو الذي سلط عليهم عدوهم بقتلهم النبي الذي بعث فيهم ، فعند ذلك قالوا : {يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} فاعترفوا بأنهم ظلموا حين لا ينفع الاعتراف. {فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ} أي لم يزالوا يقولون : {يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} . {حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً} أي بالسيوف كما يحصد الزرع بالمنجل ؛ قال مجاهد. وقال الحسن : أي بالعذاب. {خَامِدِينَ} أي ميتين. والخمود الهمود كخمود النار إذا طفئت فشبه خمود الحياة بخمود النار كما يقال لمن مات قد طفئ تشبيها بانطفاء النار.
الآيات : 16 - 18 {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ ، بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ}
قوله تعالى : {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} أي عبثا وباطلا ؛ بل للتنبيه على أن لها خالقا قادرا يجب امتثال أموه ، وأنه يجازي المسيء والمحسن أي ما خلقنا السماء والأرض ليظلم بعض الناس بعضا ويكفر بعضهم ، ويخالف بعضهم ما أمر به ثم يموتوا ولا يجازوا ، ولا يؤمروا في الدنيا بحسن ولا ينهوا عن قبيح. وهذا اللعب المنفي عن الحكيم ضده الحكمة.
قوله تعالى : {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً} لما اعتقد قوم أن له ولدا قال : {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً} واللهو المرأة بلغة اليمن ؛ قاله قتادة. وقال عقبة بن أبي جسرة - وجاء طاووس وعطاء ومجاهد يسألونه عن قوله تعالى : {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً} - فقال : اللهو الزوجة ؛ وقال الحسن. وقال ابن عباس : اللهو الولد ؛ وقاله الحسن أيضا. قال الجوهري : وقد يكنى باللهو عن الجماع.
قلت : ومنه قول امرئ القيس :
ألا زعمت بسباسة اليوم أنني ... كبرت وألا يحسن اللهو أمثالي
وإنما سمي الجماع لهوا لأنه ملهى للقلب ، كما قال :
وفيهن ملهى للصديق ومنظر
الجوهري : قوله تعالى : {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً} قالوا امرأة ، ويقال : ولدا. {لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا} أي من عندنا لا من عندكم. قال ابن جريج : من أهل السماء لا من أهل الأرض. قيل : أراد الرد على من قال إن الأصنام بنات الله ؛ أي كيف يكون منحوتكم ولدا لنا. وقال ابن قتيبة : الآية رد على النصارى. {إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ} قال قتادة ومقاتل وابن. جريح والحسن : المعنى ما كنا فاعلين ؛ مثل {إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ} [فاطر : 23] أي ما أنت إلا نذير. و {إِنْ} بمعنى الجحد وتم الكلام عند قوله : {لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا} . وقيل : إنه على معنى الشرط ؛ أي إن كنا فاعلين ذلك ولكن لسنا بفاعلين ذلك لاستحالة أن يكون لنا ولد ؛ إذ لو كان ذلك لم نخلق جنة
ولا نارا ولا موتا ولا بعثا ولا حسابا. وقيل : لو أردنا أن نتخذ ولدا على طريق التبني لاتخذناه من عندنا من الملائكة. ومال إلى هذا قوم ؛ لأن الإرادة قد تتعلق بالتبني فأما اتخاذ الولد فهو محال ، والإرادة لا تتعلق بالمستحيل ؛ ذكره القشيري.
قوله تعالى : {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ} القذف الرمي ؛ أي نرمي بالحق على الباطل. {فَيَدْمَغُهُ} أي يقهره ويهلكه. وأصل الدمغ شج الرأس حتى يبلغ الدماغ ، ومنه الدامغة. والحق هنا القرآن ، والباطل الشيطان في قول مجاهد ؛ قال : وكل ما في القرآن من الباطل فهو الشيطان. وقيل : الباطل كذبهم ووصفهم الله عز وجل بغير صفاته من الولد وغيره. وقيل : أراد بالحق الحجة ، وبالباطل شبههم. وقيل : الحق المواعظ ، والباطل المعاصي ؛ والمعنى متقارب. والقرآن يتضمن الحجة والموعظة. "فإذا هو زاهق" أي هالك وتالف ؛ قاله قتادة. {وَلَكُمُ الْوَيْلُ} أي العذاب في الآخرة بسبب وصفكم الله بما لا يجوز وصفه. وقال ابن عباس : الويل واد في جهنم ؛ وقد تقدم. {مِمَّا تَصِفُونَ} أي مما تكذبون ؛ عن قتادة ومجاهد ؛ نظيره {سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ} [الأنعام : 139] أي بكذبهم. وقيل : مما تصفون الله به من المحال وهو اتخاذه سبحانه الولد.
الآيات : 19 - 21 {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ ، يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ ، أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ}
قوله تعالى : {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي ملكا وخلقا فكيف يجوز أن يشرك به ما هو عبد ه وخلقه. {وَمَنْ عِنْدَهُ} يعني الملائكة الذين ذكرتم أنهم بنات الله. {لا يَسْتَكْبِرُونَ} أي لا يأنفون {عَنْ عِبَادَتِهِ} والتذلل له. {وَلا يَسْتَحْسِرُونَ} أي يعيون ؛ قال قتادة. مأخوذ من الحسير وهو البعير المنقطع بالأعياء والتعب ، [يقال] : حسر البعير يحسر حسورا أعيا وكل ، واستحسر وتحسر مثله ، وحسرته أنا حسرا يتعدى ولا يتعدى ،
وأحسرته أيضا فهو حسير. وقال ابن زيد : لا يملون. ابن عباس : لا يستنكفون. وقال أبو زيد : لا يكلون. وقيل : لا يفشلون ؛ ذكره ابن الأعرابي ؛ والمعنى واحد. {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} أي يصلون ويذكرون الله وينزهونه دائما. {لا يَفْتُرُونَ} أي لا يضعفون ولا يسأمون ، يلهمون التسبيح والتقديس كما يلهمون النفس. قال عبد الله بن الحرث سألت كعبا فقلت : أما لهم شغل عن التسبيح ؟ أما يشغلهم عنه شيء ؟ فقال : من هذا ؟ فقلت : من بني عبد المطلب ؛ فضمني إليه وقال : يا ابن أخي هل يشغلك شيء عن النفس ؟ ! إن التسبيح لهم بمنزلة النفس. وقد استدل بهذه الآية من قال : إن الملائكة أفضل من بني آدم. وقد تقدم والحمد لله.
قوله تعالى : {أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ} قال المفضل : مقصود هذا الاستفهام الجحد ، أي لم يتخذوا آلهة تقدر على الإحياء. وقيل : "أم" بمعنى "هل" أي هل اتخذ هؤلاء المشركون آلهة من الأرض يحيون الموتى. ولا تكون "أم" هنا بمعنى بل ؛ لأن ذلك يوجب لهم إنشاء الموتى إلا أن تقدر "أم" مع الاستفهام فتكون "أم" المنقطعة فيصح المعنى ؛ قاله المبرد. وقيل : "أم "عطف على المعنى أي أفخلقنا السماء والأرض لعبا ، أو هذا الذي أضافوه إلينا من عندنا فيكون لهم موضع شبهة ؟ أو هل ما اتخذوه من الآلهة في الأرض يحيي الموتى فيكون موضع شبهة ؟ . وقيل : {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء : 10] ثم عطف عليه بالمعاتبة ، وعلى هذين التأويلين تكون "أم" متصلة. وقرأ الجمهور {يُنْشِرُونَ} بضم الياء وكسر الشين من أنشر الله الميت فنشر أي أحياه فحيي. وقرأ الحسن بفتح الياء ؛ أي يحيون ولا يموتون.
الآيات : 22 - 24 {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ، لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ، أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ}
قوله تعالى : {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} أي لو كان في السموات والأرضين آلهة غير الله معبودون لفسدتا. قال الكسائي وسيبويه : "إلا" بمعنى غير فلما جعلت إلا في موضع غير أعرب الاسم الذي بعدها بإعراب كما غير ، كما قال :
وكل أخ مفارقه أخوه ... لعمر أبيك إلا الفرقدان
وحكى سيبويه : لو كان معنا رجل إلا زيد لهلكنا. وقال الفراء : "إلا" هنا في موضع سوى ، والمعنى : لو كان فيهما آلهة سوى الله لفسد أهلها. وقال غيره : أي لو كان فيهما إلهان لفسد التدبير ؛ لأن أحدهما إن أراد شيئا والآخر ضده كان أحدهما عاجزا. وقيل : معنى {لَفَسَدَتَا} أي خربتا وهلك من فيهما بوقوع التنازع بالاختلاف الواقع بين الشركاء. {فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} نزه نفسه وأمر العباد أن ينزهوه عن أن يكون له شريك أو ولد.
قوله تعالى : {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} قاصمة للقدرية وغيرهم. قال ابن جريج : المعنى لا يسأل الخلق عن قضائه في خلقه وهو يسأل الخلق عن عملهم ؛ لأنهم عبيد. بين بهذا أن من يسأل غدا عن أعماله كالمسيح والملائكة لا يصلح للألهية. وقيل : لا يؤاخذ على أفعاله وهم يؤاخذون. وروي عن علي رضي عنه أن رجلا قال له يا أمير المؤمنين : أيحب ربنا أن يعصى ؟ قال : أفيعصى ربنا قهرا ؟ قال : أرأيت إن منعني الهدى ومنحني الردى أأحسن إلي أم أساء ؟ قال : إن منعك حقك فقد أساء ، وإن منعك فضله فهو يؤتيه من يشاء. ثم تلا الآية : {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} . وعن ابن عباس قال : لما بعث الله عز وجل موسى وكلمه ، وأنزل عليه التوراة ، قال : اللهم إنك رب عظيم ، لو شئت أن تطاع لأطعت ، ولو شئت ألا تعصى ما عصيت ، وأنت تحب أن تطاع وأنت في ذلك تعصى فكيف هذا يا رب ؟ فأوحي الله إليه : إني لا أسأل عما أفعل وهم يسألون.
قوله تعالى : {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} أعاد التعجب في اتخاذ الآلهة من دون الله مبالغة في التوبيخ ، أي صفتهم كما تقدم في الإنشاء والإحياء ، فتكون "أم" بمعنى هل على ما تقدم ، فليأتوا بالبرهان على ذلك. وقيل : الأول احتجاج. من حيث المعقول ؛ لأنه قال : "هم ينشرون" ويحيون الموتى ؛ هيهات! والثاني احتجاج بالمنقول ، أي هاتوا برهانكم من
هذه الجهة ، ففي أي كتاب نزل هذا ؟ في القران ، أم في الكتب المنزلة سائر الأنبياء ؟ {هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ} بإخلاص التوحيد في القرآن {وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي} في التوراة والإنجيل ، وما أنزل الله من الكتب ؛ فانظروا هل في كتاب من هذه الكتب أن الله أمر باتخاذ آلهة سواه ؟ فالشرائع لم تختلف فيما يتعلق بالتوحيد ، وإنما اختلفت في الأوامر والنواهي. وقال قتادة : الإشارة إلى القرآن ؛ المعنى : {هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ} بما يلزمهم من الحلال والحرام {وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي} من الأمم ممن نجا بالإيمان وهلك بالشرك. وقيل : {ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ} بما لهم من الثواب على الإيمان والعقاب على الكفر {وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي} من الأمم السالفة فيما يفعل بهم في الدنيا ، وما يفعل بهم في الآخرة. وقيل : معنى الكلام الوعيد والتهديد ، أي افعلوا ما شئتم فعن قريب ينكشف الغطاء. وحكى أبو حاتم : أن يحيى بن يعمر وطلحة بن مصرف قرأ {هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي} بالتنوين وكسر الميم ، وزعم أنه لا وجه لهذا. وقال أبو إسحاق الزجاج في هذه القراءة : المعنى ؛ هذا ذكر مما أنزل إلي ومما هو معي وذكر من قبلي. وقيل : ذكر كائن من قبلي ، أي جئت بما جاءت به الأنبياء من قبلي. {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ} وقرأ ابن محيصن والحسن {الْحَقُّ} بالرفع بمعنى هو الحق وهذا هو الحق. وعلى هذا يوقف على {لا يَعْلَمُونَ} ولا يوقف عليه على قراءة النصب. {فَهُمْ مُعْرِضُونَ} أي عن الحق وهو القرآن ، فلا يتأملون حجة التوحيد.
الآية : 25 {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعبد ونِ}
قوله تعالى : {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ} وقرأ حفص وحمزة والكسائي {نُوحِي إِلَيْهِ} بالنون ؛ لقوله : {أَرْسَلْنَا} . {أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعبد ونِ} أي قلنا للجميع لا إله إلا الله ؛ فأدل العقل شاهدة أنه لا شريك له ، والنقل عن جميع الأنبياء موجود ، والدليل إما معقول وإما منقول. وقال قتادة : لم يرسل نبي إلا بالتوحيد ، والشرائع مختلفة في التوراة والأنجيل والقرآن ، وكل ذلك على الإخلاص والتوحيد.
الآيات : 26 - 29 {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ ، لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ، يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ، وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ}
قوله تعالى : {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ} نزلت في خزاعة حيث قالوا : الملائكة بنات الله ، وكانوا يعبد ونهم طمعا في شفاعتهم لهم. وروى معمر عن قتادة قال قالت اليهود - قال معمر في روايته - أو طوائف من الناس : خاتن إلى الجن والملائكة من الجن ، فقال الله عز وجل : {سُبْحَانَهُ} تنزيها له. {بَلْ عِبَادٌ} أي بل هم عباد {مُكْرَمُونَ} أي ليس كما زعم هؤلاء الكفار. ويجوز النصب عند الزجاج على معنى بل اتخذ عبادا مكرمين. وأجازه الفراء على أن يرده على ولد ، أي بل لم نتخذهم ولدا ، بل اتخذناهم عبادا مكرمين. والولد ها هنا للجمع ، وقد يكون الواحد والجمع ولدا. ويجوز أن يكون لفظ الولد للجنس ، كما يقال لفلان ما {لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ} أي لا يقولون حتى يقول ، ولا يتكلمون إلا بما يأمرهم. {وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} أي بطاعته وأوامره. {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} أي يعلم ما عملوا وما هم عاملون ؛ قال ابن عباس. وعنه أيضا : {مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} الآخرة {وَمَا خَلْفَهُمْ} الدنيا ؛ ذكر الأول الثعلبي ، والثاني القشيري. {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} قال ابن عباس : هم أهل شهادة أن لا إله إلا الله وقال مجاهد : هم كل من رضي الله عنه ، والملائكة يشفعون غدا في الآخرة كما في صحيح مسلم وغيره ، وفي الدنيا أيضا ؛ فإنهم يستغفرون للمؤمنين ولمن في الأرض ، كما نص عليه التنزيل على ما يأتي. {وَهُمْ} يعني الملائكة {مِنْ خَشْيَتِهِ} يعني من خوفه {مُشْفِقُونَ} أي خائفون لا يأمنون مكره.
قوله تعالى : {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ} قال قتادة والضحاك وغيرهما : عني بهذه الآية إبليس حيث أدعى الشركة ، ودعا إلى عبادة نفسه وكان من الملائكة ، ولم يقل أحد من الملائكة إني إله غيره. وقيل : الإشارة إلى جميع الملائكة ، أي فذلك القائل {نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} وهذا دليل على أنهم وإن أكرموا بالعصمة فهم متعبد ون ، وليسوا مضطرين إلى العبادة كما ظنه بعض الجهال. وقد استدل ابن عباس بهذه الآية على أن محمدا صلى الله عليه وسلم أفضل أهل السماء. وقد تقدم في "البقرة". {كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} أي كما جزينا هذا بالنار فكذلك نجزي الظالمين الواضعين الألوهية والعبادة في غير موضعهما.
الآيات : 30 - 33 {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ ، وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ، وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ ، وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}
قوله تعالى : {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا} قراءة العامة {أَوَلَمْ} بالواو. وقرأ ابن كثير وابن محيصن وحميد وشبل بن عباد {أَلَمْ يَرَ} بغير واو وكذلك هو في مصحف مكة. {أَوَلَمْ يَرَ} بمعنى يعلم. {الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً} قال الأخفش : {كَانَتَا} لأنهما صنفان ، كما تقول العرب : هما لقاحان أسودان ، وكما قال الله عز وجل : {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا} [فاطر : 41] قال أبو إسحاق : {كَانَتَا} لأنه يعبر عن السموات بلفظ الواحد بسماء ؛ ولأن السموات كانت سماء واحدة ، وكذلك الأرضون. وقال : {رَتْقاً}
ولم يقل رتقين ؛ لأنه مصدر ؛ والمعنى كانتا ذواتي رتق. وقرأ الحسن {رَتَقاً} بفتح التاء. قال عيسى بن عمر : هو صواب وهي لغة. والرتق السد ضد الفتق ، وقد رتقت الفتق أرتقه فارتتق أي التأم ، ومنه الرتقاء للمنضمة الفرج. قال ابن عباس والحسن وعطاء والضحاك وقتادة : يعني أنها كانت شيط واحدا ملتزقتين ففصل الله بينهما بالهواء. وكذلك قال كعب : خلق الله السموات والأرض بعضها على ثم خلق ريحا بوسطها ففتحها بها ، وجعل السموات سبعا والأرضين سبعا. وقول ثان قال مجاهد والسدي وأبو صالح : كانت السموات مؤتلفة طبقة واحدة ففتقها فجعلها سبع سموات ، وكذلك الأرضين كانت مرتتقة طبقة واحدة ففتقها فجعلها سبعا. وحكاه القتبي في عيون الأخبار له ، عن إسماعيل بن أبي خالد في قول الله عز وجل : {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا} قال : كانت السماء مخلوقة وحدها والأرض مخلوقة وحدها ، ففتق من هذه سبع سموات ، ومن هذه سبع أرضين ؛ خلق الأرض العليا فجعل سكانها الجن والإنس ، وشق فيها الأنهار وأنبت فيها الأثمار ، وجعل فيها البحار وسماها رعاء ، مسيرة خمسمائة عام ؛ ثم خلق الثانية مثلها في العرض والغلظ وجعل فيها أقواما ، أفواههم كأفواه الكلاب وأيديهم أيدي الناس ؛ وآذانهم آذان البقر وشعورهم شعور الغنم ، فإذا كان عند اقتراب الساعة ألقتهم الأرض إلى يأجوج ومأجوج ، واسم تلك الأرض الدكماء ، ثم خلق الأرض الثالثة غلظها مسيرة خمسمائة عام ، ومنها هواء إلى الأرض. الرابعة خلق فيها ظلمة وعقارب لأهل النار مثل البغال السود ، ولها أذناب مثل أذناب الخيل الطوال ، يأكل بعضها بعضا فتسلط على بني آدم. ثم خلق الله الخامسة [مثلها] في الغلظ والطول والعرض فيها سلاسل وأغلال وقيود لأهل النار. ثم خلق الله الأرض السادسة واسمها ماد ، فيها حجارة سود بهم ، ومنها خلقت تربة آدم عليه السلام ، تبعث تلك الحجارة يوم القيامة وكل حجر منها كالطود العظيم ، وهي من كبريت تعلق في أعناق الكفار فتشتعل حتى تحرق وجوههم وأيديهم ، فذلك قول عز وجل : {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [البقرة : 24] ثم خلق الله الأرض السابعة واسمها عربية وفيها جهنم ، فيها بابان اسم
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|