
06-07-2025, 10:52 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,359
الدولة :
|
|
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى

تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (12)
سُورَةُ النور
من صــ 294 الى صــ 303
الحلقة (516)
وعدله. {أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ} أي يجور في الحكم والظلم. وأتي بلفظ الاستفهام لأنه أشد في التوبيخ وأبلغ في الذم ؛ كقوله جرير في المدح :
ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح
{بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} أي المعاندون الكافرون ؛ لإعراضهم عن حكم الله تعالى.
الثالثة : القضاء يكون للمسلمين إذا كان الحكم بين المعاهد والمسلم ولا حق لأهل الذمة فيه. وإذا كان بين ذميين فذلك إليهما. فإن جاءا قاضي الإسلام فإن شاء حكم وإن شاء أعرض ؛ كما تقدم في "المائدة]"
الرابعة : هذه الآية دليل على وجوب إجابة الداعي إلى الحاكم لأن الله سبحانه ذم من دعي إلى رسوله ليحكم بينه وبين خصمه بأقبح الذم فقال : {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} الآية. قال ابن خويز منداد : واجب على كل من دعي إلى مجلس الحاكم أن يجيب ، ما لم يعلم أن الحاكم فاسق أو عداوة بين المدعي والمدعى عليه. وأسند الزهراوي عن الحسن بن أبي الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "من دعاه خصمه إلى حاكم من حكام المسلمين فلم يجب فهو ظالم ولا حق له" . ذكره الماوردي أيضا. قال ابن العربي : وهذا حديث باطل : فأما قوله "فهو ظالم" فكلام صحيح وأما قوله : "فلا حق له" فلا يصح ، ويحتمل أن يريد أنه على غير الحق.
الآية : 51 {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}
قوله تعالى : {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ} أي إلى كتاب الله وحكم ورسوله. {أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} قال ابن عباس : أخبر بطاعة المهاجرين والأنصار ، وإن كان ذلك فيما يكرهون ؛ أي هذا قولهم ، وهؤلاء لو كانوا مؤمنين لكانوا
يقولون سمعنا وأطعنا. فالقول نصب على خبر كان ، واسمها في قوله : {أَنْ يَقُولُوا} نحو {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا} [آل عمران : 147] . وقيل : إنما قول المؤمنين ، وكان صلة في الكلام ؛ كقوله تعالى : {كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيّاً} . [مريم : 29] . وقرأ ابن القعقاع {لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} غير مسمي الفاعل. علي بن أبي طالب {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ} بالرفع.
الآية : 52 {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ}
قوله تعالى : {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} فيما أمر به حكم. {وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ} قرأ حفص {وَيَتَّقْهِ} بإسكان القاف على نية الجزم ؛ قال الشاعر :
ومن يتق فإن الله معه ... ورزق الله مؤتاب وغادي
وكسرها الباقون ، لأن جزمه بحذف آخر. وأسكن الهاء أبو عمرو وأبو بكر. واختلس الكسرة يعقوب وقالون عن نافع والبستي عن أبي عمرو وحفص. وأشبع كسرة الهاء الباقون. {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} ذكر أسلم أن عمر بينما هو قائم في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وإذا رجل من دهاقين الروم قائم على رأسه وهو يقول : أنا أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله. فقال له عمر : ما شأنك ؟ قال : أسلمت لله. قال : هل لهذا سبب ؟ قال : نعم إني قرأت التوراة والزبور والإنجيل وكثيرا من كتب الأنبياء ، فسمعت أسيرا يقرأ آية من القرآن جمع فيها كل ما في الكتب المتقدمة ، فعلمت أنه من عند الله فأسلمت. قال : ما هذه الآية ؟ قال قوله تعالى : {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ} في الفرائض {وَرَسُولَهُ} في السنن {وَيَخْشَ اللَّهَ} فيما مضى من عمره {وَيَتَّقْهِ} فيما بقي من عمره : {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} والفائز من نجا من النار وأدخل الجنة. فقال عمر : قال النبي صلى الله عليه وسلم : "أوتيت جوامع الكلم" .
الآية : 53 {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}
قوله تعالى : {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} عاد إلى ذكر المنافقين ، فإنه لما بين كراهتهم لحكم النبي صلى الله عليه وسلم أتوه فقالوا : والله لو أمرتنا أن نخرج من ديارنا ونسائنا وأموالنا فخرجنا ، ولو أمرتنا بالجهاد لجاهدنا ؛ فنزلت هذه الآية. أي وأقسموا بالله أنهم يخرجون معك في المستأنف ويطيعون. {جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} أي طاقة ما قدروا أن يحلفوا. وقال مقاتل : من حلف بالله فقد أجهد في اليمين. وقد مضى في "الأنعام" بيان هذا. و {جَهْدَ} منصوب على مذهب المصدر تقديره : إقساما بليغا. {قُلْ لا تُقْسِمُوا} وتم الكلام. {طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ} أولى بكم من أيمانكم ؛ أو ليكن منكم طاعة معروفة ، وقول معروف بإخلاص القلب ، ولا حاجة إلى اليمين. وقال مجاهد : المعنى قد عرفت طاعتكم وهي الكذب والتكذيب ؛ أي المعروف منكم الكذب دون الإخلاص. {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} من طاعتكم بالقول ومخالفتكم بالفعل.
الآية : 54 {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ}
قوله تعالى : {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} بإخلاص الطاعة وترك النفاق. {فَإِنْ تَوَلَّوْا} أي فإن تتولوا ، فحذف إحدى التاءين. ودل على هذا أن بعده {وَعَلَيْكُمْ} ولم يقل وعليهم. {فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ} أي من تبليغ الرسالة. {وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ} أي من الطاعة له ؛ عن ابن عباس وغيره. {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} جعل الاهتداء مقرونا بطاعته. {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} أي التبليغ {الْمُبِينُ} .
الآية : 55 {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}
نزلت في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ؛ قاله مالك. وقيل : إن سبب هذه الآية أن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم شكا جهد مكافحة العدو ، وما كانوا فيه من الخوف على أنفسهم ، وأنهم لا يضعون أسلحتهم ؛ فنزلت الآية. وقال أبو العالية : مكث رسول صلى الله عليه وسلم بمكة عشر سنين بعدما أوحي إليه خائفا هو وأصحابه ، يدعون إلى الله سرا وجهرا ، ثم أمر بالهجرة إلى المدينة ، وكانوا فيها خائفين يصبحون ويمسون في السلاح. فقال رجل : يا رسول الله ، أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع السلاح ؟ فقال عليه السلام : "لا تلبثون إلا يسيرا حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبيا ليس عليه حديدة" . ونزلت هذه الآية ، وأظهر الله نبيه على جزيرة العرب فوضعوا السلاح وأمنوا. قال النحاس : فكان في هذه الآية دلالة على نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأن الله جل وعز أنجز ذلك الوعد. قال الضحاك في كتاب النقاش : هذه تتضمن خلافة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي لأنهم أهل الإيمان وعملوا الصالحات. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "الخلافة بعدي ثلاثون" . وإلى هذا القول ذهب ابن العربي في أحكامه ، واختاره وقال : قال علماؤنا هذه الآية دليل على خلافة الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم ، وأن الله استخلفهم ورضي أمانتهم ، وكانوا على الدين الذي ارتضى لهم ، لأنهم لم يتقدمهم أحد في الفضيلة إلى يومنا هذا ، فاستقر الأمر لهم ، وقاموا بسياسة المسلمين ، وذبوا عن حوزة الدين ؛ فنفذ الوعد فيهم ، وإذا لم يكن هذا الوعد لهم نجز ، وفيهم نفذ ، وعليهم ورد ، ففيمن يكون إذا ، وليس بعدهم مثلهم إلى يومنا هذا ، ولا يكون فيما بعده. رضي الله عنهم. وحكى هذا القول القشيري عن
ابن عباس. واحتجوا بما رواه سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكا" . قال سفينة : أمسك عليك خلافة أبي بكر سنتين ، وخلافة عمر عشرا ، وخلافة عثمان اثنتي عشرة سنة ، وخلافة علي ستا. وقال قوم : هذا وعد لجميع الأمة في ملك الأرض كلها تحت كلمة الإسلام ؛ كما قال عليه الصلاة والسلام : "زويت لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها" . واختار هذا القول ابن عطية في تفسيره حيث قال : والصحيح في الآية أنها في استخلاف الجمهور ، واستخلافهم هو أن يملكهم البلاد ويجعلهم أهلها ؛ كالذي جرى في الشام والعراق وخراسان والمغرب. قال ابن العربي : قلنا لهم هذا وعد عام في النبوة والخلافة وإقامة الدعوة وعموم الشريعة ، فنفذ الوعد في كل أحد بقدره وعلى حاله ؛ حتى في المفتين والقضاة والأئمة ، وليس للخلافة محل تنفذ فيه الموعدة الكريمة إلا من تقدم من الخلفاء. ثم ذكر اعتراضا وانفصالا معناه : فإن قيل هذا الأمر لا يصح إلا في أبي بكر وحده ، فأما عمر وعثمان فقتلا غيلة ، وعلي قد نوزع في الخلافة. قلنا : ليس في ضمن الأمن السلامة من الموت بأي وجه كان ، وأما علي فلم يكن نزاله في الحرب مذهبا للأمن ، وليس من شرط الأمن رفع الحرب إنما شرطه ملك الإنسان لنفسه باختياره ، لا كما كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بمكة. ثم قال في آخر كلامه : وحقيقة الحال أنهم كانوا مقهورين فصاروا قاهرين ، وكانوا مطلوبين فصاروا طالبين ؛ فهذا نهاية الأمن والعز.
قلت : هذه الحال لم تختص بالخلفاء الأربعة رضي الله عنهم حتى يخصوا بها من عموم الآية ، بل شاركهم في ذلك جميع المهاجرين بل وغيرهم. ألا ترى إلى إغزاء قريش المسلمين في أحد وغيرها وخاصة الخندق ، حتى أخبر الله تعالى عن جميعهم فقال : {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا. هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً} [الأحزاب : 10 - 11] . ثم إن الله رد الكافرين لم ينالوا خيرا ، وأمّن
المؤمنين وأورثهم أرضهم وديارهم وأموالهم ، وهو المراد بقوله : {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ} . وقوله : {كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} يعني بني إسرائيل ، إذ أهلك الله الجبابرة بمصر ، وأورثهم أرضهم وديارهم فقال : {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا} [الأعراف : 137] . وهكذا كان الصحابة مستضعفين خائفين ، ثم إن الله تعالى أمنهم ومكنهم وملكهم ، فصح أن الآية عامة لأمة محمد صلى الله عليه وسلم غير مخصوصة ؛ إذ التخصيص لا يكون إلا بخبر ممن يجب له التسليم ، ومن الأصل المعلوم التمسك بالعموم. وجاء في معنى تبديل خوفهم بالأمن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال أصحابه : أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع السلاح ؟ فقال عليه السلام : "لا تلبثون إلا قليلا حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبيا ليس عليه حديدة" . وقال صلى الله عليه وسلم : "والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون" . خرجه مسلم في صحيحه ؛ فكان كما أخبر صلى الله عليه وسلم. فالآية معجزة النبوة ؛ لأنها إخبار عما سيكون فكان.
قوله تعالى : {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ} فيه قولان : أحدهما : يعني أرض مكة ؛ لأن المهاجرين سألوا الله تعالى ذلك فوعدوا كما وعدت بنو إسرائيل ؛ قال معناه النقاش. الثاني : بلاد العرب والعجم. قال ابن العربي : وهو الصحيح ؛ لأن أرض مكة محرمة على المهاجرين ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : "لكن البائس سعد بن خولة" . يرثي له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مات بمكة. وقال في الصحيح أيضا : "يمكث المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثا" . واللام في {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ} جواب قسم مضمر ؛ لأن الوعد قول ، مجازها : قال الله للذين آمنوا وعملوا الصالحات والله ليستخلفنهم في الأرض فيجعلهم ملوكها وسكانها. {كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} يعني بني إسرائيل ، أهلك الجبابرة بمصر والشام وأورثهم أرضهم وديارهم. وقراءة العامة {كَمَا اسْتَخْلَفَ} بفتح التاء واللام ؛ لقوله : {وَعَدَ} . وقوله : {لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ} . وقرأ عيسى بن عمر وأبو بكر والمفضل عن عاصم {استُخلِف} بضم
التاء وكسر اللام على الفعل المجهول. {وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ} وهو الإسلام ؛ كما قال تعالى : {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة : 3] وقد تقدم. وروي سليم بن عامر عن المقداد بن الأسود قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "ما على ظهر الأرض بيت حجر ولا مدر إلا أدخله الله كلمة الإسلام بعز عزيز أو ذل ذليل أما بعزهم فيجعلهم من أهلها وأما بذلهم فيدينون بها" . ذكره الماوردي حجة لمن قال : إن المراد بالأرض بلاد العرب والعجم ؛ وهو القول الثاني : على ما تقدم آنفا. {وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ} قرأ ابن محيصن وابن كثير ويعقوب وأبو بكر بالتخفيف ؛ من أبدل ، وهي قراءة الحسن ، واختيار أبي حاتم. الباقون بالتشديد ؛ من بدل ، وهي اختيار أبي عبيد ؛ لأنها أكثر ما في القرآن ، قال الله تعالى : {لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ} [يونس : 64] . وقال : {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً} [النحل : 101] ونحوه ، وهما لغتان. قال النحاس : وحكى محمد بن الجهم عن الفراء قال : قرأ عاصم والأعمش {وليبدّلنّهم} مشددة ، وهذا غلط على عاصم ؛ وقد ذكر بعده غلطا أشد منه ، وهو أنه حكى عن سائر الناس التخفيف. قال النحاس : وزعم أحمد بن يحيى أن بين التثقيل والتخفيف فرقا ، وأنه يقال : بدلته أي غيرته ، وأبدلته أزلته وجعلت غيره. قال النحاس : وهذا القول صحيح ؛ كما تقول : أبدل لي هذا الدرهم ، أي أزله وأعطني غيره. وتقول : قد بدلت بعدنا ، أي غيرت ؛ غير أنه قد يستعمل أحدهما موضع الآخر ؛ والذي ذكره أكثر. وقد مضى هذا في "النساء" والحمد لله ، وذكرنا في سورة "إبراهيم" الدليل من السنة على أن بدل معناه إزالة العين ؛ فتأمله هناك. وقرئ {عسَىَ رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا} [القلم : 32] مخففا ومثقلا. {يَعْبُدُونَنِي} هو في موضع الحال ؛ أي في حال عبادتهم الله بالإخلاص. ويجوز أن يكون استئنافا على طريق الثناء عليهم. {لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً} فيه أربعة أقوال : أحدها ، لا يعبدون إلها غيري ؛ حكاه النقاش. الثاني ، لا يراؤون بعبادتي أحدا. الثالث ، لا يخافون غيري ؛ قاله ابن عباس. الرابع ، لا يحبون غيري ؛ قال مجاهد. {وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ} أي بهذه النعم. والمراد كفران النعمة ؛ لأنه قال تعالى : {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} والكافر بالله فاسق بعد هذا الإنعام وقبله.
الآية : 56 {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}
تقدم ؛ فأعاد الأمر بالعبادة تأكيدا.
الآية : 57 {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ}
قوله تعالى : {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم ووعد بالنصرة. وقراءة العامة {تَحْسَبَنَّ} بالتاء خطابا. وقرأ ابن عامر وحمزة وأبو حيوة {يَحْسَبَنَّ} بالياء ، بمعنى لا يحسبن الذين كفروا أنفسهم معجزين الله في الأرض ، لأن الحسبان يتعدى إلى مفعولين. وهذا قول الزجاج. وقال الفراء وأبو علي : يجوز أن يكون الفعل للنبي صلى الله عليه وسلم ؛ أي لا يحسبن محمد الذين كفروا معجزين الأرض. فـ {الَّذِينَ} مفعول أول ، و {مُعْجِزِينَ} مفعول ثان. وعلى القول الأول {الَّذِينَ كَفَرُوا} فاعل {أنفسهم} مفعول أول ، وهو محذوف مراد {مُعْجِزِينَ} مفعول ثان. قال النحاس : وما علمت أحدا من أهل العربية بصريا ولا كوفيا إلا وهو يخطئ قراءة حمزة ؛ فمنهم من يقول : هي لحن ؛ لأنه لم يأت إلا بمفعول واحد ليحسبن. وممن قال هذا أبو حاتم. وقال الفراء : هو ضعيف ؛ وأجازه على ضعفه ، على أنه يحذف المفعول الأول ، وقد بيناه. قال النحاس : وسمعت علي بن سليمان يقول في هذه القراءة : يكون {الَّذِينَ كَفَرُوا} في موضع نصب. قال : ويكون المعنى ولا يحسبن الكافر الذين كفروا معجزين في الأرض.
قلت : وهذا موافق لما قاله الفراء وأبو علي ؛ لأن الفاعل هناك النبي صلى الله عليه وسلم. وفي هذا القول الكافر. و {مُعْجِزِينَ} معناه فائتين. وقد تقدم. {وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ} أي المرجع.
الآية : 58 {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}
فيه ثمان مسائل : -
الأولى : قال العلماء ، هذه الآية خاصة والتي قبلها عامة ؛ لأنه قال : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور : 27] ثم خص هنا فقال : {لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} فخص في هذه الآية بعض المستأذنين ، وكذلك أيضا يتأول القول في الأولى في جميع الأوقات عموما. وخص في هذه الآية بعض الأوقات ، فلا يدخل فيها عبد ولا أمة ؛ وغْداً كان أو ذا منظر إلا بعد الاستئذان. قال مقاتل : نزلت في أسماء بنت مرثد ، دخل عليها غلام لها كبير ، فاشتكت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فنزلت عليه الآية. وقيل : سبب نزولها دخول مدلج على عمر ؛ وسيأتي.
الثانية : اختلف العلماء في المراد بقوله تعالى {لِيَسْتَأْذِنْكُمُ} على ستة أقوال
الأول : أنها منسوخة ، قاله ابن المسيب وابن جبير.
الثاني : أنها ندب غير واجبة ؛ قاله أبو قلابة ، قال : إنما أمروا بهذا نظرا لهم.
الثالث : عنى بها النساء ؛ قاله أبو عبد الرحمن السلمي.
الرابع : وقال ابن عمر : هي في الرجال دون النساء.
الخامس : كان ذلك واجبا ، إذ كانوا لا غلق لهم ولا أبواب ، ولو عاد الحال لعاد الوجوب حكاه المهدوي عن ابن عباس.
السادس : أنها محكمة واجبة ثابتة على الرجال والنساء ؛ وهو قول أكثر أهل العلم ؛ منهم القاسم وجابر بن زيد والشعبي. وأضعفها قول السلمي لأن {الَّذِينَ} لا يكون للنساء في كلام العرب ، إنما يكون للنساء - اللاتي واللواتي - وقول ابن عمر يستحسنه أهل النظر ، لأن {الَّذِينَ} للرجال في كلام العرب ، وإن كان يجوز أن يدخل معهم النساء فإنما يقع ذلك بدليل ، والكلام على ظاهره ، غير أن في إسناده ليث بن أبي سليم. وأما قول ابن عباس فروى أبو داود عن عبيدالله بن أبي يزيد سمع ابن عباس يقول : آية لم يؤمر بها أكثر الناس آية الاستئذان وإني لآمر جاريتي هذه تستأذن علي. قال أبو داود : وكذلك رواه عطاء عن ابن عباس "يأمر به" . وروى عكرمة أن نفرا من أهل العراق قالوا : يا ابن عباس ، كيف ترى في هذه الآية التي أمرنا فيها بما أمرنا ولا يعمل بها أحد ، قول الله عز وجل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ} . قال أبو داود : قرأ القعنبي إلى {عَلِيمٌ حَكِيمٌ} قال ابن عباس : إن الله حليم رحيم بالمؤمنين يحب الستر ، وكان الناس ليس لبيوتهم ستور ولا حجال ، فربما دخل الخادم أو الولد أو يتيمة الرجل والرجل على أهله ، فأمرهم الله بالاستئذان في تلك العورات ، فجاءهم الله بالستور والخير ، فلم أر أحدا يعمل بذلك بعد.
قلت : هذا متن حسن ، وهو يرد قول سعيد وابن جبير ؛ فإنه ليس فيه دليل على نسخ الآية ، ولكن على أنها كانت على حال ثم زالت ، فإن كان مثل ذلك الحال فحكمها قائم كما كان ، بل حكمها لليوم ثابت في كثير من مساكن المسلمين في البوادي والصحارى ونحوها. وروى
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|