
06-07-2025, 08:12 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 165,030
الدولة :
|
|
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى

تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (11)
سُورَةُ الأنبياء
من صــ 334 الى صــ 343
الحلقة (485)
ليس في جهة. وقد تقدم هذا المعنى في "البقرة" و "الأعراف" . {أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} يريد فيما خالف فيه من ترك مداومة قومه والصبر عليهم وقيل : في الخروج من غير أن يؤذن له. ولم يكن ذلك من الله عقوبة ؛ لأن الأنبياء لا يجوز أن يعاقبوا ، وإنما كان ذلك تمحيصا. وقد يؤدب من لا يستحق العقاب كالصبيان ؛ ذكره الماوردي. وقيل : من الظالمين في دعائي على قومي بالعذاب. وقد دعا نوح على قومه فلم يؤاخذ. وقال الواسطي في معناه : نزه ربه عن الظلم وأضاف الظلم إلى نفسه اعترافا واستحقاقا. ومثل هذا قول آدم وحواء : {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} [الأعراف : 23] إذ كانا السبب في وضعهما أنفسهما في غير الموضع الذي أنزلا فيه.
الثانية : روى أبو داود عن سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "دعاء ذي النون في بطن الحوت {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} لم يدع به رجل مسلم في شيء قط إلا استجيب له" وقد قيل : إنه اسم الله الأعظم ورواه سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم. وفي الخبر : في هذه الآية شرط الله لمن دعاه أن يجيبه كما أجابه كما به وينجيه كما أنجاه ، وهو قوله : {وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} وليس ههنا صريح دعاء وهو وإنما هو مضمون قوله : {إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} فاعترف بالظلم فكان تلويحا.
قوله تعالى : {وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} أي نخلصهم من همهم بما سبق من عملهم. وذلك قوله : {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ ، لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات : 143 - 144] وهذا حفظ من الله عز وجل لعبد ه يونس رعى له حق تعبد ه ، وحفظ زمام ما سلف له من الطاعة. وقال الأستاذ أبو إسحاق : صحب ذو النون الحوت أياما قلائل فإلي يوم القيامة يقال له ذو النون ، فما ظنك بعيد عبد ه سبعين سنة يبطل هذا عنده! لا يظن به ذلك. {الْغَمِّ} أي من بطن الحوت. قوله تعالى : {وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} قراءة العامة بنونين من أنجي ينجي. وقرأ ابن عامر {نجّيْ} بنون واحدة وجيم مشددة وتسكين الياء على الفعل الماضي وإضمار المصدر أي وكذلك نجي النجاء المؤمنين ؛ كما تقول : ضرب زيدا بمعنى ضرب الضرب زيدا وأنشد :
ولو ولدت قفيرة جرو كلب ... لسب بذلك الجرو الكلابا
أراد لسب السب بذلك الجرو. وسكنت ياؤه على لغة من يقول بقي ورضي فلا يحرك الياء. وقرأ الحسن {وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا} [البقرة : 278] استثقالا لتحريك ياء قبلها كسرة. وأنشد :
خمر الشيب لمتي تخميرا ... وحدا بي إلى القبور البعيرا
ليت شعري إذا القيامة قامت ... ودعي بالحساب أين المصيرا
سكن الياء في دعي استثقالا لتحريكها وقبلها كسرة وفاعل حدا المشيب ؛ أي وحدا المشيب البعير ؛ ليت شعري المصير أين هو. هذا تأويل الفراء وأبي عبيد وثعلب في تصويب هذه القراءة. وخطأها أبو حاتم والزجاج وقالوا : هو لحن ؛ لأنه نصب اسم ما لم يسم فاعله ؛ وإنما يقال : نجي المؤمنون. كما يقال : كرم الصالحون. ولا يجوز ضرب زيدا بمعنى ضرب الضرب زيدا ؛ لأنه لا فائدة [فيه] إذ كان ضرب يدل على الضرب. ولا يجوز أن يحتج بمثل ذلك البيت على كتاب الله تعالى. ولأبي عبيد قول آخر - وقال القتبي - وهو أنه أدغم النون في الجيم. النحاس : وهذا القول لا يجوز عند أحد من النحويين ؛ لبعد مخرج النون من مخرج الجيم فلا تدغم فيها ، ولا يجوز في {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ} {مَجَّاءَ بِالحْسَنَةِ} قال النحاس : ولم أسمع في هذا أحسن من شيء سمعته من علي بن سليمان. قال : الأصل ننجي فحذف إحدى النونين ؛ لاجتماعهما كما تحذف إحدى التاءين ؛ لاجتماعهما نحو قوله عز وجل : {وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران : 103] والأصل تتفرقوا. وقرأ محمد بن السميقع وأبو العالية {وَكَذَلِكَ نَجَّى الْمُؤْمِنِينَ} أي نجى الله المؤمنين ؛ وهي حسنة.
الآيتان : 89 - 90 {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ ، فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ}
قوله تعالى : {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ} أي واذكر زكريا. وقد تقدم في "آل عمران" ذكره. {رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً} أي منفردا لا ولد لي وقد تقدم. {وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} أي خير من يبقي بعد كل من يموت ؛ وإنما قال {وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} لما تقدم من قوله : {يَرِثُنِي} [مريم : 6] أي أعلم أنك ، لا تضيع دينك ولكن لا تقطع هذه الفضيلة التي هي القيام بأمر الذين عن عقبي. كما تقدم في "مريم" بيانه.
قوله تعالى : {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} أي أجبنا دعاءه : {وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى} . تقدم. {وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} قال قتادة وسعيد بن جبير وأكثر المفسرين : إنها كانت عاقرا فجعلت ولودا. وقال ابن عباس وعطاء : كانت سيئة الخلق ، طويلة اللسان ، فأصلحها الله فجعلها حسنة الخلق.
قلت : ويحتمل أن تكون جمعت المعنيين فجعلت حسنة الخلق ولودا. {إنَّهُمْ} يعني الأنبياء المسلمين في هذه السورة {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} وقيل : الكناية راجعة إلى زكريا وامرأته ويحيى.
قوله تعالى : { يَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً}
فيه مسألتان :
الأولى : قوله تعالى : {وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً} أي يفزعون إلينا فيدعوننا في حال الرخاء وحال الشدة. وقيل : المعنى يدعون وقت تعبد هم وهم بحال رغبة ورجاء ورهبة وخوف ، لأن الرغبة والرهبة متلازمان. وقيل : الرغب رفع بطون الأكف إلى السماء ، والرهب رفع ظهورها ؛ قاله خصيف ؛ وقال ابن عطية : وتلخيص. أن عادة كل داع من البشر أن يستعين بيديه فالرغب من حيث هو طلب يحسن منه أن يوجه باطن الراح نحو المطلوب منه ، إذ هو موضع إعطاء أو بها يتملك ، والرهب من حيث هو دفع يحسن معه طرح ذلك ، والإشارة إلى ذهابه وتوقيه بنفض اليد ونحوه.
الثانية : روى الترمذي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع يديه في الدعاء لم يحطهما حتى يسمح بهما وجهه وقد مضى في "الأعراف"
الاختلاف في رفع الأيدي ، وذكرنا هذا الحديث وغيره هناك. وعلى القول بالرفع فقد اختلف الناس في صفته وإلى أين ؟ فكان بعضهم يختار أن يبسط كفيه رافعهما حذو صدره وبطونهما إلى وجهه ؛ روي عن ابن عمر وابن عباس. وكان علي يدعو بباطن كفيه ؛ وعن أنس مثله ، وهو ظاهر حديث الترمذي. وقوله صلى الله عليه وسلم : "إذا سألتم الله فاسألوه ببطون أكفكم ولا تسألوه بظهورها وامسحوا بها وجوهكم" . وروي عن ابن عمر وابن الزبير برفعهما إلى وجهه ، واحتجوا بحديث أبي سعيد الخدري ؛ قال : وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة فجعل يدعو وجعل ظهر كفيه مما يلي وجهه ، ورفعهما فوق ثدييه وأسفل من منكبيه وقيل حتى يحاذي بهما وجهه وظهورهما مما يلي وجهه. قال أبو جعفر الطبري والصواب أن يقال : إن كل هذه الآثار المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم متفقة غير مختلفة المعاني ، وجائز أن يكون ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم لاختلاف أحوال الدعاء كما قال ابن عباس : إذا أشار أحدكم بإصبع واحد فهو الإخلاص وإذا رفع يديه حذو صدره فهو الدعاء ، وإذا رفعهما حتى يجاوز بهما رأسه وظاهرهما مما يلي وجهه فهو الابتهال. قال الطبري وقد روى قتادة عن أنس قال : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يدعو بظهر كفيه وباطنهما. و {رَغَباً وَرَهَباً} منصوبان على المصدر ؛ أي يرغبون رغبا ويرهبون رهبا. أو على المفعول من أجله ؛ أي للرغب والرهب. أو على الحال. وقرأ طلحة بن مصرف {وَيَدْعُنَا} بنون واحدة. وقرأ الأعمش بضم الراء وإسكان الغين والهاء مثل السقم والبخل ، والعدم والضرب لغتان وابن وثاب والأعمش أيضا {رَغَباً وَرَهَباً} بالفتح في الراء والتخفيف في الغين والهاء ، وهما لغتان. مثل نهر ونهر وصخر وصخر. ورويت هذه القراءة عن أبي عمرو. {وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} أي متواضعين خاضعين.
الآية : 91 {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ}
قوله تعالى : {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} أي واذكر مريم التي أحصنت فرجها وإنما ذكرها وليست من الأنبياء ليتم ذكر عيسى عليه السلام ولهذا قال : {وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} ولم يقل آيتين لأن معنى الكلام : وجعلنا شأنهما وأمرهما آية للعالمين. وقال الزجاج : إن الآية فيهما واحدة ؛ لأنها ولدته من غير فحل وعلى مذهب سيبويه التقدير : وجعلنا آيه للعالمين وجعلنا ابنها آية للعالمين ثم حذف. وعلى مذهب الفراء : وجعلناها آية للعالمين وابنها ؛ مثل قوله جل ثناؤه : {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} . وقيل : إن من آياتها أنها أول امرأة قبلت في النذر في المتعبد. ومنها أن الله عز وجل غذاها برزق من عنده لم يجره على يد عبد من عبيدة. وقيل : إنها لم تلقم ثديا قط. و {أَحْصَنَتْ} يعني عفت فامتنعت من الفاحشة. وقيل : إن المراد بالفرج فرج القميص ؛ أي لم تعلق بثوبها ريبة ؛ أي إنها طاهرة الأثواب. وفروج القميص أربعة : الكمان والأعلى والأسفل. قال السهيلي : فلا يذهبن وهمك إلى غير هذا ؛ فإنه من لطيف الكناية لأن القرآن أنزه معنى ، وأوزن لفظا ، وألطف إشارة ، وأحسن عبارة من أن يريد ما يذهب إليه وهم الجاهل ، لا سيما والنفخ من روح القدس بأمر القدوس ، فأضف القدس إلى القدوس ، ونزه المقدسة المطهرة عن الظن الكاذب والحدس. {فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا} يعني أمرنا جبريل حتى نفخ في درعها ، فأحدثنا بذلك النفخ المسيح في بطنها. وقد مضى هذا في "النساء" و "مريم" فلا معنى للإعادة. {آيَةً} أي علامة وأعجوبة للخلق ، وعلما لنبوة عيسى ، ودلالة على نفوذ قدرتنا فيما نشاء.
الآية : 92 {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعبدونِ}
قوله تعالى : {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} لما ذكر الأنبياء قال : هؤلاء كلهم مجتمعون على التوحيد ؛ فالأمة هنا بمعنى الدين الذي هو الإسلام ؛ قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما. فأما المشركون فقد خالفوا الكل. {وَأَنَا رَبُّكُمْ} أي إلهكم وحدي. {فاعبد ونُي} أي أفردوني بالعبادة. وقرأ عيسى بن عمرو وابن أبي إسحاق : {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} ورواها
حسين عن أبي عمرو. الباقون {أُمَّةً وَاحِدَةً} بالنصب على القطع بمجيء النكرة بعد تمام الكلام ؛ قال الفراء. الزجاج : انتصب {أُمَّةً} على الحال ؛ أي في حال اجتماعها على الحق ؛ أي هذه أمتكم ما دامت أمة واحدة واجتمعتم على التوحيد فإذا تفرقتم وخالفتم فليس من خالف الحق من جملة أهل الدين الحق ؛ وهو كما تقول : فلان صديقي عفيفا أي ما دام عفيفا فإذا خالف العفة لم يكن صديقي. وأما الرفع فيجوز أن يكون على البدل من {أُمَّتُكُمْ} أو على إضمار مبتدأ ؛ أي إن هذه أمتكم ، هذه أمة واحدة. أو يكون خبرا بعد خبر. ولو نصبت {أمتكم} على البدل من {هذه} لجاز ويكون "أمَّةٌ وَاحِدَةٌ" خبر "إن" .
الآيتان : 93 - 94 {وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ ، فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ}
قوله تعالى : {وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} أي تفرقوا في الدين ؛ قال الكلبي. الأخفش : اختلفوا فيه. والمراد المشركون ؛ ذمهم لمخالفة الحق ، واتخاذهم آلهة من دون الله. قال الأزهري : أي تفرقوا في أمرهم ؛ فنصب {أَمْرَهُمْ} بحذف "في" . فالمتقطع على هذا لازم وعلى الأول متعد. والمراد جميع الخلق ؛ أي جعلوا أمرهم في أديانهم قطعا وتقسموه بينهم ، فمن موحد ، ومن يهودي ، ومن نصراني ، ومن عابد ملك أو صنم. {كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ} أي إلى حكمنا فنجازيهم.
قوله تعالى : {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} {مِنَ} للتبعيض لا للجنس إذ لا قدرة للمكلف أن يأتي بجميع الطاعات فرضها ونفلها ؛ فالمعنى : من يعمل شيئا من الطاعات فرضا أو نفلا وهو موحد مسلم. وقال ابن عباس : مصدقا بمحمد صلى الله عليه وسلم. {فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ} أي لا جحود لعمله ، أي لا يضيع جزاؤه ولا يغطي والكفر ضده الإيمان. والكفر أيضا جحود النعمة ، وهو ضد الشكر. وقد كفره كفورا وكفرانا. وفي ابن مسعود {فَلا كُفْرَ لِسَعْيِهِ} . {وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} لعمله حافظون. نظيره {أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} [آل عمران : 195] أي كل ذلك محفوظ ليجازي به.
الآيات : 95 - 97 {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ ، حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ ، وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ}
قوله تعالى : {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ} قراءة زيد بن ثابت وأهل المدينة {وَحَرَامٌ} وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم. وأهل الكوفة {وَحِرْمٌ} ورويت عن علي وابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم. وهما مثل حل وحلال. وقد روي عن ابن عباس وسعيد بن جبير {وَحَرِمَ} بفتح الحاء والميم وكسر الراء. وعن ابن عباس أيضا وعكرمة وأبي العالية {وَحَرُمَ} بضم الراء وفتح الحاء والميم. وعن ابن عباس أيضا {وَحَرَمَ} وعنه أيضا {وَحَرَّمَ} ، {وَحُرِّمَ} . وعن عكرمة أيضا {وَحَرِمٌ} . عن قتادة ومطر الوارق {وَحَرْمٌ} تسع قراءات. وقرأ السلمي {عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْتُهَا} . واختلف في {لا} في {لا يَرْجِعُونَ} فقيل : هي صلة ؛ روي ذلك عن ابن عباس ، واختاره أبو عبيد ؛ أي وحرام قرية أهلكناها أن يرجعوا بعد الهلاك. وقيل : ليست بصلة ، وإنما هي ثابتة ويكون الحرام بمعنى الواجب ؛ أي وجب على قرية ؛ كما قالت الخنساء :
وإن حراما لا أرى الدهر باكيا ... على شجوه إلا بكيت على صخر
تريد أخاها ؛ فـ "لا" ثابتة على هذا القول. قال النحاس : والآية مشكلة ومن أحسن ما قيل فيها وأجله ما رواه ابن عيينة وابن علية وهشيم وابن إدريس ومحمد بن فضيل وسليمان بن حيان ومعلى عن داود بن أبي هند عن عكرمة عن بن عباس في قول الله عز وجل : {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} قال : وجب انهم لا يرجعون ؛ قال : لا يتوبون. قال أبو جعفر : واشتقاق هذا بين في اللغة ، وشرحه : أن معنى حرم الشيء حظر ومنع منه ، كما أن معنى أحل أبيح ولم يمنع منه ، فإذا كان {حَرَامٌ} و {حِرْمٌ} بمعنى واجب فمعناه أنه قد ضيق الخروج
منه ومنع فقد دخل في باب المحظور بهذا ؛ فأما قول أبي عبيدة : إن {لا} زائدة فقد رده عليه جماعة ؛ لأنها لا تزاد في مثل هذا الموضع ، ولا فيما يقع فيه إشكال ، ولو كانت زائدة لكان التأويل بعيدا أيضا ؛ لأنه إن أراد وحرام على قرية أهلكناها أن يرجعوا إلى الدنيا فهذا ما لا فائدة فيه ، وإن أراد التوبة فالتوبة لا تحرم. وقيل : في الكلام إضمار أي وحرام على قرية حكمنا باستئصالها ، أو بالختم على قلوبها أن يتقبل منهم عمل لأنهم لا يرجعون أي لا يتوبون ؛ قال الزجاج وأبو علي ؛ و {لا} غير زائدة. وهذا هو معنى قول ابن عباس.
قوله تعالى : {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ} تقدم القول فيهم. وفي الكلام حذف ، أي حتى إذا فتح سد يأجوج ومأجوج ، مثل {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف : 82] . {وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ} قال ابن عباس : من كل شرف يقبلون ؛ أي لكثرتهم ينسلون من كل ناحية. والحدب ما ارتفع من الأرض ، والجمع الحداب مأخوذ من حدبة الظهر ؛ قال عنترة :
فما رعشت يداي ولا ازدهاني ... تواترهم إلي إلي من الحداب
وقيل : {يَنْسِلُونَ} يخرجون ؛ ومنه قول امرئ القيس :
فسلي ثيابي من ثيابك تنسل
وقيل : يسرعون ؛ ومنه قول النابغة :
عسلان الذئب أمسى قاربا ... برد الليل عليه فنسل
يقال : عسل الذئب يعسل عسلا وعسلانا إذا أعنق وأسرع. وفي الحديث : "كذب عليك العسل" أي عليك بسرعة المشي. وقال الزجاج : والنسلان مشية الذئب إذا أسرع ؛ يقال : نسل فلان في العدو ينسل بالكسر والضم نسلا ونسولا ونسلانا ؛ أي أسرع. ثم قيل في الذين ينسلون من كل حدب : إنهم يأجوج ومأجوج ، وهو الأظهر ؛ وهو قول ابن مسعود وابن عباس. وقيل : جميع الخلق ؛ فإنهم يحشرون إلى أرض الموقف ، وهم يسرعون من كل
صوب. وقرئ في الشواذ {وَهُمْ مِنْ كُلِّ جَدَثٍ يَنْسِلُونَ} أخذا من قوله : {فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} [يس : 51] . وحكى هذه القراءة المهدوي عن ابن مسعود والثعلبي عن مجاهد وأبي الصهباء.
قوله تعالى : {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} يعني القيامة. وقال الفراء والكسائي وغيرهما : الواو زائدة مقحمة ؛ والمعنى : حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج اقترب الوعد الحق {فَاقْتَرَبَ} جواب "إذا" . وأنشد الفراء :
فلما أجزنا ساحة الحي وانتحى
أي انتحى ، والواو زائدة ؛ ومنه قوله تعالى : {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ. وَنَادَيْنَاهُ} [الصافات : 103 - 104] أي للجبين ناديناه. وأجاز الكسائي أن يكون جواب "إذا" {فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا} ويكون قوله : {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} معطوفا على الفعل الذي هو شرط. وقال البصريون : الجواب محذوف والتقدير : قالوا يا ويلنا ؛ وهو قول الزجاج ، وهو قول حسن. قال الله تعالى : {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعبد هُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر : 3] المعنى : قالوا ما نعبد هم ، وحذف القول كثير. {فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ} {هِيَ} ضمير الأبصار ، والأبصار المذكورة بعدها تفسير لها كأنه قال : فإذا أبصار الذين كفروا شخصت عند مجيء الوعد. وقال الشاعر :
لعمر أبيها لا تقول ظعينتي ... ألا فرَّ عني مالك بن أبي كعب
فكنى عن الظعينة في أبيها ثم أظهرها. وقال الفراء : "هي" عماد ، مثل {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ} [الحج : 46] . وقيل : إن الكلام تم قول "هي" التقدير : فإذا هي ؛ بمعنى القيامة بارزة واقعة ؛ أي من قربها كأنها آتية حاضرة ابتداء فقال : {أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا} على تقديم الخبر على الابتداء ؛ أي أبصار الذين كفروا شاخصة من هذا اليوم ؛ أي من هوله لا تكاد تطرف ؛ يقولون : يا ويلنا إنا كنا ظالمين ووضعنا العبادة في غير موضعها.
الآية : 98 {إِنَّكُمْ وَمَا تَعبد ونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ}
فيه أربع مسائل : -
الأولى : قوله تعالى : {إِنَّكُمْ وَمَا تَعبد ونَ} قال ابن عباس : آية لا يسألني الناس عنها! لا أدري أعرفوها فلم يسألوا عنها ، أو جهلوها فلا يسألون عنها ؛ فقيل : وما هي ؟ قال : {إِنَّكُمْ وَمَا تَعبد ونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} لما أنزلت شق على كفار قريش ، وقالوا : شتم آلهتنا ، وأتوا ابن الزبعرى وأخبروه ، فقال : لو حضرته لرددت عليه. قالوا : وما كنت تقول ؟ قال : كنت أقول له : هذا المسيح تعبد ه اليهود تعبد عزيرا أفهما من حصب جهنم ؟ فعجبت قريش من مقالته ، ورأوا أن محمدا قد خصم ؛ فأنزل الله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء : 101] وفيه نزل {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً} [الزخرف : 57] يعني ابن الزبعرى {إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} [الزخرف : 57] بكسر الصاد ؛ أي يضجون ؛ وسيأتي.
الثانية : هذه الآية أصل القول بالعموم وأن له صيغا مخصوصة ، خلافا لمن قال : ليست له صيغة موضوعة للدلالة عليه ، وهو باطل بما دلت عليه هذه الآية وغيرها ؛ فهذا عبد الله بن الزبعرى قد فهم "ما" في جاهليته جميع من عبد ، ووافقه على ذلك قريش وهم العرب الفصحاء ، واللسن البلغاء ، ولو لم تكن للعموم لما صح أن يستثنى منها ، وقد وجد ذلك فهي للعموم وهذا واضح.
الثالثة : قراءة العامة بالمهملة أي إنكم يا معشر الكفار والأوثان التي تعبد ونها من دون الله وقود جهنم ؛ قال ابن عباس قال مجاهد وعكرمة وقتادة : حطبها. وقرأ علي بن أبي طالب وعائشة رضوان الله عليهما {حَطَبُ جَهَنَّمَ} بالطاء. وقرأ ابن عباس {حَضبُ} بالضاد المعجمة ؛ قال الفراء : يريد الحصب. قال : وذكر لنا أن الحضب في لغة أهل
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|