عرض مشاركة واحدة
  #533  
قديم 07-07-2025, 04:19 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,345
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (13)
سُورَةُ الشعراء
من صــ 141 الى صــ 150
الحلقة (533)







الآية : [210] {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ}
الآية : [211] {وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ}
الآية : [212] {إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ}
الآية : [213] {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ}
قوله تعالى : {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ} يعني القرآن بل ينزل به الروح الأمين. {وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} أي برمي الشهب كما مضى في سورة {الحجر} بيانه. وقرأ الحسن ومحمد بن السميقع : {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِونُ} قال المهدوي : وهو غير جائز في العربية ومخالف للخط. وقال النحاس : وهذا غلط عند جميع النحويين ؛ وسمعت علي بن سليمان يقول سمعت محمد بن يزيد يقول : هذا غلط عند العلماء ، إنما يكون بدخول شبهة ؛ لما رأى الحسن في آخره ياء ونونا وهو في موضع رفع اشتبه عليه بالجمع المسلم فغلط ، وفي الحديث : "احذروا زلة العالم" وقد قرأ هو مع الناس : {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} [البقرة : 14] ولو كان هذا بالواو في موضع رفع لوجب حذف النون للإضافة. وقال الثعلبي : قال الفراء : غلط الشيخ - يعني الحسن - فقيل ذلك للنضر بن شميل فقال : إن جاز أن يحتج بقول رؤبة والعجاج وذويهما ، جاز أن يحتج بقول الحسن وصاحبه. مع أنا نعلم أنهما لم يقرأ بذلك إلا وقد سمعا في ذلك شيئا ؛ وقال المؤرج : إن كان الشيطان من شاط يشيط كان لقراءتهما وجه. وقال يونس بن حبيب : سمعت أعرابيا يقول دخلنا بساتين من ورائها بساتون ؛ فقلت : ما أشبه هذا بقراءة الحسن.
قوله تعالى : {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ} قيل : المعنى قل لمن كفر هذا. وقيل : هو مخاطبة له عليه السلام وإن كان لا يفعل هذا ؛ لأنه معصوم مختار ولكنه خوطب بهذا والمقصود غيره. ودل على هذا قوله : {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} أي لا يتكلون على نسبهم وقرابتهم فيدعون ما يجب عليهم.
الآية : [214] {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}
الآية : [215] {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}
الآية : [216] {فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ}
الآية : [217] {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ}
الآية : [218] {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ}
الآية : [219] {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ}
الآية : [22] {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}
قوله تعالى : {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} فيه مسألتان :
الأولى- قوله تعالى : {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} خص عشيرته الأقربين بالإنذار ؛ لتنحسم أطماع سائر عشيرته وأطماع الأجانب في مفارقته إياهم على الشرك. وعشيرته الأقربون قريش. وقيل : بنو عبد مناف. ووقع في صحيح مسلم : "وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ورهطك منهم المخلصين" . وظاهر هذا أنه كان قرآنا يتلى وأنه نسخ ؛ إذ لم يثبت نقله في المصحف ولا تواتر. ويلزم على ثبوته إشكال ؛ وهو أنه كان يلزم عليه ألا ينذر إلا من آمن من عشيرته ؛ فإن المؤمنين هم الذين يوصفون بالإخلاص في دين الإسلام وفي حب النبي صلى الله عليه وسلم لا المشركون ؛ لأنهم ليسوا على شيء من ذلك ، والنبي صلى الله عليه وسلم دعا عشيرته كلهم مؤمنهم وكافرهم ، وأنذر جميعهم ومن معهم ومن يأتي بعدهم صلي الله عليه وسلم ؛ فلم يثبت ذلك نقلا ولا معنى. وروى مسلم من حديث أبي هريرة قال : لما نزلت هذه الآية {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا فاجتمعوا فعم وخص فقال : "يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار يا بني مرة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار يا بني عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار يا بني عبدالمطلب أنقذوا أنفسكم من النار يا فاطمة أنقذي نفسك من النار فإني لا أملك لكم من الله شيئا غير أن لكم رحما سأبلها ببلالها" .
الثانية- في هذا الحديث والآية دليل على أن القرب في الأنساب لا ينفع مع البعد في الأسباب ، ودليل على جواز صلة المؤمن الكافر وإرشاده ونصيحته ؛ لقوله : "إن لكم رحما سأبلها ببلالها" وقوله عز وجل : {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} [الممتحنة : 8] الآية ، على ما يأتي بيانه هناك إن شاء الله.
قوله تعالى : {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} تقدم في سورة {الحجر} و {سبحان} يقال : خفض جناحه إذا لان. {فَإِنْ عَصَوْكَ} أي خالفوا أمرك. {فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} أي بريء من معصيتكم إياي ؛ لأن عصيانهم إياه عصيان لله عز وجل ، لأنه عليه السلام لا يأمر إلا بما يرضاه ، ومن تبرأ منه فقد تبرأ الله منه.
{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} أي فوض أمرك إليه فإنه العزيز الذي لا يغالب ، الرحيم الذي لا يخذل أولياءه. وقرأ العامة : {وَتَوَكَّلْ} بالواو وكذلك هو في مصاحفهم.
وقرأ نافع وابن عامر : {فَتَوَكَّلْ كل} بالفاء وكذلك هو في مصاحف المدينة والشام. {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ} أي حين تقوم إلى الصلاة في قول أكثر المفسرين : ابن عباس وغيره. وقال مجاهد : يعني حين تقوم حيثما كنت. {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} قال مجاهد وقتادة : في المصلين. وقال ابن عباس : أي في أصلاب الآباء ، آدم ونوح وإبراهيم حتى أخرجه نبيا. وقال عكرمة : يراك قائما وراكعا وساجدا ؛ وقاله ابن عباس أيضا. وقيل : المعني ؛ إنك ترى بقلبك في صلاتك من خلفك كما ترى بعينك من قدامك. وروي عن مجاهد ، ذكره الماوردي والثعلبي. وكان عليه السلام يرى من خلفه كما يرى من بين يديه ، وذلك ثابت في الصحيح وفي تأويل الآية بعيد {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} تقدم.
الآية : [221] {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ}
الآية : [222] {تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ}
الآية : [223] {يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ}
قوله تعالى : {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ}
إنما قال : {تَنَزَّلُ} لأنها أكثر ما تكون في الهواء ، وأنها تمر في الريح. {يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} تقدم في {الحجر} .فـ {ـيُلْقُونَ السَّمْعَ} صفة الشياطين {وأكثرهم} يرجع إلى الكهنة. وقيل : إلى الشياطين.
الآية : [224] {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ}
الآية : [225] {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ}
الآية : [226] {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ}
الآية : [227] {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ}
قوله تعالى : {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} فيه ست مسائل :
الأولي- قوله تعالى : {وَالشُّعَرَاءُ} جمع شاعر مثل جاهل وجهلاء ؛ قال ابن عباس : هم الكفار {يَتَّبِعُهُمُ} ضلال الجن والإنس. وقيل {الْغَاوُونَ} الزائلون عن الحق ، ودل بهذا أن الشعراء أيضا غاوون ؛ لأنهم لو لم يكونوا غاوين ما كان أتباعهم كذلك. وقد قدمنا في سورة {النور} أن من الشعر ما يجوز إنشاده ، ويكره ، ويحرم. روي مسلم من حديث عمرو بن الشريد عن أبيه قال : ردفت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال : "هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت شيء" قلت : نعم. قال : "هيه" فأنشدته بيتا. فقال : "هيه" ثم أنشدته بيتا. فقال : "هيه" حتى أنشدته مائة بيت. هكذا صواب هذا السند وصحيح روايته. وقد وقع لبعض رواة كتاب مسلم : عن عمرو بن الشريد عن الشريد أبيه ؛ وهو وهم ؛ لأن الشريد هو الذي أردفه رسول الله صلى الله عليه وسلم. واسم أبي الشريد سويد. وفي هذا دليل على حفظ الأشعار والاعتناء بها إذا تضمنت الحكم والمعاني المستحسنة شرعا وطبعا ، وإنما استكثر النبي صلى الله عليه وسلم من شعر أمية ؛ لأنه
كان حكيما ؛ ألا ترى قوله عليه السلام : "وكاد أمية بن أبي الصلت أن يسلم" فأما ما تضمن ذكر الله وحمده والثناء عليه فذلك مندوب إليه ، كقول القائل :
الحمد لله العلي المنان ... صار الثريد في رؤوس العيدان
أو ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أو مدحه كقول العباس :
من قبلها طبت في الظلال وفي ... مستودع حيث يخصف الورق
ثم هبطت البلاد لا بشر ... أنت ولا مضغة ولا علق
بل نطفة تركب السفين وقد ألجم ... نسرا وأهله الغرق
تنقل من صالب إلى رحم ... إذا مضى عالم بدا طبق
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : "لا يفضض الله فاك" . أو الذب عنه كقول حسان :
هجوت محمدا فأجبت عنه ... وعند الله في ذاك الجزاء
وهي أبيات ذكرها مسلم في صحيحه وهي في السير أتم. أو الصلاة عليه ؛ كما روى زيد بن أسلم ؛ خرج عمر ليلة يحرس فرأى مصباحا في بيت ، وإذا عجوز تنفش صوفا وتقول :
على محمد صلاة الأبرار ... صلى عليه الطيبون الأخيار
قد كنت قواما بكا بالأسحار ... يا ليت شعري والمنايا أطوار
هل يجمعني وحبيبي الدار
يعني النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فجلس عمر يبكي. وكذلك ذكر أصحابه ومدحهم رضي الله عنهم ؛ ولقد أحسن محمد بن سابق حيث قال :
إني رضيت عليا للهادي علما ... كما رضيت عتيقا صاحب الغار
وقد رضيت أبا حفص وشيعته ... وما رضيت بقتل الشيخ في الدار
كل الصحابة عندي قدوة علم ... فهل علي بهذا القول من عار
إن كنت تعلم إني لا أحبهم ... إلا من أجلك فاعتقني من النار
وقال آخر فأحسن :
حب النبي رسول الله مفترض ... وحب أصحابه نور ببرهان
من كان يعلم أن الله خالقه ... لا يرمين أبا بكر ببهتان
ولا أبا حفص الفاروق صاحبه ... ولا الخليفة عثمان بن عفان
أما علي فمشهور فضائله ... والبيت لا يستوي إلا بأركان
قال ابن العربي : أما الاستعارات في التشبيهات فمأذون فيها وإن استغرقت الحد وتجاوزت المعتاد ؛ فبذلك يضرب الملك الموكل بالرؤيا المثل ، وقد أنشد كعب بن زهير النبي صلى الله عليه وسلم :
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول ... متيم إثرها لم يفد مكبول
وما سعاد غداة البين إذ رحلوا ... إلا أغن غضيض الطرف مكحول
تجلو عوارض ذي ظلم إذا ابتسمت ... كأنه منهل بالراح معلول
فجاء في هذه القصيدة من الاستعارات والتشبيهات بكل بديع ، والنبي صلى الله عليه وسلم يسمع ولا ينكر في تشبيهه ريقها بالراح. وأنشد أبو بكر رضي الله عنه :
فقدنا الوحى إذ وليت عنا ... وودعنا من الله الكلام
سوى ما قد تركت لنا رهينا ... توارثه القراطيس الكرام
فقد أورثتنا ميراث صدق ... عليك به التحية والسلام
فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمعه وأبو بكر ينشده ، فهل للتقليد والاقتداء موضع أرفع من هذا. قال أبو عمر : ولا ينكر الحسن من الشعر أحد من أهل العلم ولا من أولي النهي ، وليس أحد من كبار الصحابة وأهل العلم وموضع القدوة إلا وقد قال الشعر ، أو تمثل به أو سمعه فرضيه ما كان حكمة أو مباحا ، ولم يكن فيه فحش ولا خنا ولا لمسلم أذى ، فإذا كان كذلك فهو والمنثور من القول سواء لا يحل سماعه ولا قوله ؛ وروي أبو هريرة قال
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر يقول : "أصدق كلمة - أو أشعر كلمة - قالتها العرب قول لبيد :"
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
أخرجه مسلم وزاد : "وكاد أمية بن أبي الصلت أن يسلم" وروي عن ابن سيرين أنه أنشد شعرا فقال له بعض جلسائه : مثلك ينشد الشعر يا أبا بكر. فقال : ويلك يا لكع! وهل الشعر إلا كلام لا يخالف سائر الكلام إلا في القوافي ، فحسنه حسن وقبيحه قبيح! قال : وقد كانوا يتذاكرون الشعر. قال : وسمعت ابن عمر ينشد :
يحب الخمر من مال الندامى ... ويكره أن يفارقه الغلوس
وكان عبيدالله بن عبدالله بن عتبة بن مسعود أحد فقهاء المدينة العشرة ثم المشيخة السبعة شاعرا مجيدا مقدما فيه. وللزبير بن بكار القاضي في أشعاره كتاب ، وكانت له زوجة حسنة تسمى عثمة فعتب عليها في بعض الأمر فطلقها ، وله فيها أشعار كثيرة ؛ منها قوله :
تغلغل حب عثمة في فؤادي ... فباديه مع الخافي يسير
تغلغل حيث لم يبلغ شراب ... ولا حزن ولم يبلغ سرور
أكاد إذا ذكرت العهد منها ... أطير لوان إنسانا يطير
وقال ابن شهاب : قلت له تقول الشعر في نسكك وفضلك! فقال : إن المصدور إذا نفث برأ.
الثانية- وأما الشعر المذموم الذي لا يحل سماعه وصاحبه ملوم ، فهو المتكلم بالباطل حتى يفضلوا أجبن الناس على عنترة ، وأشحهم على حاتم ، وإن يبهتوا البريء ويفسقوا التقي ، وأن يفرطوا في القول بما لم يفعله المرء ؛ رغبة في تسلية النفس وتحسين القول ؛ كما روي عن الفرزدق أن سليمان بن عبدالملك سمع قوله :
فبتن بجانبي مصرعات ... وبت أفض أغلاق الختام
فقال : قد وجب عليك الحد. فقال : يا أمير المؤمنين قد درأ الله عني الحد بقوله : {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} . وروي أن النعمان بن عدي بن نضلة كان عاملا لعمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال :
من مبلغ الحسناء أن حليلها ... بميسان يسقي في زجاج وحنتم
إذا شئت غنتني دهاقين قرية ... ورقاصة تجذو على كل منسم
فإن كنت ندماني فبالأكبر أسقني ... ولا تسقني بالأصغر المتثلم
لعل أمير المؤمنين يسوءه ... تنادمنا بالجوسق المتهدم
فبلغ ذلك عمر فأرسل إليه بالقدوم عليه. وقال : إي والله إني ليسوءني ذلك. فقال : يا أمير المؤمنين ما فعلت شيئا مما قلت ؛ وإنما كانت فضلة من القول ، وقد قال الله تعالى : {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ. وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} فقال له عمر : أما عذرك فقد درأ عنك الحد ؛ ولكن لا تعمل لي عملا أبدا وقد قلت ما قلت. وذكر الزبير بن بكار قال : حدثني مصعب بن عثمان أن عمر بن عبدالعزيز لما ولي الخلافة لم يكن له هم إلا عمر بن أبي ربيعة والأحوص فكتب إلى عامله على المدينة : إني قد عرفت عمر والأحوص بالشر والخبث فإذا أتاك كتابي هذا فاشدد عليهما وأحملهما إلي. فلما أتاه الكتاب حملهما إليه ، فأقبل على عمر ، فقال : هيه!
فلم أر كالتجمير منظر ناظر ... ولا كليالي الحج أفلتن ذا هوى
وكم مالئ عينيه من شيء غيره ... إذا راح نحو الجمرة البيض كالدمى
أما والله لو اهتممت بحجك لم تنظر إلى شيء غيرك ؛ فإذا لم يفلت الناس منك في هذه الأيام فمتى يفلتون! ثم أمر بنفيه. فقال : يا أمير المؤمنين! أو خير من ذلك ؟ فقال : ما هو ؟ قال : أعاهد الله أني لا أعود إلى مثل هذا الشعر ، ولا أذكر النساء في شعر أبدا ، وأجدد توبة ، فقال : أو تفعل ؟ قال : نعم ، فعاهد الله على توبته وخلاه ؛ ثم دعا بالأحوص ، فقال هيه!
الله بيني وبين قيمها ... يفر مني بها وأتَّبع
بل الله بين قيمها وبينك! ثم أمر بنفيه ؛ فكلمه فيه رجال من الأنصار فأبى ، وقال : والله لا أرده ما كان لي سلطان ، فإنه فاسق مجاهر. فهذا حكم الشعر المذموم وحكم صاحبه ، فلا يحل سماعه ولا إنشاده في مسجد ولا غيره ، كمنثور الكلام القبيح ونحوه. وروي إسماعيل بن عياش عن عبدالله بن عون عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "حسن الشعر كحسن الكلام وقبيحه كقبيح الكلام" رواه إسماعيل عن عبدالله الشامي وحديثه عن أهل الشام صحيح فيما قال يحيى بن معين وغيره. وروى عبدالله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "الشعر بمنزلة الكلام حسنه كحسن الكلام وقبيحه كقبيح الكلام" .
الثالثة- روي مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا حتى يريه خير من أن يمتلئ شعرا" وفي الصحيح أيضا عن أبي سعيد الخدري قال : بينا نحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عرض شاعر ينشد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "خذوا الشيطان - أو أمسكوا الشطان - لان يمتلئ جوف رجل قيحا خير له من أن يمتلئ شعرا" قال علماؤنا : وإنما فعل النبي صلى الله عليه وسلم هذا مع هذا الشاعر لما علم من حاله ، فلعل هذا الشاعر كان ممن قد عرف من حاله أنه قد اتخذ الشعر طريقا للتكسب ، فيفرط في المدح إذا أعطي ، وفي الهجو والذم إذا منع ، فيؤذي الناس في أموالهم وأعراضهم. ولا خلاف في أن من كان على مثل هذه الحالة فكل ما يكتسبه بالشعر حرام. وكل ما يقوله من ذلك حرام عليه ، ولا يحل الإصغاء إليه ، بل يجب الإنكار عليه ؛ فإن لم يكن ذلك لمن خاف من لسانه قطعا تعين عليه أن يداريه بما استطاع ، ويدافعه بما أمكن ، ولا يحل له أن يعطي شيئا ابتداء ، لأن ذلك عون على المعصية ؛ فإن لم يجد من ذلك بدا أعطاه بنية وقاية العرض ؛ فما وقى به المرء عرضه كتب له به صدقة. قلت : قوله : "لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا حتى يريه" القيح المدة يخالطها دم. يقال منه : قاح الجرح يقيح وتقيح وقيح. و "يريه" قال الأصمعي : هو من الوري على
مثال الرمي وهو أن يدوي جوفه ، يقال منه : رجل موري مشدد غير مهموز. وفي الصحاح : وروي القيح جوفه يريه وريا إذا أكله. وأنشد اليزيدي :
قالت له وريا إذا تنحنحا
وهذا الحديث أحسن ما قيل في تأويله : إنه الذي قد غلب عليه الشعر ، وامتلأ صدره منه دون علم سواه ولا شيء من الذكر ممن يخوض به في الباطل ، ويسلك به مسالك لا تحمد له ، كالمكثر من اللغط والهذر والغيبة وقبيح القول. ومن كان الغالب عليه الشعر لزمته هذه الأوصاف المذمومة الدنية ، لحكم العادة الأدبية. وهذا المعنى هو الذي أشار إليه البخاري في صحيحه لما بوب على هذا الحديث "باب ما يكره أن يكون الغالب على الإنسان الشعر" . وقد قيل في تأويله : إن المراد بذلك الشعر الذي هجي به النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره. وهذا ليس بشيء ؛ لأن القليل من هجو النبي صلى الله عليه وسلم وكثيره سواء في أنه كفر ومذموم ، وكذلك هجو غير النبي صلى الله عليه وسلم من المسلمين محرم قليله وكثيره ، وحينئذ لا يكون لتخصيص الذم بالكثير معني.
الرابعة- قال الشافعي : الشعر نوع من الكلام حسنه كحسن الكلام وقبيح كقبيح الكلام ، يعني أن الشعر ليس يكره لذاته وإنما يكره لمضمناته ، وقد كان عند العرب عظيم الموقع. قال الأول منهم :
وجرح اللسان كجرح اليد
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الشعر الذي يرد به حسان على المشركين : "إنه لأسرع فيهم من رشق النبل" أخرجه مسلم. وروى الترمذي وصححه عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة في عمرة القضاء وعبدالله بن رواحة يمشي بين يديه ويقول :
خلوا بني الكفار عن سبيله ... اليوم نضربكم على تنزيله
ضربا يزيل الهام عن مقيله ... ويذهل الخليل عن خليله
فقال عمر : يا ابن رواحة! في حرم الله وبين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "خل عنه يا عمر فلهو أسرع فيهم من نضح النبل" .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 44.11 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 43.49 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.42%)]