
06-07-2025, 10:23 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,290
الدولة :
|
|
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى

تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (12)
سُورَةُ النور
من صــ 194 الى صــ 203
الحلقة (506)
الولد ويسقط الحد رفع الفراش. وكان عثمان البتي لا يرى التلاعن ينقص شيئا من عصمة الزوجين حتى يطلق. وهذا قول لم يتقدمه إليه أحد من الصحابة ؛ على أن البتي قد استحب للملاعن أن يطلق بعد اللعان ، ولم يستحسنه قبل ذلك ؛ فدل على أن اللعان عنده قد أحدث حكما. وبقول عثمان قال جابر بن زيد فيما ذكره الطبري ، وحكاه اللخمي عن محمد بن أبي صفرة. ومشهور المذهب أن نفس تمام اللعان بينهما فرقة. واحتج أهل هذه المقالة بأنه ليس في كتاب الله تعالى إذا لاعن أو لاعنت يجب وقوع الفرقة ، وبقول عويمر : كذبت عليها إن أمسكتها ؛ فطلقها ثلاثا ، قال : ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك عليه ولم يقل له لم قلت هذا ، وأنت لا تحتاج إليه ؛ لأن باللعان قد طلقت. والحجة لمالك في المشهور ومن وافقه قوله عليه السلام : "لا سبيل لك عليها" . وهذا إعلام منه أن تمام اللعان رفع سبيله عنها وليس تفريقه بينهما باستئناف حكم وإنما كان تنفيذا لما أوجب الله تعالى بينهما من المباعدة ، وهو معنى اللعان في اللغة.
السابعة والعشرون : ذهب الجمهور من العلماء أن المتلاعنين لا يتناكحان أبدا ، فإن أكذب نفسه جلد الحد ولحق به الولد ، ولم ترجع إليه أبدا. وعلى هذا السنة التي لا شك فيها ولا اختلاف. وذكر ابن المنذر عن عطاء أن الملاعن إذا أكذب نفسه بعد اللعان لم يحد ، وقال : قد تفرقا بلعنة من الله. وقال أبو حنيفة ومحمد : إذا أكذب نفسه جلد الحد ولحق به الولد ، وكان خاطبا من الخطاب إن شاء ؛ وهو قول سعيد بن المسيب والحسن وسعيد بن جبير وعبدالعزيز بن أبي سلمة ، وقالوا : يعود النكاح حلالا كما لحق به الولد ؛ لأنه لا فرق بين شيء من ذلك. وحجة الجماعة قوله عليه السلام : "لا سبيل لك عليها" ؛ ولم يقل إلا أن تكذب نفسك. وروى ابن إسحاق وجماعة عن الزهري قال : فمضت السنة أنهما إذا تلاعنا فرق بينهما فلا يجتمعان أبدا. ورواه الدارقطني ، ورواه مرفوعا من حديث سعيد بن جبير عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "المتلاعنان إذا افترقا لا يجتمعان أبدا" . وروي عن علي وعبد قالا : مضت السنة ألا يجتمع المتلاعنان. عن علي : أبدا.
الثامنة والعشرون : اللعان يفتقر إلى أربعة أشياء :
عدد الألفاظ : وهو أربع شهادات على ما تقدم.
والمكان : وهو أن يقصد به أشرف البقاع بالبلدان ، إن كان بمكة فعند الركن والمقام ، وإن كان بالمدينة فعند المنبر ، وإن كان ببيت المقدس فعند الصخرة ، وإن كان في سائر البلدان ففي مساجدها ، وإن كانا كافرين بعث بهما إلى الموضع الذي يعتقدان تعظيمه ، إن كانا يهوديين فالكنيسة ، وإن كانا مجوسيين ففي بيت النار ، وإن كانا لا دين لهما مثل الوثنيين فإنه يلاعن بينهما في مجلس حكمه.
والوقت : وذلك بعد صلاة العصر.
وجمع الناس : وذلك أن يكون هناك أربعة أنفس فصاعدا ؛ فاللفظ وجمع الناس مشروطان ، والزمان والمكان مستحبان.
التاسعة والعشرون : من قال : إن الفراق لا يقع إلا بتمام التعانهما ، فعليه لو مات أحدهما قبل تمامه ورثه الآخر. ومن قال : لا يقع إلا بتفريق الإمام فمات أحدهما قبل ذلك وتمام اللعان ورثه الآخر. وعلى قول الشافعي : إن مات أحدهما قبل أن تلتعن المرأة لم يتوارثا.
الموفية ثلاثين : قال ابن القصار : تفريق اللعان عندنا ليس بفسخ ؛ وهو مذهب المدونة : فإن اللعان حكم تفريق الطلاق ، ويعطى لغير المدخول بها نصف الصداق. وفي مختصر ابن الجلاب : لا شيء لها ؛ وهذا على أن تفريق اللعان فسخ.
الآيات : 11 - 22 إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْأِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ، لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ ،
لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ ، وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ ، إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ ، وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ، يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ، وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ، إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ، وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ، وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ
فيه ثمان وعشرون مسألة : -
الأولى : قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} {عُصْبَةٌ } خبر {إِنَّ} . ويجوز نصبها على الحال ، ويكون الخبر {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْأِثْمِ} . وسبب نزولها ما رواه الأئمة من حديث الإفك الطويل في قصة عائشة رضوان الله عليها ، وهو خبر صحيح مشهور ، أغنى اشتهاره عن ذكره ، وسيأتي مختصرا. وأخرجه البخاري تعليقا ، وحديثه أتم. قال : وقال أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة ، وأخرجه أيضا عن محمد بن كثير عن أخيه سليمان من حديث مسروق عن أم رومان أم عائشة أنها قالت : لما رميت عائشة خرت مغشيا عليها. وعن موسى بن إسماعيل من حديث أبي وائل قال : حدثني مسروق بن الأجدع قال حدثتني أم رومان وهي أم عائشة قالت : بينا أنا قاعدة أنا وعائشة إذ ولجت امرأة من الأنصار فقالت : فعل الله بفلان وفعل بفلان فقالت أم رومان : وما ذاك ؟ قالت ابني فيمن حدّث الحديث قالت : وما ذاك ؟ قالت كذا وكذا. قالت عائشة : سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت نعم. قالت : وأبو بكر ؟ قالت نعم فخرت مغشيا عليها فما أفاقت إلا وعليها حمى بنافض فطرحت عليها ثيابها فغطيتها فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال : "ما شأن هذه ؟" فقلت : يا رسول الله ، أخذتها الحمى بنافض. قال : "فلعل في حديث تُحُدث به" قالت نعم. فقعدت عائشة فقالت : والله ، لئن حلفت لا تصدقوني ولئن قلت لا تعذروني مثلي ومثلكم كيعقوب وبنيه والله المستعان على ما تصفون. قالت : وانصرف ولم يقل شيئا فأنزل الله عذرها. قالت : بحمد الله لا بحمد أحد ولا بحمدك. قال أبو عبد الله الحميدي : كان بعض من لقينا من الحفاظ البغداديين يقول الإرسال في هذا الحديث أبين واستدل على ذلك بأن أم رومان توفيت في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومسروق لم يشاهد النبي صلى الله عليه وسلم بلا خلاف. وللبخاري من حديث عبيدالله بن عبد الله بن أبي مليكة أن عائشة كانت تقرأ إذ تَلِقُونَه
بِألسنَتِكُمْ وتقول : الولق الكذب. قال ابن أبي مليكة : وكانت أعلم بذلك من غيرها لأنه نزل فيها. قال البخاري : وقال معمر بن راشد عن الزهري : كان حديث الإفك في غزوة المريسيع. قال ابن إسحاق : وذلك سنة ست. وقال موسى بن عقبة : سنة أربع. وأخرج البخاري من حديث معمر عن الزهري قال : قال لي الوليد بن عبد الملك : أبلغك أن عليا كان فيمن قذف ؟ قال : قلت لا ، ولكن قد أخبرني رجلان من قومك أبو سلمة بن عبد الرحمن وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن عائشة قالت لهما : كان عليٌّ مُسَلًّما في شأنها. وأخرجه أبو بكر الإسماعيلي في كتابه المخرج على الصحيح من وجه آخر من حديث معمر عن الزهري ، وفيه : قال كنت عند الوليد بن عبد الملك فقال : الذي تولى كبره منهم علي بن أبي طالب ؟ فقلت لا ، حدثني سعيد بن المسيب وعروة وعلقمة وعبيدالله بن عبد الله بن عتبة كلهم يقول سمعت عائشة تقول : والذي تولى كبره عبد الله بن أبي. وأخرج البخاري أيضا من حديث الزهري عن عروة عن عائشة : والذي تولى كبره منهم عبد الله بن أبي.
الثانية : قوله تعالى : {بِالْأِفْكِ} الإفك الكذب. والعصبة ثلاثة رجال ؛ قال ابن عباس. وعنه أيضا من الثلاثة إلى العشرة. ابن عيينة : أربعون رجلا. مجاهد : من عشرة إلى خمسة عشر. وأصلها في اللغة وكلام العرب الجماعة الذين يتعصب بعضهم لبعض. والخير حقيقته ما زاد نفعه على ضره. والشر ما زاد ضره على نفعه. وإن خيرا لا شر فيه هو الجنة. وشرا لا خير فيه هو جهنم. فأما البلاء النازل على الأولياء فهو خير ؛ لأن ضرره من الألم قليل في الدنيا ، وخيره هو الثواب الكثير في الأخرى. فنبه الله تعالى عائشة وأهلها وصفوان ، إذ الخطاب لهم في قوله {لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} ؛ لرجحان النفع والخير على جانب الشر.
الثالثة : لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعائشة معه في غزوة بني المصطلق وهي غزوة المريسيع ، وقفل ودنا من المدينة آذن ليلة بالرحيل قامت حين آذنوا بالرحيل
فمشت حتى جاوزت الجيش ، فلما فرغت من شأنها أقبلت إلى الرحل فلمست صدرها فإذا عقد من جزع ظفار قد انقطع ، فرجعت فالتمسته فحبسها ابتغاؤه ، فوجدته وانصرفت فلما لم تجد أحدا ، وكانت شابة قليلة اللحم ، فرفع الرجال هودجها ولم يشعروا بزوالها منه ؛ فلما لم تجد أحدا اضطجعت في مكانها رجاء أن تفتقد فيرجع إليها ، فنامت في الموضع ولم يوقظها إلا قول صفوان بن المعطل : إنا لله وإنا إليه راجعون ؛ وذلك أنه كان تخلف وراء الجيش لحفظ الساقة. وقيل : إنها استيقظت لاسترجاعه ، ونزل عن ناقته وتنحى عنها حتى ركبت عائشة ، وأخذ يقودها حتى بلغ بها الجيش في نحر الظهيرة ؛ فوقع أهل الإفك في مقالتهم ، وكان الذي يجتمع إليه فيه ويستوشيه ويشعله عبد الله بن أبي بن سلول المنافق ، وهو الذي رأى صفوان آخذا بزمام ناقة عائشة فقال : والله ما نجت منه ولا نجا منها ، وقال : امرأة نبيكم باتت مع رجل. وكان من قالته حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش. هذا اختصار الحديث ، وهو بكماله وإتقانه في البخاري ومسلم ، وهو في مسلم أكمل. ولما بلغ صفوان قول حسان في الإفك جاء فضربه بالسيف ضربة على رأسه وقال :
تلق ذباب السيف عني فإنني ... غلام إذا هوجيت ليس بشاعر
فأخذ جماعة حسان ولببوه وجاؤوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأهدر رسول الله صلى الله عليه وسلم جرح حسان واستوهبه إياه. وهذا يدل على أن حسان ممن تولى الكبر ؛ على ما يأتي والله أعلم. وكان صفوان هذا صاحبَ ساقة رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزواته لشجاعته ، وكان من خيار الصحابة. وقيل : كان حصورا لا يأتي النساء ؛ ذكره ابن إسحاق من طريق عائشة. وقيل : كان له ابنان ؛ يدل على ذلك حديثه المروي مع امرأته ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في ابنيه : "لهما أشبه به من الغراب بالغراب" . وقوله في الحديث : والله ما كشف كنف أنثى قط ؛ يريد بزنى. وقتل شهيدا رضي الله عنه في غزوة أرمينية سنة تسع عشرة في زمان عمر ، وقيل : ببلاد الروم سنة ثمان وخمسين في زمان معاوية.
الرابعة : قوله تعالى : {لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْأِثْمِ} يعني ممن تكلم بالإفك. ولم يسم من أهل الإفك إلا حسان ومسطح وحمنة وعبد ؛ وجهل الغير ؛ قال عروة بن الزبير ، وقد سأله عن ذلك عبد الملك بن مروان ، وقال : إلا أنهم كانوا عصبة ؛ كما قال الله تعالى. وفي مصحف حفصة {عصبة أربعة} .
الخامسة : قوله تعالى : {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ} وقرأ حميد الأعرج ويعقوب {كُبْرَه} بضم الكاف. قال الفراء : وهو وجه جيد ؛ لأن العرب تقول : فلان تولى عظم كذا وكذا ؛ أي أكبره. روي عن عائشة أنه حسان ، وأنها قالت حين عمي : لعل العذاب العظيم الذي أوعده الله به ذهاب بصره ؛ رواه عنها مسروق. وروي عنها أنه عبد الله بن أبي ؛ وهو الصحيح ، وقال ابن عباس. وحكى أبو عمر بن عبد البر أن عائشة برأت حسان من الفرية ، وقالت : إنه لم يقل شيئا. وقد أنكر حسان أن يكون قال شيئا من ذلك في قوله :
حصان رزان ما تزن بريبة ... وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
حليلة خير الناس دينا ومنصب ... نبي الهدى والمكرمات الفواضل
عقيلة حي من لؤي بن غالب ... كرام المساعي مجدها غير زائل
مهذبة قد طيب الله خيمها ... وطهرها من كل شين وباطل
فإن كان ما بلغت أني قلته ... فلا رفعت سوطي إلي أناملي
فكيف وودي ما حييت ونصرتي ... لآل رسول الله زين المحافل
له رتب عال على الناس فضلها ... تقاصر عنها سورة المتطاول
وقد روي أنه لما أنشدها : حصان رزان ؛ قالت له : لست كذلك ؛ تريد أنك وقعت في الغوافل. وهذا تعارض ، ويمكن الجمع بأن يقال : إن حسانا لم يقل ذلك نصا وتصريحا ، ويكون عرض بذلك وأومأ إليه فنسب ذلك إليه ؛ والله أعلم.
وقد اختلف الناس فيه هل خاض في الإفك أم لا ، وهل جلد الحد أم لا ؛ فالله أعلم أي ذلك كان : وهي المسألة :
السادسة : فروى محمد بن إسحاق وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم جلد في الإفك رجلين وامرأة : مسطحا وحسان وحمنة ، وذكره الترمذي وذكر القشيري عن ابن عباس قال : جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن أبي ثمانين جلدة ، وله في الآخرة عذاب النار. قال القشيري : والذي ثبت في الأخبار أنه ضرب ابن أبي وضرب حسان وحمنة ، وأما مسطح فلم يثبت عنه قذف صريح ، ولكنه كان يسمع ويشيع من غير تصريح. قال الماوردي وغيره : اختلفوا هل حد النبي صلى الله عليه وسلم أصحاب الإفك ؛ على قولين : أحدهما أنه لم يحد أحدا من أصحاب الإفك لأن الحدود إنما تقام بإقرار أو ببينة ، ولم يتعبده الله أن يقيمها بإخباره عنها ؛ كما لم يتعبده بقتل المنافقين ، وقد أخبره بكفرهم.
قلت : وهذا فاسد مخالف لنص القرآن ؛ فإن الله عز وجل يقول : {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} أي على صدق قولهم : {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} . والقول الثاني : أن النبي صلى الله عليه وسلم حد أهل الإفك عبد الله بن أبي ومسطح بن أثاثة وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش ؛ وفي ذلك قال شاعر من المسلمين :
لقد ذاق حسان الذي كان أهله ... وحمنة إذ قالوا هجيرا ومسطح
وابن سلول ذاق في الحد خزية ... كما خاض في إفك من القول يفصح
تعاطوا برجم الغيب زوج نبيهم ... وسخطة ذي العرش الكريم فأبرحوا
وآذوا رسول الله فيها فجلدوا ... مخازي تبقى عمموها وفضحوا
فصب عليهم محصدات كأنها ... شآبيب قطر من ذرى المزن تسفح
قلت : المشهور من الأخبار والمعروف عند العلماء أن الذي حد حسان ومسطح وحمنة ، ولم يسمع بحد لعبد بن أبي. روى أبو داود عن عائشة رضي الله عنها قالت : لما نزل عذري قام النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك ، وتلا القرآن ؛ فلما نزل من المنبر أمر بالرجلين
والمرأة فضربوا حدهم ، وسماهم : حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش. وفي كتاب الطحاوي "ثمانين ثمانين" . قال علماؤنا. وإنما لم يحد عبد الله بن أبي لأن الله تعالى قد أعد له في الآخرة عذابا عظيما ؛ فلو حد في الدنيا لكان ذلك نقصا من عذابه في الآخرة وتخفيفا عنه مع أن الله تعالى قد شهد ببراءة عائشة رضي الله عنها وبكذب كل من رماها ؛ فقد حصلت فائدة الحد ، إذ مقصوده إظهار كذب القاذف وبراءة المقذوف ؛ كما قال الله تعالى : {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} . وإنما حد هؤلاء المسلمون ليكفر عنهم إثم ما صدر عنهم من القذف حتى لا يبقى عليهم تبعة من ذلك في الآخرة ، وقد قال صلى الله عليه وسلم في الحدود "إنها كفارة لمن أقيمت عليه" ؛ كما في حديث عبادة بن الصامت. ويحتمل أن يقال : إنما ترك حد ابن أبي استئلافا لقومه واحتراما لابنه ، وإطفاء لثائرة الفتنة المتوقعة من ذلك ، وقد كان ظهر مبادئها من سعد بن عبادة ومن قومه ؛ كما في صحيح مسلم. والله أعلم.
السابعة : قوله تعالى : {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً} هذا عتاب من الله سبحانه وتعالى للمؤمنين في ظنهم حين قال أصحاب الإفك ما قالوا. قال ابن زيد : ظن المؤمنون أن المؤمن لا يفجر بأمه ؛ قال المهدوي. و {لَوْلاَ} بمعنى هلا. وقيل : المعنى أنه كان ينبغي أن يقيس فضلاء المؤمنين والمؤمنات الأمر على أنفسهم ؛ فإن كان ذلك يبعد فيهم فذلك في عائشة وصفوان أبعد. وروي أن هذا النظر السديد وقع من أبي أيوب الأنصاري وامرأته ؛ وذلك أنه دخل عليها فقالت له : يا أبا أيوب أسمعت ما قيل فقال نعم وذلك الكذب أكنت أنت يا أم أيوب تفعلين ذلك قالت : لا والله قال : فعائشة والله أفضل منك ؛ قالت أم أيوب نعم. فهذا الفعل ونحوه هو الذي عاتب الله تعالى عليه المؤمنين إذ لم يفعله جميعهم.
الثامنة : قوله تعالى : {بِأَنْفُسِهِمْ} قال النحاس : معنى {بِأَنْفُسِهِمْ} بإخوانهم. فأوجب الله على المسلمين إذا سمعوا رجلا يقذف أحدا ويذكره بقبيح لا يعرفونه به أن ينكروا عليه ويكذبوه وتواعد من ترك ذلك ومن نقله.
قلت : ولأجل هذا قال العلماء : إن الآية أصل في أن درجة الإيمان التي حازها الإنسان ؛ ومنزلة الصلاح التي حلها المؤمن ، ولبسة العفاف التي يستتر بها المسلم لا يزيلها عنه خبر محتمل وإن شاع إذا كان أصله فاسدا أو مجهولا.
التاسعة : قوله تعالى : {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} هذا توبيخ لأهل الإفك. و {لَوْلاَ} بمعنى هلا ؛ أي هلا جاؤوا بأربعة شهداء على ما زعموا من الافتراء. وهذا رد على الحكم الأول وإحالة على الآية السابقة في آية القذف.
العاشرة : قوله تعالى : {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} أي هم في حكم الله كاذبون. وقد يعجز الرجل عن إقامة البينة وهو صادق في قذفه ، ولكنه في حكم الشرع وظاهر الأمر كاذب لا في علم الله تعالى ؛ وهو سبحانه إنما رتب الحدود على حكمه الذي شرعه في الدنيا لا على مقتضى علمه الذي تعلق بالإنسان على ما هو عليه ، فإنما يبني على ذلك حكم الآخرة.
قلت : ومما يقوي هذا المعنى ويعضده ما خرجه البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : أيها الناس إن الوحي قد انقطع وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم ، فمن أظهر لنا خيرا أمناه وقربناه ؛ وليس لنا من سريرته شيء الله يحاسبه في سريرته ، ومن أظهر لنا سوءا لم نؤمنه ولم نصدقه ، وإن قال إن سريرته حسنة. وأجمع العلماء أن أحكام الدنيا على الظاهر ، وأن السرائر إلى الله عز وجل.
الحادية عشرة : قوله تعالى : {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} {فَضْلُ} رفع بالابتداء عند سيبويه ، والخبر محذوف لا تظهره العرب. وحذف جواب {لَوْلاَ} لأنه قد ذكر مثله بعد ؛ قال الله عز وجل {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} {لَمَسَّكُمْ} أي بسبب ما قلتم في عائشة عذاب عظيم في الدنيا والآخرة. وهذا عتاب من الله تعالى بليغ ، ولكنه برحمته ستر عليكم في الدنيا ويرحم في الآخرة من أتاه تائبا والإفاضة : الأخذ في الحديث ؛ وهو الذي وقع عليه العتاب ؛ يقال : أفاض القوم في الحديث أي أخذوا فيه.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|