عرض مشاركة واحدة
  #547  
قديم 08-07-2025, 02:35 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,616
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (13)
سُورَةُ النمل
من صــ 281 الى صــ 290
الحلقة (547)



الثانية- {وَسَارَ بِأَهْلِهِ} قيل : فيه دليل على أن الرجل يذهب بأهله حيث شاء ، لما له عليها من فضل القوامية وزيادة الدرجة إلا أن يلتزم لها أمرا فالمؤمنون عند شروطهم ، وأحق الشروط أن يوفى به ما استحللتم به الفروج
الثالثة- قوله تعالى- {آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَاراً} الآية. تقدم القول في ذلك في {طه} والجذوة بكسر الجيم قراءة العامة ، وضمها حمزة ويحيى ، وفتحها عاصم والسلمي وزور بن حبيش قال الجوهري : الجذوة والجذوة والجذوة الجمرة الملتهبة والجمع جذا وجذا وجذا قال مجاهد في قوله تعالى : {أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ} أي قطعة من الجمر ؛ قال : وهي بلغة جميع العرب وقال أبو عبيدة : والجذوة مثل الجذمة وهي القطعة الغليظة من الخشب كان في طرفها نار أو لم يكن قال ابن مقبل :
باتت حواطب ليلى يلتمسن لها ... جزل الجذا غير خوار ولا دعر
وقال :
وألقى على قيس من النار جذوة ... شديدا عليها حميها ولهيبها
الآية : [30] {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}
قوله تعالى : {فَلَمَّا أَتَاهَا} يعني الشجرة قدم ضميرها عليها {أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ} {من} الأولى والثانية لابتداء الغاية ، أي أتاه النداء من شاطئ الوادي من قبل الشجرة و {مِنَ الشَّجَرَةِ} بدل من قوله : {مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ} بدل الاشتمال ، لأن الشجرة كانت نابتة على الشاطئ ، وشاطئ الوادي وشطه جانبه ، والجمع شطان وشواطئ ، وذكره القشيري ، وقال الجوهري : ويقال شاطئ الأودية ولا يجمع وشاطأت الرجل إذا مشيت علي شاطئ
ومشى هو على شاطئ آخر {الأَيْمَنِ} أي عن يمين موسى وقيل : عن يمين الجبل {فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ} وقرأ الأشهب العقيلي : {فِي الْبُقْعَةِ} بفتح الباء وقولهم بقاع يدل علي بقعة ، كما يقال جفنة وجفان ومن قال بقعة قال بقع مثل غرفة وغرف {مِنَ الشَّجَرَةِ} أي من ناحية الشجرة قيل : كانت شجرة العليق وقيل : سمرة وقيل : عوسج ومنها كانت عصاه ، ذكره الزمخشري وقيل : عناب ، والعوسج إذا عظم يقال له الغرقد وفي الحديث : "إنه من شجر اليهود فإذا نزل عيسى وقتل اليهود الذين مع الدجال فلا يختفي أحد منهم خلف شجرة إلا نطقت وقالت يا مسلم هذا يهودي ورائي تعال فأقتله إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود فلا ينطق" خرجه مسلم قال المهدوي : وكلم الله تعالى موسى عليه السلام من فوق عرشه وأسمعه كلامه من الشجرة على ما شاء ولا يجوز أن يوصف الحق تعالى بالانتقال والزوال وشبه ذلك من صفات المخلوقين قال أبو المعالي : وأهل المعاني وأهل الحق يقولون من كلمه الله تعالى وخصه بالرتبة العليا والغاية القصوى ، فيدرك كلامه القديم المتقدس عن مشابهة الحروف والأصوات والعبارات والنغمات وضروب اللغات ، كما أن من خصه الله بمنازل الكرامات وأكمل عليه نعمته ، ورزقه رؤيته يرى الله سبحانه منزها عن مماثلة الأجسام وأحكام الحوادث ، ولا مثل له سبحانه في ذاته وصفاته ، وأجمعت الأمة على أن الرب تعالى خصص موسى عليه السلام وغيره من المصطفين من الملائكة بكلامه قال الأستاذ أبو إسحاق : اتفق أهل الحق على أن الله تعالى خلق في موسى عليه السلام معنى من المعاني أدرك به كلامه كان اختصاصه في سماعه ، وأنه قادر على مثله في جميع خلقه واختلفوا في نبينا عليه السلام هل سمع ليلة الإسراء كلام الله ، وهل سمع جبريل كلامه على قولين ؛ وطريق أحدهما النقل المقطوع به وذلك مفقود ، واتفقوا على أن سماع الخلق له عند قراءة القرآن على معنى أنهم سمعوا العبارة التي عرفوا بها معناه دون سماعه له في عينه وقال عبدالله بن سعد بن كلاب : إن موسى عليه السلام فهم كلام الله القديم من أصوات مخلوقة أثبتها الله تعالى في بعض الأجسام قال أبو المعالي : وهذا مردود ؛ بل يجب اختصاص موسى
عليه السلام بإدراك كلام الله تعالى خرقا للعادة ، ولو لم يقل ذلك لم يكن لموسى عليه السلام اختصاص بتكليم الله إياه والرب تعالى أسمعه كلامه العزيز ، وخلق له علما ضروريا ، حتى علم أن ما سمعه كلام الله ، وأن الذي كلمه وناداه هو الله رب العالمين ، وقد ورد في الأقاصيص أن موسى عليه السلام قال : سمعت كلام ربي بجميع جوارحي ، ولم أسمعه من جهة واحدة من جهاتي وقد مضى هذا المعنى في "البقرة" مستوفى. {أَنْ يَا مُوسَى} {أَنْ} في موضع نصب بحذف حرف الجر أي بـ {أَنْ يَا مُوسَى} {إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} نفي لربوبية غيره سبحانه وصار بهذا الكلام من أصفياء الله عز وجل لا من رسله ؛ لأنه لا يصير رسولا إلا بعد أمره بالرسالة ، والأمر بها إنما كان بعد هذا الكلام.
الآية : [31] {وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ}
قوله تعالى : {وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} عطف على {أَنْ يَا مُوسَى} تقدمت.الكلام في {النمل} و {طه} و {مُدْبِراً} نصب على الحال وكذلك موضع قوله : {وَلَمْ يُعَقِّبْ} نصب على الحال.أيضا {يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ} أي من الحية وضررها. قال وهب : قيل له أرجع إلى حيث كنت فرجع فلف دراعته على يده ، فقال له الملك : أرأيت إن أراد الله أن يصيبك بما تحاذر أينفعك لفك يدك ؟ قال : لا ولكني ضعيف خلقت من ضعف وكشف يده فأدخلها في فم الحية فعادت عصا {خَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ} أي مما تحاذر
الآية : [32] {اسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَأِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ برهانان من ربك إلى فرعون وملئه إنهم كانوا قوما فا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ سقين}
الآية : [33] {قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ}
الآية : [34] {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ}
الآية : [34] {قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآياتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ}
قوله تعالى : {اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ} الآية. تقدمت. {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ} {وَمَنِ} متعلقة بـ {وَلَّى} أي ولى مدبرا من الرهب وقرأ حفص والسلمي وعيسى بن عمرو وابن أبي إسحاق : {مِنَ الرَّهْبِ} بفتح الراء وإسكان الهاء وقرأ ابن عامر والكوفيون إلا حفص بضم الراء وجزم الهاء الباقون بفتح الراء والهاء واختاره أبو عبيد وأبو حاتم ، لقوله تعالي : {وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً} وكلها لغات وهو بمعنى الخوف والمعنى إذا هالك أمر يدك وشعاعها فأدخلها في جيبك وارددها إليه تعد كما كانت وقيل : أمره الله أن يضم يده إلي صدره فيذهب عنه خوف الحية عن مجاهد وغيره ورواه الضحاك عن ابن عباس ؛ قال فقال ابن عباس : ليس من أحد يدخله رعب بعد موسى عليه السلام ، ثم يدخل يده فيضعها على صدره إلا ذهب عنه الرعب ويحكي عن عمر بن عبدالعزيز رحمه الله : أن كاتبا كان يكتب بين يديه فانفلتت منه فلتة ريح فخجل وانكسر ، فقام وضرب بقلمه الأرض فقال له عمر : خذ قلمك وأضمم إليك جناحك ، وليفرخ روعك فإني ما سمعتها من أحد أكثر مما سمعتها من نفسي ، وقيل : المعنى أضمم يدك إلي صدرك ليذهب الله ما في صدرك من الخوف وكان موسى يرتعد خوفا إما من آل فرعون وإما من الثعبان وضم الجناح هو السكون ؛ كقوله تعالى : {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} يريد الرفق وكذلك قوله : {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} أي أرفق بهم وقال الفراء : أراد بالجناح عصاه وقال بعض أهل المعاني : الرهب الكم بلغة حمير وبني حنيفة قال مقاتل : سألتني أعرابية شيئا وأنا آكل فملأت الكف وأومأت إليها
فقالت : ها هنا في رهبي تريد في كمي وقال الأصمعي : سمعت أعرابيا يقول لأخر أعطني رهبك فسألته عن الرهب فقال : الكم ؛ فعلى هذا يكون معناه اضمم إليك يدك وأخرجها من الكم ؛ لأنه تناول العصا ويده في كمه وقوله : {اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ} يدل على أنها اليد اليمني ، لأن الجيب على اليسار. ذكره القشيري.
قلت : وما فسروه من ضم اليد إلى الصدر يدل على أن الجيب موضعه الصدر وقد مضى في سورة {النور} بيانه الزمخشري : ومن بدع التفاسير أن الرهب الكم بلغة حمير وأنهم يقولون أعطني مما في رهبك ، وليت شعري كيف صحته في اللغة ! وهل سمع من الأثبات الثقات الذين ترتضي عربيتهم ، ثم ليت شعري كيف موقعه في الآية ، وكيف تطبيقه المفصل كسائر كلمات التنزيل ، على أن موسى صلوات عليه ما كان عليه ليلة المناجاة إلا زرمانقة من صوف لا كمين لها قال القشيري : وقوله : {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ} يريد اليدين إن قلنا أراد الأمن من فزع الثعبان وقيل : {وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ} أي شمر واستعد لتحمل أعباء الرسالة.
قلت : فعلى هذا قيل : {إِنَّكَ مِنَ الآمِنِينَ} أي من المرسلين ؛ لقوله تعالى {إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} قال ابن بحر : فصار على هذا التأويل رسولا بهذا القول وقيل : إنما صار رسولا بقوله : {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ} والبرهانان اليد والعصا وقرأ ابن كثير : بتشديد النون وخففها الباقون وروى أبو عمارة عن أبي الفضل عن أبي بكر عن ابن كثير ، {فَذَانِيكَ} بالتشديد والياء وعن أبي عمرو أيضا قال لغة هذيل : {فَذَانِيكَ} بالتخفيف والياء ولغة قريش {فذانك} كما قرأ أبو عمرو وابن كثير وفي تعليله خمسة أقوال : قيل شدد النون عوضا من الألف الساقطة في ذانك الذي هو تثنية ذا المرفوع ، وهو رفع بالابتداء ، وألف ذا محذوفة لدخول ألف التثنية عليها ، ولم يلتفت إلى التقاء الساكنين ؛ لأن أصله فذانك فحذف الألف الأولى عوضا من النون الشديدة وقيل :
التشديد للتأكيد كما أدخلوا اللام في ذلك مكي : وقيل إن من شدد إنما بناه على لغة من قال في الواحد ذلك ؛ فلما بنى أثبت اللام بعد نون التثنية ، ثم أدغم اللام في النون على حكم إدغام الثاني في الأول ، والأصل أن يدغم الأول أبدا في الثاني ، إلا أن يمنع من ذلك علة فيدغم الثاني في الأول ، والعلة التي منعت في هذا أن يدغم الأول في الثاني أنه لو فعل ذلك لصار في موضع النون التي تدل على التثنية لام مشددة فيتغير لفظ التثنية فأدغم الثاني في الأول لذلك ؛ فصار نونا مشددة وقد قيل : إنه لما تنافي ذلك أثبت اللام قبل النون ثم أدغم الأول في الثاني على أصول الإدغام فصار نونا مشددة وقيل : شددت فرقا بينها وبين الظاهر التي تسقط الإضافة نونه ، لأن ذان لا يضاف وقيل : للفرق بين الاسم المتمكن وبينها وكذلك العلة في تشديد النون في {اللذان} و {هذان} قال أبو عمرو : إنما اختص أبو عمرو هذا الحرف بالتشديد دون كل تثنية من جنسه لقلة حروفه فقرأ بالتثقيل ومن قرأ : {فَذَانِيكَ} بياء مع تخفيف النون فالأصل عنده {فَذَانِّك} بالتشديد فأبدل من النون الثانية ياء كراهية التضعيف ، كما قالوا : لا أملاه في لا أمله فأبدلوا اللام الثانية ألفا. ومن قرأ بياء بعد النون الشديدة فوجهه أنه أشبع كسرة النون فتولدت عنها الياء.
قوله تعالى : {فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً} يعني معينا مشتق من أردأته أي أعنته والردء العون قال الشاعر :
ألم تر أن أصرم كان ردئي ... وخير الناس في قل ومال
النحاس : وقد أردأه ورداه أي أعانه ؛ وترك همزه تخفيفا وبه قرأ نافع : وهو بمعنى المهموز قال المهدوي : ويجوز أن يكون ترك الهمز من قولهم أردى على المائة أي زاد عليها ، وكأن المعنى أرسله معي زيادة في تصديقي قاله مسلم بن جندب وأنشد قول الشاعر :
وأسمر خطيا كأن كعوبه ... نوى القسب قد أردى ذراعا على العشر
كذا أنشد الماوردي هذا البيت : قد أردى وأنشده الغزنوي والجوهري في الصحاح قد أرمى ؛ قال : والقسب الصلب ، والقسب تمر يابس يتفتت في الفم صلب النواة قال
يصف رمحا : وأسمر البيت قال الجوهري : ردؤ الشيء يردؤ وداءة فهو رديء أي فاسد ، وأردأته أفسدته ، وأردأته أيضا يعني أعنته ؛ تقول : أردأته بنفسي أي كنت له ردءا وهو العون قال الله تعالى : {فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي} . قال النحاس : وقد حكى ردأته : ردءا وجمع ردء أرداة وقرأ عاصم وحمزة : {يُصَدِّقُنِي} بالرفع وجزم الباقون ؛ وهو اختيار أبي حاتم على جواب الدعاء واختار الرفع أبو عبيد على الحال من الهاء في {أَرْسِلْهُ} أي أرسله ردءا مصدقا حالة التصديق ؛ كقوله : {أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ} [المائدة : 114] أي كائنة ؛ حال صرف إلى الاستقبال ويجوز أن يكون صفة لقوله : {رِدْءاً} {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ} إذا لم يكن لي وزير ولا معين ؛ لأنهم لا يكادون يفقهون عني ، فـ {قَالَ} الله جل وعز له {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ} أي نقويك به ؛ وهذا تمثيل ؛ لأن قوة اليد بالعضد قال طرفة :
بني لبيني لستم بيد ... إلا يدا ليست لها عضد
ويقال في دعاء الخير : شد الله عضدك وفي ضده : فت الله في عضدك {وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً} أي حجه وبرهانا {فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا} بالأذى {بِآياتِنَا } أي تمتنعان منهم {بِآياتِنَا} فيجوز أن يوقف على {إِلَيْكُمَا} ويكون في الكلام تقديم وتأخير وقيل : التقدير {أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ} بآياتنا قال الأخفش والطبري قال المهدوي : وفي هذا تقديم الصلة على الموصول ، إلا أن يقدر أنتما غالبان بآياتنا أنتما ومن اتبعكما الغالبون وعنى بالآيات سائر معجزاته.
الآية : [36] {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآياتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ}
الآية : [37] {وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}
الآية : [38] {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ}
الآية : [39] {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ}
الآية : [40] {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ}
الآية : [41] {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ}
الآية : [42] {وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ}
قوله تعالى : {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآياتِنَا بَيِّنَاتٍ} أي ظاهرات واضحات {قَالُوا مَا هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً} مكذوب مختلق {وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ} وقيل : إن هذه الآيات وما احتج به موسى في إثبات التوحيد من الحجج العقلية وقيل : هي معجزاته.
قوله تعالى : {وَقَالَ مُوسَى} قراءة العامة بالواو وقرأ مجاهد وابن كثير وابن محيصن : {قال} بلا واو ؛ وكذلك هو في مصحف أهل مكة {رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى} أي بالرشاد. {مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ} قرأ الكوفيون إلا عاصما : {يكون} بالياء والباقون بالتاء وقد تقدم هذا {عَاقِبَةُ الدَّارِ} أي دار الجزاء {إنه} الهاء ضمير الأمر والشأن {لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}
قوله تعالى : {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} قال ابن عباس : كان بينها وبين قوله : {نَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} أربعون سنة ، وكذب عدو الله بل علم أن له ثم ربا هو خالقه وخالق قومه {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} . {فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ} أي أطبخ لي الآجر ؛ عن ابن عباس رضي الله عنه وقال قتادة : هو أول من صنع الآجر وبنى به ولما أمر فرعون وزيره هامان ببناء الصرح جمع هامان العمال - قيل خمسين ألف بناء سوى الأتباع والأجراء - وأمر بطبخ الآجر والجص ،
ونشر الخشب وضرب المسامير ، فبنوا ورفعوا البناء وشيدوه بحيث لم يبلغه بنيان منذ خلق الله السموات والأرض ، فكان الباني لا يقدر أن يقوم على رأسه ، حتى أراد الله أن يفتنهم فيه فحكى السدي : أن فرعون صعد السطح ورمى بنشابة نحو السماء ، فرجعت متلطخة بدماء ، فقال قد قتلت إله موسى فروي أن جبريل عليه السلام بعثه الله تعالى عند مقالته ، فضرب الصرح بجناحه فقطعه ثلاث قطع ؛ قطعة على عسكر فرعون قتلت منهم ألف ألف ، وقطعة في البحر ، وقطعة في الغرب ، وهلك كل من عمل فيه شيئا والله أعلم بصحة ذلك. {وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ} الظن هنا شك ، فكفر على الشك ؛ لأنه قد رأى من البراهين ما لا يخيل على ذي فطرة.
قوله تعالى : {وَاسْتَكْبَرَ} أي تعظم {هُوَ وَجُنُودُهُ} أي تعظموا عن الإيمان بموسى {بِغَيْرِ الْحَقِّ} أي بالعدوان ، أي لم تكن له حجة تدفع ما جاء به موسى {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ} أي توهموا أنه لا معاد ولا بعث. وقرأ نافع وابن محيصن وشيبة وحميد ويعقوب وحمزة والكسائي : {لا يُرْجَعُونَ} بفتح الياء وكسر الجيم على أنه مسمى الفاعل الباقون : {لا يَرْجِعُونَ} على الفعل المجهول وهو اختيار أبي عبيد ، والأول اختيار أبي حاتم. {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ} وكانوا ألفي ألف وستمائة ألف {فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ} أي طرحناهم في البحر المالح. قال قتادة : بحر من وراء مصر يقال له إساف أغرقهم الله فيه وقال وهب والسدي : المكان الذي أغرقهم الله فيه بناحية القلزم يقال له بطن مريرة ، وهو إلى اليوم غضبان وقال مقاتل ، يعني نهر النيل وهذا ضعف والمشهور الأول. {فَانْظُرْ } يا محمد {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} أي آخر أمرهم . {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً} أي جعلناهم زعماء يتبعون على الكفر ، فيكون عليهم وزرهم ووزر من اتبعهم حتى يكون عقابهم أكثر وقيل : جعل الله الملأ من قومه رؤساء السفلة منهم ، فهم يدعون إلى جهنم وقيل : أئمة يأتم بهم ذوو العبر ويتعظ بهم أهل البصائر {يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} أي إلى عمل أهل
النار {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ} . {وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً} أي أمرنا العباد بلعنهم فمن ذكرهم لعنهم وقيل : أي ألزمناهم اللعن أي البعد عن الخير {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} أي من المهلكين الممقوتين قاله ابن كيسان وأبو عبيدة وقال ابن عباس : المشوهين الخلقة بسواد الوجوه وزرقة العيون وقيل : من المبعدين يقال : قبحه الله أي نحاه من كل خير ، وقبَحَه وقبّحه إذا جعله قبيحا وقال أبو عمرو : قبحت وجهه بالتخفيف معناه قبحت قال الشاعر :
ألا قبح الله البراجم كلها ... وقبح يربوعا وقبح دارما
وانتصب يوما على الحمل على موضع {فِي هَذِهِ الدُّنْيَا ل} واستغنى عن حرف العطف في قوله : {مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} كما استغنى عنه في قوله : {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} ويجوز أن يكون العامل في {يوم} مضمرا يدل عليه قوله : {هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} فيكون كقوله : {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ} ويجوز أن يكون العامل في {يوم} قوله {هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} وإن كان الظرف متقدما ويجوز أن يكون مفعولا على السعة ، كأنه قال : وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة ولعنة يوم القيامة الآية : [43] {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}
قوله تعالى : {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ} يعني التوراة ؛ قاله قتادة قال يحيى بن سلام : هو أول كتاب - يعني التوراة - نزلت فيه الفرائض والحدود والأحكام وقيل : الكتاب هنا ست من المثاني السبع التي أنزلها الله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ؛ قال ابن عباس ، ورواه مرفوعا. {مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى} قال أبو سعيد الخدري قال النبي صلى الله عليه وسلم : "ما أهلك الله قوما ولا قرنا ولا أمة ولا أهل قرية بعذاب من السماء ولا من الأرض منذ أنزل الله التوراة على موسى غير القرية التي مسخت قردة ألم تر إلى قوله تعالى : {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى} "




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 42.61 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 41.98 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.47%)]