عرض مشاركة واحدة
  #524  
قديم 07-07-2025, 03:39 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,290
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (13)
سُورَةُ الفرقان
من صــ 51 الى صــ 60
الحلقة (524)




أنتوضأ من بئر بضاعة ؟ وهي بئر تلقى فيها الحيض ولحوم الكلاب والنتن ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الماء طهور لا ينجسه شيء" أخرجه أبو داود والترمذي والدارقطني كلهم بهذا الإسناد. وقال أبو عيسى : هذا حديث حسن ، وقد جود أبو أسامة. هذا الحديث ولم يرو أحد حديث أبى سعيد في بئر بضاعة أحسن مما روى أبو أسامة. فهذا الحديث نصي في ورود النجاسة على الماء ، وقد حكم صلى الله عليه وسلم بطهارته وطهوره. قال أبو داود : سمعت قتيبة بن سعيد قال : سألت قيم بئر بضاعة عن عمقها ؛ قلت : أكثر ما يكون الماء فيها ؟ قال : إلى العانة. قلت : فإذا نقص ؟ قال : دون العورة. قال أبو داود : وقدرت بئر بضاعة بردائي مددته عليها ثم ذرعته فإذا عرضها ستة أذرع ، وسألت الذي فتح لي باب البستان فأدخلني إليه : هل غير بناؤها عما كانت عليه ؟ فقال لا. ورأيت فيها ماء متغير اللون. فكان هذا دليلا لنا على ما ذكرناه ، غير أن ابن العربي قال : إنها في وسط السبخة ، فماؤها متغيرا من قرارها ؛ والله أعلم.
الحادية عشرة- الماء الطاهر المطهر الذي يجوز به الوضوء وغسل النجاسات هو الماء القراح الصافي من ماء السماء والأنهار والبحار والعيون والآبار ، وما عرفه الناس ماء مطلقا غير مضاف إلى شيء خالطه كما خلقه الله عز وجل صافيا ولا يضره لون أرضه على ما بيناه. وخالف في هذه الجملة. أبو حنيفة وعبدالله بن عمرو وعبدالله بن عمر فأما أبو حنيفة فأجاز الوضوء بالنبيذ في السفر ، وجوز إزالة النجاسة بكل مائع طاهر. فأما بالدهن والمرق فعنه رواية أنه لا يجوز إزالتها به. إلا أن أصحابه يقولون : إذا زالت النجاسة به جاز. وكذلك عنده النار والشمس ؛ حتى أن جلد الميتة إذا جف في الشمس طهر من غير دباغ. وكذلك النجاسة على الأرض إذا جفت بالشمس فإنه يطهر ذلك الموضع ، بحيث تجوز الصلاة عليه ، ولكن لا يجوز التيمم بذلك التراب. قال ابن العربي : لما وصف الله سبحانه الماء بأنه طهور وامتن بإنزاله من السماء ليطهرنا به دل على اختصاصه بذلك ؛ وكذلك قال عليه الصلاة
والسلام لأسماء بنت الصديق حين سألته عن دم الحيض يصيب الثوب : "حتيه ثم اقرصيه ثم اغسليه بالماء" . فلذلك لم يلحق غير الماء بالماء لما في ذلك من إبطال الامتنان ، وليست النجاسة معنى محسوسا حتى يقال كل ما أزالها فقد قام به الغرض ، وإنما النجاسة حكم شرعي عين له صاحب الشرع الماء فلا يلحق به غيره ؛ إذ ليس في معناه ، ولأنه لو لحق به لأسقطه ، والفرع إذا عاد إلحاقه بالأصل في إسقاطه سقط في نفسه. وقد كان تاج السنة ذو العز بن المرتضى الدبوسي يسميه فرخ زنى.
قلت : وأما ما استدل به على استعمال النبيذ فأحاديث واهية ، ضعاف لا يقوم شيء منها على. ساق ؛ ذكرها الدارقطني وضعفها ونص عليها. وكذلك ضعف ما روي عن ابن عباس موقوفا : "النبيذ وضوء لمن لم يجد الماء" . في طريقه ابن محرز متروك الحديث. وكذلك ما روي عن علي أنه قال : لا بأس بالوضوء بالنبيذ. الحجاج وأبو ليلى ضعيفان. وضعف حديث ابن مسعود وقال : تفرد به ابن لهيعة وهو ضعيف الحديث. وذكر عن علقمة بن قيس قال : قلت لعبدالله بن مسعود : أشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد منكم ليلة أتاه داعي الجن ؟ فقال لا.
قلت : هذا إسناد صحيح لا يختلف في عدالة رواته. وأخرج الترمذي حديث ابن مسعود قال : سألني النبي صلى الله عليه وسلم : "ما في إداوتك" فقلت : نبيذ. فقال : "ثمرة طيبة وماء طهور" قال : فتوضأ منه. قال أبو عيسى : وإنما روي هذا الحديث ، عن أبي زيد عن عبدالله عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وأبو زيد رجل مجهول عند أهل الحديث لا نعرف له رواية. غير هذا الحديث ، وقد رأى بعض أهل العلم الوضوء بالنبيذ ، منهم سفيان وغيره ، وقال بعض أهل العلم : لا يتوضأ بالنبيذ ، وهو قول الشافعي وأحمد وإسحاق ، وقال إسحاق : إن ابتلي رجل بهذا فتوضأ بالنبيذ وتيمم أحب إلي. قال أبو عيسى : وقول من يقول لا يتوضأ بالنبيذ أقرب إلى الكتاب والسنة وأشبه ؛ لأن الله تعالى قال : فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا
صَعِيداً طَيِّباً [المائدة : 6] . وهذه المسألة مطولة في كتب الخلاف ؛ وعمدتهم التمسك بلفظ الماء حسبما تقدم في "المائدة" بيانه والله أعلم.
الثانية عشرة- لما قال الله تعالى : {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً} وقال : {لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال : 11] توقف جماعة في ماء البحر ؛ لأنه ليس بمنزل من السماء ؛ حتى رووا عن عبدالله بن عمر وابن عمرو معا أنه لا يتوضأ به ؛ لأنه نار ولأنه طبق جهنم. ولكن النبي صلى الله عليه وسلم بين حكمه حين قال لن سأله : "هو الطهور ماؤه الجل ميتته" أخرجه مالك. وقال فيه أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح. وهو قول أكثر الفقهاء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، منهم أبو بكر وعمر وابن عباس ، لم يروا بأسا بماء البحر ، وقد كره بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الوضوء بماء البحر ؛ منهم ابن عمر وعبدالله بن عمرو ، وقال عبدالله بن عمرو : هو نار. قال أبو عمر ؛ وقد سئل أبو عيسى الترمذي عن حديث مالك هذا عن صفوان بن سليم فقال : هو عندي حديث صحيح. قال أبو عيسى فقلت للبخاري : هشيم يقول فيه أبي ابن برزة. فقال : وهم فيه ، إنما هو المغيرة بن أبي بردة. قال أبو عمر : لا أدري ما هذا من البخاري رحمه الله ، ولو كان صحيحا لأخرجه في مصنفه الصحيح عنده ، ولم يفعل لأنه لا يعول في الصحيح إلا على الإسناد. وهذا الحديث لا يحتج أهل الحديث بمثل إسناده ، وهو عندي صحيح لأن العلماء تلقوه بالقبول له والعمل به ، ولا يخالف في جملته أحد من الفقهاء ، وإنما الخلاف بينهم في بعض معانيه. وقد أجمع جمهور من العلماء وجماعة أئمة الفتوى بالأمصار من الفقهاء : أن البحر طهور ماؤه ، وأن الوضوء به جائز ؛ إلا ما روي عن عبدالله بن عمر بن الخطاب وعبدالله بن عمرو بن العاص أنهما كرها الوضوء بماء البحر ، ولم يتابعهما أحد من فقهاء الأمصار على ذلك ولا عرج عليه ، ولا التفت إليه لحديث هذا الباب. وهذا يدلك على اشتهار الحديث عندهم ، وعملهم به وقبولهم له ، وهو أولى عندهم من الإسناد الظاهر الصحة لمعنى ترده الأصول. وبالله التوفيق.
قال أبو عمر : وصفوان بن سليم مولى حميد بن عبدالرحمن بن عوف الزهري ، من عباد أهل المدينة وأتقاهم لله ، ناسكا ، كثير الصدقة بما وجد من قليل وكثير ، كثير العمل ، خائفا لله ، يكنى أبا عبدالله ، سكن المدينة لم ينتقل عنها ، ومات بها سنة اثنتين وثلاثين ومائة. ذكر عبدالله بن أحمد بن حنبل قال : سمعت أبي يسأل عن صفوان بن سليم فقال : ثقة من خيار عباد الله وفضلاء المسلمين. وأما سعيد بن سلمة. فلم يرو عنه فيما علمت إلا صفوان - والله أعلم - ومن كانت هذه حاله فهو مجهول لا تقوم به حجة عند جميعهم. وأما المغيرة بن أبي بردة فقيل عنه إنه غير معروف في حملة العلم كسعيد بن سلمة. وقيل : ليس بمجهول. قال أبو عمر : المغيرة بن أبي بردة وجدت ذكره في مغازي موسى بن نصير بالمغرب ، وكان موسى يستعمله على الخيل ، وفتح الله له في بلاد البربر فتوحات في البر والبحر. وروى الدارقطني من غير طريق مالك عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "من لم يطهره ماء البجر فلا طهره الله" . قال إسناده حسن.
الثالثةعشرة- قال ابن العربي : توهم قوم أن الماء إذا فضلت للجنب منه فضله لا يتوضأ به ، وهو مذهب باطل ، فقد ثبت عن ميمونة أنها قالت : أجنبت أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم واغتسلت من جفنة وفضلت فضلة ، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ليغتسل منه فقلت : إني قد اغتسلت منه. فقال : "إن الماء ليس عليه نجاسة - أو - إن الماء لا يجنب" . قال أبو عمر : وردت آثار في هذا الباب مرفوعة في النهي عن أن يتوضأ الرجل بفضل المرأة. وزاد بعضهم في بعضها : ولكن ليغترفا جميعا. فقالت طائفة : لا يجوز أن يغترف الرجل مع المرأة في إناء واحد ؛ لأن كل واحد منهما متوضئ بفضل صاحبه. وقال آخرون : إنما كره من ذلك أن تنفرد المرأة بالإناء ثم يتوضأ الرجل بعدها بفضلها. وكل واحد منهم روى بما ذهب إليه أثرا. والذي ذهب إليه الجمهور من العلماء وجماعة فقهاء الأمصار أنه لا بأس أن يتوضأ الرجل بفضل المرأة وتتوضأ المرأة من فضله ، انفردت المرأة بالإناء أو لم تنفرد. وفي مثل هذا آثار كثيرة صحاح. والذي نذهب إليه أن
الماء لا ينجسه شيء إلا ما ظهر فيه من النجاسات أو غلب عليه منها ؛ فلا وجه للاشتغال بما لا يصح من الآثار والأقوال. والله المستعان.
روى الترمذي عن ابن عباس قال : حدثتني ميمونة قالت : كنت اغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد من الجنابة. قال هذا حديث حسن صحيح. وروى البخاري عن عائشة قالت : كنت اغتسل أنا والنبي صلى الله عليه وسلم من إناء واحد يقال له الفرق. وفي صحيح مسلم عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغتسل بفضل ميمونة. وروى الترمذي عن ابن عباس قال : اغتسل بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، في جفنة فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتوضأ منه فقالت : يا رسول الله ، إني كنت جنبا. قال : "إن الماء لا يجنب" . قال : هذا حديث حسن صحيح ، وهو قول سفيان الثوري ومالك والشافعي. وروى الدارقطني عن عمرة عن عائشة رضي الله عنها قالت : كنت أتوضأ أنا والنبي صلى الله عليه وسلم من إناء واحد وقد أصابت الهرة منه قبل ذلك. قال : هذا حديث حسن صحيح. وروي أيضا عن رجل من بني غفار قال : "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن فضل طهور المرأة" . وفي الباب عن عبدالله بن سرجس ، وكره بعض الفقهاء فضل طهور المرأة ، وهو قول أحمد وإسحاق.
الرابعة عشرة- روى الدارقطني عن زيد بن أسلم مولى عمر بن الخطاب أن عمر بن الخطاب كان يسخن له الماء في قمقمة ويغتسل به. قال : وهذا إسناد صحيح. وروي عن عائشة قالت : دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سخنت ماء في الشمس. فقال : "لا تفعلي يا حميراء فإنه يورث البرص" . رواه خالد بن إسماعيل المخزومي ، عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة ، وهو متروك. ورواه عمرو بن محمد الأعشم عن فليح عن الزهري عن عروة عن عائشة. وهو منكر الحديث ، ولم يروه غيره عن فليح ، ولا يصح عن الزهري ؛ قاله الدارقطني.
الخامسة عشرة- كل إناء طاهر فجائز الوضوء منه إلا إناء الذهب والفضة ؛ لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اتخاذهما. وذلك - والله أعلم - للتشبه بالأعاجم والجبابرة لا لنجاسة فيهما. ومن توضأ فيهما أجزاه وضوءه وكان عاصيا باستعمالهما. وقد قيل : لا يجزئ الوضوء في أحدهما. والأول أكثر ؛ قال أبو عمر. وكل جلد ذكي فجائز استعماله للوضوء وغير ذلك. وكان مالك يكره الوضوء في إناء جلد الميتة بعد الدباغ ؛ على اختلاف من قوله. وقد تقدم في {النحل} .
الآية : 49 { لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً}
قوله تعالى : {لِنُحْيِيَ بِهِ} أي بالمطر. {بَلْدَةً مَيْتاً} بالجدوبة والمحل وعدم النبات. قال كعب : المطر روح الأرض يحييها الله به. وقال : {مَيْتاً} ولم يقل ميتة لأن معنى البلدة والبلد واحد ؛ قاله الزجاج. وقيل : أراد بالبلد المكان. "ونسقيه" قراءة العامة بضم النون. وقرأ عمر بن الخطاب وعاصم والأعمش فيما روى المفضل عنهما {وَنُسْقِيَه} : "بفتح" النون. {مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً} أي بشرا كثيرا وأناسي واحده إنسي نحو جمع القرقور قراقير وقراقر في قول الأخفش والمبرد وأحد قولي الفراء ؛ وله قول آخر وهو أن يكون واحده إنسانا ثم تبدل من النون ياء ؛ فتقول : أناسي ، والأصل أناسين ، مثل سرحان وسراحين ، وبستان وبساتين ؛ فجعلوا الياء عوضا من النون ، وعلى هذا يجوز سراحي وبساتي ، لا فرق بينهما. قال الفراء : ويجوز {أَنَاسِيَّ} بتخفيف الياء التي فيما بين لام الفعل وعينه ؛ مثل قراقير وقراقر. وقال {كَثِيراً} ولم يقل كثيرين ؛ لأن فعيلا قد يراد به الكثرة ؛ نحو {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} [النساء : 69] .
الآية : [50] {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً}
قوله تعالى : {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ} يعني القرآن ، وقد جرى ذكره في أول السورة : قوله تعالى : {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ} [الفرقان : 1] . وقوله : {لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي} [الفرقان : 29] وقوله : {اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} [الفرقان : 30] . {لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً} أي جحودا له وتكذيبا به. وقيل : {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ} هو المطر. روي عن ابن عباس وابن مسعود : وأنه ليس عام بأكثر مطرا من عام ولكن الله يصرفه حيث يشاء ، فما زيد لبعض نقص من غيرهم. فهذا معنى التصريف. وقيل : "صرفناه بينهم" وابلا وطشا وطلا ورهاما - الجوهري : الرهام الأمطار اللينة - ورذاذا. وقيل : تصريفه تنويع الانتفاع به في الشرب والسقي والزراعات به والطهارات وسقي البساتين والغسل وشبهه. {لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً} قال عكرمة : هو قولهم في الأنواء : مطرنا بنوء كذا. قال النحاس : ولا نعلم بين أهل التفسير اختلافا أن الكفر ها هنا قولهم مطرنا بنوء كذا وكذا ؛ وأن نظيره فعل النجم كذا ، وأن كل من نسب إليه فعلا فهو كافر. وروى الربيع بن صبيح قال : مطر الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ، فلما أصبح قال النبي صلى الله عليه وسلم : "أصبح الناس فيها رجلين شاكر وكافر فأما الشاكر فيحمد الله تعالى على سقياه وغياثه وأما الكافر فيقول مطرنا بنوء كذا وكذا" . وهذا متفق على صحته بمعناه وسيأتي في الواقعة إن شاء الله وروي من حديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "ما من سنة بأمطر من أخرى ولكن إذا عمل قوم بالمعاصي صرف الله ذلك إلى غيرهم فإذا عصوا جميعا صرف الله ذلك إلى الفيافي والبحار" . وقيل : التصريف راجع إلى الريح ، وقد ممضى في {البقرة} بيانه. وقرأ حمزة والكسائي : {لِيَذَّكَّرُوا} مخففة الذال من الذكر. الباقون مثقلا من التذكر ؟ أي ليذكروا نعم الله ويعلموا أن من أنعم بها لا يجوز الإشراك به ؛ فالتذكر قريب من الذكر غير أن التذكر يطلق فيما بعد عن القلب فيحتاج إلى تكلف في التذكر.
الآية : [51] {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً} ،
الآية : [52] {فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً}
قوله تعالى : {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً} أي رسولا ينذرهم كما قسمنا. المطر ليخف عليك أعباء النبوة ، ولكنا لم نفعل بل جعلناك نذيرا للكل لترتفع درجتك فاشكر نعمة الله عليك. {فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ} أي فيما يدعونك إليه من اتباع آلهتهم. {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ} قال ابن عباس بالقرآن. ابن زيد : بالإسلام. وقيل : بالسيف ؛ وهذا فيه بعد ؛ لأن السورة مكية نزلت قبل الأمر بالقتال. {جِهَاداً كَبِيراً } لا يخالطه فتور.
الآية : [53] {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً}
قوله تعالى : {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} عاد الكلام إلى ذكر النعم. و {مَرَجَ} خلى وخلط وأرسل. قال مجاهد : أرسلهما وأفاض أحدهما في الآخر. قال ابن عرفة : {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} أي خلطهما فهما يلتقيان ؛ يقال : مرجته إذا خلطته. ومرج الدين والأمر اختلط واضطرب ؛ ومنه قوله تعالى : {فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} [ق : 5] . ومنه قوله عليه الصلاة والسلام لعبدالله بن عمرو بن العاصي : "إذا رأيت الناس مرجت عهودهم وخفت أماناتهم وكانوا هكذا وهكذا" وشبك بين أصابعه فقلت له : كيف أصنع عند ذلك ، جعلني الله فداك! قال : "الزم بيتك واملك عليك لسانك وخذ بما تعرف ودع ما تنكر وعليك بخاصة أمر نفسك ودع عنك أمر العامة" خرجه النسائي وأبو داود وغيرهما. وقال الأزهري : {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} خلى بينهما ؛ يقال مرجت الدابة إذا خليتها ترعى. وقال ثعلب : المرج الإجراء ؛ فقوله : {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} أي أجراهما. وقال الأخفش : يقول قوم أمرج البحرين مثل مرج فعل وأفعل. {هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ} أي حلو شديد العذوبة.
{وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} أي فيه ملوحة ومرارة. وروي عن طلحة أنه قرئ : {وَهَذَا مَلْحٌ} بفتح الميم وكسر اللام. {وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً} أي حاجزا من قدرته لا يغلب أحدهما على صاحبه ؛ كما قال في سورة الرحمن {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ. بينهما بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ} [الرحمن : 19 - 20] . {وَحِجْراً مَحْجُوراً} أي سترا مستورا يمنع أحدهما من الاختلاط بالآخر. فالبرزخ الحاجز ، والحجر المانع. وقال الحسن : يعني بحر فارس وبحر الروم. وقال ابن عباس وابن جبير : يعني بحر السماء وبحر الأرض. قال ابن عباس : يلتقيان في كل عام وبينهما برزخ قضاء من قضائه. {وَحِجْراً مَحْجُوراً} حراما محرما أن يعذب هذا الملح بالعذب ، أو يصلح هذا العذب بالملح.
الآية : [54] { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً}
قوله تعالى : {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَراً} أي خلق من النطفة إنسانا. {فَجَعَلَهُ} أي جعل الإنسان {نَسَباً وَصِهْراً} . وقيل : {مِنَ الْمَاءِ} إشارة إلى أصل الخلقة في أن كل حي مخلوق من الماء. وفي هذه الآية تعديد النعمة على الناس في ، إيجادهم بعد العدم ، والتنبيه على العبرة في ذلك.
قوله تعالى : {فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً} النسب والصهر معنيان يعمان كل قربى تكون بين آدميين. قال ابن العربي : النسب عبارة عن خلط الماء بين الذكر والأنثى على وجه الشرع ؛ فإن كان بمعصية كان خلقا مطلقا ولم يكن نسبا محققا ، ولذلك لم يدخل تحت قوله : {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} [النساء : 23] بنته من الزنى ؛ لأنها ليست ببنت له في أصح القولين لعلمائنا وأصح القولين في الدين ؛ وإذا لم يكن نسب شرعا فلا صهر شرعا فلا يحرم الزنى بنت أم ولا أم بنت ، وما يحرم من الحلال لا يحرم من الحرام ؛ لأن الله امتن بالنسب والصهر على عباده ورفع قدرهما ، وعلق الأحكام في الحل والحرمة عليهما فلا يلحق الباطل بهما ولا يساويهما.
قلت : اختلف الفقهاء في نكاح الرجل ابنته من زنى أو أخته أو بنت ابنه من زنى ؛ فحرم ذلك قوم منهم ابن القاسم ، وهو قول أبى حنيفة وأصحابه ، وأجاز ذلك آخرون منهم عبدالملك بن الماجشون ، وهو قول الشافعي ، وقد مضى هذا في {النِّسَاءَ} مجودا. قال الفراء : النسب الذي لا يحل نكاحه ، والصهر الذي يحل نكاحه. وقاله الزجاج : وهو قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه. واشتقاق الصهر من صهرت الشيء إذا خلطته ؛ فكل واحد من الصهرين قد خالط صاحبه ، فسميت المناكح صهرا لاختلاط الناس بها. وقيل : الصهر قرابة النكاح ؛ فقرابة الزوجة هم الأختان ، وقرابة الزوج هم الأحماء. والأصهار يقع عاما لذلك كله ؛ قاله الأصمعي. وقال ابن الأعرابي : الأختان أبو المرأة وأخوهما وعمها - كما قال الأصمعي - والصهر زوج ابنة الرجل وأخوه وأبوه وعمه. وقال محمد بن الحسن في رواية أبي سليمان الجوزجاني : أختان الرجل أزواج بناته وأخواته وعماته وخالاته ، وكل ذات محرم منه ، وأصهاره كل ذي رحم محرم من زوجته. قال النحاس : الأولى في هذا أن يكون القول في الأصهار ما قال الأصمعي ، وأن يكون من قبلهما جميعا. يقال : صهرت الشيء أي خلطته ؛ فكل واحد منهما قد خلط صاحبه. والأولى في الأختان ما قال محمد بن الحسن لجهتين : إحداهما الحديث المرفوع ، روى محمد بن إسحاق عن يزيد بن عبدالله بن قسيط عن محمد بن أسامة بن زيد عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أما أنت يا علي فختني وأبو ولدي وأنت مني وأنا منك" . فهذا على أن زوج البنت ختن. والجهة الأخرى أن اشتقاق الختن من ختنه إذا قطعه ؛ وكان الزوج قد انقطع عن أهله ، وقطع زوجته عن أهلها. وقال الضحاك : الصهر قرابة الرضاع. قال ابن عطية : وذلك عندي وهم أوجبه أن ابن عباس قال : حرم من النسب سبع ، ومن الصهر خمس. وفي رواية أخرى من الصهر سبع ؛ يريد قوله عز وجل : {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ} [النساء : 23] فهذا هو النسب. ثم يريد بالصهر قوله تعالى : {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ} إلى قوله : {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} . ثم ذكر المحصنات. ومحمل هذا أن ابن عباس أراد حرم من الصهر ما ذكر معه ، فقد أشار




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 39.88 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 39.25 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.57%)]