
10-07-2025, 07:12 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,240
الدولة :
|
|
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى

تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (15)
سُورَةُ غافر
من صــ 327 الى صــ 336
الحلقة (624)
وأن المعنى : وحدوني واعبدوني أتقبل عبادتكم وأغفر لكم. وقيل : هو الذكر والدعاء والسؤال. قال أنس : قال النبي صلى الله عليه وسلم : "ليسأل أحدكم ربه حاجته كلها حتى يسأله شسع نعله إذا انقطع" ويقال الدعاء : هو ترك الذنوب. وحكى قتادة أن كعب الأحبار قال : أعطيت هذه الأمة ثلاثا لم تعطهن أمة قبلهم إلا نبي : كان إذا أرسل نبي قيل له أنت شاهد على أمتك ، وقال تعالى لهذه الأمة : { لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ } وكان يقال للنبي : ليس عليك في الدين من حرج ، وقال لهذه الأمة : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } وكان يقال للنبي ادعني استجب لك ، وقال لهذه الأمة : { ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } .
قلت : مثل هذا لا يقال من جهة الرأي. وقد جاء مرفوعا ؛ رواه ليث عن شهر بن حوشب عن عبادة بن الصامت ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "أعطيت أمتي ثلاثا لم تعط إلا للأنبياء كان الله تعالى إذا بعث النبي قال ادعني استجب لك وقال لهذه الأمة : { ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } وكان الله إذا بعث النبي قال : ما جعل عليك في الدين من حرج وقال لهذه الأمة : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ } وكان الله إذا بعث النبي جعله شهيدا على قومه وجعل هذه الأمة شهداء على الناس" ذكره الترمذي الحكيم في نوادر الأصول. وكان خالد الربعي يقول : عجيب لهذه الأمة قيل لها : { ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } أمرهم بالدعاء ووعدهم الاستجابة وليس بينهما شرط. قال له قائل : مثل ماذا ؟ قال : مثل قوله تعالى : { وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } فها هنا شرط ، وقوله : { وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ } ، فليس فيه شرط العمل ؛ ومثل قوله : { فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } فها هنا شرط ، وقوله تعالى : { ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } ليس فيه شرط. وكانت الأمة تفزع إلى أنبيائها في حوائجها حتى تسأل الأنبياء لهم ذلك. وقد قيل : إن هذا من باب المطلق والمقيد على ما تقدم في {البقرة} بيانه. أي { أَسْتَجِبْ لَكُمْ } إن شئت ؛ كقوله : { فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ } . وقد تكون الاستجابة في غير عين المطلوب على حديث أبي سعيد الخدري على ما تقدم
في {البقرة} بيانه فتأمله هناك. وقرأ ابن كثير وابن محيصن ورويس عن يعقوب وعياش عن أبي عمرو وأبو بكر والمفضل عن عاصم { سَيَدْخُلُونَ } بضم الياء وفتح الخاء على ما لم يسم فاعله. الباقون { يَدْخُلُونَ } بفتح الياء وضم الخاء. ومعنى { دَاخِرِينَ } صاغرين أذلاء وقد تقدم.
قوله تعالى : { اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ } { جَعَلَ } هنا بمعنى خلق ؛ والعرب تفرق بين جعل إذا كانت بمعنى خلق وبين جعل إذ لم تكن بمعنى خلق ؛ فإذا كانت بمعنى خلق فلا تعديها إلا إلى مفعول واحد ، وإذا لم تكن بمعنى خلق عدتها إلى مفعولين ؛ نحو قوله : { إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً } وقد مضى هذا المعنى في موضع. { وَالنَّهَارَ مُبْصِراً } أي مضيئا لتبصروا فيه حوائجكم وتتصرفوا في طلب معايشكم. { إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ } فضله وإنعامه عليهم.
قوله تعالى : { ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ } بين الدلالة على وحدانيته وقدرته. { لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ } أي كيف تنقلبون وتنصرفون عن الإيمان بعد أن تبينت لكم دلائله كذلك ؛ أي كما صرفتم عن الحق مع قيام الدليل عليه فـ { كَذَلِكَ يُؤْفَكُ } يصرف عن الحق { الَّذِينَ كَانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ } .
قوله تعالى : { اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ قَرَاراً } زاد في تأكيد التعريف والدليل ؛ أي جعل لكم الأرض مستقرا لكم في حياتكم وبعد الموت. { وَالسَّمَاءَ بِنَاءً } تقدم. { وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ } أي خلقكم في أحسن صورة. وقرأ أبو رزين والأشهب العقيلي { وَصَوَّرَكُمْ } بكسر الصاد ؛ قال الجوهري : والصور بكسر الصاد لغة في الصور جمع صورة ، وينشد هذا البيت على هذه اللغة يصف الجواري قائلا :
أشبهن من بقر الخلصاء أعينها ... وهن أحسن من صيرانها صورا
والصيران جمع صوار وهو القطيع من البقر والصوار أيضا وعاء المسك وقد جمعهما الشاعر :
إذا لاح الصوار ذكرت ليلى ... وأذكرها إذا نفخ الصوار
والصيار لغة فيه. { وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ } وقد مضى. { هُوَ الْحَيُّ } أي الباقي الذي لا يموت { لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ } أي مخلصين له الطاعة والعبادة. { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } قال الفراء : هو خبر وفيه إضمار أمر أي ادعوه واحمدوه. وقد مضى هدا كله مستوفى في {البقرة} وغيرها. وقال ابن عباس : من قال : { لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ } فليقل { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } .
الآية : [66] { قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ }
الآية : [67] { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمّىً وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ }
الآية : [68] { هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ }
قوله تعالى : { قُلْ إِنِّي نُهِيتُ } أي قل يا محمد : نهاني الله الذي هو الحي القيوم ولا إله غيره { أَنْ أَعْبُدَ } غيره. { لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي } أي دلائل توحيده { وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } أذل وأخضع { لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } وكانوا دعوه إلى دين آبائه ، فأمر أن يقول هذا
قوله تعالى : { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً } أي أطفالا. { ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ } وهي حالة اجتماع القوة وتمام العقل. وقد مضى في {الأنعام} بيانه. { ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً } بضم الشين قراءة نافع وابن محيصن وحفص وهشام ويعقوب وأبو عمرو على الأصل ؛ لأنه جمع فعل ، نحو : قلب وقلوب ورأس ورؤوس. وقرأ الباقون بكسر الشين لمراعاة الياء وكلاهما جمع كثرة ، وفي العدد القليل أشياخ والأصل أشيخ ؛ مثل فلس وأفلس إلا أن الحركة في الياء ثقيلة. وقرئ { شُيُخاً } على التوحيد ؛ كقوله : { طِفْلاً } والمعنى كل واحد منكم ؛ واقتصر على الواحد لأن الغرض بيان الجنس. وفي الصحاح : جمع الشيخ شيوخ وأشياخ وشيخة وشيخان ومشيخة ومشايخ ومشيوخاء ، والمرأة شيخة. قال عبيد :
كأنها شيخة رقوب
وقد شاخ الرجل يشيخ شيخا بالتحريك على أصله وشيخوخة ، وأصل الياء متحركة فسكنت ؛ لأنه ليس في الكلام فعلول. وشيخ تشييخا أي شاخ. وشيخته دعوته شيخا للتبجيل. وتصغير الشيخ شييخ وشييخ أيضا بكسر الشين ولا تقل شويخ النحاس : وإن اضطر شاعر جاز أن يقول أشيخ مثل عين وأعين إلا أنه حسن في عين ؛ لأنها مؤنثة. والشيخ من جاوز أربعين سنة. { وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ } قال مجاهد : أي من قبل أن يكون شيخا ، أومن قبل هذه الأحوال إذا خرج سقطا. { وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمّىً } قال مجاهد : الموت للكل. واللام لام العاقبة. { وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } تعقلون ذلك فتعلموا أن لا إله غيره.
قوله تعالى : { هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ } زاد في التنبيه أي هو الذي يقدر على الإحياء والإماتة. { فَإِذَا قَضَى أَمْراً } أي أراد فعله { فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } نصب { فَيَكُونُ } ابن عامر على جواب الأمر. وقد مضى في {البقرة} القول فيه.
الآية : [69] { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ }
الآية : [70] { الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ }
الآية : [71] { إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ }
الآية : [72] { فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ }
الآية : [73] { ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ }
الآية : [74] { مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ }
الآية : [75] { ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ }
الآية : [76] { ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ }
الآية : [77] { فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ }
الآية : [78] { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ }
قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ } قال ابن زيد : هم المشركون بدليل قوله : { الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا } . وقال أكثر المفسرين : نزلت في القدرية.
فلا أدري فيمن نزلت قال أبو عقيل : لا أحسب المكذبين بالقدر إلا اللذين يجادلون الذين آمنوا . وقال عقبة بن عامر : قال النبي صلى الله عليه وسلم : "نزلت هذه الآية في القدرية" ذكره المهدوي .
قوله تعالى : { إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ } أي عن قريب يعملون بطلان ما هم فيه إذا دخلوا النار وغلت أيديهم إلى أعناقهم . قال التيمي : لو أن غلا من أغلال جهنم وضع على جبل لوهصه حتي يبلغ الماء الأسود . { وَالسَّلاسِلُ } بالرفع قراءة العامة عطفا على الأغلال . قال أبو حاتم { يُسْحَبُونَ } مستأنف على هذه القراءة . وقال غيره . هو في موضع نصب على الحال ، والتقدير { إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ } مسحوبين. وقرأ ابن عباس وأبو الجوزاء وعكرمة وابن مسعود { وَالسَّلاسِلُ } بالنصب { يسحبون} بفتح الياء والتقدير في هذه القراءة ويسحبون السلاسل ، قال ابن عباس : إذا كانوا يجرونها فهو أشد عليهم سز وحكي عن بعضهم {والسلاسل } بالجر ووجهه أنه محمول على المعنى ، لأن لمعنى أعناقهم في الأغلال والسلاسل ، قاله الفراء . وقال الزجاج : ومن قرأ {والسلاسل يسحبون } بالخفض فالمعنى عنده وفي { السلاسل يسحبون } قال ابن الأنباري : والخفض على هذا المعنى غير جائز ، لأنك إذا قلت زيد في الدار لم يحسن أن تضمر {في} فتقول زيد الدار ، ولكن الخفض جائز على معنى إذا أعناقهم في الأغلال في تأويل الخفض ، كما تقول : خاصم صاحبه فقد خاصمه ، أنشد الفراء :
قد سالم الحيات منه القدما ... الأفعوان والشجاع الشجعما
فنصب الأفعوان على الاتباع للحيات إذا سالمت القدم فقد سالمتها القدم . فمن نصب السلاسل أو خفضها لم يقف عليها . و { الْحَمِيمِ } المتناهي في الحر . وقيل : الصديد المغلي . ثُمَّ فِي النَّارِ
يُسْجَرُونَ أي يطرحون فيها فيكونون وقودا لها ؛ قال مجاهد. يقال : سجرت التنور أي أوقدته ، وسجرته ملأته ؛ ومنه { وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ } أي المملوء. فالمعنى على هذا تملأ بهم النار وقال الشاعر يصف وعلا :
إذا شاء طالع مسجورة ... ترى حولها النبع والسمسما
أي عينا مملوءة. { ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ ، مِنْ دُونِ اللَّهِ } وهذا تقريع وتوبيخ. { قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا } أي هلكوا وذهبوا عنا وتركونا في العذاب ؛ من ضل الماء في اللبن أي خفي. وقيل : أي صاروا بحيث لا نجدهم. { بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً } أي شيئا لا يبصر ولا يسمع ولا يضر ولا ينفع. وليس هذا إنكارا لعبادة الأصنام ، بل هو اعتراف بأن عبادتهم الأصنام كانت باطلة ؛ قال الله تعالى : { كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ } أي كما فعل بهؤلاء من الإضلال يفعل بكل كافر.
قوله تعالى : { ذَلِكُمْ } أي ذلكم العذاب { بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ } بالمعاصي يقال لهم ذلك توبيخا. أي إنما نالكم هذا بما كنتم تظهرون في الدنيا من السرور بالمعصية وكثرة المال والأتباع والصحة. وقيل إن فرحهم بها عندهم أنهم قالوا للرسل : نحن نعلم أنا لا نبعث ولا نعذب. وكذا قال مجاهد في قوله جل وعز : { فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ } . { وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ } قال مجاهد وغيره : أي تبطرون وتأشرون. وقد مضى في {سبحان} بيانه. وقال الضحاك : الفرح السرور ، والمرح العدوان. وروى خالد عن ثور عن معاذ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الله يبغض البذخين الفرحين ويحب كل قلب حزين ويبغض أهل بيت لحمين ويبغض كل حبر سمين" فأما أهل بيت لحمين : فالذين يأكلون لحوم الناس بالغيبة. وأما الحبر السمين : فالمتحبر بعلمه ولا يخبر بعلمه الناس ؛ يعني المستكثر من علمه ولا ينتفع به الناس. ذكره الماوردي. وقد قيل في
اللحمين : أنهم الذين يكثرون أكل اللحم ؛ ومنه قول عمر : اتقوا هذه المجازر فإن لها ضراوة كضراوة الخمر ؛ ذكره المهدوي. والأول قول سفيان الثوري. { ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا } أي يقال لهم ذلك اليوم ، وقد قال الله تعالى : { لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ } { فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ } تقدم جميعه.
قوله تعالى : { فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ } هذا تسلية للنبي عليه السلام ، أي إنا لننتقم لك منهم إما في حياتك أو في الآخرة. { فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ } في موضع جزم بالشرط وما زائدة للتوكيد وكذا النون وزال الجزم وبني الفعل على الفتح. { أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ } عطف عليه { فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ } الجواب.
قوله تعالى : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ } عزاه أيضا بما لقيت الرسل من قبل. { مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ } أي أنبأناك بأخبارهم وما لقوا من قومهم. { وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ } أي من قبل نفسه { إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ } أي إذا جاء الوقت المسمى لعذابهم أهلكهم الله ، وإنما التأخير لإسلام من علم الله إسلامه منهم ، ولمن في أصلابهم من المؤمنين. وقيل : أشار بهذا إلى القتل ببدر. { قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ} بالحق وخسر هنالك المبطلون "أي الذين يتبعون الباطل والشرك."
الآية : [79] { اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ }
الآية : [80] { وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ }
الآية : [81] { وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ }
قوله تعالى : { اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَنْعَامَ } قال أبو إسحاق الزجاج : الأنعام ها هنا الإبل. { لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } فاحتج من منع أكل الخيل وأباح أكل الجمال بأن
الله عز وجل قال في الأنعام : { وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } وقال في الخيل : { وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا } ولم يذكر إباحة أكلها. وقد مضى هذا في {النحل} مستوفى.
قوله تعالى : { وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ } في الوبر والصوف والشعر واللبن والزبد والسمن والجبن وغير ذلك. { وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ } أي تحمل الأثقال والأسفار. وقد مضى في {النحل} بيان هذا كله فلا معنى لإعادته. ثم قال : { وَعَلَيْهَا } يعني الأنعام في البر { وَعَلَى الْفُلْكِ } { في البحر تُحْمَلُونَ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ } أي آياته الدالة على وحدانيته وقدرته فيما ذكر. { فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ } نصب {أيا} بـ { تُنْكِرُونَ } ، لأن الاستفهام له صدر الكلام فلا يعمل فيه ما قبله ، ولو كان مع الفعل هاء لكان الاختيار في {أيّ} الرفع ، ولو كان الاستفهام بألف أو هل وكان بعدهما اسم بعده فعل معه هاء لكان الاختيار النصب ، أي إذا كنتم لا تنكرون أن هذه الأشياء من الله فلم تنكرون قدرته على البعث والنشر.
الآية : [82] { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ }
الآية : [83] { فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ }
الآية : [84] { فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ }
الآية : [85] { فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ }
قوله تعالى : { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ } حتى يشاهدوا آثار الأمم السالفة { كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ } عدد { مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } من الأبنية والأموال وما أدالوا به من الأولاد والأتباع ؛ يقال : دلوت بفلان ، إليك أي استشفعت
به إليك. وعلى هذا {ما} للجحد أي فلم يغن عنهم ذلك شيئا. وقيل : {ما} للاستفهام أي أي شيء أغنى عنهم كسبهم حين هلكوا ولم ينصرف { أَكْثَرَ } ؛ لأنه على وزن أفعل. وزعم الكوفيون أن كل ما لا ينصرف فإنه يجوز أن ينصرف إلا أفعل من كذا فإنه لا يجوز صرفه بوجه في شعر ولا غيره إذا كانت معه من. قال أبو العباس : ولو كانت من المانعة من صرفه لوجب ألا يقال : مررت بخير منك وشر منك ومن عمرو.
قوله تعالى : { فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ } أي بالآيات الواضحات. { فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ } في معناه ثلاثة أقوال. قال مجاهد : إن الكفار الذين فرحوا بما عندهم من العلم قالوا : نحن أعلم منهم لن نعذب ولن نبعث. وقيل : فرح الكفار بما عندهم من علم الدنيا نحو { يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } وقيل : الذين فرحوا الرسل لما كذبهم قومهم أعلمهم الله عز وجل أنه مهلك الكافرين ومنجيهم والمؤمنين فـ { فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ } بنجاة المؤمنين { وَحَاقَ بِهِمْ } أي بالكفار { مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } أي عقاب استهزائهم بما جاء به الرسل صلوات الله عليهم.
قوله تعالى : { فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا } أي عاينوا العذاب. { قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ } أي آمنا بالله وكفرنا بالأوثان التي أشركناهم في العبادة { فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا } فلم ينفعهم إيمانهم بالله عند معاينة العذاب وحين رأوا البأس. { سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ } { سُنَّتَ اللَّهِ } مصدر ؛ لأن العرب تقول : سن يسن سنا وسنة ؛ أي سن الله عز وجل في الكفار أنه لا ينفعهم الإيمان إذا رأوا العذاب. وقد مضى هذا مبينا في {النساء} و {يونس} وأن التوبة لا تقبل بعد رؤية العذاب وحصول العلم الضروري. وقيل : أي احذروا يا أهل مكة سنة الله في إهلاك الكفرة فـ { سُنَّتَ اللَّهِ } منصوب على التحذير والإغراء. { وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ } قال الزجاج : وقد كانوا خاسرين من قبل ذلك إلا أنه بين لنا الخسران لما رأوا العذاب. وقيل : فيه تقديم وتأخير ؛ أي {لم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا} { وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ } كسنتنا في جميع الكافرين فـ "سنةَ" نصب بنزع الخافض أي كسنة الله في الأمم كلها. والله أعلم.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|