عرض مشاركة واحدة
  #536  
قديم 07-07-2025, 04:28 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,368
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (13)
سُورَةُ النمل
من صــ 171 الى صــ 180
الحلقة (536)





قال المهدوي : وأفهم الله تعالى النملة هذا لتكون معجزة لسليمان. وقال وهب : أمر الله تعالى الريح ألا يتكلم أحد بشيء إلا طرحته في سمع سليمان ؛ بسبب أن الشياطين أرادت كيده. وقد قيل : إن هذا الوادي كان ببلاد اليمن وأنها كانت نملة صغيرة مثل النمل المعتاد قاله الكلبي. وقال نوف الشامي وشقيق بن سلمة : كان نمل ذلك الوادي كهيئة الذئاب في العظم. وقال بريدة الأسلمي : كهيئة النعاج. قال محمد بن على الترمذي : فإن كان على هذه الخلقة فلها صوت ، وإنما افتقد صوت النمل لصغر خلقها ، وإلا فالأصوات في الطيور والبهائم كائنة ، وذلك منطقهم ، وفي تلك المناطق معاني التسبيح وغير ذلك ، وهو قوله تعالى : {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء : 44] .
قلت : وقوله : {لا يَحْطِمَنَّكُمْ} يدل على صحة قول الكلبي ؛ إذ لو كانت كهيئة الذئاب والنعاج لما حطمت بالوطء ؛ والله أعلم. وقال : {ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ} فجاء على خطاب الآدميين لأن النمل ههنا أجري مجرى الآدميين حين نطق كما ينطق الآدميون. قال أبو إسحاق الثعلبي : ورأيت في بعض الكتب أن سليمان قال لها لم حذرت النمل ؟ أخفت ظلمي ؟ أما علمت أني نبي عدل ؟ فلم قلت : {حْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ} فقالت النملة : أما سمعت قولي : {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} مع أني لم أرد حطم النفوس ، وإنما أردت حطم القلوب خشية أن يتمنين مثل ما أعطيت ، أو يفتتن بالدنيا ، ويشغلن بالنظر إلى ملكك عن التسبيح والذكر. فقال لها سليمان : عظيني. فقالت النملة : أما علمت لم سمي أبوك داود ؟ قال : لا. قالت : لأنه داوى جراحة فؤاده ؛ هل علمت لم سميت سليمان ؟ قال : لا. قالت : لأنك سليم الناحية على ما أوتيته بسلامة صدرك ، وإن لك أن تلحق بأبيك. ثم قالت : أتدري لم سخر الله لك الريح ؟ قال : لا. قالت : أخبرك أن الدنيا كلها ريح. {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا} متعجبا ثم مضت مسرعة إلى قومها ، فقالت : هل عندكم من شيء نهديه إلى
نبي الله ؟ قالوا : وما قدر ما نهدي له! والله ما عندنا إلا نبقة واحدة. قالت : حسنة ؛ ايتوني بها. فأتوها بها فحملتها بفيها فانطلقت تجرها ، فأمر الله الريح فحملتها ، وأقبلت تشق الإنس والجن والعلماء والأنبياء على البساط ، حتى وقعت بين يديه ، ثم وضعت تلك النبقة من فيها في كفه ، وأنشأت تقول :
ألم ترنا نهدي إلى الله ماله ... وإن كان عنه ذا غني فهو قابله
ولو كان يهدي للجليل بقدره ... لقصر عنه البحر يوما وساحله
ولكننا نهدي إلى من نحبه ... فيرضى به عنا ويشكر فاعله
وما ذاك إلا من كريم فعاله ... وإلا فما في ملكنا ما يشاكله
فقال لها : بارك الله فيكم ؛ فهم بتلك الدعوة أشكر خلق الله وأكثر خلق الله. وقال ابن عباس : نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل أربع من الدواب : الهدهد والصرد والنملة والنحلة ؛ خرجه أبو داود وصححه أبو محمد عبدالحق وروي من حديث أبي هريرة. وقد مضى في {الأعراف} . فالنملة أثنت على سليمان وأخبرت بأحسن ما تقدر عليه بأنهم لا يشعرون إن حطموكم ، ولا يفعلون ذلك عن عمد منهم ، فنفت عنهم الجور ؛ ولذلك نهى عن قتلها ، وعن قتل الهدهد ؛ لأنه كان دليل سليمان على الماء ورسوله إلى بلقيس. وقال عكرمة : إنما صرف الله شر سليمان عن الهدهد لأنه كان بارا بوالديه. والصرد يقال له الصوام. وروي عن أبي هريرة قال : أول من صام الصرد ولما خرج إبراهيم عليه السلام من الشام إلى الحرم في بناء البيت كانت السكينة معه والصرد ، فكان الصرد دليله على الموضع والسكينة مقداره ، فلما صار إلى البقعة وقعت السكينة على موضع البيت ونادت وقالت : ابن يا إبراهيم على مقدار ظلي. وقد تقدم في {الأعراف} سبب النهي عن قتل الضفدع وفي {النحل} النهي عن قتل النحل. والحمد لله.
الثانية- قرأ الحسن : {لا يَحْطِمَنَّكُمْ} وعنه أيضا {لا يَحِطِّمَنَّكم} وعنه أيضا وعن أبي رجاء : {لا يُحَطِّمَنَّكم} والحطْم الكسر. حطمته حطما أي كسرته وتحطَّم ؛ والتحطيم التكسير ، {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} يجوز أن يكون حالا من سليمان ، وجنوده ، والعامل في الحال {يَحْطِمَنَّكُمْ} . أو حالا من النملة والعامل {قَالَتْ} : أي قالت ذلك في حال غفلة الجنود ؛ كقولك : قمت والناس غافلون. أو حالا من النمل أيضا والعامل {قَالَتْ} على أن المعنى : والنمل لا يشعرون أن سليمان يفهم مقالتها. وفيه بعد وسيأتي.
الثالثة- روى مسلم من حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أن نملة قرصت نبيا من الأنبياء فأمر بقرية النمل فأحرقت فأوحى الله تعالى إليه أفي أن قرصتك نملة أهلكت أمة من الأمم تسبح" وفي طريق آخر : "فهلا نملة واحدة" . قال علماؤنا : يقال إن هذا النبي هو موسى عليه السلام ، وإنه قال : يا رب تعذب أهل قرية بمعاصيهم وفيهم الطائع. فكأنه أحب أن يريه ذلك من عنده ، فسلط عليه الحر حتى التجأ إلى شجرة مستروحا إلى ظلها ، وعندها قرية النمل ، فغلبه النوم ، فلما وجد لذة النوم لدغته النملة فأضجرته ، فدلكهن بقدمه فأهلكهن ، وأحرق تلك الشجرة التي عندها مساكنهم ، فأراه الله العبرة في ذلك آية : لما لدغتك نملة فكيف أصبت الباقين بعقوبتها! يريد أن ينبهه أن العقوبة من الله تعالى تعم فتصير رحمة على المطيع وطهارة وبركة ، وشرا ونقمة على العاصي. وعلى هذا فليس في الحديث ما يدل على كراهة ولا حظر في قتل النمل ؛ فإن من آذاك حل لك دفعه عن نفسك ، ولا أحد من خلقه أعظم حرمة من المؤمن ، وقد أبيح لك دفعه عنك بقتل وضرب على المقدار ، فكيف بالهوام والدواب التي قد سخرت لك وسلطت عليها ، فإذا آذاك أبيح لك قتله. وروي عن إبراهيم : ما آذاك من النمل فاقتله. وقوله : "إلا نملة واحدة" دليل على أن الذي يؤذي يؤذى ويقتل ، وكلما كان القتل لنفع أو دفع ضرر فلا بأس به عند العلماء. وأطلق له نملة ولم يخص تلك النملة التي لدغت من غيرها ؛ لأنه ليس المراد القصاص ؛ لأنه لو أراده لقال ألا نملتك التي لدغتك ، ولكن قال : ألا نملة مكان نملة ؛ فعم البريء
والجاني بذلك ، ليعلم أنه أراد أن ينبهه لمسألته ربه في عذاب أهل قرية وفيهم المطيع والعاصي. وقد قيل : إن هذا النبي كانت العقوبة للحيوان بالتحريق جائزة في شرعه ؛ فلذلك إنما عاتبه الله تعالى في إحراق الكثير من النمل لا في أصل الإحراق. ألا ترى قوله : "فهلا نملة واحدة" أي هلا حرقت نملة واحدة. وهذا بخلاف شرعنا ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن التعذيب بالنار. وقال : "لا يعذب بالنار إلا الله" . وكذلك أيضا كان قتل النمل مباحا في شريعة ذلك النبي ؛ فإن الله لم يعتبه على أصل قتل النمل. وأما شرعنا فقد جاء من حديث ابن عباس وأبي هريرة النهي عن ذلك. وقد كره مالك قتل النمل إلا أن يضر ولا يقدر على دفعه إلا بالقتل. وقد قيل : إن هذا النبي إنما عاتبه الله حيث انتقم لنفسه بإهلاك جمع آذاه واحد ، وكان الأولى الصبر والصفح ؛ لكن وقع للنبي أن هذا النوع مؤذ لبني آدم ، وحرمة بني آدم أعظم من حرمة غيره من الحيوان غير الناطق ، فلو انفرد له هذا النظر ولم ينضم إليه التشفي الطبعي لم يعاتب. والله أعلم. لكن لما انضاف إليه التشفي الذي دل عليه سياق الحديث عوتب عليه.
الرابعة- قوله : "أفي أن قرصتك نملة أهلكت أمة من الأمم تسبح" مقتضى هذا أنه تسبيح بمقال ونطق ، كما أخبر الله عن النمل أن لها منطقا وفهمه سليمان عليه السلام - وهذا معجزة له - وتبسم من قولها. وهذا يدل دلالة واضحة أن للنمل نطقا وقولا ، لكن لا يسمعه كل أحد ، بل من شاء الله تعالى ممن خرق له العادة من نبي أو ولي. ولا ننكر هذا من حيث أنا لا نسمع ذلك ؛ فإنه لا يلزم من عدم الإدراك عدم المدرك في نفسه. ثم إن الإنسان يجد في نفسه قولا وكلاما ولا يسمع منه إلا إذا نطق بلسانه. وقد خرق الله العادة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم فأسمعه كلام النفس من قوم تحدثوا مع أنفسهم وأخبرهم بما في نفوسهم ، كما قد نقل منه الكثير من أئمتنا في كتب معجزات النبي صلى الله عليه وسلم ؛ وكذلك وقع لكثير ممن أكرمه الله تعالى من الأولياء مثل ذلك في غير ما قضية. وإياه عنى النبي صلى الله عليه وسلم بقوله : "إن في أمتي محدثين وإن عمر منهم" . وقد مضى هذا المعنى
في تسبيح الجماد في {الإسراء} وإنه تسبيح لسان ومقال لا تسبيح دلالة حال. والحمد لله.
الخامسة- قوله تعالى : {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا} وقرأ ابن السميقع : {ضَاحِكاً} بغير ألف ، وهو منصوب على المصدر بفعل محذوف يدل عليه تبسم ، كأنه قال ضحك ضحكا ، هذا مذهب سيبويه. وهو عند غير سيبويه منصوب بنفس {تَبَسَّمَ} لأنه في معنى ضحك ؛ ومن قرأ : {ضَاحِكاً} فهو منصوب على الحال من الضمير في {تَبَسَّمَ} . والمعنى تبسم مقدار الضحك ؛ لأن الضحك يستغرق التبسم ، والتبسم دون الضحك وهو أوله. يقال : بسم : "بالفتح" يبسم بسما فهو باسم وابتسم وتبسم ، والمبسم الثغر مثل المجلس من جلس يجلس ورجل مبسام وبسام كثير التبسم ، فالتبسم ابتداء الضحك. والضحك عبارة عن الابتداء والانتهاء ، إلا أن الضحك يقتضي مزيدا على التبسم ، فإذا زاد ولم يضبط الإنسان نفسه قيل قهقه. والتبسم ضحك الأنبياء عليهم السلام في غالب أمرهم. وفي الصحيح عن جابر بن سمرة وقيل له : أكنت تجالس النبي صلى الله عليه وسلم ؛ قال : نعم كثيرا ؛ كان لا يقوم من مصلاه الذي يصلي فيه الصبح - أو الغداة - حتى تطلع الشمس فإذا طلعت قام ، وكانوا يتحدثون ويأخذون في أمر الجاهلية فيضحكون ويبتسم. وفيه عن سعد قال : كان رجل من المشركين قد أحرق المسلمين ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : "ارم فداك أبي وأمي" قال فنزعت له بسهم ليس فيه نصل فأصبت جنبه فسقط فانكشفت عورته ، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نظرت إلى نواجذه. فكان عليه السلام في أكثر أحواله يتبسم. وكان أيضا يضحك في أحوال أخر ضحكا أعلى من التبسم وأقل من الاستغراق الذي تبدو فيه اللهوات. وكان في النادر عند إفراط تعجبه ربما ضحك حتى بدت نواجذه. ود كره العلماء منه الكثرة ؛ كما قال لقمان لابنه : يا بني إياك وكثرة الضحك فإنه يميت القلب. وقد روي مرفوعا من
حديث أبي ذر وغيره. وضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه حين رمى سعد الرجل فأصابه ، إنما كان سرورا بإصابته لا بانكشاف عورته ؛ فإنه المنزه عن ذلك صلى الله عليه وسلم.
السادسة- لا اختلاف عند العلماء أن الحيوانات كلها لها أفهام وعقول. وقد قال الشافعي : الحمام أعقل الطير. قال ابن عطية : والنمل حيوان فطن قوي شمام جدا يدخر ويتخذ القرى ويشق الحب بقطعتين لئلا ينبت ، ويشق الكزبرة بأربع قطع ؛ لأنها تنبت إذا قسمت شقتين ، ويأكل في عامه نصف ما جمع ويستبقي سائره عدة. قال ابن العربي : وهذه خواص العلوم عندنا ، وقد أدركتها النمل بخلق الله ذلك لها ؛ قال الأستاذ أبو المظفر شاهنود الإسفرايني : ولا يبعد أن تدرك البهائم حدوث العالم وحدوث المخلوقات ؛ ووحدانية الإله ، ولكننا لا نفهم عنها ولا تفهم عنا ، أما أنا نطلبها وهي تفر منا فبحكم الجنسية.
قوله تعالى : {وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ} فـ {أن} مصدرية. و {أَوْزِعْنِي} أي ألهمني ذلك. وأصله من وزع فكأنه قال : كفني عما يسخط. وقال محمد بن إسحاق : يزعم أهل الكتاب أن أم سليمان هي امرأة أوريا التي امتحن الله بها داود ، أو أنه بعد موت زوجها تزوجها داود فولدت له سليمان عليه السلام. وسيأتي لهذا مزيد بيان في سورة {ص} إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى : {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} أي مع عبادك ، عن ابن زيد. وقيل : المعنى في جملة عبادك الصالحين.
الآية : [20] {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ}
الآية : [21] {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ}
الآية : [22] {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ}
الآية : [23] {إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ}
الآية : [24] {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ}
الآية : [25] {أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ}
الآية : [26] {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}
الآية : [27] {قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ}
الآية : [28] {اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ}
فيه ثمان عشرة مسألة :
الأولى- قوله تعالى : {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ} ذكر شيئا آخر مما جرى له في مسيره الذي كان فيه من النمل ما تقدم. والتفقد تطلب ما غاب عنك من شيء. والطير اسم جامع والواحد طائر ، والمراد بالطير هنا جنس الطير وجماعتها. وكانت تصحبه في سفره وتظله بأجنحتها. واختلف الناس في معنى تفقده للطير ؛ فقالت فرقة : ذلك بحسب ما تقتضيه العناية بأمور الملك ، والتهمم بكل جزء منها ؛ وهذا ظاهر الآية. وقالت فرقة : بل تفقد الطير لأن الشمس دخلت من موضع الهدهد حين غاب ؛ فكان ذلك سبب تفقد الطير ؛ ليتبين من أين دخلت الشمس. وقال عبدالله بن سلام : إنما طلب الهدهد لأنه احتاج إلى معرفة الماء على كم هو من وجه الأرض ؛ لأنه كان نزل في مفازة عدم فيها الماء ، وأن الهدهد كان يرى باطن الأرض وظاهرها ؛ فكان يخبر سليمان بموضع الماء ، ثم كانت الجن تخرجه في ساعة يسيرة ؛ تسلخ عنه وجه الأرض كما تسلخ الشاة ؛ قاله ابن عباس فيما روي عن ابن سلام. قال أبو مجلز قال ابن عباس لعبدالله بن سلام : أريد أن أسألك عن ثلاث مسائل. قال : أتسألني وأنت تقرأ القرآن ؟ قال : نعم ثلاث مرات. قال : لم تفقد سليمان الهدهد دون
سائر الطير ؟ قال : احتاج إلى الماء ولم يعرف عمقه - أو قال مسافته - وكان الهدهد يعرف ذلك دون سائر الطير فتفقده. وقال في كتاب النقاش : كان الهدهد مهندسا. وروي أن نافع بن الأزرق سمع ابن عباس يذكر شأن الهدهد فقال له : قف يا وقاف كيف يرى الهدهد باطن الأرض وهو لا يرى الفخ حين يقع فيه ؟ ! فقال له ابن عباس : إذا جاء القدر عمي البصر. وقال مجاهد : قيل لابن عباس كيف تفقد الهدهد من الطير ؟ فقال : نزل منزلا ولم يدر ما بعد الماء ، وكان الهدهد مهتديا إليه ، فأراد أن يسأله. قال مجاهد : فقلت كيف يهتدي والصبي يضع له الحبالة فيصيده ؟ قال : إذا جاء القدر عمي البصر. قال ابن العربي : ولا يقدر على هذا الجواب إلا عالم القرآن.
قلت : هذا الجواب قد قاله الهدهد لسليمان كما تقدم. وأنشدوا :
إذا أراد الله أمرا بامرئ ... وكان ذا عقل ورأي ونظر
وحيلة يعملها في دفع ما ... يأتي به مكروه أسباب القدر
غطى عليه سمعه وعقله ... وسله من ذهنه سل الشعر
حتى إذا أنفذ فيه حكمه ... رد عليه عقله ليعتبر
قال الكلبي : لم يكن له في مسيره إلا هدهد واحد. والله أعلم.
الثانية- في هذه الآية دليل على تفقد الإمام أحوال رعيته ؛ والمحافظة عليهم. فانظر إلى الهدهد مع صغره كيف لم يخف على سليمان حاله ، فكيف بعظام الملك. ويرحم الله عمر فإنه كان على سيرته ؛ قال : لو أن سخلة على شاطئ الفرات أخذها الذئب ليسأل عنها عمر. فما ظنك بوال تذهب على يديه البلدان ، وتضيع الرعية ويضيع الرعيان. وفي الصحيح عن عبدالله بن عباس أن عمر بن الخطاب خرج إلى الشام ، حتى إذا كان بسرغ لقيه أمراء الأجناد : أبو عبيدة وأصحابه فأخبروه أن الوباء قد وقع بالشام. الحديث ؛ قال علماؤنا : كان هذا الخروج من عمر بعد ما فتح بيت المقدس سنة سبع عشرة على ما ذكره خليفة بن خياط.
كان يتفقد أحوال رعيته وأحوال أمرائه بنفسه ، فقد دل القرآن والسنة وبينا ما يجب على الإمام من تفقد أحوال رعيته ، ومباشرة ذلك بنفسه ، والسفر إلى ذلك وإن طال. ورحم الله ابن المبارك حيث يقول :
وهل أفسد الدين إلا الملوك ... وأحبار سوء ورهبانها
الثالثة- قوله تعالى : {مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ} أي ما للهدهد لا أراه ؛ فهو من القلب الذي لا يعرف معناه. وهو كقولك : ما لي أراك كئيبا. أي مالك. والهدهد طير معروف وهدهدته صوته. قال ابن عطية : إنما مقصد الكلام الهدهد غاب لكنه أخذ اللازم عن مغيبه وهو أن لا يراه ، فاستفهم على جهة التوقف على اللازم وهذا ضرب من الإيجاز. والاستفهام الذي في قوله : {مَا لِيَ} ناب مناب الألف التي تحتاجها أم. وقيل : إنما قال : {مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ} ؛ لأنه اعتبر حال نفسه ، إذ علم أنه أوتي الملك العظيم ، وسخر له الخلق ، فقد لزمه حق الشكر بإقامة الطاعة وإدامة العدل ، فلما فقد نعمة الهدهد توقع أن يكون قصر في حق الشكر ، فلأجله سلبها فجعل يتفقد نفسه ؛ فقال : {مَا لِيَ} . قال ابن العربي : وهدا يفعله شيوخ الصوفية إذا فقدوا مالهم ، تفقدوا أعمالهم ؛ هذا في الآداب ، فكيف بنا اليوم ونحن نقصر في الفرائض!. وقرأ ابن كثير وابن محيصن وعاصم والكسائي وهشام وأيوب : {مَا لِيَ} بفتح الياء وكذلك في {يس} {وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي} [يس : 22] . وأسكنها حمزة ويعقوب. وقرأ الباقون المدنيون وأبو عمرو : بفتح التي في {يس} وإسكان هذه. قال أبو عمرو : لأن هذه التي في {النمل} استفهام ، والأخرى انتفاء. واختار أبو حاتم وأبو عبيد الإسكان {فقال مالي} . وقال أبو جعفر النحاس : زعم قوم أنهم أرادوا أن يفرقوا بين ما كان مبتدأ ، وبين ما كان معطوفا على ما قبله ، وهذا ليس بشيء ؛ وإنما هي ياء النفس ، من العرب من يفتحها ومنهم من يسكنها ، فقرؤوا باللغتين ؛ واللغة الفصيحة في ياء النفس أن تكون مفتوحة ؛ لأنها اسم وهي على حرف واحد ، وكان الاختيار ألا تسكن فيجحف الاسم. {أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ} بمعنى بل.
الرابعة- قوله تعالى : {لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ} دليل على أن الحد على قدر الذنب لا على قدر الجسد ، أما أنه يرفق بالمحدود في الزمان والصفة. روي عن ابن عباس ومجاهد وابن جريج أن تعذيبه للطير كان بأن ينتف ريشه. قال ابن جريج : ريشه أجمع. وقال يزيد بن رومان : جناحاه. فعل سليمان هذا بالهدهد إغلاظا على العاصين ، وعقابا على إخلاله بنوبته ورتبته ؛ وكأن الله أباح له ذلك ، كما أباح ذبح البهائم والطير للأكل وغيره من المنافع. والله أعلم. وفي "نوادر الأصول" قال : حدثنا سليمان بن حميد أبو الربيع الإيادي ، قال حدثنا عون بن عمارة ، عن الحسين الجعفي ، عن الزبير بن الخريت ، عن عكرمة ، قال : إنما صرف الله شر سليمان عن الهدهد لأنه كان بارا بوالديه. وسيأتي. وقيل : تعذيبه أن يجعل مع أضداده. وعن بعضهم : أضيق السجون معاشرة الأضداد وقيل : لألزمنه خدمة أقرانه. وقيل : إيداعه القفص. وقيل : بأن يجعله للشمس بعد نتفه. وقيل : بتبعيده عن خدمتي ، والملوك يؤدبون بالهجران الجسد بتفريق إلفه. وهو مؤكد بالنون الثقيلة ، وهي لازمة هي أو الخفيفة. قال أبو حاتم : ولو قرئت "لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه" جاز. {أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} أي بحجة بينة. وليست اللام في {لَيَأْتِيَنِّي} لام القسم لأنه لا يقسم سليمان على فعل الهدهد ؛ ولكن لما جاء في أثر قوله : {لأُعَذِّبَنَّهُ} وهو مما جاز به القسم أجراه مجراه. وقرأ ابن كثير وحده : {لَيَأْتِيَنِّي} بنونين.
الخامسة- قوله تعالى : {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ} أي الهدهد. والجمهور من القراء على ضم الكاف ، وقرأ عاصم وحده بفتحها. ومعناه في القراءتين أقام. قال سيبويه : مكث يمكث مكوثا كما قالوا قعد يقعد قعودا. قال : ومكث مثل ظرف. قال غيره : والفتح أحسن لقوله تعالى : {مَاكِثِينَ} [الكهف : 3] إذ هو من مكث ؛ يقال : مكث يمكث فهو ماكث ؛ ومكث يمكث مثل عظم يعظم فهو مكيث ؛ مثل عظيم. ومكث يمكث فهو ماكث ؛ مثل حمض يحمض فهو حامض. والضمير في {مَكَثَ} يحتمل أن يكون لسليمان ؛ والمعنى : بقي سليمان بعد التفقد والوعيد غير طويل أي غير وقت طويل. ومحتمل أن يكون للهدهد وهو الأكثر. فجاء : {فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} وهي :




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 40.58 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 39.95 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.55%)]