عرض مشاركة واحدة
  #584  
قديم 09-07-2025, 11:53 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,530
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (14)
سُورَةُ سبأ
من صــ 286 الى صــ 295
الحلقة (584)






أيضا : العرم من أسماء الفأر. وقال مجاهد وابن أبي : العرم ماء أحمر أرسله الله تعالى في العد فشقه وهدمه. وعن ابن عباس أيضا أن العرم المطر الشديد. وقيل العرم بسكون الراء. وعن الضحاك كانوا في الفترة بين عيسى ومحمد عليهما السلام. وقال عمرو بن شرحبيل : العرم المسناة ؛ وقاله الجوهري ، قال : ولا واحد لها من لفظها ، ويقال واحدها عرمة. وقال محمد بن يزيد : العرم كل شيء حاجز بين شيئين ، وهو الذي يسمى السكر ، وهو جمع عرمة. النحاس : وما يجتمع من مطر بين جبلين وفي وجهه مسناة فهو العرم ، والمسناة هي التي يسميها أهل مصر الجسر ؛ فكانوا يفتحونها إذا شاؤوا فإذا رويت جنتاهم سدوها. قال الهروي : المسناة الضفيرة تبني للسيل ترده ، سميت مسناة لأن فيها مفاتح الماء. وروي أن العرم سد بنته بلقيس صاحبة سليمان عليه الصلاة والسلام ، وهو المسناة بلغة حمير ، بنته بالصخر والقار ، وجعلت له أبوابا ثلاثة ببعضها فوق بعض ، وهو مشتق من العرامة وهي الشدة ، ومنه : رجل عارم ، أي شديد ، وعرمت العظم أعرمه وأعرمه عرما إذا عرقته ، وكذلك عرمت الإبل الشجر أي نالت منه. والعرام بالضم : العراق من العظم والشجر. وتعرمت العظم تعرقته. وصبي عارم بين العرام "بالضم" أي شرس. وقد عرم يعرم ويعرم عرامة "بالفتح" . والعرم العارم ؛ عن الجوهري.
قوله تعالى : { وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ } وقرأ أبو عمرو { أُكُلٍ خَمْطٍ } بغير تنوين مضافا. قال أهل التفسير والخليل : الخمط الأراك. الجوهري : الخمط ضرب من الأراك له حمل يؤكل. وقال أبو عبيدة : هو كل ذي شوك فيه مرارة. الزجاج : كل نبت فيه مرارة لا يمكن أكله. المبرد : الخمط كل ما تغير إلى ما لا يشتهي. واللبن خمط إذا حمض. والأولى عنده في القراءة { ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ } بالتنوين على أنه نعت لـ {ـأكُل} أو بدل منه ؛ لأن الأكل هو الخمط بعينه عنده ، فأما الإضافة فباب جوازها أن يكون
تقديرها ذواتي أكل حموضة أو أكل مرارة. وقال الأخفش : والإضافة أحسن في كلام العرب ؛ نحو قولهم : ثوب خز والخمط : اللبن الحامض وذكر أبو عبيد أن اللبن إذا ذهب عنه حلاوة الحلب ولم يتغير طعمه فهو سامط ؛ وإن أخذ شيئا من الريح فهو خامط وخميط ، فإن أخذ شيئا من طعم فهو ممحل ، فإذا كان فيه طعم الحلاوة فهو فوهة. وتخمط الفحل : هدر. وتخمط فلان أي غضب وتكبر. وتخمط البحر أي التطم. وخمطت الشاة أخمطها خمطا : إذا نزعت جلدها وشويتها فهي خميط ، فإن نزعت شعرها وشويتها فهي سميط. والخمطة : الخمر التي قد أخذت ريح الإدراك كريح التفاح ولم تدرك بعد. ويقال هي الحامضة ؛ قاله الجوهري. وقال القتبي في أدب الكاتب. يقال للحامضة خمطة ، ويقال : الخمطة التي قد أخذت شيئا من الريح ؛ وأنشد :
عقار كماء النيء ليست بخمطة ... ولا خلة يكوي الشروب شهابها
قوله تعالى : { وَأَثْلٍ } قال الفراء : هو شبيه بالطرفاء إلا أنه أعظم منه طولا ؛ "منه اتخذ منبر النبي صلى الله عليه وسلم ، وللأثل أصول غليظة يتخذ منه الأبواب ، وورقه كورق الطرفاء ، الواحدة أثلة والجمع أثلاث. وقال الحسن : الأثل الخشب. قتادة : هو ضرب من الخشب يشبه الطرفاء رأيته بفيد. وقيل هو السمر. وقال أبو عبيدة : هو شجر النضار. النضار : الذهب. والنضار : خشب يعمل منه قصاع ، ومنه : قدح نضار. { وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ } قال الفراء : هو السمر ؛ ذكره النحاس. وقال الأزهري : السدر من الشجر سدران : بري لا ينتفع به ولا يصلح ورقه للغسول وله ثمر عفص لا يؤكل ، وهو الذي يسمى الضال. والثاني : سدر ينبت على الماء وثمره النبق وورقه غسول يشبه شجر العناب. قال قتادة : بينما شجر القوم من خير شجر إذ صيره الله تعالى من شر الشجر بأعمالهم ، فأهلك أشجارهم المثمرة"
وأنبت بدلها الأراك والطرفاء والسدر. القشري : وأشجار البوادي لا تسمى جنة وبستانا ولكن لما وقعت الثانية في مقابلة الأولى أطلق لفظ الجنة ، وهو كقوله تعالى : { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا } ويحتمل أن يرجع قوله { قَلِيلٍ } إلى جملة ما ذكر من الخمط والأثل والسدر.
الآية : [17] { ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ }
قوله تعالى : { ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا } أي هذا التبديل جزاء كفرهم. وموضع { ذَلِكَ } نصب ؛ أي جزيناهم ذلك بكفرهم. { وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ } قراءة العامة {يُجَازَى} بياء مضمومة وزاي مفتوحة ، { الْكَفُورَ } رفعا على ما لم يسم فاعله. وقرأ يعقوب وحفص وحمزة والكسائي : {نُجازِي} بالنون وكسر الزاي ، {الكفورَ} بالنصب ، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم ، قالا : لأن قبله { جَزَيْنَاهُمْ } ولم يقل جوزوا. النحاس : والأمر في هذا واسع ، والمعنى فيه بين ، ولو قال قائل : خلق الله تعالى آدم صلى الله عليه وسلم من طين ، وقال آخر : خلق آدم من طين ، لكان المعنى واحدا.
مسألة : في هذه الآية سؤال ليس في هذه السورة أشد منه ، وهو أن يقال : لم خص الله تعالى المجازاة بالكفور ولم يذكر أصحاب المعاصي ؟ فتكلم العلماء في هذا ؛ فقال قوم : ليس يجازى بهذا الجزاء الذي هو الإصطلام والإهلاك إلا من كفر. وقال مجاهد : يجازى بمعنى يعاقب ؛ وذلك أن المؤمن يكفر الله تعالى عنه سيئاته ، والكافر يجازى بكل سوء عمله ؛ فالمؤمن يجزى ولا يجازى لأنه يئاب. وقال طاوس : هو المناقشة في الحساب ، وأما المؤمن فلا يناقش الحساب. وقال قطرب خلاف هذا ، فجهلها في أهل المعاصي غير الكفار ، وقال : المعنى على من كفر بالنعم وعمل بالكبائر. النحاس : وأولى ما قيل في هذه الآية وأجل ما روي فيها : أن الحسن قال مثلا بمثل. وعن عائشة رضي الله عنها قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول : "من حوسب هلك" فقلت : يا نبي الله ، فأين قوله جل وعز : { فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً } قال : "إنما ذلك العرض ومن نوقش الحساب هلك" . وهذا إسناد صحيح ، وشرحه : أن الكافر يكافأ على أعماله ويحاسب عليها ويحبط ما عمل من خير ؛ ويبين هذا قوله تعالى في الأول : { ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا } وفي الثاني : { وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ } ومعنى {يُجَازى} : يكافأ بكل عمل عمله ، ومعنى {جزيناهم} . وفيناهم ؛ فهذا حقيقة اللغة ، وإن كان {جازى} يقع بمعنى {جزى} . مجازا.
الآية : [18] { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرىً ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ }
قوله تعالى : { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرىً ظَاهِرَةً } قال الحسن : يعني بين اليمن والشأم. والقرى التي بورك فيها : الشام والأردن وفلسطين. والبركة : قيل إنها كانت أربعة آلاف وسبعمائة قرية بورك فيها بالشجر والثمر والماء. ويحتمل أن يكون { بَارَكْنَا فِيهَا } بكثرة العدد. { قُرىً ظَاهِرَةً } قال ابن عباس : يريد بين المدينة والشام. وقال قتادة : معنى { ظَاهِرَةً } : متصلة على طريق ، يغدون فيقيلون في قرية ويروحون فيبيتون في قرية. وقيل : كان على كل ميل قرية بسوق ، وهو سبب أمن الطريق. قال الحسن : كانت المرأة تخرج معها مغزلها وعلى رأسها مكتلها ثم تلتهي بمغزلها فلا تأتي بيتها حتى يمتلئ مكتلها من كل الثمار ، فكان ما بين الشام واليمن كذلك. وقيل { ظَاهِرَةً } أي مرتفعة ، قال المبرد. وقيل : إنما قيل لها { ظَاهِرَةً } لظهورها ، أي إذا خرجت عن هذه ظهرت لك الأخرى ، فكانت قرى ظاهرة أي معروفة ، يقال : هذا أمر ظاهر أي معروف. { وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ } أي جعلنا السير بين قراهم وبين القرى التي باركنا فيها سيرا مقدرا من منزل إلى منزل ، ومن قرية إلى قرية ، أي جعلنا بين كل قريتين نصف يوم حتى يكون المقيل في قرية والمبيت في قرية أخرى. وإنما يبالغ الإنسان في السير لعدم الزاد والماء
ولخوف الطريق ، فإذا وجد الزاد والأمن لم يحمل على نفسه المشقة ونزل أينما أراد. { سِيرُوا فِيهَا } أي وقلنا لهم سيروا فيها ، أي في هذه المسافة فهو أمر تمكين ، أي كانوا يسيرون فيها إلى مقاصدهم إذا أرادوا آمنين ، فهو أمر بمعنى الخبر ، وفيه إضمار القول. { لَيَالِيَ وَأَيَّاماً } ظرفان { آمِنِينَ } نصب على الحال. وقال : { لَيَالِيَ وَأَيَّاماً } بلفظ النكرة تنبيها على قصر أسفارهم ؛ أي كانوا لا يحتاجون إلى طول السفر لوجود ما يحتاجون إليه. قال قتادة : كانوا يسيرون غير خائفين ولا جياع ولا ظلماء ، وكانوا يسيرون مسيرة أربعة أشهر في أمان لا يحرك بعضهم بعضا ، ولو لقي الرجل قاتل أبيه لا يحركه.
الآية : [19] { فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ }
قوله تعالى : { فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا } لما بطروا وطغوا وسئموا الراحة ولم يصبروا على العافية تمنوا طول الأسفار والكدح في المعيشة ؛ كقول بني إسرائيل ، : { فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا } الآية. وكالنضر بن الحارث حين قال : { اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ } فأجابه الله تبارك وتعالى ، وقتل يوم بدر بالسيف صبرا ؛ فكذلك هؤلاء تبددوا في الدنيا ومزقوا كل ممزق ، وجعل بينهم وبين الشام فلوات ومفاوز يركبون فيها الرواحل ويتزودون الأزواد. وقراءة العامة { رَبَّنَا } بالنصب على أنه نداء مضاف ، وهو منصوب لأنه مفعول به ، لأن معناه : ناديت ودعوت. { بَاعِدْ } سألوا المباعدة في أسفارهم. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن محيصن وهشام عن ابن عامر : { رَبَّنَا } كذلك على الدعاء {بَعَد} من التبعيد. النحاس : وباعد وبعد واحد في المعنى ، كما تقول : قارب وقرب. وقرأ أبو صالح ومحمد ابن الحنفية وأبو العالية ونصر بن عاصم
ويعقوب ، ويروى عن ابن عباس : { رَبُّنَا } رفعا {باعَدَ} بفتح العين والدال على الخبر ، تقديره : لقد باعد ربنا بين أسفارنا ، كأن الله تعالى يقول : قربنا لهم أسفارهم فقالوا أشرا وبطرا : لقد بوعدت علينا أسفارنا. واختار هذه القراءة أبو حاتم قال : لأنهم ما طلبوا التبعيد إنما طلبوا أقرب من ذلك القرب بطرا وعجبا مع كفرهم. وقراءة يحيى بن يعمر وعيسى بن عمر وتروى عن ابن عباس { رَبَّنَا بَعُدَ بَيْنَ أَسْفَارِنَا } بشد العين من غير ألف ، وفسرها ابن عباس قال : شكوا أن ربهم باعد بين أسفارهم. وقراءة سعيد بن أبي الحسن أخى الحسن البصري { بَعُدَ بَيْنَ أَسْفَارِنَا } { رَبَّنَا } نداء مضاف ، ثم أخبروا بعد ذلك فقالوا : { بَعُدَ بَيْنَ أَسْفَارِنَا } ورفع {بين} بالفعل ، أي ، بعدما يتصل بأسفارنا. وروى الفراء وأبو إسحاق قراءة سادسة مثل التي قبلها في ضم العين إلا أنك تنصب {بين} على ظرف ، وتقديره في العربية : بعد سيرنا بين أسفارنا. النحاس : وهذه القراءات إذا اختلفت معانيها لم يجز أن يقال إحداها أجود من الأخرى ، كما لا يقال ذلك في أخبار الآحاد إذا اختلفت معانيها ، ولكن خبر عنهم أنهم دعوا ربهم أن يبعد بين أسفارهم بطرا وأشرا ، وخبر عنهم أنهم لما فعل ذلك بهم خبروا به وشكوا ، كما قال ابن عباس. { وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ } أي بكفرهم { فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ } أي يتحدث بأخبارهم ، وتقديره في العربية : ذوي أحاديث. { وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ } أي لما لحقهم ما لحقهم تفرقوا. وتمزقوا. قال الشعبي : فلحقت الأنصار بيثرب ، وغسان بالشام ، والأسد بعمان ، وخزاعة بتهامة ، وكانت العرب تضرب بهم المثل فتقول : تفرقوا أيدي سبأ وأيادي سبأ ، أي مذاهب سبأ وطرقها. { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } الصبار الذي يصبر عن المعاصي ، وهو تكثير صابر يمدح بهذا الاسم. فإن أردت أنه صبر عن المعصية لم يستعمل فيه إلا صبار عن كذا. { شَكُورٍ } لنعمه ؛ وقد مضى هذا المعنى في {البقرة} .
الآية : [20] { وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ }
قوله تعالى : { وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ } فيه أربع قراءات : قرأ أبو جعفر وشيبة ونافع وأبو عمرو وابن كثير وابن عامر ويروى عن مجاهد ، { وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ } بالتخفيف { إِبْلِيسُ } بالرفع { ظَنَّهُ } بالنصب ؛ أي في ظنه. قال الزجاج : وهو على المصدر أي "صدق عليهم ظنا ظنه إذ صدق في ظنه ؛ فنصب على المصدر أو على الظرف. وقال أبو علي : { ظَنَّه } نصب لأنه مفعول به ؛ أي صدق الظن الذي ظنه إذ قال : { لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ } وقال : { لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } ؛ ويجوز تعدية الصدق إلى المفعول به ، ويقال : صدق الحديث ، أي في الحديث. وقرأ ابن عباس يحيى بن وثاب والأعمش وعاصم وحمزة والكسائي : {صدق} بالتشديد { ظَنَّه } بالنصب بوقوع الفعل عليه. قال مجاهد : ظن ظنا فكان كما ظن فصدق ظنه. وقرأ جعفر بن محمد وأبو الهجهاج {صدَق عليهم} بالتخفيف {إبليسَ} بالنصب { ظَنَّه } بالرفع. قال أبو حاتم : لا وجه لهذه القراءة عندي ، والله تعالى أعلم. وقد أجاز هذه القراءة الفراء وذكرها الزجاج وجعل الظن فاعل {صدق} {إبليسَ} مفعول به ؛ والمعنى : أن إبليس سول له ظنه فيهم شيئا فصدق ظنه ، فكأنه قال : ولقد صدق عليهم ظن إبليس. و {على} متعلقة بـ {صدق} ، كما تقول : صدقت عليك فيما ظننته بك ، ولا تتعلق بالظن لاستحالة تقدم شيء. من الصلة على الموصول. والقراءة الرابعة : { وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ } برفع إبليس والظن ، مع التخفيف في {صدق} على أن يكون ظنه بدلا من إبليس وهو بدل الاشتمال. ثم قيل : هذا في أهل سبأ ، أي كفروا وغيروا وبدلوا بعد أن كانوا مسلمين إلا قوما منهم آمنوا برسلهم. وقيل : هذا عالم ، أي صدق إبليس ظنه على الناس كلهم إلا من أطاع الله تعالى ؛ قال مجاهد. وقال الحسن : لما أهبط آدم عليه السلام من الجنة ومعه حواء وهبط إبليس قال إبليس : أما إذ أصبت من الأبوين ما أصبت فالذرية أضعف وأضعف! فكان ذلك ظنا من إبليس ، فأنزل الله تعالى : { وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ } . وقال ابن عباس : إن إبليس قال : خلقت من نار وخلق آدم من طين"
والنار تحرق كل شيء { لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً } فصدق ظنه عليهم. وقال زيد بن أسلم : إن إبليس قال يا رب أرأيت هؤلاء الذين كرمتهم وشرفتهم وفضلتهم علي لا تجد أكثرهم شاكرين ، ظنا منه فصدق عليهم إبليس ظنه. وقال الكلبي : إنه ظن أنه إن أغواهم أجابوه وإن أضلهم أطاعوه ، فصدق ظنه. { فَاتَّبَعُوهُ } قال الحسن : ما ضربهم بسوء ولا بعصا وإنما ظن ظنا فكان كما ظن بوسوسته. { إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } نصب على الاستثناء ، وفيه قولان : أحدهما أنه يراد به بعض المؤمنين ، لأن كثيرا من المؤمنين من يذنب وينقاد لإبليس في بعض المعاصي ، أي ما سلم من المؤمنين أيضا إلا فريق وهو المعنى بقوله تعالى : { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } فأما ابن عباس فعنه أنه قال : هم المؤمنون كلهم ، فـ "من" على هذا للتبيين لا للتبعيض ، فإن قيل : كيف علم إبليس صدق ظنه وهو لا يعلم الغيب ؟ قيل ل : لما نفذ له في آدم ما نفذ غلب على ظنه أنه ينفذ له مثل ذلك في ذريته ، وقد وقع له تحقيق ما ظن. وجواب آخر وهو ما أجيب من قوله تعالى : { وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ } فأعطي القوة والاستطاعة ، فظن أنه يملكهم كلهم بذلك ، فلما رأى أنه تأب على آدم وأنه سيكون له نسل. يتبعونه إلى الجنة وقال : { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ } علم أن له تبعا ولآدم تبعا ؛ فظن أن تبعه أكثر من تبع آدم ، لما وضع في يديه من سلطان الشهوات ، ووضعت الشهوات في أجواف الآدميين ، فخرج على ما ظن حيث نفخ فيهم وزين في أعينهم تلك الشهوات ، ومدهم إليها بالأماني والخدائع ، فصدق عليهم الذي ظنه ، والله أعلم.
الآية : [21] { وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ }
قوله تعالى : { وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ } أي لم يقهرهم إبليس على الكفر ، وإنما كان منه الدعاء والتزيين. والسلطان : القوة. وقيل الحجة ، أي لم تكن له حجة يستتبعهم
بها ، وإنما اتبعوه بشهوة وتقليد وهوى نفس ؛ لا عن حجة ودليل. { إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ } يريد علم الشهادة الذي يقع به الثواب والعقاب ، فأما الغيب فقد علمه تبارك وتعالى. ومذهب الفراء أن يكون المعنى : إلا لنعلم ذلك عندكم ؛ كما قال : { أَيْنَ شُرَكَائِيَ } على قولكم وعندكم ، وليس قوله : { إِلاَّ لِنَعْلَمَ } جواب { وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ } في ظاهره إنما هو محمول على المعنى ؛ أي وما جعلنا له سلطانا إلا لنعلم ، فالاستثناء منقطع ، أي لا سلطان له عليهم ولكنا ابتليناهم بوسوسته لنعلم ، فـ { إِلاَّ } بمعنى لكن. وقيل هو متصل ، أي ما كان له عليهم من سلطان ، غير أنا سلطناه عليهم ليتم الابتلاء. وقيل : { كَانَ } زائدة ؛ أي وماله عليهم من سلطان ، كقوله : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ } أي أنتم خير أمة. وقيل : لما اتصل طرف منه بقصة سبأ قال : وما كان لإبليس على أولئك الكفار من سلطان. وقيل : وما كان له في قضائنا السابق سلطان عليهم. وقيل : { إِلاَّ لِنَعْلَمَ } إلا لنظهر ، وهو كما تقول : النار تحرق الحطب ، فيقول آخر لا بل الحطب يحرق النار ؛ فيقول الأول تعال حتى نجرب النار والحطب لنعلم أيهما يحرق صاحبه ، أي لنظهر ذلك وإن كان معلوما لهم ذلك. وقيل : إلا لتعلموا أنتم. وقيل : أي ليعلم أولياؤنا والملائكة ؛ كقوله : { إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } أي يحاربون أولياء الله ورسوله. وقيل : أي ليميز ؛ كقوله : { لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ } وقد مضى هذا المعنى في {البقرة} وغيرها. وقرأ الزهري { إِلاَّ لِنَعْلَمَ } على ما لم يسم فاعله. { وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ } أي أنه عالم بكل شيء. وقيل : يحفظ كل شيء على العبد حتى يجازيه عليه.
الآية : [22] { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ }
قوله تعالى : { قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ } أي هذا الذي مضى ذكره من أمر داود وسليمان وقصة سبأ من آثار قدرتي ، فقل يا محمد لهؤلاء المشركين هل عند. شركائكم قدرة على شيء من ذلك. وهذا خطاب توبيخ ، وفيه إضمار : أي ادعوا الذين زعمتم أنهم آلهة لكم من دون الله لتنفعكم أو لتدفع عنكم ما قضاه الله تبارك وتعالى عليكم ، فإنهم لا يملكون ذلك ، { لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ } أي ما لله من هؤلاء من معين على خلق شيء ، بل الله المنفرد بالإيجاد ؛ فهو الذي يعبد ، وعبادة غيره محال.
الآية : [23] { وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ }
قوله تعالى : { وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ } أي شفاعة الملائكة وغيرهم. { عِنْدَهُ } أي عند الله. { إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } قراءة العامة { أَذِنَ } بفتح الهمزة ؛ لذكر الله تعالى أولا. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي { أَذِنَ } بضم الهمزة على ما لم يسم فاعله. والآذن هو الله تعالى. و {مَن} يجوز أن ترجع إلى الشافعين ، ويجوز أن ترجع إلى المشفوع لهم. { حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ } قال ابن عباس : خلي عن قلوبهم الفزع. قطرب : أخرج ما فيها من الخوف. مجاهد : كشف عن قلوبهم الغطاء يوم القيامة ؛ أي إن الشفاعة لا تكون من أحد هؤلاء المعبودين من دون الله من الملائكة والأنبياء والأصنام ؛ إلا أن الله تعالى يأذن للأنبياء والملائكة في الشفاعة وهم على غاية الفزع من الله ؛ كما قال : { وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ } والمعنى : أنه إذا أذن لهم في الشفاعة وورد عليهم كلام الله فزعوا ؛ لما يقترن بتلك الحال من الأمر الهائل والخوف أن يقع في تنفيذ ما أذن لهم فيه تقصير ، فإذا سري عنهم قالوا للملائكة فوقهم وهم الذين يوردون عليهم الوحي بالإذن : { مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ } أي ماذا أمر الله به ، فيقولون لهم : { قَالُوا الْحَقَّ } وهو أنه أذن لكم في الشفاعة للمؤمنين. { وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ } فله أن يحكم في عباده بما




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 41.21 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 40.58 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.52%)]