
06-07-2025, 07:00 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,616
الدولة :
|
|
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى

تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (11)
سُورَةُ الأنبياء
من صــ 294 الى صــ 303
الحلقة (481)
ميزان وإنما هو العدل. والذي وردت به الأخبار وعليه السواد الأعظم القول الأول. وقد مضى في "الأعراف" بيان هذا ، وفي "الكهف" أيضا. وقد ذكرناه في كتاب "التذكرة" مستوفى والحمد لله. و {القِسط} العدل أي ليس فيها بخس ولا ظلم كما يكون في وزن الدنيا. و {الْقِسْط} صفة الموازين ووحد لأنه مصدر ؛ يقال : ميزان قسط ، وميزانان قسط ، وموازين قسط. مثل رجال عدل ورضا. وقرأت فرقة "القِصْطَ" بالصاد. {لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} أي لأهل يوم القيامة. وقيل : المعنى في يوم القيامة. {فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً} أي لا ينقص من إحسان محسن ولا يزاد في إساءة مسيء. {وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ} قرأ نافع وشيبة وأبو جعفر {مِثْقَالُ حَبَّةٍ} بالرفع هنا ؛ وفي "لقمان" على معنى إن وقع أو حضر ؛ فتكون كان تامة ولا تحتاج إلى خبر الباقون {مِثْقَالَ} بالنصب على معنى وإن كان العمل أو ذلك الشيء مثقال. ومثقال الشيء ميزانه من مثله. "أتينا بها" مقصورة الألف قراءة الجمهور أي أحضرناها وجئنا بها للمجازاة عليها ولها. يجاء بها أي بالحجة ولو قال به أي بالمثقال لجاز. وقيل : مثقال الحبة ليس شيئا غير الحبة فلهذا قال : {أَتَيْنَا بِهَا} . وقرأ مجاهد وعكرمة {آتَيْنَا} بالمد على معنى جازينا بها. يقال آتى يؤاتي مؤاتاة. {وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} أي محاسبين على ما قدموه من خير وشر. وقيل : {حَاسِبِينَ} إذ لا أحد أسرع حسابا منا. والحساب العد. روى الترمذي عن عائشة رضي الله عنها : أن رجلا قعد بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إن مملوكين يكذبونني ويخونونني ويعصونني وأشتمهم وأضربهم فكيف أنا منهم ؟ قال : "يحسب ما خانوك وعصوك وكذبوك وعقابك إياهم فإن كان عقابك إياهم بقدر ذنوبهم كان كفافا لك ولا عليك وإن كان عقابك إياهم دون ذنوبهم كان فضلا لك وإن كان عقابك فوق ذنوبهم اقتص لهم منك الفضل" قال : فتنحى الرجل فجعل يبكي ويهتف. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أما تقرأ كتاب الله تعالى : {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً} فقال الرجل : والله يا رسول الله ما أجد لي ولهؤلاء شيئا خيرا من مفارقتهم ، أشهدك أنهم أحرار كلهم. قال حديث غريب."
الآيات : 48 - 50 {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ ، الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ ، وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ}
قوله تعالى : {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً} وحكي عن ابن عباس وعكرمة {الْفُرْقَانَ ضِيَاءً} بغير واو على الحال. وزعم الفراء أن حذف الواو والمجيء بها واحد ، كما قال عز وجل : {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} [الصافات : 6 - 7] أي حفظا. ورد عليه هذا القول الزجاج. قال : لأن الواو تجيء لمعنى فلا تزاد قال : وتفسير "الفرقان" التوراة ؛ لأن فيها الفرق بين الحرام والحلال. قال : {وَضِيَاءً} مثل {فِيهِ هُدىً وَنُورٌ} وقال ابن زيد : "الفرقان" هنا هو النصر على الأعداء ؛ دليله قوله تعالى : {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عبد نَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ} [الأنفال : 41] يعني يوم بدر. قال الثعلبي : وهذا القول أشبه بظاهر الآية ؛ لدخول الواو في الضياء ؛ فيكون معنى الآية : ولقد أتينا موسى وهارون النصر والتوراة التي هي الضياء والذكر. {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} أي غائبين ؛ لأنهم لم يروا الله تعالى ، بل عرفوا بالنظر. والاستدلال أن لهم ربا قادرا ، يجازي على الأعمال فهم يخشونه في سرائرهم ، وخلواتهم التي يغيبون فيها عن الناس.
{وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ} أي من قيامها قبل التوبة. {مُشْفِقُونَ} أي خائفون وجلون
قوله تعالى : {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ} يعني القرآن {أَفَأَنْتُمْ لَهُ} يا معشر العرب {مُنْكِرُونَ} وهو معجز لا تقدرون على الإتيان بمثله. وأجاز الفراء {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ} بمعنى أنزلناه مباركا.
الآية : 51 {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ}
الآية : 52 {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ}
الآية : 53 {قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ}
الآية : 54 {قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}
الآية : 55 {قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ}
الآية : 56 {قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ}
قوله تعالى : {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ} قال الفراء : أي أعطياه هداه. {مِنْ قَبْلُ} أي من قبل النبوة ؛ أي وفقناه للنظر والاستدلال ، لما جن عليه الليل فرأى النجم والشمس والقمر. وقيل : {مِنْ قَبْلُ} أي من قبل موسى وهارون. والرشد على هذا النبوة. وعلى الأول أكثر أهل التفسير ؛ كما قال ليحيى : {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً} [مريم : 12 ] . وقال القرظي : رشده صلاحه. {وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} أي إنه أهل لإيتاء الرشد وصالح للنبوة.
قوله تعالى : {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ} قيل : المعنى أي اذكر حين قال لأبيه ؛ فيكون الكلام قد تم عند قوله : {وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} . وقيل : المعنى ؛ {وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ ، إِذْ قَالَ} فيكون الكلام متصلا ولا يوقف على قوله : {عَالِمِينَ} . {لِأَبِيهِ} وهو آزر {وَقَوْمِهِ} نمرود ومن اتبعه. {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ} أي الأصنام. والتمثال اسم موضوع للشيء المصنوع مشبها بخلق من بخلق الله تعالى. يقال : مثلت الشيء بالشيء أي شبهته به. واسم ذلك الممثل تمثال. {الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} أي مقيمون على عبادتها. {قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ} أي نعبد ها تقليدا لأسلافنا. {قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} أي في خسران بعبادتها ؛ إذ هي جمادات لا تنفع ولا تضر ولا تعلم. {قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ} أي أجاء أنت بحق فيما تقول ؟ {أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ} أي لاعب مازح. {قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي لست بلاعب ، بل ربكم والقائم بتدبيركم خالق السموات والأرض. {الَّذِي فَطَرَهُنَّ} أي خلقهن وأبدعهن. {وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} أي على أنه رب السموات والأرض. والشاهد يبين الحكم ، ومنه {شَهِدَ اللَّهُ} [آل عمران : 18] بين الله ؛ فالمعنى : وأنا أبين بالدليل ما أقول.
الآيتان : 57 - 58 {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ ، فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ}
قوله تعالى : {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} أخبر أنه لم يكتف بالمحاجة باللسان بل كسر أصنامهم فعل واثق بالله تعالى ، موطن نفسه على مقاساة المكروه في الذب عن الدين. والتاء في {تَاللَّهِ} تختص في القسم باسم الله وحده ، والواو تختص بكل مظهر ، والباء بكل مضمر ومظهر. قال الشاعر :
تالله يبقي على الأيام ذو حيد ... بمشمخر به الظيان والآس
وقال ابن عباس : أي وحرمة الله لأكيدن أصنامكم ، أي لأمكرن بها. والكيد المكر. كاده يكيده كيدا ومكيدة ، وكذلك المكايدة ؛ وربما سمي الحرب كيدا ؛ يقال : غزا فلان فلم يلق كيدا ، وكل شيء تعالجه فأنت تكيده. {بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} أي منطلقين ذاهبين. وكان لهم في كل سنة عيد يجتمعون فيه ، فقالوا لإبراهيم : لو خرجت معنا إلى عيدنا أعجبك ديننا - روي ذلك عن ابن مسعود على ما يأتي بيانه في "والصافات" - فقال إبراهيم في نفسه : {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} . قال مجاهد وقتادة : إنما قال ذلك إبراهيم في سر من قومه ، ولم يسمعه إلا رجل. واحد وهو الذي أفشاه عليه والواحد يخبر عنه بخبر الجمع إذا كان ما أخبر به مما يرضى به غيره ومثله {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} [المنافقون : 8] . وقيل : إنما قاله بعد خروج القوم ، ولم يبق منهم إلا الضعفاء فهم الدين سمعوه. وكان إبراهيم احتال في التخلف عنهم بقوله : {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات : 89] أي ضعيف عن الحركة.
قوله تعالى : {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً} أي فتاتا. والجذ الكسر والقطع ؛ جذذت الشيء كسرته وقطعته. والجذاذ والجذاذ ما كسر منه ، والضم أفصح من كسره. قاله الجوهري. الكسائي : ويقال لحجارة الذهب جذاذ ؛ لأنها تكسر. وقرأ الكسائي والأعمش وابن محيصن {جِذَاذًا} بكسر الجيم ؛ أي كسرا وقطعا جمع جذيذ وهو الهشيم ، مثل خفيف وخفاف وظريف وظراف. قال الشاعر :
جذذ الأصنام في محرابها ... ذاك في الله العلي المقتدر
الباقون بالضم ؛ واختاره أبو عبيد وأبو حاتم. [مثل] الحطام والرفات الواحدة جذاذة. وهذا هو الكيد الذي أقسم به ليفعلنه بها. وقال : {فَجَعَلَهُمْ} ؛ لأن القوم اعتقدوا في أصنامهم الإلهية. وقرأ ابن عباس وأبو نهيك وأبو السمال {جَذَاذًا} بفتح الجيم ؛ والفتح والكسر لغتان كالحصاد والحصاد. أبو حاتم : الفتح والكسر والضم بمعنى ؛ حكاه قطرب. {إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ} أي عظيم الآلهة في الخلق فإنه لم يكسره. وقال السدي ومجاهد : ترك الصنم الأكبر وعلق الفأس الذي كسر به الأصنام في عنقه ؛ ليحتج به عليهم. {لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ} أي إلى إبراهيم دينه {يَرْجِعُونَ} إذا قامت الحجة عليهم. وقيل : {لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ} أي إلى الصنم الأكبر {يَرْجِعُونَ} في تكسيرها.
الآيات : 59 - 60 {قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ ، قَالُوا سَمِعْنَا فَتىً يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ ، قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ}
الآية : {قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ}
قوله تعالى : {قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ} المعنى لما رجعوا من عيدهم ورأوا ما أحدث بآلهتهم ، قالوا على جهة البحث والإنكار : {مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ} . وقيل : "من" ليس استفهاما ، بل هو ابتداء وخبره {لَمِنَ الظَّالِمِينَ} أي فاعل هذا ظالم. والأول أصح لقوله : {سَمِعْنَا فَتىً يَذْكُرُهُمْ} وهذا هو جواب {مَنْ فَعَلَ هَذَا} . والضمير في {قَالُوا} للقوم الضعفاء الذين سمعوا إبراهيم ، أو الواحد على ما تقدم. ومعنى {يَذْكُرُهُمْ} يعيبهم ويسبهم فلعله الذي صنع هذا. واختلف الناس في وجه رفع إبراهيم ؛ فقال الزجاج يرتفع على معنى يقال له هو إبراهيم ؛ فيكون [خبر مبتدأ] محذوف ، والجملة محكية. قال : ويجوز أن يكون رفعا على النداء وضمه بناء ، وقام له مقام ما لم يسم فاعله. وقيل : رفعه على أنه مفعول ما لم يسم فاعله ؛ على أن يجعل إبراهيم غير دال على الشخص ، بل يجعل النطق به دالا على بناء هذه اللفظة أي يقال له هذا القول وهذا اللفظ ، كما تقول
زيد وزن ، فعل ، أو زيد ثلاثة أحرف ، فلم تدل بوجه الشخص ، بل دللت بنطقك على نفس اللفظة. وعلى هذه الطريقة تقول : قلت إبراهيم ، ويكون مفعولا صحيحا نزلته منزلة قول وكلام ؛ فلا يتعذر بعد ذلك أن يبني الفعل فيه للمفعول. هذا اختيار ابن عطية في رفعه. وقال الأستاذ أبو الحجاج الأشبيلي الأعلم : هو رفع على الإهمال. قال ابن عطية : لما رأى وجوه الرفع كأنها لا توضح المعنى الذي قصدوه ، ذهب إلى رفعه بغير شيء ، كما قد يرفع التجرد والعرو عن العوامل الابتداء. والفتى الشاب والفتاة الشابة. وقال ابن عباس : ما أرسل الله نبيا إلا شابا. ثم قرأ : {سَمِعْنَا فَتىً يَذْكُرُهُمْ} .
قوله تعالى : {قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ} فيه مسألة واحدة ، وهي أنه لما بلغ الخبر نمرود وأشراف قومه ، كرهوا أن يأخذوه بغير بينة ، فقالوا : ائتوا به ظاهرا بمرأى من الناس حتى يروه {لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} عليه بما قال ؛ ليكون ذلك حجة عليه. وقيل : {لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} عقابه فلا يقدم أحد على مثل ما أقدم عليه. أو لعل قوما {يَشْهَدُونَ} بأنهم رأوه يكسر الأصنام ، أو {لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} طعنه على آلهتهم ؛ ليعلموا أنه يستحق العقاب.
قلت : وفي هذا دليل على أنه كان لا يؤاخذ أحد بدعوى أحد فيما تقدم ؛ لقوله تعالى : {فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} وهكذا الأمر في شرعنا ولا خلاف فيه.
الآيتان : 62 - 63 {قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ ، قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ}
قوله تعالى : {قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ} فيه أربع مسائل : -
الأولى : لما لم يكن السماع عاما ولا ثبتت الشهادة استفهموه هل فعل أم لا ؟ وفي الكلام حذف فجاء إبراهيم حين أتى به فقالوا أأنت فعلت هذا بالآلهة ؟ فقال لهم إبراهيم على جهة الاحتجاج عليهم : {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} . فقال لهم إبراهيم على جهة الاحتجاج عليهم : {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} . أي إنه غار وغضب من أن يعبد هو
ويعبد الصغار معه ففعل هذا بها لذلك ، إن كانوا ينطقون فاسألوهم. فعلق فعل الكبير بنطق الآخرين ؛ تنبيها لهم على فساد اعتقادهم. كأنه قال : بل هو الفاعل إن نطق هؤلاء. وفي الكلام تقديم على هذا التأويل في قوله : {فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} . وقيل : أراد بل فعله كبيرهم إن كانوا ينطقون. بين أن من لا يتكلم ولا يعلم ولا يستحق أن يعبد. وكان قول من المعاريض ، وفي المعاريض مندوحة عن الكذب. أي سلوهم إن نطقوا فإنهم يصدقون ، وإن لم يكونوا ينطقون فليس هو الفاعل. وفي ضمن هذا الكلام اعتراف بأنه هو الفاعل وهذا هو الصحيح لأنه عدده على نفسه ، فدل أنه خرج مخرج التعريض. وذلك أنهم كانوا يعبد ونهم ويتخذونهم آلهة من دون الله ، كما قال إبراهيم لأبيه : {يَا أَبَتِ لِمَ تَعبد مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ} [مريم : 42] - الآية - فقال إبراهيم : {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} ليقولوا إنهم لا ينطقون ولا ينفعون ولا يضرون ؛ فيقول لهم فلم تعبد ونهم ؟ فتقوم عليهم الحجة منهم ، ولهذا يجوز عند الأمة فرض الباطل مع الخصم حتى يرجع إلى الحق من ذات نفسه ؛ فإنه أقرب في الحجة وأقطع للشبهة ، كما قال لقومه : {هَذَا رَبِّي} وهذه أختي و {إِنِّي سَقِيمٌ} وبل فعله كبيرهم هذا "وقرأ ابن السميقع {بَلْ فَعَلَهُ} بتشديد اللام بمعنى فلعل الفاعل كبيرهم. وقال الكسائي : الوقف عند قوله : {بَلْ فَعَلَهُ} أي فعله من فعله ؛ ثم يبتدئ {كَبِيرُهُمْ هَذَا} . وقيل : أي لم ينكرون أن يكون فعله كبيرهم ؟ فهذا إلزام بلفظ الخبر. أي من اعتقد عبادتها يلزمه أن يثبت لها فعلا ؛ والمعنى : بل فعله كبيرهم فيما يلزمكم."
الثانية : روى البخاري ومسلم والترمذي أبى عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لم يكذب إبراهيم النبي في شيء قط إلا في ثلاث : قوله {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات : 89] وقوله لسارة أختي وقوله {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ} لفظ الترمذي. وقال : حديث حسن صحيح. ووقع في الإسراء في صحيح مسلم ، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه في قصة إبراهيم قال : وذكر قوله في الكوكب {هَذَا رَبِّي} . فعلى هذا تكون الكذبات أربعا إلا أن الرسول عليه السلام قد نفى تلك بقوله :" لم يكذب إبراهيم النبي قط إلا في ثلاث كذبات ثنتين في ذات الله قوله :
{إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات : 89] وقوله : {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ} وواحدة في شأن سارة "الحديث لفظ مسلم وإنما يعد عليه قوله في الكوكب : {هَذَا رَبِّي} [الأنعام : 78] كذبة وهي داخلة في الكذب ؛ لأنه - والله أعلم - كان حين قال ذلك في حال الطفولة ، وليست حالة تكليف. أو قال لقومه مستفهما لهم على جهة التوبيخ الإنكار ، وحذفت همزة الاستفهام. أو على طريق الاحتجاج على قومه : تنبيها على أن ما لا يصلح للربوبية. وقد تقدمت هذه الوجوه كلها في "الأنعام" مبينة والحمد لله."
الثالثة : قال القاضي أبو بكر بن العربي : في هذا الحديث نكتة عظمى تقصم الظهر ، وهي أنه عليه السلام قال : "لم يكذب إبراهيم إلا في ثلاث كذبات ثنتين ما حل بهما عن دين الله وهما قول {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات : 89] وقوله : {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} ولم يعد [قوله] هذه أختي في ذات الله تعالى وإن كان دفع بها مكروها ، ولكنه لما كان لإبراهيم عليه السلام فيها حظ من صيانة فراشه وحماية أهله ، لم يجعلها في ذات الله ؛ وذلك لأنه لا يجعل في جنب الله وذاته إلا العمل الخالص من شوائب الدنيا ، والمعاريض التي ترجع إلى النفس إذا خلصت للدين كانت لله سبحانه ، كما قال : {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر : 3] . وهذا لو صدر منا لكان لله ، لكن منزلة إبراهيم اقتضت هذا. والله أعلم."
الرابعة : قال علماؤنا : الكذب هو الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو عليه. والأظهر أن قول إبراهيم فيما أخبر عنه عليه السلام كان من المعاريض ، وإن كانت معاريض وحسنات وحججا في الخلق ودلالات ، لكنها أثرت في الرتبة ، وخفضت عن محمد المنزلة ، واستحيا منها قائلها ، على ما ورد في حديث الشفاعة ؛ فإن الأنبياء مما لا يشفق منه غيرهم إجلالا لله ؛ فإن الذي كان يليق بمرتبته في النبوة والخلة ، أن يصدع بالحق ويصرح بالحق لأمر كيفما كان ، ولكنه رخص له فقبل الرخصة فكان ما كان من القصة ؛ والقصة جاء في حديث الشفاعة "إنما اتخذت خليلا من وراء وراء" بنصب وراء فيهما على البناء كخمسة عشر ، وكما قالوا
جاري بَيْتَ بَيْتَ. ووقع في بعض نسخ مسلم "من وراءُ من وراءُ" بإعادة من ، وحينئذ لا يجوز البناء على الفتح ، وإنما يبني كل واحد منهما على الضم ؛ لأنه قطع عن الإضافة ونوى المضاف كقبل وبعد ، وإن لم ينو المضاف أعرب ونون غير أن وراء لا ينصرف ؛ لأن ألفه للتأنيث ؛ لأنهم قالوا في تصغيرها ورية ؛ قال الجوهري : وهي شاذة. فعلى هذا الفتح فيهما مع وجود "من" فيهما. والمعنى إني كنت خليلا متأخرا عن غيري. ويستفاد من هذا أن الخلة لم تصح بكمالها إلا لمن صح له في ذلك اليوم المقام المحمود كما تقدم. وهو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
الآيات : 64 - 69 {فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ ، ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ ، قَالَ أَفَتَعبد ونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ ، أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعبد ونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ}
قوله تعالى : {فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ} أي رجع بعضهم إلى بعض رجوع المنقطع عن حجته ، المتفطن لصحة حجه خصمه {فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ} أي بعبادة من لا ينطق بلفظة ، ولا يملك لنفسه لحظة ، وكيف ينفع عابديه ويدفع عنهم البأس ، من لا يرد عن رأسه الفأس. {ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ} أي عادوا إلى جهلهم وعبادتهم فقالوا {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ} فـ {قَالَ} قاطعا لما به يهذون ، ومفحما لهم فيما يتقولون {قَالَ أَفَتَعبد ونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ. أُفٍّ لَكُمْ} أي النتن لكم {وَلِمَا تَعبد ونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} . وقيل : {نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ} أي طأطأوا رؤوسهم خجلا من إبراهيم ، وفيه نظر ؛ لأنه لم يقل نكسوا رؤوسهم ، بفتح الكاف بل قال : {نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ} أي ردوا على ما كانوا عليه في أول الأمر وكذا قال ابن عباس ، قال : أدركهم الشقاء فعادوا إلى كفرهم.
الآيتان : 68 - 69 {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ ، قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ}
قوله تعالى : {قَالُوا حَرِّقُوهُ} لما انقطعوا بالحجة أخذتهم عزة بإثم وانصرفوا إلى طريق الغشم والغلبة وقالوا حرقوه. روي أن قائل هذه المقالة هو رجل من الأكراد من أعراب فارس ؛ أي من باديتها ؛ قال ابن عمرو ومجاهد وابن جريج. ويقال : اسمه هيزر فخسف الله به الأرض ، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة. وقيل : بل قال ملكهم نمرود. {وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ} بتحريق إبراهيم لأنه يسبها ويعيبها. وجاء في الخبر : أن نمرود بنى صرحا طوله ثمانون ذراعا وعرضه أربعون ذراعا. قال ابن إسحاق : وجمعوا الحطب شهرا ثم أوقدوها ، واشتعلت واشتدت ، حتى أن كان الطائر ليمر بجنباتها فيحترق من شدة وهجها. ثم قيدوا إبراهيم ووضعوه في المنجنيق مغلولا. ويقال : إن إبليس صنع لهم المنجنيق يومئذ. فضجت السموات والأرض ومن فيهن من الملائكة وجميع الخلق ، إلا الثقلين ضجة واحدة : ربنا! إبراهيم ليس في الأرض أحد يعبد ك غيره يحرق فيك فأذن لنا في نصرته. فقال الله تعالى : "إن استغاث بشيء منكم أو دعاه فلينصره فقد أذنت له في ذلك وإن لم يدع غيري فأنا أعلم به وأنا وليه" فلما أرادوا إلقاءه في النار ، أتاه خزان الماء - وهو في الهواء - فقالوا : يا إبراهيم إن أردت أخمدنا النار بالماء. فقال : لا حاجة لي إليكم. وأتاه ملك الريح فقال : لو شئت طيرت النار. فقال : لا. ثم رفع رأسه إلى السماء فقال : "اللهم أنت الواحد في السماء وأنا الواحد في الأرض ليس أحد يعبد ك غيري حسبي الله ونعم الوكيل". وروى أبي بن كعب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم "إن إبراهيم حين قيدوه ليلقوه في النار قال لا إله إلا أنت سبحانك رب العالمين لك الحمد ولك الملك لا شريك لك" قال : ثم رموا به في المنجنيق من مضرب شاسع ، فاستقبله جبريل ؛ فقال : يا إبراهيم ألك حاجة ؟ قال : "أما إليك فلا". فقال جبريل : فاسأل ربك. فقال : "حسبي من سؤالي علمه بحالي". فقال
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|