عرض مشاركة واحدة
  #636  
قديم 10-07-2025, 07:48 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,137
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (16)
سُورَةُ الزخرف
من صــ 71 الى صــ 80
الحلقة (636)



بدل من الضمير ، و {مسودا} خبر {ظل} . ويجوز أن يكون رفع {وجهه} بالابتداء ويرفع {مُسْوَدّاً} على أنه خبره ، وفي {ظل} اسمها والجملة خبرها. {وَهُوَ كَظِيمٌ} أي حزين ؛ قال قتادة. وقيل مكروب ؛ قال عكرمة وقيل ساكت ؛ قال ابن أبي حاتم ؛ وذلك لفساد مثله وبطلان حجته. ومن أجاز أن تكون الملائكة بنات الله فقد جعل الملائكة شبها لله ؛ لأن الولد من جنس الوالد وشبهه. ومن أسود وجهه بما يضاف إليه مما لا يرضى ، أولى من أن يسود وجهه بإضافة مثل ذلك إلى من هو أجل منه ؛ فكيف إلى الله عز وجل ! وقد مضى في "النحل" في معنى هذه الآية ما فيه كفاية.
الآية : 18 - 19 {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ ، وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلونَ}
قوله تعالى : {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ} أي يربى ويشب. والنشوء : التربية ؛ يقال : نشأت في بني فلان نشأ ونشوءا إذا شببت فيهم. ونشئ وأنشئ بمعنى. وقرأ ابن عباس والضحاك وابن وثاب وحفص وحمزة والكسائي وخلف {يُنَشَّأُ} بضم الياء وفتح النون وتشديد الشين ؛ أي يربى ويكبر في الحلية. واختاره أبو عبيد ، لأن الإسناد أيها أعلى. وقرأ الباقون {يَنْشَأ} بفتح الياء وإسكان النون ، واختاره أبو حاتم ، أي يرسخ وينبت ، وأصله من نشأ أي ارتفع ، قال الهروي. فـ {يُنَشأ} متعد ، و {يَنْشأ} لازم.
قوله تعالى : {فِي الْحِلْيَةِ} أي في الزينة. قال ابن عباس وغيره : هن الجواري زيهن غير زي الرجال. قال مجاهد : رخص للنساء في الذهب والحرير ؛ وقرأ هذه الآية. قال الكيا : فيه دلالة على إباحة الحلي للنساء ، والإجماع منعقد عليه والأخبار فيه لا تحصى.
قلت : روي عن أبي هريرة أنه كان يقول لابنته : يا بنية ، إياك والتحلي بالذهب ! فإني أخاف عليك اللهب.
قوله تعالى : {وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} أي في المجادلة والإدلاء بالحجة. قال قتادة ، ما تكلمت امرأة ولها حجة إلا جعلتها على نفسها. وفي مصحف عبدالله {وهو في الكلام غير مبين} . ومعنى الآية : أيضاف إلى الله من هذا وصفه! أي لا يجوز ذلك. وقيل : المنشأ في الحلية أصنامهم التي صاغوها من ذهب وفضة وحلوها ؛ قال ابن زيد والضحاك. ويكون معنى {وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} على هذا القول : أي ساكت عن الجواب. و {مَنْ} في محل نصب ، أي اتخذوا لله من ينشأ في الحلية. ويجوز أن يكون رفعا على الابتداء والخبر مضمر ؛ قال الفراء. وتقديره : أو من كان على هذه الحالة يستحق العبادة. وإن شئت قلت خفض ردا إلى أول الكلام وهو قوله : {بما ضرب} أو على {ما} في قوله : {مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ} . وكون البدل في هذين الموضعين ضعيف لكون ألف الاستفهام حائلة بين البدل والمبدل منه. {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً} قرأ الكوفيون "عباد" بالجمع. واختاره أبو عبيد ؛ لأن الإسناد فيها أعلى ، ولأن الله تعالى إنما كذبهم في قولهم إنهم بنات الله ، فأخبرهم أنهم عبيد وأنهم ليسوا ببناته. وعن ابن عباس أنه قرأ {عباد الرحمن} ، فقال سعيد بن جبير : إن في مصحفي {عبد الرحمن} فقال : أمحها واكتبها {عباد الرحمن} . وتصديق هذه القراءة قوله تعالى : {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الأنبياء : 26] . وقوله تعالى : {أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ} [الكهف : 102] . وقوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأعراف : 194] وقرأ الباقون {عند الرحمن} بنون ساكنة واختاره أبو حاتم. وتصديق هذه القراءة قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ} وقوله : {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ} [الأنبياء : 19] . والمقصود إيضاح كذبهم وبيان جهلهم
في نسبة الأولاد إلى الله سبحانه ، ثم في تحكمهم بأن الملائكة إناث وهم بنات الله. وذكر العباد مدج لهم ؛ أي كيف عبدوا من هو نهاية العبادة ، ثم كيف حكموا بأنهم إناث من غير دليل. والجعل هنا بمعنى القول والحكم ؛ تقول : جعلت زيدا أعلم الناس ؛ أي حكمت له بذلك. {أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ} أي أحضروا حالة خلقهم حتى حكموا بأنهم إناث. وقيل : إن النبي صلى الله عليه وسلم سألهم وقال : "فما يدريكم أنهم إناث" ؟ فقالوا : سمعنا بذلك من آبائنا ونحن نشهد أنهم لم يكذبوا في أنهم إناث ، فقال الله تعالى : { تُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلونَ} أي يسألون عنها في الآخرة. وقرأ نافع {أو شْهدوا} بهمزة استفهام داخلة على همزة مضمومة مسهلة ، ولا يمد سوى ما روى المسيبي عنه أنه يمد. وروى المفضل عن عاصم مثل ذلك وتحقق الهمزتين. والباقون {أشهدوا} بهمزة واحدة للاستفهام.
وروي عن الزهري {أُشْهِدوا خلقهم} على الخبر ، {سَتُكْتَبُ} قراءة العامة بضم التاء على الفعل المجهول {شَهَادَتُهُمْ} رفعا. وقرأ السلمى وابن السميقع وهبيرة عن حفص {سَنَكْتُبُ} بنون ، {شَهَادَتَهُمْ} نصبا بتسمية الفاعل. وعن أبي رجاء {ستكتب شهاداتهم} بالجمع.
الآية : 20 {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ}
قوله تعالى : {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ} يعني قال المشركون على طريق الاستهزاء والسخرية : لوشاء الرحمن على زعمكم ما عبدنا هذه الملائكة. وهذا منهم كلمة حق أريد بها باطل. وكل شيء بإرادة الله ، وإرادته تجب وكذا علمه فلا يمكن الاحتجاج بها ؛ وخلاف المعلوم والمراد مقدور وإن لم يقع. ولو عبدوا الله بدل الأصنام لعلمنا أن الله أراد منهم ما حصل منهم. وقد مضى هذا المعنى في الأنعام عند قوله : {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} [الأنعام : 148] وفي "يس" : {نُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} [يس : 47] . وقوله : {مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ} مردود إلى
قوله {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً} [الزخرف : 19] أي ما لهم بقولهم : الملائكة بنات الله - من علم قال قتادة ومقاتل والكلبى. وقال مجاهد وابن جريج : يعني الأوثان ؛ أي ما لهم بعبادة الأوثان من علم. {من} صلة. {إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} أي يحدسون ويكذبون ؛ فلا عذر لهم في عبادة غير الله عز وجل. وكان من ، ضمن كلامهم أن الله أمرنا لم بهذا أو أرضى ذلك منا ، ولهذا لم ينهنا ولم يعاجلنا بالعقوبة.
الآية : 21 {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ}
هذا معادل لقوله : {أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ} . والمعنى : أحضروا خلقهم أم آتيناهم كتابا من قبله ؛ أي من قبل القرآن بما ادعوه ؛ فهم به متمسكون يعملون بما فيه.
الآية : 22 {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ ، وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ}
قوله تعالى : {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} أي على طريقة ومذهب ؛ قال عمر بن عبدالعزيز. وكان يقرأ هو ومجاهد وقتادة {على إمة} بكسر الألف. والأمة الطريقة. وقال الجوهري : والإمة (بالكسر) . النعمة. والإمة أيضا لغة في الأمة ، وهي الطريقة والدين ؛ عن أبي عبيدة. قال عدي بن زيد في النعمة :
ثم بعد الفلاح والملك والأ ... مة وارتهم هناك القبور
عن غير الجوهري. وقال قتادة وعطية : {على أمة} على دين ؛ ومنه قول قيس بن الخطيم :
كنا على أمة أبائنا ... ويقتدي الآخر بالأول
قال الجوهري : والأمة الطريقة والدين ، يقال : فلان لا أمة له ؛ أي لا دين له ولا نحلة. قال الشاعر :
وهل يستوي ذو أمة وكفور
وقال مجاهد وقطرب : على دين على ملة. وفي بعض المصاحف {قالوا إنا وجدنا أباءنا على ملة} وهذه الأقوال متقاربة. وحكي عن الفراء على ملة على قبلة. الأخفش : على استقامة ، وأنشد قول النابغة :
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة ... وهل يأثمن ذو أمة وهو طائع
قوله تعالى : {وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} أي نهتدي بهم. وفي الآية الأخرى {مُقْتَدُونَ} أي نقتدي بهم ، والمعنى واحد. قال قتادة : مقتدون متبعون. وفي هذا دليل على إبطال التقليد ؛ لذمه إياهم على تقليد آبائهم وتركهم النظر فيما دعاهم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد مضى القول في هذا في "البقرة" مستوفى. وحكى مقاتل أن هذه الآية نزلت في الوليد بن المغيرة وأبي سفيان وأبي جهل وعتبة وشيبة بني ربيعة من قريش ؛ أي وكما قال هؤلاء فقد قال من قبلهم أيضا. يعزي نبيه صلى الله عليه وسلم ؛ ونظيره : {مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ} [فصلت : 43] . والمترف : المنعم ، والمراد هنا الملوك والجبابرة.
الآية : 24 {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ}
قوله تعالى : {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى} أي قل يا محمد لقومك : أوليس قد جئتكم من عند الله بأهدى ؛ يريد بأرشد. {مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} يعني بكل ما أرسل به الرسل. فالخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ولفظه لفظ الجمع ؛ لأن تكذيبه تكذيب لمن سواه. وقرئ {قل وقال وجئتكم وجئناكم} يعني أتتبعون آباءكم ولو جئتكم بدين أهدى من دين آبائكم ؟ قالوا : إنا ثابتون على دين آبائنا لا ننفك عنه وإن جئتنا بما هو أهدى. وقد مضى في "البقرة" القول في التقليد وذمه فلا معنى لإعادته.
الآية : 25 {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ}
قوله تعالى : {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} بالقحط والقتل والسبي {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} آخر أمر من كذب الرسل. "وقراءة العامة {قل أو لو جئتكم} وقرأ ابن عامر وحفص {قال أو لو} على الخبر عن النذير أنه قال لهم هذه المقالة. وقرأ أبو جعفر {قل أولو جئناكم} بنون وألف ؛ على أن المخاطبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جميع الرسل"
الآية : 26 {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ ، إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ}
قوله تعالى : {وَإِذْ قَالَ} أي ذكرهم إذ قال. {إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} البراء يستعمل للواحد فما فوقه فلا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث ؛ لأنه مصدر وضع موضع النعت ؛ لا يقال : البراءان والبراؤون ، لأن المعنى ذو البراء وذوو البراء. قال الجوهري : وتبرأت من كذا ، وأنا منه براء ، وخلاء منه لا يثنى ولا يجمع لأنه مصدر في الأصل ؛ مثل : سمع سماعا. فإذا قلت : أنا بريء منه وخلي ثنيت وجمعت وأنثت ، وقلت في الجمع : نحن منه براء مثل فقيه وفقهاء ، وبراء أيضا مثل كريم وكرام ، وأبراء مثل شريف وأشراف ، وأبرياء مثل نصيب وأنصباء ، وبريئون. وامرأة بريئة بريئتان وهن بريئات وبرايا. ورجل بريء وبراء مثل عجيب وعجاب.
والبراء (بالفتح) أول ليلة من الشهر ، سميت بذلك لتبرؤ القمر من الشمس. {إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي} استئناء متصل ، لأنهم عبدوا الله مع آلهتهم. قال قتادة : كانوا يقولون الله ربنا ؛ مع عبادة الأوثان. ويجوز أن يكون منقطعا ؛ أي لكن الذي فطرني فهو يهدين. قال ذلك ثقة بالله وتنبيها لقومه أن الهداية من ربه.
الآية : 28 {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}
فيه ثلاث مسائل :
الأولى : قوله تعالى : {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً} الضمير في {جعلها} عائد على قوله : {إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي} . وضمير الفاعل في {جعلها} لله عز وجل ؛ أي وجعل الله هذه الكلمة والمقالة باقية في عقبه ، وهم ولده وولد ولده ؛ أي إنهم توارثوا البراءة عن عبادة غير الله ، وأوصى بعضهم بعضا في ذلك. والعقب من يأتي بعده. وقال السدي : هم آل محمد صلى الله عليه وسلم. وقال ابن عباس : قوله : {فِي عَقِبِهِ} أي في خلقه. وفي الكلام تقديم وتأخير ؛ المعنى فإنه سيهدين لعلهم يرجعون وجعلها كلمة باقية في عقبه. أي قال لهم ذلك لعلهم يتوبون عن عبادة غير الله. قال مجاهد وقتادة : الكلمة لا إله إلا الله. قال قتادة : لا يزال من عقبه من يعبد الله إلى يوم القيامة. وقال الضحاك : الكلمة أن لا تعبدوا إلا الله. عكرمة : الإسلام ؛ لقوله تعالى : {هو سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ } [الحج : 78] . القرظي : وجعل وصية إبراهيم التي وصى بها بنيه وهو قوله : {يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ} . [البقرة : 132] الآية المذكورة في البقرة - كلمة باقية في ذريته وبنيه. وقال ابن زيد : الكلمة قوله : {أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة : 131] وقرأ {سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} . وقيل : الكلمة النبوة. قال ابن العربي : ولم تزل النبوة باقية في ذرية إبراهيم. والتوحيد هم أصله وغيرهم فيه تبع لهم.
الثانية : قال ابن العربي : إنما كانت لإبراهيم في الأعقاب موصولة بالأحقاب بدعوتيه المجابتين ؛ إحداهما في قوله : {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة : 124] فقد قال نعم إلا من ظلم منهم فلا عهد. ثانيهما قوله : {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم : 35] . وقيل : بل الأولى قوله : {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} [الشعراء : 84] فكل أمة تعظمه ، بنوه وغيرهم ممن يجتمع معه في سام أو نوح.
الثالثة : قال ابن العربي : جرى ذكر العقب ها هنا موصولا في المعنى ، وذلك مما يدخل في الأحكام وترتب عليه عقود العمرى والتحبيس. قال النبي صلى الله عليه وسلم :
"أيما رجل أعمر عمرى له واعقبه فإنها للذي أعطيها لا ترجع إلى الذي أعطاها لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث" . وهي ترد على أحد عشر لفظا :
اللفظ الأول : الولد ، وهو عند الإطلاق عبارة عمن وجد من الرجل وامرأته في الإناث والذكور. وعن ولد الذكور دون الإناث لغة وشرعا ؛ ولذلك وقع الميراث على الولد المعين وأولاد الذكور من المعين دون ولد الإناث لأنه من قوم آخرين ، ولذلك لم يدخلوا في الحبس بهذا اللفظ ، قاله مالك في المجموعة وغيرها.
قلت : هذا مذهب مالك وجميع أصحابه المتقدمين ، ومن حجتهم على ذلك الإجماع على أن ولد البنات لا ميراث لهم مع قوله تعالى : {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء : 11] . وقد ذهب جماعة من العلماء إلى أن ولد البنات من الأولاد والأعقاب يدخلون في الأحباس ؛ يقول المحبس : حبست على ولدي أو على عقبي. وهذا اختيار أبي عمر بن عبدالبر وغيره ؛ واحتجوا بقول الله جل وعز : {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} [النساء : 23] . قالوا : فلما حرم الله البنات فحرمت بذلك بنت البنت بإجماع علم أنها بنت ووجب أن تدخل في حبس أبيها إذا حبس على ولده أوعقبه. وقد مضى هذا المعنى في "الأنعام" مستوفى.
اللفظ الثاني : البنون ؛ فإن قال : هذا حبس عل ابني ؛ فلا يتعدى الولد المعين ولا يتعدد. ولو قال ولدي ، لتعدى وتعدد في كل من ولد. وإن قال على بني ، دخل فيه الذكور والإناث. قال مالك : من تصدق على بنيه وبني بنيه فإن بناته وبنات بناته يدخلن في ذلك. روى عيسى عن ابن القاسم فيمن حبس على بناته فإن بنات بنته يدخلن في ذلك مع بنات صلبه. والذي عليه جماعة أصحابه أن ولد البنات لا يدخلون في البنين. فإن قيل : فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحسن ابن ابنته "إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين" . قلنا : هذا مجاز ، وإنما أشار به إلى تشريفه وتقديمه ؛ ألا ترى أنه يجوز نفيه عنه فيقول الرجل في ولد بنته ليس بابني ؛ ولو كان حقيقة ما جاز نفيه عنه ؛
لأن الحقائق لا تنفى عن منتسباتها. ألا ترى أنه ينتسب إلى أبيه دون أمه ؛ ولذلك قيل في عبدالله بن عباس : إنه هاشمي وليس بهلالي وإن كانت أمه هلالية.
قلت : هذا الاستدلال غير صحيح ، بل هو ولد على الحقيقة في اللغة لوجود معنى الولادة فيه ، ولأن أهل العلم قد أجمعوا على تحريم بنت البنت من قول الله تعالى : {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} [النساء : 23] . وقال تعالى : {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ} إلى قوله {مِنَ الصَّالِحِينَ} [الأنعام : 84 - 85] فجعل عيسى من ذريته وهو ابن بنته على ما تقدم بيانه هناك. فإن قيل فقد قال الشاعر :
بنونا بنو أبنائنا ، وبناتنا ... بنوهن أبناء الرجال الأباعد
قيل لهم : هذا لا دليل فيه ؛ لأن معنى قوله : إنما هو ولد بنيه الذكران هم الذين لهم حكم بنيه في الموارثة والنسب ، وإن ولد بناته ليس لهم حكم بناته في ذلك ؛ إذ ينتسبون إلى غيره فأخبر بافتراقهم بالحكم مع اجتماعهم في التسمية ولم ينف عن ولد البنات اسم الولد لأنه ابن ؛ وقد يقول الرجل في ولده ليس هو بابني إذ لا يطيعني ولا يرى لي حقا ، ولا يريد بذلك نفي اسم الولد عنه ، وإنما يريد أن ينفي عنه حكمه. ومن استدل بهذا البيت على أن ولد البنت لا يسمى ولدا فقد أفسد معناه وأبطل فائدته ، وتأول على قائله ما لا يصح ، إذ لا يمكن أن يسمى ولد الابن في اللسان العربي ابنا ، ولا يسمى ولد الابنة ابنا ؛ من اجل أن معنى الولادة التي اشتق منها اسم الولد فيه أبين وأقوى لأن ولد الابنة هو ولدها بحقيقة الولادة ، وولد الابن إنما هو ولده بمال مما كان سببا للولادة. ولم يخرج مالك رحمه الله أولاد البنات من حبس على ولده من أجل أن اسم الولد غير واقع عليه عنده في اللسان ، وإنما أخرجهم منه قياسا على الموارثة. وقد مضى هذا في "الأنعام" والحمد لله.
اللفظ الثالث : الذرية ؛ وهي مأخوذة من ذرأ الله الخلق ؛ فيدخل فيه ولد البنات لقوله : {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ} إلى أن قال {وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى} [الأنعام : 84 - 85] . وإنما كان من ذريته من قبل أمه. وقد مضى في "البقرة" اشتقاق الذرية وفي "الأنعام" الكلام على {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ} [الأنعام : 84] الآية ؛ فلا معنى للإعادة.
اللفظ الرابع : العقب ؛ وهو في اللغة عبارة عن شيء بعد شيء كان من جنسه أو من غير جنسه ؛ يقال : أعقب الله بخير ؛ أي جاء بعد الشدة بالرخاء. وأعقب الشيب السواد. وعقب يعقب عقوبا وعقبا إذا جاء شيئا بعد شيء ؛ ولهذا قيل لولد الرجل : عقبه. والمعقاب من النساء : التي تلد ذكرا بعد أنثى ، هكذا أبدا وعقب الرجل : ولده وولد ولده الباقون بعده. والعاقبة الولد ؛ قال يعقوب : في القرآن {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} وقيل : بل الورثة كلهم عقب. والعاقبة الولد ؛ ولذلك فسره مجاهد هنا. وقال ابن زيد : ها هنا هم الذرية. وقال ابن شهاب : هم الولد وولد الولد. وقيل غيره على ما تقدم عن السدي. وفي الصحاح والعقب (بكسر القاف) مؤخر القدم وهي مؤنثة. وعقب الرجل أيضا ولده وولد ولده. وفيه لغتان : عقب وعقب (بالتسكين) وهي أيضا مؤنثة ، عن الأخفش. وعقب الرجل أيضا ولده وولد ولده. وعقب فلان مكان أبيه عاقبة أي خلفه ؛ وهو اسم جاء بمعنى المصدر كقوله تعالى : {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} [الواقعة : 2] . ولا فرق عند احد من العلماء بين لفظ العقب والولد في المعنى. واختلف في الذرية والنسل فقيل انهما بمنزلة الولد والعقب ؛ لا يدخل ولد البنات فيهما على مذهب مالك. وقيل : إنهم يدخلون فيهما. وقد مضى الكلام في الذرية هنا وفي "الأنعام" .
اللفظ الخامس : نسلي ؛ وهو عند علمائنا كقول : ولدي وولد ولدي ؛ فإنه يدخل فيه ولد البنات. ويجب أن يدخلوا ؛ لأن نسل به بمعنى خرج ، وولد البنات قد خرجوا منه بوجه ، ولم يقترن به ما يخصه كما أقترن بقول عقبي ما تناسلوا. وقال بعض علمائنا : إن النسل بمنزلة الولد والعقب لا يدخل فيه والد البنات ؛ إلا أن يقول المحبس نسلي ونسل نسلي ، كما إذا قال : عقبي وعقب عقبي ، وأما إذا قال ولدي أوعقبي مفردا فلا يدخل فيه البنات.
اللفظ السادس : الآل ؛ وهم الأهل ؛ وهو اللفظ السابع. قال ابن القاسم : هما سواء ، وهم العصبة والإخوة والبنات والعمات ؛ ولا يدخل فيه الخالات. وأصل أهل الاجتماع




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 42.54 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 41.91 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.48%)]