عرض مشاركة واحدة
  #626  
قديم 10-07-2025, 07:18 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,259
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (15)
سُورَةُ فصلت
من صــ 347 الى صــ 356
الحلقة (626)






قوله تعالى : { فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ } استكبروا على عباد الله هود ومن آمن معه { وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً } اغتروا بأجسامهم حين تهددهم بالعذاب ، وقالوا : نحن نقدر على دفع العذاب عن أنفسنا بفضل قوتنا. وذلك أنهم كانوا ذوي أجسام طوال وخلق عظيم. وقد مضى في {الأعراف} عن ابن عباس : أن أطولهم كان مائة ذراع وأقصرهم كان ستين ذراعا. فقال الله تعالى ردا عليهم : { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً } وقدرة ، وإنما يقدر العبد بإقدار الله ؛ فالله أقدر إذا. { وَكَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ } أي بمعجزاتنا يكفرون.
قوله تعالى : { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً } هذا تفسير الصاعقة التي أرسلها عليهم ، أي ريحا باردة شديدة البرد وشديدة الصوت والهبوب. ويقال : أصلها صرر من الصر وهو البرد فأبدلوا مكان الراء الوسطى فاء الفعل ؛ كقولهم كبكبوا أصله كببوا ، وتجفجف الثوب أصله تجفف. أبو عبيدة : معنى صرصر : شديدة عاصفة. عكرمة وسعيد بن جبير : شديد البرد. وأنشد قطرب قول الحطيئة :
المطعمون إذا هبت بصرصرة ... والحاملون إذا استودوا على الناس
استودوا : إذا سئلوا الدية. مجاهد : الشديدة السموم. وروى معمر عن قتادة قال : باردة. وقاله عطاء ؛ لأن { صَرْصَراً } مأخوذ من صر والصر في كلام العرب البرد كما قال :
لها عذر كقرون النسا ... ء ركبن في يوم ريح وصر
وقال السدي : الشديدة الصوت. ومنه صر القلم والباب يصر صريرا أي صوت. ويقال : درهم صري وصري للذي له صوت إذا نقد. قال ابن السكيت : صرصر يجوز أن يكون من الصر وهو البرد ، ويجوز أن يكون من صرير الباب ، ومن الصرة وهي الصيحة. ومنه { فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ } وصرصر اسم نهر بالعراق. { فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ } أي مشؤومات ؛
قال مجاهد وقتادة. كن آخر شوال من يوم الأربعاء إلى يوم الأربعاء وذلك { سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً } قال ابن عباس : ما عذب قوم إلا في يوم الأربعاء. وقيل : { نَحِسَاتٍ } باردات ؛ حكاه النقاش. وقيل : متتابعات ؛ عن ابن عباس وعطية. الضحاك : شداد. وقيل : ذات غبار ؛ حكاه ابن عيسى. ومنه قول الراجز :
قد اغتدى قبل طلوع الشمس ... للصيد في يوم قليل النحس
قال الضحاك وغيره : أمسك الله عنهم المطر ثلاث سنين ، ودرت الرياح عليهم في غير مطر ، وخرج منهم قوم إلى مكة يستسقون بها للعباد ، وكان الناس في ذلك الزمان إذا نزل بهم بلاء أو جهد طلبوا إلى الله تعالى الفرج منه ، وكانت طلبتهم ذلك من الله تعالى عند بيته الحرام مكة مسلمهم وكافرهم ، فيجتمع بمكة ناس كثير شتي ، مختلفة أديانهم ، وكلهم معظم لمكة ، عارف حرمتها ومكانها من الله تعالى. وقال جابر بن عبدالله والتيمي : إذا أراد الله بقوم خيرا أرسل عليهم المطر وحبس عنهم كثرة الرياح ، وإذا أراد الله بقوم شرا حبس عنهم المطر وسلط عليهم كثرة الرياح. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو { نَحِسَاتٍ } بإسكان الحاء على أنه جمع نحس الذي هو مصدر وصف به. الباقون : { نَحِسَاتٍ } بكسر الحاء أي ذوات نحس. ومما يدل على أن النحس مصدر قوله : { فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ } ولو كان صفة لم يضف اليوم إليه ؛ وبهذا كان يحتج أبو عمرو على قراءته ؛ واختاره أبو حاتم. واختار أبو عبيد القراءة الثانية وقال : لا تصح حجة أبي عمرو ؛ لأنه أضاف اليوم إلى النحس فأسكن ، وإنما كان يكون حجة لو نون اليوم ونعت وأسكن ؛ فقال : { فِي يَوْمِ نَحْسٍ } وهذا لم يقرأ به أحد نعلمه. وقال المهدوي : ولم يسمع في { نَحْسٍ } إلا الإسكان. قال الجوهري : وقرئ في قوله { فِي يَوْمِ نَحْسٍ } على الصفة ، والإضافة أكثر وأجود. وقد نحس الشيء بالكسر فهو نحس أيضا ؛ قال الشاعر :
أبلغ جذاما ولخما أن إخوتهم ... طيا وبهراء قوم نصرهم نحس
ومنه قيل : أيام نحسات. { لِنُذِيقَهُمْ } أي لكي نذيقهم { عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } أي العذاب بالريح العقيم. { وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى} أي أعظم وأشد { وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ } .
الآية : [17] { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ }
الآية : [18] { وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ }
قوله تعالى : { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ } أي بينا لهم الهدى والضلال ؛ عن ابن عباس وغيره. وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وغيرهما { وَأَمَّا ثَمُودُ } بالنصب وقد مضى الكلام فيه في {الأعراف} . { فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى } أي اختاروا الكفر على الإيمان. وقال أبو العالية : اختاروا العمى على البيان. السدي : اختاروا المعصية على الطاعة. { فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ } { الْهُونِ } بالضم الهوان. وهون بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر أخو كنانة وأسد. وأهانه : استخف به. والاسم الهوان والمهانة. وأضيف الصاعقة إلى العذاب ، لأن الصاعقة اسم للمبيد المهلك ، فكأنه قال مهلك العذاب ؛ أي العذاب المهلك. والهون وإن كان مصدرا فمعناه الإهانة والإهانة عذاب ، فجاز أن يجعل أحدهما وصفا للآخر ؛ فكأنه قال : صاعقة الهون. وهو كقولك : عندي علم اليقين ، وعندي العلم اليقين. ويجوز أن يكون الهون اسما مثل الدون ؛ يقال : عذاب هون أي مهين ؛ كما قال : { مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ } وقيل : أي صاعقة العذاب ذي الهون. { بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } من تكذيبهم صالحا وعقرهم الناقة ، على ما تقدم. { وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ } يعني صالحا ومن آمن به ؛ أي ميزناهم عن الكفار ، فلم يحل بهم ما حل بالكفار ، وهكذا يا محمد نفعل بمؤمني قومك وكفارهم.
الآية : [19] { وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ }
الآية : [20] { حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }
الآية : [21] { وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }
قوله تعالى : { وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ } قرأ نافع { نَحْشَرُ } بالنون { أَعْدَاءُ } بالنصب. الباقون { يُحْشَرُ } بياء مضمومة { أَعْدَاءُ } بالرفع ومعناهما بين. وأعداء الله : الذين كذبوا رسله وخالفوا أمره. { فَهُمْ يُوزَعُونَ } يساقون ويدفعون إلى جهنم. قال قتادة والسدي : يحبس أولهم عل آخرهم حتى يجتمعوا ؛ قال أبو الأحوص : فإذا تكاملت العدة بدئ بالأكابر فالأكابر جرما. وقد مضى في {النمل} الكلام في { يُوزَعُونَ } مستوفى.
قوله تعالى : { حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا } { مَا } زائدة { شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } الجلود يعني بها الجلود أعيانها في قول أكثر المفسرين. وقال السدي وعبيدالله بن أبي جعفر والفراء : أراد بالجلود الفروج ؛ وأنشد بعض الأدباء لعامر بن جوية :
المرء يسعى للسلا ... مة والسلامة حسبه
أوسالم من قد تثـ ... ـنى جلده وابيض رأسه
وقال : جلده كناية عن فرجه. {وقالوا} يعني الكفار { لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا } وإنما كنا نجادل عنكم { قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ } لما خاطبت وخوطبت أجريت مجرى من يعقل. { وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } أي ركب الحياة فيكم بعد أن كنتم نطفا ، فمن قدر عليه قدر على أن ينطق الجلود وغيرها من الأعضاء. وقيل : { وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } ابتداء كلام من الله. { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك قال : كنا عند رسول الله فضحك فقال : "هل تدرون مم أضحك" قلنا : الله ورسوله أعلم ، قال : "من مخاطبة العبد ربه يقول يا رب ألم تجزني من الظلم قال : يقول بلى قال فيقول فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهدا مني قال يقول كفى بنفسك اليوم عليك شهيدا وبالكرام الكاتبين شهودا قال فيختم على فيه فيقال لأركانه انطقي فتنطق بأعماله قال ثم يخلي بينه وبين الكلام قال فيقول بعدا لكن وسحقا فعنكن كنت أناضل" وفي حديث أبي هريرة ثم يقال : "الآن نبعث شاهدنا"
عليك ويتفكر في نفسه من ذا الذي يشهد علي فيختم على فيه ويقال لفخذه ولحمه وعظامه انطقي فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله وذلك ليعذر من نفسه وذلك المنافق وذلك الذي سخط الله عليه "خرجه أيضا مسلم."
الآية : [22] { وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ }
الآية : [23] { وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ }
الآية : [24] { فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ }
الآية : [25] {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ }
قوله تعالى : { وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ } يجوز أن يكون هذا من قول الجوارح لهم : ويجوز أن يكون من قول الله عز وجل أو الملائكة. وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود قال : اجتمع عند البيت ثلاثة نفر ؛ قرشيان وثقفي أو ثقفيان وقرشي ؛ قليل فقه قلوبهم ، كثير شحم بطونهم : فقال أحدهم : أترون الله يسمع ما نقول ؟ فقال الآخر : يسمع إن جهرنا ولا يسمع إن أخفينا ؛ وقال الآخر : إن كان يسمع إذا جهرنا فهو يسمع إذا أخفينا ؛ فأنزل الله عز وجل : { وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ } الآية ؛ خرجه الترمذي فقال : اختصم عند البيت ثلاثة نفر. ثم ذكره بلفظه حرفا حرفا وقال : حديث حسن صحيح ؛ حدثنا هناد قال حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن عمارة بن عمير عن عبدالرحمن بن يزيد قال : قال عبدالله : كنت مستترا بأستار الكعبة فجاء ثلاثة
نفر كثير شحم بطونهم قليل فقه قلوبهم ، قرشي وختناه ثقفيان ، أو ثقفي وختناه قرشيان ، فتكلموا بكلام لم أفهمه ؛ فقال أحدهم : أترون أن الله يسمع كلامنا هذا ، فقال الآخر : إنا إذا رفعنا أصواتنا سمعه ، وإذا لم نرفع أصواتنا لم يسمعه ، فقال الآخر : إن سمع منه شيئا سمعه كله فقال عبدالله : فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى : { وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ } إلى قوله : { فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ } قال : هذا حديث حسن صحيح. قال الثعلبي : والثقفي عبد ياليل ، وختناه ربيعة وصفوان بن أمية. ومعنى { تَسْتَتِرُونَ } تستخفون في قول أكثر العلماء ؛ أي ما كنتم تستخفون من أنفسكم حذرا من شهادة الجوارح عليكم ؛ لأن الإنسان لا يمكنه أن يخفي من نفسه عمله ، فيكون الاستخفاء بمعنى ترك المعصية. وقيل : الاستتار بمعنى الاتقاء ؛ أي ما كنتم تتقون في الدنيا أن تشهد عليكم جوارحكم في الآخرة فتتركوا المعاصي خوفا من هذه الشهادة. وقال معناه مجاهد. وقال قتادة : { وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ } أي تظنون { أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ } بأن يقول سمعت الحق وما وعيت وسمعت ما لا يجوز من المعاصي { وَلا أَبْصَارُكُمْ } فتقول رأيت آيات الله وما اعتبرت ونظرت فيما لا يجوز { وَلا جُلُودُكُمْ } تقدم. { وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ } من أعمالكم فجادلتم على ذلك حتى شهدت عليكم جوارحكم بأعمالكم. روى بهز بن حكيم عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : { أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ } قال : "إنكم تدعون يوم القيامة مفدمة أفواهكم بفدام فأول ما يبين عن الإنسان فخذه وكفه" قال عبدالله بن عبدالأعلى الشامي فأحسن :
العمر ينقص والذنوب تزيد ... وتقال عثرات الفتى فيعود
هل يستطيع جحود ذنب واحد ... رجل جوارحه عليه شهود
والمرء يسأل عن سنيه فيشتهي ... تقليلها وعن الممات يحيد
وعن معقل بن يسارعن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "ليس من يوم يأتي على ابن آدم إلا ينادي فيه يا ابن آدم أنا خلق جديد وأنا فيما تعمل غدا عليك شهيد فاعمل في خيرا أشهد لك به غدا فإني لو قد مضيت لم ترني أبدا ويقول الليل مثل ذلك" ذكره أبو نعيم الحافظ وقد ذكرناه في كتاب التذكرة في باب شهادة الأرض والليالي والأيام والمال. وقال محمد بن بشير فأحسن :
مضى أمسك الأدنى شهيدا معدلا ... ويومك هذا بالفعال شهيد
فإن تك بالأمس اقترفت إساءة ... فثن بإحسان وأنت حميد
ولا ترج فعل الخير منك إلى غد ... لعل غدا يأتي وأنت فقيد
قوله تعالى : { وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ } أي أهلككم فأوردكم النار. قال قتادة : الظن هنا بمعنى العلم. وقال النبي صلى الله عليه وسلم : "لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله فإن قوما أساؤوا الظن بربهم فأهلكهم" فذلك قوله : { وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ } . وقال الحسن البصري : إن قوما ألهتهم الأماني حتى خرجوا من الدنيا وما لهم حسنة ، ويقول أحدهم : إني أحسن الظن بربي وكذب ، ولو أحسن الظن لأحسن العمل ، وتلا قول الله تعالى : { وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ } . وقال قتادة : من استطاع منكم أن يموت وهو حسن الظن بربه فليفعل ، فإن الظن اثنان ظن ينجي وظن يردي. وقال عمر بن الخطاب في هذه الآية : هؤلاء قوم كانوا يدمنون المعاصى ولا يتوبون منها ويتكلمون على المغفرة ، حتى خرجوا من الدنيا مفاليس ، ثم قرأ : { وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ } .
قوله تعالى : { فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ } أي فإن يصبروا في الدنيا على أعمال أهل النار فالنار مثوى لهم. نظيره : { فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ } على ما تقدم. { وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ } في الدنيا وهم مقيمون على كفرهم { فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ } . وقيل : المعنى { فَإِنْ يَصْبِرُوا }
في النار أو يجزعوا { فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ } أي لا محيص لهم عنها ، ودل على الجزع قوله : { وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا } لأن المستعتب جزع والمعتب المقبول عتابه ؛ قال النابغة :
فإن أك مظلوما فعبد ظلمته ... وإن تك ذا عتبى فمثلك يعتب
أي مثلك من قبل الصلح والمراجعة إذا سئل. قال الخليل : العتاب مخاطبة الإدلال ومذاكرة الموجدة. تقول : عاتبته معاتبة ، وبينهم أعتوبة يتعاتبون بها. يقال : إذا تعاتبوا أصلح ما بينهم العتاب. وأعتبني فلان : إذا عاد إلى مسرتي راجعا عن الإساءة ، والاسم منه العتبى ، وهو رجوع المعتوب عليه إلى ما يرضي العاتب. واستعتب وأعتب بمعنى ، واستعتب أيضا طلب أن يعتب ؛ تقول : استعتبته فأعتبني أي استرضيته فأرضاني. فمعنى { وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا } أي طلبوا الرضا لم ينفعهم ذلك بل لا بد لهم من النار. وفي التفاسير : وإن يستقيلوا ربهم فما هم من المقالين. وقرأ عبيد بن عمير وأبو العالية { وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا } بفتح التاء الثانية وضم الياء على الفعل المجهول { فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ } بكسر التاء أي إن أقالهم الله وردهم إلى الدنيا لم يعملوا بطاعته لما سبق لهم في علم الله من الشقاء ، قال الله تعالى : { وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ } ذكره الهروي. وقال ثعلب : يقال أعتب إذا غضب وأعتب إذا رضي.
قوله تعالى : { وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ } قال النقاش : أي هيأنا لهم شياطين. وقيل : سلطنا عليهم قرناء يزينون عندهم المعاصي ، وهؤلاء القرناء من الجن والشياطين ومن الإنس أيضا ؛ أي سببنا لهم قرناء ؛ يقال : قيض الله فلانا لفلان أي جاءه به وأتاحه له ، ومنه قوله تعالى : { وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ } . القشيري : ويقال قيض الله لي رزقا أي أتاحه كما كنت أطلبه ، والتقييض الإبدال ومنه المقايضة ، قايضت الرجل مقايضة أي عاوضته بمتاع ، وهما قيضان كما تقول بيعان. { فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } من أمر الدنيا فحسنوه لهم حتى آثروه على الآخرة { وَمَا خَلْفَهُمْ } حسنوا لهم ما بعد مماتهم ودعوهم إلى التكذيب بأمور الآخرة ؛ عن مجاهد. وقيل : المعنى { وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ } في النار { فَزَيَّنُوا لَهُمْ } أعمالهم في الدنيا ؛ والمعنى قدرنا عليهم أن ذلك سيكون وحكمنا به عليهم. وقيل : المعنى أحوجناهم إلى الأقران ؛ أي أحوجنا
الفقير إلى الغني لينال منه ، والغني إلى الفقير ليستعين به فزين بعضهم لبعض المعاصي. وليس قوله : { وَمَا خَلْفَهُمْ } عطفا على { مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } بل المعنى وأنسوهم ما خلفهم ففيه هذا الإضمار. قال ابن عباس : { مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } تكذيبهم بأمور الآخرة { وَمَا خَلْفَهُمْ } التسويف والترغيب في الدنيا. الزجاج : { مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } ما عملوه { وَمَا خَلْفَهُمْ } ما عزموا على أن يعملوه. وقد تقدم قول مجاهد. وقيل : المعنى لهم مثل ما تقدم من المعاصي { وَمَا خَلْفَهُمْ } ما يعمل بعدهم. { وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالأِنْسِ } أي وجب عليهم من العذاب ما وجب على الأمم الذين من قبلهم الذين كفروا ككفرهم. وقيل : { فِي } بمعنى مع ؛ فالمعنى هم داخلون مع الأمم الكافرة قبلهم فيما دخلوا فيه. وقيل : { فِي أُمَمٍ } في جملة أمم ، ومثله قول الشاعر :
إن تك عن أحسن الصنيعة مأ ... فوكا ففي آخرين قد أفكوا
يريد فأنت في جملة آخرين لست في ذلك بأوحد. ومحل { فِي أُمَمٍ } النصب على الحال من الضمير في {عليهم} أي حق عليهم القول كائنين في جملة أمم. { إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ } أعمالهم في الدنيا وأنفسهم وأهليهم يوم القيامة.
الآية : [26] { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ }
الآية : [27] { فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ }
الآية : [28] { ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ }
الآية : [29] { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ }
قوله تعالى : { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ } لما أخبر تعالى عن كفر قوم هود وصالح وغيرهم أخبر عن مشركي قريش وأنهم كذبوا القرآن فقالوا : { لا تَسْمَعُوا } . وقيل : معنى { لا تَسْمَعُوا لِهَذَا } لا تطيعوا ؛ يقال : سمعت لك أي أطعتك. { وَالْغَوْا فِيهِ } قال ابن عباس : قال أبو جهل إذا قرأ محمد فصيحوا في وجهه حتى لا يدري ما يقول. وقيل : إنهم فعلوا ذلك لما أعجزهم القرآن. وقال مجاهد : المعنى { وَالْغَوْا فِيهِ } بالمكاء والتصفيق والتخليط في المنطق حتى يصير لغوا. وقال الضحاك : أكثروا الكلام ليختلط عليه ما يقول. وقال أبو العالية وابن عباس أيضا : قعوا فيه. وعيبوه. { لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } محمدا على قراءته فلا يظهر ولا يستميل القلوب. وقرأ عيسى بن عمر والجحدري وابن أبي إسحاق وأبو حيوة وبكر بن حبيب السهمي { وَالْغَوْا } بضم الغين وهي لغة من لغا يلغو. وقراءة الجماعة من لغي يلغى. قال الهروي : وقوله : { وَالْغَوْا فِيهِ } قيل : عارضوه بكلام لا يفهم. يقال : لغوت ألغو وألغى ، ولغي يلغى ثلاث لغات. وقد مضى معنى اللغو في {البقرة} وهو ما لا يعلم له حقيقة ولا تحصيل.
قوله تعالى : { فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَاباً شَدِيداً } قد تقدم أن الذوق يكون محسوسا ، ومعنى العذاب الشديد : ما يتوالى فلا ينقطع. وقيل : هو العذاب في جميع أجزائهم. { وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ } أي ولنجزينهم في الآخرة جزاء قبح أعمالهم التي عملوها في الدنيا. وأسوأ الأعمال الشرك. { ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّار } أي ذلك العذاب الشديد ، ثم بينه بقوله { النَّارُ } وقرأ ابن عباس {ذلك ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ دَارُ الْخُلْدِ } فترجم بالدار عن النار وهو مجاز الآية. و { ذَلِكَ } ابتداء و { جَزَاءُ } الخبر و { النَّارُ } بدل من { جَزَاءُ } أوخبر مبتدأ مضمر ، والجملة في موضع بيان للجملة الأولى.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 43.71 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 43.08 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.44%)]