عرض مشاركة واحدة
  #581  
قديم 09-07-2025, 11:45 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,435
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (14)
سُورَةُ سبأ
من صــ 256 الى صــ 265
الحلقة (581)






"صفحة رقم 257"
جميع ما في الأرض وعهد الله إليه عهدا فيه أمره ونهيه وحله وحرامه وزعم أنه أمره أن يعرض ذلك على السماوات والأرض والجبال فما تصنع السماوات والأرض والجبال بالحلال والحرام وما التسليط على الأنعام والطير والوحش وكيف إذا عرضه على ولده فقبله في أعناق ذريته من بعده وفي مبتدأ الخبر في التنزيل أنه عرض الأمانة على السماوات والأرض والجبال حتى ظهر الإباء منهم ثم ذكر أن الإنسان حملها أي من قبل نفسه لا أنه حمل ذلك فسماه ظلوما أي لنفسه جهولا بما فيها وأما الآثار التي هي بخلاف ما ذكر فحدثني أبي رحمه الله قال حدثنا الفيض بن الفضل الكوفي حدثنا السري بن إسماعيل عن عامر الشعبي عن مسروق عن عبد الله بن مسعود قال : لما خلق الله الأمانة مثلها صخرة ثم وضعها حيث شاء ثم دعا لها السماوات والأرض والجبال ليحملنها وقال لهن : إن هذه الأمانة ولها ثواب وعليها عقاب قالوا : يارب لا طاقة لنا بها وأقبل الإنسان من قبل أن يدعى فقال للسموات والأرض والجبال : ما وقوفكم قالوا : دعانا ربنا أن نحمل هذه فأشفقن منها ولم نطقها قال : فحركها بيده وقال : والله لو شئت أن أحملها لحملتها فحملها حتى بلغ بها إلى ركبتيه ثم وضعها وقال : والله لو شئت أن أزداد لازددت قالوا : دونك فحملها حتى بلغ بها حقويه ثم وضعها وقال : والله لو شئت أن أزداد لزددت قالوا : دونك فحملها حتى وضعها على عاتقه فلما أهوى ليضعها قالوا : مكانك أن هذه الأمانة ولها ثواب وعليها عقاب وأمرنا ربنا أن نحملها فأشفقن منها وحملتها أنت من غير أن تدعى لها فهي في عنقك وفي أعناق ذريتك إلى يوم القيامة إنك كنت ظلوما جهولا وذكر أخبارا عن الصحابة والتابعين تقدم أكثرها ) وحملها الإنسان ( أي التزم القيام بحقها وهو في ذلك ظلوم لنفسه وقال قتادة : للأمانة جهول بقدر ما دخل فيه وهذا تأويل بن عباس وبن جبير وقال الحسن : جهول بربه قال : ومعنى حملها خان فيها وقال الزجاج : والآية في الكافر والمنافق والعصاة على قدرهم على هذا التأويل وقال بن عباس وأصحابه
"صفحة رقم 258"
والضحاك وغيره : الإنسان آدم تحمل الأمانة فما تم له يوم حتى عصى المعصية التي أخرجته من الجنة وعن بن عباس أن الله تعالى قال له : أتحمل هذه الأمانة بما فيها قال وما فيها قال : إن أحسنت جزيت وإن أسأت عوقبت قال : أنا أحملها بما فيها بين أذني وعاتقي فقال الله تعالى له : إني سأعينك قد جعلت لبصرك حجابا فأغلقه عما لا يحل لك ولفرجك لباسا فلا تكشفه إلا على ما أحللت لك وقال قوم : الإنسان النوع كله وهذا حسن مع عموم الأمانة كما ذكرناه أولا وقال السدي : الإنسان قابيل فالله أعلم ) ليعذب الله المنافقين والمنافقات ( اللام في ليعذب متعلقة ب حمل أي حملها ليعذب العاصي ويثيب المطيع فهي لام التعليل لأن العذاب نتيجة حمل الأمانة وقيل ب عرضنا أي عرضنا الأمانة على الجميع ثم قلدناها الإنسان ليظهر شرك المشرك ونفاق المنافق ليعذبهم الله وإيمان المؤمن ليثيبه الله ) ويتوب الله ( قراءة الحسن بالرفع يقطعه من الأول أي يتوب الله عليهم بكل حال ) وكان الله غفورا رحيما ( خبر بعد خبر ل كان ويجوز أن يكون نعتا لغفور ويجوز أن يكون حالا من المضمر والله أعلم بالصواب
تفسير سورة سبأ
سورة سبأ
مقدمة السورة
مكية في قول الجميع ، إلا آية واحدة اختلف فيها ، وهي قوله تعالى : {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} الآية. فقالت فرقة : هي مكية ، والمراد المؤمنون أصحاب النبي صلى
الله عليه وسلم ؛ قاله ابن عباس. وقالت فرقة : هي مدنية ، والمراد بالمؤمنين من أسلم بالمدينة ؛ كعبدالله بن سلام وغيره ؛ قال مقاتل. وقال قتادة : هم أمة محمد
صلى الله عليه وسلم المؤمنون به كائنا من كان. وهي أربع وخمسون أية.
بسم الله الرحمن الرحيم
الآية : [1] { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ }
قوله تعالى : { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ } { الَّذِي } في موضع خفض على النعت أو البدل. ويجوز أن يكون في موضع رفع على إضمار مبتدأ ، وأن يكون في موضع نصب بمعنى أعني. وحكى سيبويه "الحمد لله أهل الحمد" بالرفع والنصب والخفض. والحمد الكامل والثناء الشامل كله لله ؛ إذ النعم كلها منه. وقد مضى الكلام فيه في أول الفاتحة. { وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ } قيل : هو قوله تعالى : { وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ } . وقيل : هو قوله { وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } فهو المحمود في الآخرة كما أنه المحمود في الدنيا ، وهو المالك للآخرة كما أنه المالك للأولى. { وَهُوَ الْحَكِيمُ } في فعله { الْخَبِيرُ } بأمرخلقه.
الآية : [2] { يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ }
قوله تعالى : { يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ } أي ما يدخل فيها من قطر وغيره ، كما قال : { فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ } من الكنوز والدفائن والأموات وما هي له كفات. { وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا } من نبات وغيره { وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ } من الأمطار والثلوج والبرد والصواعق والأرزاق والمقادير والبركات. وقرأ علي بن أبي طالب { وَمَا يَنْزِلُ } بالنون والتشديد. { وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا } من الملائكة وأعمال العباد ؛ قاله الحسن وغيره { الرَّحِيمُ الْغَفُورُ } .
الآية : [3] { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ }
الآية : [4] { لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ }
قوله تعالى : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ } قيل : المراد أهل مكة. قال مقاتل : قال أبو سفيان لكفار مكة : واللات والعزى لا تأتينا الساعة أبدا ولا نبعث. { قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ } { قُلْ } يا محمد { بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ } وروى هارون عن طلق المعلم قال : سمعت أشياخنا يقرؤون { قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ } بياء ، حملوه على المعنى ، كأنه قال : ليأتينكم البعث أو أمره. كما قال : { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ } فهؤلاء الكفار مقرون بالابتداء منكرون الإعادة ، وهو نقض لما اعترفوا بالقدرة على البعث ، وقالوا : وإن قدر لا يفعل. فهذا تحكم بعد أن أخبر على ألسنة الرسل أن يبعث لخلق ، وإذا ورد الخبر بشيء وهو ممكن في الفعل مقدور ، فتكذيب من وجب صدقه محال. { عَالِمِ الْغَيْبِ } بالرفع قراءة نافع وابن كثير على الابتداء ، وخبره وقرأ عاصم وأبو عمرو { عَالِمِ الْغَيْبِ } بالخفض ، أي الحمد لله عالم ، فعلى هذه القراءة لا يحسن الوقف على قوله : { لَتَأْتِيَنَّكُمْ } . وقرأ حمزة والكسائي : { عَلاَّم الْغَيْبِ } على المبالغة والنعت. { يَعْزُبُ عَنْهُ } أي لا يغيب عنه ، { يَعْزُبُ } أيضا. قال الفراء : والكسر أحب إلى. النحاس وهي قراءة يحيى بن وثاب ، وهي لغة معروفة. يقال عزَب يعزِب ويعزُب إذا بعد وغاب. { مِثْقَالُ ذَرَّةٍ } أي قدر نملة صغيرة. { فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ } وفي قراءة الأعمش {ولا أصغرَ من ذلك ولا أكبرَ} بالفتح فيهما عطفا على {ذرة} . وقراءة العامة
بالرفع عطفا على { مِثْقَالُ } . { إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } فهو العالم بما خلق ولا يخفى عليه شيء . { لِيَجْزِيَ } منصوب بلام كي ، والتقدير : لتأتينكم ليجزي. { الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } بالثواب ، والكافرين بالعقاب. { أُولَئِكَ } يعني المؤمنين. { لَهُمْ مَغْفِرَةٌ } لذنوبهم. { وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } وهو الجنة.
الآية : [5] { وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ }
قوله تعالى : { وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا } أي في إبطال أدلتنا والتكذيب بآياتنا. { مُعَاجِزِينَ } مسابقين يحسبون أنهم يفتوننا ، وأن الله لا يقدر على بعثهم في الآخرة ، وظنوا أنا نهملهم ؛ فهؤلاء { لَهُمْ عَذَابٌ } يقال : عاجزه وأعجزه إذا غالبه وسبقه { أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ } { أَلِيمٌ } قراءة نافع بالكسر نعتا للرجز ، فإن الله هو العذاب ، قال الله تعالى : { فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّمَاءِ } وقرأ ابن كثير وحفص عن عاصم { عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ } يرفع الميم هنا وفي {الجاثية} نعتا للعذاب. وقرأ ابن كثير وابن محيصن وحميد بن قيس ومجاهد وأبو عمرو { مُعْجِزِينَ } مثبطين ؛ أي ثبطوا الناس عن الإيمان بالمعجزات وآيات القرآن.
الآية : [6] { وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ }
لما ذكر الذين سعوا في إبطال النبوة بين أن الذين أوتوا العلم يرون أن القرآن حق. قال مقاتل : { الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ } هم مؤمنو أهل الكتاب. وقال ابن عباس : هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وقيل جميع المسلمين ، وهو أصح لعمومه. والرؤية بمعنى العلم ، وهو في موضع نصب عطفا على { لِيَجْزِيَ } أي ليجزي وليرى ، قال الزجاج والفراء. وفيه نظر ،
لأن قوله : { لِيَجْزِيَ } متعلق بقول : { لَتَأْتِيَنَّكُمْ السَّاعَةُ } ، ولا يقال : لتأتينكم الساعة ليرى الذين أوتوا العلم أن القرآن حق ، فإنهم يرون القرآن حقا وإن لم تأتهم الساعة. والصحيح أنه رفع على الاستئناف ، ذكره القشيري.
قلت : وإذا كان { لِيَجْزِيَ } متعلقا بمعنى أثبت ذلك في كتاب مبين ، فيحسن عطف { وَيَرَى } عليه ، أي وأثبت أيضا ليرى الذين أوتوا العلم أن القرآن حق. ويجوز أن يكون مستأنفا. { الَّذِِي } في موضع نصب على أنه مفعول أول لـ {يرى} {وهو الحق} مفعول ثان ، و {هو} فاصلة. والكوفيون يقولون {هو} عماد. ويجوز الرفع على أنه مبتدأ. و { الْحَقُّ } خبره ، والجملة في موضع نصب على المفعول الثاني ، والنصب أكثر فيما كانت فيه الألف واللام عند جميع النحويين ، وكذا ما كان نكرة لا يدخله الألف واللام فيشبه المعرفة. فإن كان الخبر اسما معروفا نحو قوله : كان أخوك هو زيد ، فزعم الفراء أن الاختيار فيه الرفع. وكذا كان محمد هو عمرو. وعلته في اختياره الرفع أنه لم تكن فيه الألف واللام أشبه النكرة في قولك : كان زيد هو جالس ، لأن هذا لا يجوز فيه إلا الرفع. { وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ } أي يهدي القرآن إلى طريق الإسلام الذي هو دين الله. ودل بقوله : { الْعَزِيزِ } على أنه لا يغالب. وبقوله : { الْحَمِيدِ } على أنه لا يليق به صفة العجز.
الآية : [7] { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ }
قوله تعالى : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ } وإن شئت أدغمت اللام في النون لقربها منها { يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ } هذا إخبار عمن قال : { لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ } أي هل نرشدكم إلى رجل ينبكم ، أي يقول لكم : إنكم تبعثون بعد. البلي في القبور. وهذا صادر عن فرط إنكارهم. الزمخشري : "فإن قلت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مشهورا علما في قريش ، وكان إنباؤه بالبعث شائعا عندهم ، فما معنى قولهم : هَلْ نَدُلُّكُمْ"
عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ فنكروه لهم عرضوا عليهم الدلالة عليه ، كما يدل على. مجهول في أمر مجهول. قلت : كانوا يقصدون بذلك الطنز والهزؤ والسخرية ، فأخرجوه مخرج التحكي ببعض الأحاجي التي يتحاجى بها للضحك والتلهي ، متجاهلين به وبأمره. و {إذا} في موضع نصب والعامل فيها { مُزِّقْتُمْ } قاله النحاس. ولا يجوز أن يكون العامل فيها { يُنَبِّئُكُمْ } ، لأنه ليس يخبرهم ذلك الوقت. ولا يجوز أن يكون العامل فيها ما بعد {إن} ، لأنه لا يعمل فيما قبله ، وألا يتقدم عليها ما بعدها ومعمولها. وأجاز الزجاج أن يكون العامل فيها محذوفا ؛ التقدير : إذا مزقتم كل ممزق بعثتم ، أو ينبكم بأنكم تبعثون إذا مزقتم. المهدوي : ولا يعمل فيه { مُزِّقْتُمْ } ؛ لأنه مضاف إليه ، والمضاف إليه لا يعمل في المضاف. وأجازه بعضهم على أن يجعل {إذا} للمجازاة ، فيعمل فيها حينئذ ما بعدها لأنها غير مضافة إليه. وأكثر ما تقع {إذا} للمجازاة في الشعر. ومعنى { مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ } فرقتم كل تفريق. والمزق خرق الأشياء ؛ يقال : ثوب مزيق وممزوق ومتمزق وممزق.
الآية : [8] { أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ }
قوله تعالى : { أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً } لما دخلت ألف الاستفهام استغني عن ألف الوصل فحذفتها ، وكان فتح ألف الاستفهام فرقا بينها وبين ألف الوصل. وقد مضى هذا في سورة {مريم} عند قوله تعالى : { أَطَّلَعَ الْغَيْبَ } مستوفى. { أَمْ بِهِ جِنَّةٌ } وقيل هذا مردود على ما تقدم من قول المشركين ، والمعنى : قال المشركون { أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً } . والافتراء الاختلاق. { أَمْ بِهِ جِنَّةٌ } أي جنون ، فهو يتكلم بما لا يدري. { بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ } أي ليس الأمر كما قالوا ، بل هو أصدق الصادقين ، ومن ينكر البعث فهو غدا في العذاب ، واليوم في الضلال عن الصواب ؛ إذ صاروا إلى تعجيز الإله ونسبة الافتراء إلى من أيده الله بالمعجزات.
الآية : [9] { أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ }
أعلم الله تعالى أن الذي قدر علي خلق السموات والأرض وما فيهن قادر على البعث وعلى تعجيل العقوبة لهم ، فاستدل بقدرته عليهم ، وأن السموات والأرض ملكه ، وأنهما محيطتان بهم من كل جانب ، فكيف يأمنون الخسف والكسف. كما فعل بقارون وأصحاب الأيكة. وقرأ حمزة والكسائي { إِنْ يشَأْ يَخْسِفْ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يُسْقِطْ } بالياء في الثلاث ؛ أي إن يشأ الله أمر الأرض فتنخسف بهم ، أو السماء فتسقط عليهم كسفا. الباقون بالنون على التعظيم. وقرأ السلمي وحفص { كِسَفاً } بفتح السين. الباقون بالإسكان. وقد تقدم بيانه في {الإسراء} وغيرها. { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ } أي في هذا الذي ذكرناه من قدرتنا {لآية} أي دلالة ظاهرة. { لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ } أي تائب رجاع إلى الله بقلبه. وخص المنيب بالذكر لأنه المنتفع بالفكرة في حجج الله وآياته.
الآية : [10] { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ }
{ وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلاً } بين لمنكري نبوة محمد صلى الله عليه وسلم أن إرسال الرسل ليس أمرا بدعا ، بل أرسلنا الرسل وأيدناهم بالمعجزات ، وأحللنا بمن خالفهم العقاب. { آتَيْنَا } أعطينا. { فَضْلاً } أي أمرا فضلناه به على غيره. واختلف في هذا الفضل على تسعة أقوال : الأول : النبوة. الثاني : الزبور. الثالث : العلم ، قال الله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً } . الرابع - القوة ، قال الله تعالى : { وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ } الخامس : : تسخير
الجبال والناس ، قال الله تعالى : { يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ } . السادس : التوبة ، قال الله تعالى : { فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ } السابع : الحكم بالعدل ، قال الله تعالى : { يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ } الآية. الثامن : إلانة الحديد ، قال تعالى : { وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ } . التاسع : حسن الصوت ، وكان ، داود عليه السلام ذا صوت حسن ووجه حسن. وحسن الصوت هبة من الله تعالى وتفضل منه ، وهو المراد بقوله تبارك وتعالى : { َزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ } على ما يأتي إن شاء الله تعالى. وقال صلى الله عليه وسلم لأبي موسى : "لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود" . قال العلماء : المزمار والمزمور الصوت الحسن ، وبه سميت آلة الزمر مزمارا. وقد استحسن كثير من فقهاء الأمصار القراءة بالتزيين والترجيع. وقد مضى هذا في مقدمة الكتاب والحمد لله.
قوله تعالى : { يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ } أي وقلنا يا جبال أوبي معه ، أي سبحي معه ، لأنه قال تبارك وتعالى : { يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالأِشْرَاقِ } قال أبو ميسرة : هو التسبيح بلسان الحبشة ، ومعنى تسبيح الجبال : هو أن الله تعالى خلق ، فيها تسبيحا كما خلق الكلام في الشجرة ، فيسمع منها ما يسمع من المسبح معجزة لداود عليه الصلاة والسلام. وقيل : المعنى سيري معه حيث شاء ؛ من التأويب الذي هو سير النهار أجمع وينزل الليل. قال ابن مقبل :
لحقنا بحي أوبوا السير بعدما ... دفعنا شعاع الشمس والطرف يجنح
وقرأ الحسن وقتادة وغيرهما : { أَوِّبِي مَعَهُ } أي رجعي معه ؛ من آب يؤوب إذا رجع ، أوبا وأوبة وإيابا. وقيل : المعنى تصرفي معه على ما يتصرف عليه داود بالنهار ، فكان إذا قرأ الزبور صوتت الجبال معه ، وأصغت إليه الطير ، فكأنها فعلت ما فعل. وقال وهب بن منبه : المعنى نوحي معه والطير تساعده على ذلك ، فكان إذا نادى بالنياحة أجابته الجبال بصداها ،




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 39.60 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 38.97 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.59%)]