
10-07-2025, 01:28 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,240
الدولة :
|
|
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى

تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (15)
سُورَةُ الصافات
من صــ 127 الى صــ 136
الحلقة (604)
قلت : ومن هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم : "من استطاع منكم أن تكون له خبيئة من عمل صالح فليفعل" فيجتهد العبد ، ويحرص على خصلة من صالح عمله ، يخلص فيها بينه وبين ربه ، ويدخرها ليوم فاقته وفقره ، ويخبؤها بجهده ، ويسترها عن خلقه ، يصل إليه نفعها أحوج ما كان إليه. وقد خرج البخاري ومسلم من حديث ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "بينما ثلاثة نفر - في رواية ممن كان قبلكم - يتماشون أخذهم المطر فأووا إلى غار في جبل فانحطت على فم الغار صخرة من الجبل فانطبقت عليهم فقال بعضهم لبعض انظروا أعمالا عملتموها صالحة لله فادعوا الله بها لعله يفرجها عنكم..." الحديث بكماله وهو مشهور ، شهرته أغنت عن تمامه. وقال سعيد بن جبير : لما قال في بطن الحوت : {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } [الأنبياء : 87] قذفه الحوت. وقيل : {مِنَ الْمُسَبِّحِينَ } من المصلين في بطن الحوت.
قلت : والأظهر أنه تسبيح اللسان الموافق للجنان ، وعليه يدل حديث أبي هريرة المذكور قبل الذي ذكره الطبري. قال : فسبح في بطن الحوت. قال : فسمعت الملائكة تسبيحه ؛ فقالوا : يا ربنا إنا نسمع صوتا ضعيفا بأرض غريبة. وتكون {كان} على هذا القول زائدة ؛ أي فلولا أنه من المسبحين. وفي كتاب أبي داود عن سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "دعاء ذي النون في بطن الحوت {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } [الأنبياء : 87] لم يدع به رجل مسلم في شيء قط إلا استجيب له" وقد مضى هذا في سورة [الأنبياء "فيونس عليه السلام كان قبل مصليا مسبحا ، وفي بطن الحوت كذلك. وفي الخبر : فنودي الحوت : إنا لم نجعل يونس لك رزقا ؛ إنما جعلناك له حرزا ومسجدا. وقد تقدم."
الآية : 145 - 148 { فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ ، وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ ، وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ، فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ }
قوله تعالى : {فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ ، وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ } روي أن الحوت قذفه بساحل قرية من الموصل. وقال ابن قسيط عن أبي هريرة : طرح يونس بالعراء وأنبت الله عليه يقطينة ؛ فقلنا : يا أبا هريرة وما اليقطينة ؟ قال : شجرة الدباء ؛ هيأ الله له أروية وحشية تأكل من خشاش الأرض - أو هشاش الأرض - فتفشج عليه فترويه من لبنها كل عشية وبكرة حتى نبت. وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : خرج به - يعني الحوت - حتى لفظه في ساحل البحر ، فطرحه مثل الصبي المنفوس لم ينقص من خلقه شيء. وقيل : إن يونس لما ألقاه الحوت على ساحل البحر أنبت الله عليه شجرة من يقطين ، وهي فيما ذكر شجرة القرع تتقطر عليه من اللبن حتى رجعت إليه قوته. ثم رجع ذات يوم إلى الشجرة فوجدها يبست ، فحزن وبكى عليها فعوتب ؛ فقيل له : أحزنت على شجرة وبكيت عليها ، ولم تحزن على مائة ألف وزيادة من بني إسرائيل ، من أولاد إبراهيم خليلي ، أسرى في أيدي العدو ، وأردت إهلاكهم جميعا. وقيل : هي شجرة التين. وقيل : شجرة الموز تغطى بورقها ، واستظل بأغصانها ، وأفطر على ثمارها. والأكثر على أنها شجرة اليقطين على ما يأتي. ثم إن الله تبارك وتعالى اجتباه فجعله من الصالحين. ثم أمره أن يأتي قومه ويخبرهم أن الله تعالى قد تاب عليهم ، فعمد إليهم حتى لقي راعيا فسأله عن قوم يونس وعن حالهم وكيف هم ، فأخبره أنهم بخير ، وأنهم على رجاء أن يرجع إليهم رسولهم. فقال له : فأخبرهم أني قد لقيت يونس. قال : وماذا ؟ قال : وهذه البقعة التي أنت فيها تشهد لك أنك لقيت يونس ، قال : وماذا ؟ قال وهذه الشجرة تشهد لك أنك لقيت يونس. وأنه رجع الراعي إلى قومه فأخبرهم أنه لقى يونس فكذبوه وهموا به شرا فقال : لا تعجلوا علي حتى أصبح ، فلما أصبح غدا بهم إلى البقعة التي لقي فيها يونس ، فاستنطقها فأخبرتهم أنه لقي يونس ؛ واستنطق الشاة والشجرة فأخبرتاهم أنه لقي يونس ، ثم إن يونس أتاهم بعد ذلك.
ذكر هذا الخبر وما قبله الطبري رحمه الله. {فَنَبَذْنَاهُ } طرحناه. وقيل : تركناه. {بِالْعَرَاءِ } بالصحراء ؛ قال ابن الأعرابي. الأخفش : بالفضاء. أبو عبيدة : الواسع من الأرض. الفراء : العراء المكان الخالي. قال : وقال أبو عبيدة : العراء وجه الأرض ؛ وأنشد لرجل من خزاعة :
ورفعت رجلا لا أخاف عثارها ... ونبذت بالبلد العراء ثيابي
وحكى الأخفش في قوله : {وهو سقيم} جمع سقيم سقمى وسقامى وسقام. وقال في هذه السورة : {فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ } وقال في {نون وَالْقَلَمِ } [القلم : 1] : {لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم} [ القلم : 49] والجواب : أن الله عز وجل خبر ها هنا أنه نبذه بالعراء وهو غير مذموم ولولا رحمة الله عز وجل لنبذ بالعراء وهو مذموم ؛ قاله النحاس. وقوله : {وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ } يعني {عليه} أي عنده ؛ كقوله تعالى : {وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ } [الشعراء : 14] أي عندي. وقيل : {عليه} بمعنى له. {شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ } اليقطين : شجر الدباء : وقيل غيرها ؛ ذكره ابن الأعرابي. وفي الخبر : "الدباء والبطيخ من الجنة" وقد ذكرناه في كتاب التذكرة. وقال المبرد : يقال لكل شجرة ليس لها ساق يفترش ورقها على الأرض يقطينة نحو الدباء والبطيخ والحنظل ، فإن كان لها ساق يقلها فهي شجرة فقط ، وإن كانت قائمة أي بعروق تفترش فهي نجمة وجمعها نجم. قال الله تعالى : {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ } [الرحمن : 6] وروي نحوه عن ابن عباس والحسن ومقاتل. قالوا : كل نبت يمتد ويبسط على الأرض ولا يبقى على استواء وليس له ساق نحو القثاء والبطيخ والقرع والحنظل فهو يقطين. وقال سعيد بن جبير : هو كل شيء ينبت ثم يموت من عامه فيدخل في هذا الموز.
قلت : وهو مما له ساق. الجوهري : واليقطين ما لا ساق له كشجر القرع ونحوه. الزجاج : اشتقاق اليقطين من قطن بالمكان إذا أقام به فهو يفعيل. وقيل : هو اسم اعجمي. وقيل : إنما خص اليقطين بالذكر ، لأنه لا ينزل عليه ذباب. وقيل : ما كان ثم يقطين
فأنبته الله في الحال. القشيري : وفي الآية ما يدل على أنه كان مفروشا ليكون له ظل. الثعلبي : كانت تظله فرأى خضرتها فأعجبته ، فيبست فجعل يتحزن عليها ؛ فقيل له : يا يونس أنت الذي لم تخلق ولم تسق ولم تنبت تحزن على شجيرة ، فأنا الذي خلقت مائة ألف من الناس أو يزيدون تريد مني أن أستأصلهم في ساعة واحدة ، وقد تابوا وتبت عليهم فأين رحمتي يا يونس أنا أرحم الراحمين. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يأكل الثريد باللحم والقرع وكان يحب القرع ويقول : "إنها شجرة أخي يونس" وقال أنس : قدم للنبي صلى الله عليه وسلم مرق فيه دباء وقديد فجعل يتبع الدباء حوالي القصعة. قال أنس : فلم أزل أحب الدباء من يومئذ. أخرجه الأئمة.
قوله تعالى : {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} وقد تقدم عن ابن عباس أن رسالة يونس عليه السلام إنما كانت بعد ما نبذه الحوت. وليس له طريق إلا عن شهر بن حوشب. النحاس : وأجود منه إسنادا وأصح ما حدثناه عن علي بن الحسين قال : حدثنا الحسن بن محمد قال حدثنا عمرو بن العنقزي قال حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن عمرو بن ميمون قال حدثنا عبدالله بن مسعود في بيت المال عن يونس النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن يونس وعد قومه العذاب وأخبرهم أن يأتيهم إلى ثلاثة أيام ، ففرقوا بين كل والدة وولدها ، وخرجوا فجأروا إلى الله عز وجل واستغفروا ، فكف الله عز وجل عنهم العذاب ، وغدا يونس عليه السلام ينتظر العذاب فلم ير شيئا - وكان من كذب ولم تكن له بينة قتل - فخرج يونس مغاضبا ، فأتى قوما في سفينة فحملوه وعرفوه ، فلما دخل السفينة ركدت السفينة والسفن تسير يمينا وشمالا ؛ فقالوا : ما لسفينتكم ؟ فقالوا : لا ندري. فقال يونس عليه السلام : إن فيها عبدا آبقا من ربه جل وعز وإنها لن تسير حتى تلقوه. قالوا أما أنت يا نبي الله فإنا لا نلقيك. قال : فأقرعوا فمن قرع فليقع ، فاقترعوا فقرعهم يونس فأبوا أن يدعوه ، فال : فاقترعوا ثلاثا فمن قرع فليقع. فاقترعوا فقرعهم يونس ثلاث مرات أو قال ثلاثا فوقع. وقد وكل الله به جل وعز حوتا فابتلعه وهو يهوي به إلى قرار الأرض ، فسمع يونس عليه السلام
تسبيح الحصى {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } [الأنبياء : 87] قال : ظلمة الليل وظلمة البحر وظلمة بطن الحوت. قال : {فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ } قال : كهيئة الفرخ الممعوط الذي ليس عليه ريش. قال : وأنبت الله عليه شجرة من يقطين فنبتت ، فكان يستظل بها ويصيب منها ، فيبست فبكى عليها ؛ فأوحى الله جل وعز إليه : أتبكي على شجرة يبست ، ولا تبكي على مائة ألف أو يزيدون أردت أن تهلكهم قال : وخرج رسول الله يونس فإذا هو بغلام يرعى ؛ قال : يا غلام من أنت ؟ قال : من قوم يونس. قال : فإذا جئت إليهم فأخبرهم أنك قد لقيت يونس. قال : إن كنت يونس فقد علمت أنه من كذب قتل إذا لم تكن له بينة فمن يشهد ؟ قال : هذه الشجرة وهذه البقعة. قال : فمرهما ؛ فقال لهما يونس : إذا جاءكما هذا الغلام فأشهدا له. قالتا نعم. قال : فرجع الغلام إلى قومه وكان في منعة وكان له إخوة ، فأتى الملك فقال : إني قد لقيت يونس وهو يقرأ عليك السلام. قال : فأمر به أن يقتل ؛ فقالوا : إن له بينة فأرسلوا معه. فأتى الشجرة والبقعة فقال لهما : نشدتكما بالله جل وعز أتشهدان أني لقيت يونس ؟ قالتا : نعم قال : فرجع القوم مذعورين يقولون له : شهدت له الشجرة والأرض فأتوا الملك فأخبروه بما رأوا. قال عبدالله : فتناول الملك يد الغلام فأجلسه في مجلسه ، وقال : أنت أحق بهذا المكان مني. قال عبدالله : فأقام لهم ذلك الغلام أمرهم أربعين سنة. قال أبو جعفر النحاس : فقد تبين في هذا الحديث أن يونس كان قد أرسل قبل أن يلقمه الحوت بهذا الإسناد الذي لا يؤخذ بالقياس. وفيه أيضا من الفائدة أن قوم يونس آمنوا وندموا قبل أن يروا العذاب ؛ لأن فيه أنه أخبرهم أنه يأتيهم العذاب إلى ثلاثة أيام ، ففرقوا ببن كل والدة وولدها ، وضجوا ضجة واحدة إلى الله عز وجل.
وهذا هو الصحيح في الباب ، وأنه لم يكن حكم الله عز وجل فيهم كحكمه في غيرهم في قول عز وجل : {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ } [غافر : 85] وقول عز وجل : {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ } [النساء : 18] الآية.
وقال بعض العلماء : إنهم رأوا مخائل العذاب فتابوا. وهذا لا يمنع ، وقد تقدم ما للعلماء في هذا في سورة "يونس" فلينظر هناك.
قوله تعالى : {أَوْ يَزِيدُونَ } قد مضى في "البقرة" محامل "أو" في قوله تعالى : {أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } [البقرة : 74] . وقال القراء : {أو} بمعنى بل. وقال غيره : إنها بمعنى الواو ، ومنه قول الشاعر :
فلما اشتد أمر الحرب فينا ... تأملنا رياحا أو رزاما
أي ورزاما. وهذا كقوله تعالى : {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ } [النحل : 77] . وقرأ جعفر بن محمد {إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ َوَ يَزِيدُونَ } بغير همز ؛ فـ {يزيدون} في موضع رفع بأنه خبر مبتدأ محذوف أي وهم يزيدون. النحاس : ولا يصح هذان القولان عند البصريين ، وأنكروا كون {أو} بمعنى بل وبمعنى الواو ؛ لأن بل للإضراب عن الأول والإيجاب لما بعده ، وتعالى الله عز وجل عن ذلك ، أو خروج من شيء إلى شيء وليس هذا موضع ذلك ؛ والواو معناه خلاف معنى {أو} فلو كان أحدهما بمعنى الآخر لبطلت المعاني ؛ ولو جاز ذلك لكان وأرسلناه إلى أكثر من مائتي ألف أخصر. وقال المبرد : المعنى وأرسلناه إلى جماعة لو رأيتموهم لقلتم هم مائة ألف أو أكثر ، وإنما خوطب العباد على ما يعرفون. وقيل : هو كما تقول : جاءني زيد أو عمرو وأنت تعرف من جاءك منهما إلا أنك أبهمت على المخاطب. وقال الأخفش والزجاج : أي أو يزيدون في تقديركم. قال ابن عباس : زادوا على مائة ألف عشرين ألفا. ورواه أبي بن كعب مرفوعا. وعن ابن عباس أيضا : ثلاثين ألفا. الحسن والربيع : بضعا وثلاثين ألفا. وقال مقاتل بن حيان : سبعين ألفا. {فآمنوا فمتعناهم إلى حين} أي إلى منتهى آجالهم.
الآية : 149 - 157 {فاستفتهم فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ ، أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ ، أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ، أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ ، مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ، أَفَلا تَذَكَّرُونَ ، أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ ، فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ }
قوله تعالى : {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ } لما ذكر أخبار الماضين تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم احتج على كفار قريش في قولهم : إن الملائكة بنات الله ؛ فقال : {فَاسْتَفْتِهِمْ } . وهو معطوف على مثله في أول السورة وإن تباعدت بينهم المسافة ؛ أي فسل يا محمد أهل مكة {ألربك البنات} وذلك أن جهينة وخزاعة وبني مليح وبنى سلمة وعبد الدار زعموا أن الملائكة بنات الله. وهذا سؤال توبيخ.
{أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ } أي حاضرون لخلقنا إياهم إناثا ؛ وهذا كما قال الله عز وجل : {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ } [الزخرف : 19] . ثم قال : {ألا إنهم من إفكهم} وهو أسوأ الكذب {ليقولون ، ولد الله وإنهم لكاذبون} في قولهم إن لله ولدا وهو الذي لا يلد ولا يولد. و {إن} بعد {ألا} مكسورة ؛ لأنها مبتدأة. وحكى سيبويه أنها تكون بعد أما مفتوح أو مكسورة ؛ فالفتح على أن تكون أما بمعنى حقا ، والكسر على أن تكون أما بمعنى ألا. النحاس : وسمعت علي بن سليمان يقول يجوز فتحها بعد ألا تشبيها بأما ، وأما في الآية فلا يجوز إلا كسرها ؛ لأن بعدها الرفع. وتمام الكلام {كاذبون} . ثم يبتدئ {أصطفى}
على معنى التقريع والتوبيخ كأنه قال : ويحكم {أَصْطَفَى الْبَنَاتِ } أي اختار البنات وترك البنين. وقراءة العامة {أصطفى} بقطع الألف ؛ لأنها ألف استفهام دخلت على ألف الوصل ، فحذفت ألف الوصل وبقيت ألف الاستفهام مفتوح مقطوعة على
حالها مثل : {أَطَّلَعَ الْغَيْبَ } على ما تقدم. وقرأ أبو جعفر وشيبة ونافع وحمزة {اصطفى} بوصل الألف على الخبر بغير استفهام. وإذا ابتدأ كسر الهمزة. وزعم أبو حاتم أنه لا وجه لها ؛ لأن بعدها {ما لكم كيف تحكمون} فالكلام جار على التوبيخ من جهتين : إحداهما أن يكون تبيينا وتفسير لما قالوه من الكذب ويكون {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } منقطعا مما قبله. والجهة الثانية أنه قد حكى النحويون - منهم الفراء - أن التوبيخ يكون باستفهام وبغير استفهام كما قال جل وعز : {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا } [الأحقاف : 20] . وقيل : هو على إضمار القول ؛ أي ويقولون {أصطفى البنات} . أو يكون بدلا من قوله : {ولد الله} لأن ولادة البنات واتخاذهن اصطفاه لهن ، فأبدل مثال الماضي من مثال الماضي فلا يوقف على هذا على {لَكَاذِبُونَ } . {أَفَلا تَذَكَّرُونَ } الكلام جار على التوبيخ من جهتين : إحداهما : أن يكون تبيينا وتفسير لما قالوه من الكذب ويكون {ما لكم كيف تحكمون} منقطعا مما قبله. والجهة الثانية : أنه قد حكى النحويون - منهم الفراء - أن التوبيخ يكون باستفهام وبغير استفهام كما قال جل وعز : {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا } [الأحقاف : 20] . وقيل : هو على إضمار القول ؛ أي ويقولون {أَصْطَفَى الْبَنَاتِ } . أو يكون بدلا من قوله : {ولد الله} لأن ولادة البنات واتخاذهن اصطفاه لهن ، فأبدل مثال الماضي مثال الماضي فلا يوقف على هذا على {لَكَاذِبُونَ } . {أفلا تذكرون} في أنه لا يجوز أن يكون له ولد. {أم لكم سلطان مبين} حجة وبرهان. {فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ } أي بحججكم {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } في قولكم.
الآية : 158 - 160 {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ، سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ، إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ }
قوله تعالى : {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً } أكثر أهل التفسير أن الجنة ها هنا الملائكة. روى ابن أبي نجيح عن مجاهد قال : قالوا - يعني كفار قريش - الملائكة بنات الله ؛ جل وتعالى. فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه : فمن أمهاتهن. قالوا : مخدرات الجن. وقال أهل الاشتقاق : قيل لهم جنة لأنهم لا يرون. وقال مجاهد : إنهم بطن من بطون الملائكة يقال لهم الجنة. وروي عن ابن عباس. وروى إسرائيل عن السدي عن أبي مالك قال : إنما قيل لهم جنة لأنهم خزان على الجنان والملائكة كلهم جنة. {نسبا} مصاهرة. فال قتادة والكلبي ومقاتل : قالت اليهود لعنهم الله إن الله صاهر الجن فكانت
الملائكة من بينهم. وقال مجاهد والسدي ومقاتل أيضا. القائل ذلك كنانة وخزاعة ؛ قالوا : إن الله خطب إلى سادات الجن فزوجوه من سروات بناتهم ، فالملائكة بنات الله من سروات بنات الجن. وقال الحسن : أشركوا الشيطان في عبادة الله فهو النسب الذي جعلوه.
قلت : قول الحسن في هذا أحسن ؛ دليله قوله تعالى : {إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ } [الشعراء : 98] أي في العبادة. وقال ابن عباس والضحاك والحسن أيضا : هو قولهم إن الله تعالى وإبليس أخوان ؛ تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا.
قوله تعالى : {وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ } أي الملائكة {إِنَّهُمْ } يعني قائل هذا القول {لَمُحْضَرُونَ } في النار ؛ قال قتادة. وقال مجاهد : للحساب. الثعلبي : الأول أولى ؛ لأن الإحضار تكرر في هذه السورة ولم يرد الله به غير العذاب. {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ } أي تنزيها لله عما يصفون. {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ } فإنهم ناجون من النار.
الآية : 161 - 163 {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ ، مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ ، إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ }
فيه ثلاث مسائل :
الأولى : قوله تعالى : {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ } {ما} بمعنى الذي. وقيل : بمعنى المصدر ، أي فإنكم وعبادتكم لهذه الأصنام. وقيل : أي فإنكم مع ما تعبدون من دون الله ؛ يقال : جاء فلان وفلان. وجاء فلان مع فلان. {ما أنتم عليه} أي على الله بمضلين. النحاس. أهل التفسير مجمعون فيما علمت على أن المعنى : ما أنتم بمضلين أحدا إلا من قدّر الله عز وجل عليه أن يضل :
فرد بنعمته كيده ... عليه وكان لنا فاتنا
أي مضلا.
الثانية- في هذه الآية رد على القدرية. قال عمرو بن ذر : قدمنا على عمر بن عبدالعزيز فذكر عنده القدر ، فقال عمر : لو أراد الله ألا يعصى ما خلق إبليس وهو رأس الخطيئة ، وإن في ذلك لعلما في كتاب الله عز وجل ، عرفه من عرفه ، وجهله من جهله ؛ ثم قرأ : {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ. مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ } إلا من كتب الله عز وجل عليه أن يصلى الجحيم. وقال : فصلت هذه الآية بين الناس ، وفيها من المعاني أن الشياطين لا يصلون إلى إضلال أحد إلا من كتب الله عليه أنه لا يهتدي ، ولو علم الله جل وعز أنه يهتدي لحال بينه وبينهم ؛ وعلى هذا قوله تعالى : {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ } [الإسراء : 64] أي لست تصل منهم إلى شيء إلا إلى ما في علمي. وقال لبيد بن ربيعة في تثبيت القدر فأحسن :
إن تقوى ربنا خير نفل ... وبإذن الله ريثي وعجل
أحمد الله فلا ند له ... بيديه الخير ما شاء فعل
من هداه سبل الخير اهتدى ... ناعم البال ومن شاء أضل
قال الفراء : أهل الحجاز يقولون فتنت الرجل ، وأهل نجد يقولون أفتنته.
روي عن الحسن أنه قرأ : {إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ } بضم اللام. النحاس : وجماعة أهل التفسير يقولون إنه لحن ؛ لأنه لا يجوز هذا قاض المدينة. ومن أحسن ما قيل فيه ما سمعت علي بن سليمان يقول ؛ قال : هو محمول عل المعنى ؛ لأن معنى. {من} جماعة ؛ فالتقدير صالون ، فحذفت النون للإضافة ، وحذفت الواو لالتقاء الساكنين. وقيل : أصله فاعل إلا أنه قلب من صال إلى صايل وحذفت الياء وبقيت اللام مضمومة فهو مثل {شَفَا جُرُفٍ هَارٍ } [التوبة : 109] . ووجه ثالث أن تحذف لام {صال} تخفيفا وتجري الإعراب على عينه ، كما حذف من قولهم : ما باليت به بالة. وأصلها بالية من بالي كعافية من عافي ؛ ونظيره قراءة من قرأ ، {وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ} [الرحمن : 54] ، {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ } [الرحمن : 24] أجرى الإعراب على العين. والأصل ني قراءة الجماعة صالي بالياء فحذفها الكاتب من الخط لسقوطها في اللفظ
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|