عرض مشاركة واحدة
  #501  
قديم 06-07-2025, 10:05 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,450
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (12)
سُورَةُ المؤمنون
من صــ 144 الى صــ 153
الحلقة (501)





قوله تعالى : {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ} عرفهم كثرة نعمه وكمال قدرته. {قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ} أي ما تشكرون إلا شكرا قليلا. وقيل : أي لا تشكرون البتة.
الآية : 79 {وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}
قوله تعالى : {وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ} أي أنشأكم وبثكم وخلقكم. "وإليه تحشرون" أي تجمعون للجزاء.
الآيات : 80 - 89 {وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ ، بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ ، قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ، لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ، قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ، قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ ، قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ}
قوله تعالى : {وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} أي جعلهما مختلفين ؛ كقولك : لك الأجر والصلة ؛ أي إنك تؤجر وتوصل ؛ قاله الفراء. وقيل : اختلافهما نقصان أحدهما وزيادة الآخر. وقيل : اختلافهما في النور والظلمة. وقيل : تكررهما يوما بعد ليلة وليلة بعد يوم. ويحتمل خامسا : اختلاف ما مضى فيهما من سعادة وشقاء وضلال وهدى. {أَفَلا تَعْقِلُونَ} كنه قدرته وربوبيته ووحدانيته ، وأنه لا يجوز أن يكون له شريك من خلقه ، وأنه قادر على البعث. ثم عيرهم بقولهم وأخبر عنهم
أنهم {بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ} هذا لا يكون ولا يتصور. {لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ} أي من قبل مجيء محمد صلى الله عليه وسلم ، فلم نر له حقيقة. {إِنْ هَذَا} أي ما هذا {إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} أي أباطيلهم وترهاتهم ؛ وقد تقدم هذا كله. قال الله تعالى : {قُلْ} يا محمد جوابا لهم عما قالوه {لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} يخبر بربوبيته ووحدانيته وملكه الذي لا يزول ، وقدرته التي لا تحول ؛ فـ {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} ولا بد لهم من ذلك. {قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} أي أفلا تتعظون وتعلمون أن من قدر على خلق ذلك ابتداء فهو على إحياء الموتى بعد موتهم قادر.
قوله تعالى : {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ، سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} يريد أفلا تخافون حيث تجعلون لي ما تكرهون ؛ زعمتم أن الملائكة بناتي ، وكرهتم لأنفسكم البنات. {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} بريد السموات وما فوقها وما بينهن ، والأرضين وما تحتهن وما بينهن ، وما لا يعلمه أحد إلا هو. وقال مجاهد : {مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} خزائن كل شيء. الضحاك : ملك كل شيء. والملكوت من صفات المبالغة كالجبروت والرهبوت ؛ وقد مضى في "الأنعام" . {وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أي يمنع ولا يمنع منه. وقيل : {يُجِيرُ} يؤمن من شاء. {وَلا يُجَارُ} أي لا يؤمن من أخافه. ثم قيل : هذا في الدنيا ؛ أي من أراد الله إهلاكه وخوفه لم يمنعه منه مانع ، ومن أراد نصره وأمنه لم يدفعه من نصره وأمنه دافع. وقيل : هذا في الآخرة ، أي لا يمنعه من مستحق الثواب مانع ولا يدفعه عن مستوجبه العذاب دافع . {فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} أي فكيف تخدعون وتصرفون عن طاعته وتوحيده. أو كيف يخيل إليكم أن تشركوا به ما لا يضر ولا ينفع! والسحر هو التخييل. وكل هذا احتجاج على العرب المقرين بالصانع وقرأ أبو عمرو {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} في الموضعين الأخيرين ؛ وهي قراءة أهل العراق. الباقون {لِلَّهِ} ، ولا خلاف في الأول أنه {لِلَّهِ} ؛ لأنه جواب لـ {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا} فلما تقدمت اللام في {لِمَنِ} رجعت في الجواب. ولا خلاف أنه
مكتوب في جميع المصاحف بغير ألف. وأما من قرأ {سَيَقُولُونَ الله} فن السؤال بغير لام فجاء الجواب على لفظه ، وجاء في الأول {لِلَّهِ} لما كان السؤال باللام. وأما من قرأ {لِلَّهِ} باللام في الأخيرين وليس في السؤال لام فن معنى {مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} : قل لمن السموات السبع ورب العرش العظيم. فكان الجواب {لِلَّهِ} ؛ حين قدرت اللام في السؤال. وعلة الثالثة كعلة الثانية. وقال الشاعر :
إذا قيل من رب المزالف والقرى ... ورب الجياد الجرد قلت لخالد
أي لمن المزالف. ودلت هذه الآيات على جواز جدال الكفار وإقامة الحجة عليهم. وقد تقدم في "البقرة" . ونبهت على أن من ابتدأ بالخلق والاختراع والإيجاد والإبداع هو المستحق للألوهية والعبادة.
الآية : 90 - 92 {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ، مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ، عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}
قوله تعالى : {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ} أي بالقول الصدق ، لا ما تقوله الكفار من إثبات الشريك ونفي البعث. {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} أن الملائكة بنات الله. فقال الله تعالى : {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ} {مِنْ} صلة. {وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} {مِنْ} زائدة ؛ والتقدير : ما اتخذ الله ولدا كما زعمتم ، ولا كان معه إله فيما خلق. وفي الكلام حذف ؛ والمعنى : لو كانت معه آلهة لانفرد كل إله بخلقه. {وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} أي ولغالب وطلب القوي الضعيف كالعادة بين الملوك ، وكان الضعيف المغلوب لا يستحق الإلهية. وهذا الذي يدل على نفي الشريك يدل على نفي الولد أيضا ؛ لأن الولد ينازع الأب في الملك منازعة الشريك.
{سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} تنزيها له عن الولد والشريك. {عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} تنزيه وتقديس. وقرأ نافا وأبو بكر وحمزة والكسائي {عالم} بالرفع على الاستئناف ؛ أي هو عالم الغيب. الباقون بالجر على الصفة لله. وروى رويس عن يعقوب {عالِم} إذا وصل خفضا. و {عالم} إذا ابتدأ رفعا.
الآيتان : 93 - 94 {قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ ، رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}
علمه ما يدعو به ؛ أي قل رب ، أي يا رب إن أريتني ما يوعدون من العذاب. {فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} أي في نزول العذاب بهم ، بل أخرجني منهم. وقيل : النداء معترض ؛ و "ما" في "إمّا" زائدة. وقيل : إن أصل إما إن ما ؛ فـ {إن} شرط و {ما} شرط ، فجمع بين الشرطين توكيدا ، والجواب {فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} ؛ أي إذا أردت بهم عقوبة فأخرجني منهم. وكان عليه السلام يعلم أن الله تعالى لا يجعله في القوم الظالمين إذا نزل بهم العذاب ، ومع هذا أمره الرب بهذا الدعاء والسؤال ليعظم أجره وليكون في كل الأوقات ذاكرا لربه تعالى.
الآية : 95 {وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ}
نبه على أن خلاف المعلوم مقدور ، وقد أراه الله تعالى ذلك فيهم بالجوع والسيف ، ونجاه الله ومن آمن به من ذلك.
الآية : 96 {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ}
قوله تعالى : {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ} أمر بالصفح ومكارم الأخلاق ؛ فما كان منها لهذه الأمة فيما بينهم فهو محكم باق في الأمة أبدا. وما كان فيها من موادعة الكفار وترك التعرض لهم والصفح عن أمورهم فمنسوخ بالقتال. "نحن أعلم بما يصفون" أي من الشرك والتكذيب. وهذا يقتضي أنها آية موادعة ، والله تعالى أعلم
الآيتان : 97 - 98 {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ ، وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ}
فيه مسألتان : -
الأولى : - قوله تعالى : {مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ} "الهمزات" هي جمع همزة. والهمز في اللغة النخس والدفع ؛ يقال : همزة ولمزه ونخسه دفعه. قال الليث : الهمز كلام من وراء القفا ، واللمز مواجهة. والشيطان يوسوس فيهمس في وسواسه في صدر ابن آدم ؛ وهو قوله : {أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ} أي نزغات الشياطين الشاغلة عن ذكر الله تعالى. وفي الحديث : كان يتعوذ من همز الشيطان ولمزه وهمسه. قال أبو الهيثم : إذا أسر الكلام وأخفاه فذلك الهمس من الكلام. وسمي الأسد هوسا ؛ لأنه يمشي بخفه لا يسمع صوت وطئه. وقد تقدم في {طه} .
الثاينة : أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالتعوذ من الشيطان في همزاته ، وهي سورات الغضب التي لا يملك الإنسان فيها نفسه ، كأنها هي التي كانت تصيب المؤمنين مع الكفار فتقع المحادة فلذلك اتصلت بهذه الآية. فالنزغات وسورات الغضب الواردة من الشيطان هي المتعوذ منها في الآية ؛ وقد تقدم في آخر "الأعراف" بيانه مستوفى ، وفي أول الكتاب أيضا. وروي عن علي بن حرب بن محمد الطائي حدثنا سفيان عن أيوب عن محمد بن حبان أن خالدا كان يؤرق من الليل ؛ فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فأمره أن يتعوذ بكلمات الله التامة من غضب الله وعقابه ومن شر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون. وفي كتاب أبي داود قال عمر : وهمزه الموتة ؛ قال ابن ماجة : الموتة يعني الجنون. والتعوذ أيضا من الجنون وكيد. وفي قراءة أبي {رَبِّ عائذاً بك من همزات الشياطين ، وعائذاً بك أن يَحْضُرونِ} ؛ أي يكونوا معي في أموري ،
فإنهم إذ ا حضروا الإنسان كانوا معدين للهمز ، وإذا لم يكن حضور فلا همز. وفي صحيح مسلم عن جابر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "إن الشيطان يحضر أحدكم عند كل شيء من شأنه حتى يحضره عند طعامه فإذا سقطت من أحدكم اللقمة فليمط ما كان بها من أذى ثم ليأكلها ولا يدعها للشيطان فإذا فرغ فليلعق أصابعه فإنه لا يدري في أي طعامه البركة" .
الآيتان : 99 - 100 {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ ، لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}
قوله تعالى : {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ} عاد الكلام إلى ذكر المشركين ؛ أي قالوا {أَإِذَا مِتْنَا - إلى قوله - إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} . ثم احتج عليهم وذكرهم قدرته على كل شيء ، ثم قال هم مصرون على ذلك حتى إذا جاء أحدهم الموت تيقن ضلالته وعاين الملائكة التي تقبض روحه ؛ كما قال تعالى : {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ} [الأنفال : 50] . {قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} تمنى الرجعة كي يعمل صالحا فيما ترك. وقد يكون القول في النفس ؛ قال الله عز وجل : {وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} [المجادلة : 8] . فأما قوله : {ارْجِعُونِ} وهو مخاطب ربه عز وجل ولم يقل "ارجعني" جاء على تعظيم الذكر للمخاطب. وقيل : استغاثوا بالله عز وجل أولا ، فقال قائلهم : ثم رجع إلى مخاطبة الملائكة فقال : ارجعون إلى الدنيا ؛ قال ابن جريج. وقيل : إن معنى {ارْجِعُونِ} على جهة التكرير ؛ أي أرجعني أرجعني أرجعني وهكذا. قال المزني في قوله تعالى : {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ} [ق : 24] قال : معناه ألق ألق. قال الضحاك : المراد به أهل الشرك.
قلت : ليس سؤال الرجعة مختصا بالكافر فقد يسألها المؤمن كما في آخر سورة المنافقين على ما يأتي. ودلت الآية على أن أحدا لا يموت حتى يعرف اضطرارا أهو من أولياء
الله أم من أعداء الله ، ولولا ذلك لما سأل الرجعة ، فيعلموا ذلك قبل نزول الموت وذواقه.
قوله تعالى : {لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً} قال ابن عباس : يريد أشهد أن لا إله إلا الله. {فِيمَا تَرَكْتُ} أي فيما ضيعت وتركت العمل به من الطاعات. وقيل {فِيمَا تَرَكْتُ} من المال فأتصدق. و {لَعَلّ} تتضمن ترددا ؛ وهذا الذي يسأل الرجعة قد استيقن العذاب ، وهو يوطن نفسه على العمل الصالح قطعا من غير تردد. فالتردد يرجع إما إلى رده إلى الدنيا ، وإما إلى التوفيق ؛ أي أعمل صالحا إن وفقتني ؛ إذ ليس على قطع من وجود القدرة والتوفيق لو رد إلى الدنيا . {كَلاََّ} هذه كلمة رد ؛ أي ليس الأمر على ما يظنه من أنه يجاب إلى الرجوع إلى الدنيا ، بل هو كلام يطيح في أدراج الريح. وقيل : لو أجيب إلى ما يطلب لما وفى بما يقول ؛ كما قال : {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام : 28] . وقيل : {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} ترجع إلى الله تعالى ؛ أي لا خلف في خبره ، وقد أخبر أنه لن يؤخر نفسا إذا جاء أجلها ، وأخبر بأن هذا الكافر لا يؤمن. وقيل : {إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} عند الموت ، ولكن لا تنفع. {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ} أي ومن أمامهم وبين أيديهم. وقيل : من خلفهم. {بَرْزَخٌ} أي حاجز بين الموت والبعث ؛ قال الضحاك ومجاهد وابن زيد. وعن مجاهد أيض أن البرز هو الحاجز بين الموت والرجوع إلى الدنيا. وعن الضحاك : هو ما بين الدنيا والآخرة. ابن عباس. حجاب. السدي : أجل. قتادة : بقية الدنيا. وقيل : الإمهال إلى يوم القيامة ؛ حكاه ابن عيسى. الكلبي : هو الأجل ما بين النفختين ، وبينهما أربعون سنة. وهذه الأقوال متقاربة. وكل حاجز بين شيئين فهو برزخ. قال الجوهري : البرزخ الحاجز بين الشيئين. والبرزخ ما بين الدنيا والآخرة من وقت الموت إلى البعث ؛ فمن مات فقد دخل في البرز. وقال رجل بحضرة الشعبي : رحم الله فلانا فقد صار من أهل الآخرة! فقال : لم يصر من أهل الآخرة ، ولكنه صار من أهل البرزخ ، وليس من الدنيا ولا من الآخرة. وأضيف {يَوْمِ} إلى {يُبْعَثُونَ} لأنه ظرف زمان ، والمراد بالإضافة المصدر.
الآية : 101 {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ}
قوله تعالى : {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ} المراد بهذا النفخ النفخة الثانية. {فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} قال ابن عباس : لا يفتخرون بالأنساب في الآخرة كما يفتخرون بها في الدنيا ، ولا يتساءلون فيها كما يتساءلون في الدنيا ؛ من أي قبيلة أنت ولا من أي نسب ، ولا يتعارفون لهول ما أذهلهم. وعن ابن عباس أن ذلك في النفخة الأولى حين يصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون ، ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون ، وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون. وسأل رجل ابن عباس عن هذه الآية وقول : {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات : 50] فقال : لا يتساءلون في النفخة الأولى ؛ لأنه لا يبقى على الأرض حي ، فلا أنساب ولا تساؤل. أما قوله : {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} فإنهم إذا دخلوا الجنة تساءلوا. وقال ابن مسعود : إنما عنى في هذه الآية النفخة الثانية. وقال أبو عمر زادان : دخلت على ابن مسعود فوجدت أصحاب الخير واليمنة قد سبقوني إليه ، فناديت بأعلى صوت ، : يا عبد الله بن مسعود! من أجل أني رجل أعجمي أدنيت هؤلاء وأقصيتني! فقال : ادنه ؛ فدنوت ، حتى ما كان بيني وبينه جليس فسمعته يقول : يؤخذ بيد العبد أو الأمة يوم القيامة فينصب على رؤوس الأولين والآخرين ثم ينادي مناد : هذا فلان بن فلان ، من كان له حق فليأت إلى حقه ؛ فتفرح المرأة أن يدور لها الحق على أبيها أو على زوجها أو على أخيها أو على ابنها ؛ ثم قرأ ابن مسعود : {فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} فيقول الرب سبحانه وتعالى : "آت هؤلاء حقوقهم" فيقول : يا رب قد فنيت الدنيا فمن أين أوتيهم ؛ فيقول الرب للملائكة : "خذوا من حسناته فأعطوا كل إنسان بقدر طلبته" فإن كان وليا لله فضلت من حسناته مثقال حبة من خردل فيضاعفها الله تعالى حتى يدخله بها الجنة ، ثم قرأ ابن مسعود إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ
مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً [النساء : 40] . وإن كان شقيا قالت الملائكة : رب! فنيت حسناته وبقي طالبون ؛ فيقول الله تعالى : "خذوا من أعمالهم فأضيفوها إلى سيئاته وصكوا له صكا إلى جهنم" .
الآيتان : 102 - 105 {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ، وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ}
تقدم الكلام فيهما.
الآيتان : 104 - 105 {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ ، أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ}
قوله تعالى : {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ} ويقال "تنفح" بمعناه ؛ ومنه {وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ} [الأنبياء : 46] . إلا أن {تلفح} أبلغ بأسا ؛ يقال : لفحته النار والسموم بحرها أحرقته. ولفحته بالسيف لفحة إذا ضربته به [ضربة] خفيفة. {وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} قال ابن عباس : عابسون. وقال هل اللغة : الكلوح تكشر في عبوس. والكالح : الذي قد تشمرت شفتاه وبدت أسنانه. قال الأعمش :
وله المقدم لا مثل له ... ساعة الشدق عن الناب كلح
وقد كلح الرجل كلوحا وكلاحا. وما أقبح كلحته ؛ يراد به الفم وما حواليه. ودهر كالح أي شديد. وعن ابن عباس أيضا {وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} يريد كالذي كلح وتقلصت شفتاه وسال صديده. وقال ابن مسعود : ألم تر إلى الرأس المشيط بالنار ، وقد بدت أسنانه وقلصت شفتاه. وفي الترمذي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ - قال - تشويه النار فتقلص شفته العليا حتى تبل وسط رأسه وتسترخي شفته السفلى حتى تضرب سرته" قال : هذا حديث حسن صحيح غريب
الآيات : 106 - 108 {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ ، رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ ، قَالَ اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ}
قوله تعالى : {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} قراءة أهل المدينة وأبي عمرو وعاصم {شِقْوَتُنَا} وقرأ الكوفيون إلا عاصما {شَقَاوَتُنَا} . وهذه القراءة مروية عن ابن مسعود والحسن. ويقال : شقاء وشقا ؛ بالمد والقصر. وأحسن ما قيل في معناه : غلبت علينا لذاتنا وأهواؤنا ؛ فسمى اللذات والأهواء شقوة ، لأنهما يؤديان إليها ، كما قال الله عز وجل : {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} [النساء : 10] ؛ لأن ذلك يؤديهم إلى النار. وقيل : ما سبق في علمك وكتب علينا في أم الكتاب من الشقاوة. وقيل : حسن الظن بالنفس وسوء الظن بالخلق. {وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ} أي كنا في فعلنا ضالين عن الهدى. وليس هذا اعتذار منهم إنما هو إقرار ، ويدل على ذلك قولهم : {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} طلبوا الرجعة إلى الدنيا كما طلبوها عند الموت. {فَإِنْ عُدْنَا} إلى الكفر {فَإِنَّا ظَالِمُونَ} لأنفسنا بالعود إليه فيجابون بعد ألف سنة : {اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} أي ابعدوا في جهنم ؛ كما يقال للكلب : اخسأ ؛ أي أبعد. خسأت الكلب خسئا طردته. وخسأ الكلب بنفسه خسوءا ، يتعدى ولا يتعدى. وانخسأ الكلب أيضا. وذكر ابن المبارك قال : حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة يذكره عن أبي أيوب عن عبد الله بن عمرو بن العاصي قال : إن أهل جهنم يدعون مالكا فلا يجيبهم أربعين عاما ، ثم يرد عليهم : إنكم ماكثون. قال : هانت والله دعوتهم على مالك ورب مالك. قال : ثم يدعون ربهم فيقولون : {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ. رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} . قال : فيسكت عنهم قدر الدنيا مرتين. قال : ثم يرد عليهم اخسؤوا فيها. قال : فوالله ما نَبَس القوم بعدها بكلمة ، وما هو إلا الزفير والشهيق من نار جهنم




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 41.89 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 41.26 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.50%)]