
10-07-2025, 04:37 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,259
الدولة :
|
|
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى

تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (15)
سُورَةُ الزمر
من صــ 257 الى صــ 266
الحلقة (617)
به ، أي صدق في طاعة الله عز وجل ، وقد مضى في {البقرة} الكلام في { الَّذِي } وأنه يكون واحدا ويكون جمعا. { لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ } أي من النعيم في الجنة ، كما يقال : لك إكرام عندي ؛ أي ينالك مني ذلك. { ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ } الثناء في الدنيا والثواب في الآخرة.
قوله تعالى : { لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ } أي صدّقوا { لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ } . { أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا } أي يكرمهم ولا يؤاخذهم بما عملوا قبل الإسلام. { وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ } أي يثيبهم على الطاعات في الدنيا { بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ } وهي الجنة.
الآية : [36] { أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ }
الآية : [37] { وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ }
قوله تعالى : { أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ } حذفت الياء من { بِكَافٍ } لسكونها وسكون التنوين بعدها ؛ وكان الأصل ألا تحذف في الوقف لزوال التنوين ، إلا أنها حذفت ليعلم أنها كذلك في الوصل. ومن العرب من يثبتها في الوقف على الأصل فيقول : كافي. وقراءة العامة { عَبْدَهُ } بالتوحيد يعني محمدا صلى الله عليه وسلم يكفيه الله وعيد المشركين وكيدهم. وقرأ حمزة والكسائي { عِبَادِهِ } وهم الأنبياء أو الأنبياء والمؤمنون بهم. واختار أبو عبيدة قراءة الجماعة لقوله عقيبه : { وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ } . ويحتمل أن يكون العبد لفظ الجنس ؛ كقوله عز من قائل : { إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ } وعلى هذا تكون القراءة الأولى راجعة إلى الثانية. والكفاية شر الأصنام ، فإنهم كانوا يخوفون المؤمنين بالأصنام ، حتى قال إبراهيم عليه السلام. { وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ } . وقال الجرجاني : إن الله كاف عبده المؤمن وعبده الكافر ، هذا بالثواب وهذا بالعقاب.
قوله تعالى : { وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ } وذلك أنهم خوفوا النبي صلى الله عليه وسلم مضرة الأوثان ، فقالوا : أتسب آلهتنا ؟ لئن لم تكف عن ذكرها لتخبلنك أوتصيبنك بسوء. وقال قتادة : مشى خالد بن الوليد إلى العزى ليكسرها بالفأس. فقال له سادنها : أحذركها يا خالد فإن لها شدة لا يقوم لها شيء ، فعمد خالد إلى العزى فهشم أنفها حتى كسرها بالفأس. وتخويفهم لخالد تخويف للنبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه الذي وجه خالدا. ويدخل في الآية تخويفهم النبي صلى الله عليه وسلم بكثرة جمعهم وقوتهم ؛ كما قال : { أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ } { وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } تقدم. { وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ } أي ممن عاداه أوعادى رسله.
الآية : [38] { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ }
الآية : [39] { قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ }
الآية : [40] { مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ }
الآية : [41] { إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ }
قوله تعالى : { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ } أي ولئن سألتهم يا محمد { مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } بين أنهم مع عبادتهم الأوثان مقرون بأن الخالق هو الله ، وإذا كان الله هو الخالق فكيف يخوفونك بآلهتهم التي هي مخلوقة لله تعالى ، وأنت رسول الله الذي خلقها وخلق السماوات والأرض. { قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ } أي قل لهم يا محمد بعد اعترافهم بهذا { أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ } { إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ } بشدة وبلاء { هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ } يعني هذه الأصنام أَوْ أَرَادَنِي
بِرَحْمَةٍ نعمة ورخاء { هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ } قال مقاتل : فسألهم النبي صلى الله عليه وسلم فسكتوا. وقال غيره : قالوا لا تدفع شيئا قدره الله ولكنها تشفع. فنزلت : { قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ } ترك الجواب لدلالة الكلام عليه ؛ يعني فسيقولون لا أي لا تكشف ولا تمسك فـ { قُلْ } أنت { حَسْبِيَ اللَّهُ } أي عليه توكلت أي اعتمدت و { عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ } يعتمد المعتمدون. وقد تقدم الكلام في التوكل. وقرأ نافع وابن كثير والكوفيون ما عدا عاصما { كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ } بغير تنوين. وقرأ أبو عمرو وشيبة وهي المعروفة من قراءة الحسن وعاصم { هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ } . { مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ } بالتنوين على الأصل وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم ؛ لأنه اسم فاعل في معنى الاستقبال ، وإذا كان كذلك كان التنوين أجود. قال الشاعر :
الضاربون عميرا عن بيوتهم ... بالليل يوم عمير ظالم عادي
ولوكان ماضيا لم يجز فيه التنوين ، وحذف التنوين على التحقيق ، فإذا حذفت التنوين لم يبق بين الاسمين حاجز فخفضت الثاني بالإضافة. وحذف التنوين كثير في كلام العرب موجود حسن ؛ قال الله تعالى : { هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} وقال : { إِنَّا مُرْسِلُو الْنَّاقَةِ } قال سيبويه : ومثل ذلك { غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ } وأنشد سيبويه :
هل أنت باعث دينار لحاجتنا ... أوعبد رب أخا عون بن مخراق
وقال النابغة :
احكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت ... إلى حمام شراع وارد الثمد
معناه وارد الثمد فحذف التنوين ؛ مثل { كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ }
قوله تعالى : { قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ } أي على مكانتي أي على جهتي التي تمكنت عندي { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } . وقرأ أبو بكر بالجمع { مَكَانَتِكُمْ } . وقد مضى في {الأنعام} .
{ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ } أي يهينه ويذله أي في الدنيا وذلك بالجوع والسيف. { وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ } أي في الآخرة. { إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ } تقدم.
الآية : [42] { اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ }
فيه أربع مسائل :
الأولى- قوله تعالى : { اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا } أي يقبضها عند فناء آجالها { وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا } اختلف فيه. فقيل : يقبضها عن التصرف مع بقاء أرواحها في أجسادها { فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى } وهي النائمة فيطلقها بالتصرف إلى أجل موتها ؛ قال ابن عيسى. وقال الفراء : المعنى ويقبض التي لم تمت في منامها عند انقضاء أجلها. قال : وقد يكون توفيها نومها ؛ فيكون التقدير على هذا والتي لم تمت وفاتها نومها. وقال ابن عباس وغيره من المفسرين : إن أرواح الأحياء والأموات تلتقي في المنام فتتعارف ما شاء الله منها ، فإذا أراد جميعها الرجوع إلى الأجساد أمسك الله أرواح الأموات عنده ، وأرسل أرواح الأحياء إلى أجسادها. وقال سعيد بن جبير : إن الله يقبض أرواح الأموات إذا ماتوا ، وأرواح الأحياء إذا ناموا ، فتتعارف ما شاء الله أن تتعارف { فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى } أي يعيدها. قال علي رضي الله عنه : فما رأته نفس النائم وهي في السماء قبل إرسالها إلى جسدها فهي الرؤيا الصادقة ، وما رأته بعد إرسالها وقبل استقرارها في جسدها تلقيها الشياطين ، وتخيل إليها الأباطيل فهي الرؤيا الكاذبة.
وقال ابن زيد : النوم وفاة والموت وفاة. وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "كما تنامون فكذلك تموتون وكما توقظون فكذلك تبعثون" . وقال عمر : النوم أخو الموت. وروي مرفوعا من حديث جابر بن عبدالله قيل : يا رسول الله أينام أهل الجنة ؟ قال : "لا النوم أخو الموت والجنة لا موت فيها" خرجه الدارقطني. وقال ابن عباس : "في ابن آدم نفس وروح بينهما مثل شعاع الشمس ، فالنفس التي بها العقل والتمييز ، والروح التي بها النفس والتحريك ، فإذا نام العبد قبض الله نفسه ولم يقبض روحه" . وهذا قول ابن الأنباري والزجاج. قال القشيري أبو نصر : وفي هذا بعد إذ المفهوم من الآية أن النفس المقبوضة في الحال شيء واحد ؛ ولهذا قال : { فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً } فإذاً يقبض الله الروح في حالين في حالة النوم وحالة الموت ، فما قبضه في حال النوم فمعناه أنه يغمره بما يحبسه عن التصرف فكأنه شيء مقبوض ، وما قبضه في حال الموت فهو يمسكه ولا يرسله إلى يوم القيامة. وقوله : { وَيُرْسِلُ الأُخْرَى } أي يزيل الحابس عنه فيعود كما كان. فتوفي الأنفس في حال النوم بإزالة الحس وخلق الغفلة والآفة في محل الإدراك. وتوفيها في حالة الموت بخلق الموت وإزالة الحس بالكلية. { فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ } بألا يخلق فيها الإدراك كيف وقد خلق فيها الموت ؟ { وَيُرْسِلُ الأُخْرَى } بأن يعيد إليها الإحساس.
الثانية- وقد اختلف الناس من هذه الآية في النفس والروح ؛ هل هما شيء واحد أو شيئان على ما ذكرنا. والأظهر أنهما شيء واحد ، وهو الذي تدل عليه الآثار الصحاح على ما نذكره في هذا الباب. من ذلك حديث أم سلمة قالت : دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي سلمة وقد شق بصره فأغمضه ، ثم قال : "إن الروح إذا قبض تبعه البصر" وحديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ألم تروا الإنسان إذا مات شخص بصره" قال : "فذلك حين يتبع بصره نفسه" خرجهما مسلم. وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
"تحضر الملائكة فإذا كان الرجل صالحا قالوا اخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب اخرجي حميدة وأبشري بروح وريحان ورب راض غير غضبان فلا يزال يقال لها ذلك حتى تخرج ثم يعرج بها إلى السماء..." وذكر الحديث وإسناده صحيح خرجه ابن ماجة ؛ وقد ذكرناه في التذكرة. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : "إذا خرجت روح المؤمن تلقاها ملكان يصعدان بها..." . وذكر الحديث. وقال بلال في حديث الوادي : أخذ بنفسي يا رسول الله الذي أخذ بنفسك. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مقابلا له في حديث زيد بن أسلم في حديث الوادي : "يا أيها الناس إن الله قبض أرواحنا ولوشاء ردها إلينا في حين غير هذا" .
الثالثة- والصحيح فيه أنه جسم لطيف مشابك للأجسام المحسوسة ، يجذب ويخرج وفي أكفانه يلف ويدرج ، وبه إلى السماء يعرج ، لا يموت ولا يفنى ، وهو مما له أول وليس له آخر ، وهو بعينين ويدين ، وأنه ذو ريح طيبة وخبيثة ؛ كما في حديث أبي هريرة. وهذه صفة الأجسام لا صفة الأعراض ؛ وقد ذكرنا الأخبار بهذا كله في كتاب التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة. وقال تعالى : { فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ } يعني النفس إلى خروجها من الجسد ؛ وهذه صفة الجسم. والله أعلم.
خرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إذا أوى أحدكم إلى فراشه فليأخذ داخلة إزاره فلينفض بها فراشه وليُسم الله فإنه لا يعلم ما خلفه بعد على فراشه فإذا أراد أن يضطجع فليضطجع على شقه الأيمن وليقل سبحانك ربي وضعت جنبي وبك أرفعه إن أمسكت نفسي فاغفر لها" . وقال البخاري وابن ماجة والترمذي : "فارحمها" بدل : "فاغفر لها" : "وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين" زاد الترمذي : "وإذا استيقظ فليقل الحمد لله الذي عافاني في جسدي ورد علي روحي وأذن لي بذكره" . وخرج البخاري عن حذيفة قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أخذ مضجعه من الليل وضع يده تحت خده ؛ ثم يقول : "اللهم باسمك أموت وأحيا" وإذا استيقظ قال : "الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور" .
قوله تعالى : { فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ } هذه قراءة العامة على أنه مسمى الفاعل { الْمَوْتَ } نصبا ؛ أي قضى الله عليها وهو اختيار أبي حاتم وأبي عبيد ؛ لقوله في أول الآية : { اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ } فهو يقضي عليها. وقرأ الأعمش ويحيى بن وثاب وحمزه والكسائي { الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ } على ما لم يسم فاعله. النحاس ، والمعنى واحد غير أن القراءة الأولى أبين وأشبه بنسق الكلام ؛ لأنهم قد أجمعوا على {ويُرسِلُ} ولم يقرؤوا {ويُرسَلُ} . وفي الآية تنبيه على عظيم قدرته وانفراده بالألوهية ، وأنه يفعل ما يشاء ، ويحيي ويميت ، لا يقدر على ذلك سواه. { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ } يعني في قبض الله نفس الميت والنائم ، وإرساله نفس النائم وحبسه نفس الميت { لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } وقال الأصمعي سمعت معتمرا يقول : روح الإنسان مثل كبة الغزل ، فترسل الروح ، فيمضى ثم تمضى ثم تطوى فتجيء فتدخل ؛ فمعنى الآية أنه يرسل من الروح شيء في حال النوم ومعظمها في البدن متصل بما يخرج منها اتصالا خفيا ، فإذا استيقظ المرء جذب معظم روحه ما انبسط منها فعاد. وقيل غير هذا ؛ وفي التنزيل : { وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي } أي لا يعلم حقيقته إلا الله. وقد تقدم في {سبحان} .
الآية : [43] { أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ }
الآية : [44] { قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }
الآية : [45] { وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ }
قوله تعالى : { أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ } أي بل اتخذوا يعني الأصنام وفي الكلام ما يتضمن لم ؛ أي { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } لم يتفكروا ولكنهم اتخذوا آلهتهم شفعاء. { قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً } أي قل لهم يا محمد أتتخذونهم شفعاء وإن كانوا
لا يملكون شيئا من الشفاعة { وَلا يَعْقِلُونَ } لأنها جمادات. وهذا استفهام إنكار. { قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً } نص في أن الشفاعة لله وحده كما قال : { مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } فلا شافع إلا من شفاعته { وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى } . { جَمِيعاً } نصب على الحال. فإن قيل : { جَمِيعاً } إنما يكون للاثنين فصاعدا والشفاعة واحدة. فالجواب أن الشفاعة مصدر والمصدر يؤدي عن الاثنين والجميع : { لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } .
قوله تعالى : { وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ } نصب على المصدر عند الخليل وسيبويه ، وعلى الحال عند يونس. { اشْمَأَزَّتْ } قال المبرد : انقبضت. وهو قول ابن عباس ومجاهد. وقال قتادة : نفرت واستكبرت وكفرت وتعصت. وقال المؤرج أنكرت. وأصل الاشمئزاز النفور والازورار. قال عمرو بن كلثوم :
إذا عض الثقاف بها اشمأزت ... وولتهم عشوزنة زبونا
وقال أبو زيد : اشمأز الرجل ذعر من الفزع وهو المذعور. وكان المشركون إذا قيل لهم "لا إله إلا الله" نفروا وكفروا. { وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ } يعني الأوثان حين ألقى الشيطان في أمنية النبي صلى الله عليه وسلم عند قراءته سورة {النجم} تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهم ترتجى. قاله جماعة المفسرين. { إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } أي يظهر في وجوههم البشر والسرور.
الآية : [46] { قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ }
الآية : [47] { وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ }
الآية : [48] { وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ }
قوله تعالى : { قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } نصب لأنه نداء مضاف وكذا { عَالِمَ الْغَيْبِ } ولا يجوز عند سيبويه أن يكون نعتا. { أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } وفي صحيح مسلم عن أبي سلمة بن عبدالرحمن بن عوف قال : سألت عائشة رضي الله عنها بأي شيء كان النبي صلى الله عليه وسلم يستفتح صلاته إذا قام من الليل ؟ قالت : كان إذا قام من الليل افتتح صلاته : "اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل" فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون "اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم" ولما بلغ الربيع بن خيثم قتل الحسين بن علي رضي الله عنهم قرأ : { قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } . وقال سعيد بن جبير : إني لأعرف آية ما قرأها أحد قط فسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه ، قوله تعالى : { قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } .
قوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا } أي كذبوا وأشركوا { مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ } أي من سوء عذاب ذلك اليوم. وقد مضى هذا في سورة {آل عمران} و {الرعد} { وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ } من أجل ما روي فيه ما رواه منصور عن مجاهد قال : عملوا أعمالا توهموا أنها حسنات فإذا هي سيئات. وقاله السدي. وقيل : عملوا أعمالا توهموا أنهم يتوبون منها قبل الموت فأدركهم الموت قبل أن يتوبوا ، وقد كانوا ظنوا أنهم ينجون بالتوبة. ويجوز أن يكونوا توهموا أنه يغفر لهم من غير توبة فـ { وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ } من دخول النار. وقال سفيان الثوري في هذه الآية : ويل لأهل الرياء ويل لأهل الرياء هذه آيتهم وقصتهم. وقال عكرمة بن عمار : جزع محمد بن المنكدر عند موته جزعا شديدا ، فقيل له : ما هذا الجزع ؟ قال :
أخاف آية من كتاب الله { وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ } فأنا أخشى أن يبدو لي ما لم أكن أحتسب. { وَبَدَا لَهُمْ } أي ظهر لهم { سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا } أي عقاب ما كسبوا من الكفر والمعاصي. { وَحَاقَ بِهِمْ } أي أحاط بهم ونزل { مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } .
الآية : [49] { فَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ }
الآية : [50] { قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ }
الآية : [51] { فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ }
الآية : [52] { أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }
قوله تعالى : { فَإِذَا مَسَّ الْأِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا } قيل : إنها نزلت في حذيفة بن المغيرة. { ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ } قال قتادة : { عَلَى عِلْمٍ } عندي بوجوه المكاسب ، وعنه أيضا { عَلَى عِلْمٍ } على خير عندي. وقيل : { عَلَى عِلْمٍ } أي على علم من الله بفضلي. وقال الحسن : { عَلَى عِلْمٍ } أي بعلم علمني الله إياه. وقيل : المعنى أنه قال قد علمت أني إذا أوتيت هذا في الدنيا أن لي عند الله منزلة ؛ فقال الله : { بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ } أي بل النعم التي أوتيتها فتنة تختبر بها. قال الفراء : أنث { هِيَ } لتأنيث الفتنة ، ولوكان بل هو فتنة لجاز. النحاس : التقدير بل أعطيته فتنة. { وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ } أي لا يعلمون أن إعطاءهم المال اختبار.
قوله تعالى : { قَدْ قَالَهَا } أنث على تأنيث الكلمة. { الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ } يعني الكفار قبلهم كقارون وغيره حيث قال : { إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي } . { فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } { مَا } للجحد أي لم تغن عنهم أموالهم ولا أولادهم من عذاب الله شيئا. وقيل :
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|