عرض مشاركة واحدة
  #637  
قديم 10-07-2025, 08:56 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,363
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (16)
سُورَةُ الزخرف
من صــ 81 الى صــ 90
الحلقة (637)



يقال : مكان أهل إذا كان فيه جماعة ، وذلك بالعصبة ومن دخل في القعدد من النساء والعصبة مشتقة منه وهي أخصى به. وفي حديث الإفك : يا رسول الله ، أهلك ! ولا نعلم إلا خيرا ؛ يعني عائشة. ولكن لا تدخل فيه الزوجة بإجماع وإن كانت أصل التأهل ؛ لأن ثبوتها ليس بيقين إذ قد يتبدل ربطها وينحل بالطلاق. وقد. قال مالك : آل محمد كل تقي ؛ وليس من هذا الباب. وإنما أراد أن الإيمان أخصى من القرابة فاشتملت عليه الدعوة وقصد بالرحمة. وقد قال أبو إسحاق التونسي : يدخل في لأهل كل من كان من جهة الأبوين ، فوفى الاشتقاق حقه وغفل عن العرف ومطلق الاستعمال. وهذه المعاني إنما تبغى على الحقيقة أو على العرف المستعمل عند الإطلاق ، فهذان لفظان.
اللفظ الثامن : قرابة ، فيه أربعة أقوال : الأول : قال مالك في كتاب محمد بن عبدوس : إنهم الأقرب فالأقرب بالاجتهاد ؛ ولا يدخل فيه ولد البنات ولا ولد الخالات. الثاني : يدخل فيه أقاربه من قبل أبيه وأمه ؛ قال علي بن زياد. الثالث : قال أشهب : يدخل فيه كل رحم من الرجال والنساء. الرابع : قال ابن كنانة : يدخل فيه الأعمام والعمات والأخوال والخالات وبنات الأخت. وقد قال ابن عباس في تفسير قوله تعالى : {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى : 23] قال : إلا أن تصلوا قرابة ما بيني وبينكم. وقال : لم يكن بطن من قريش إلا كان بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم قرابة ؛ فهذا يضبطه والله أعلم.
اللفظ التاسع : العشيرة ؛ ويضبطه الحديث الصحيح : إن الله تعالى لما أنزل : {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء : 214] دعا النبي صلى الله عليه وسلم بطون قريش وسماهم - كما تقدم ذكره - وهم العشيرة الأقربون ؛ وسواهم عشيرة في الإطلاق. واللفظ يحمل على الأخص الأقرب بالاجتهاد ، كما تقدم من قول علمائنا.
اللفظ العاشر : القوم ؛ يحمل ذلك على الرجال خاصة من العصبة دون النساء. والقول يشمل الرجال والنساء ؛ وإن كان الشاعر قد قال :
وما أدري وسوف إخال أدري ... أقوم آل حصن أم نساء
ولكنه أراد أن الرجل إذا دعا قومه للنصرة عنى الرجال ، وإذا دعاهم للحرمة دخل فيهم الرجال والنساء ؛ فتعممه الصفة وتخصصه القرينة.
اللفظ الحادي عشر : الموالي ؛ قال مالك : يدخل فيه موالي أبيه وابنه مع مواليه. وقال ابن وهب : يدخل فيه أولاد مواليه. قال ابن العربي : والذي يتحصل منه أنه يدخل فيه من يرثه بالولاء ؛ قال : وهذه فصول الكلام وأصول المرتبطة بظاهر القرآن والسنة المبينة له ؛ والتفريع والتتميم في كتاب المسائل ، والله أعلم.
الآية : 29 - 32 {بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ ، وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ ، وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ، َهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}
قوله تعالى : {بَلْ مَتَّعْتُ} وقرئ {بل متعنا} . {هَؤُلاءِ وَآبَاءَهُمْ} أي في الدنيا بالإمهال. {حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ} أي محمد صلى الله عليه وسلم بالتوحيد والإسلام الذي هو اصل دين إبراهيم ؛ وهو الكلمة التي بقاها الله في عقبه. {وَرَسُولٌ مُبِينٌ} أي يبين لهم ما بهم إليه حاجة. {وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ} يعني القرآن. {قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ} جاحدون. {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ} أي هلا نزل {هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ}
وقرئ {عَلَى رَجْلٍ} بسكون الجيم. {مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} أي من إحدى القريتين ؛ كقوله تعالى : {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن : 22] أي من أحدهما. أو على أحد رجلين من القريتين. القريتان : مكة والطائف. والرجلان : الوليد بن المغيرة بن عبدالله بن عمر بن مخزوم عم أبي جهل. والذي من الطائف أبو مسعود عروة بن مسعود الثقفي ؛ قاله قتادة. وقيل : عمير بن عبد ياليل الثقفي من الطائف ، وعتبة بن ربيعة من مكة ؛ وهو قول مجاهد. وعن ابن عباس : أن عظيم الطائف حبيب بن عمرو الثقفي. وقال السدي : كنانة بن عبد بن عمرو. روي أن الوليد بن المغيرة - وكان يسمى ريحانة قريش كان يقول : لو كان ما يقول محمد حقا لنزل علي أو على أبي مسعود ؛ فقال الله تعالى : {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} يعني النبوة فيضعونها حيث شاؤوا. {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي أفقرنا قوما وأغنينا قوما ؛ فإذا لم يكن أمر الدنيا إليهم فكيف يفوض أمر النبوة إليهم. قال قتادة : تلقاه ضعيف القوة قليل الحيلة عيي اللسان وهو مبسوط له ، ونلقاه شديد الحيلة بسيط اللسان وهو مقتر عليه. وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن محيصن في رواية عنه "معايشهم" . وقيل : أي نحن أعطينا عظيم القريتين ما أعطينا لا لكرامتهما علي وأنا قادر على نزع النعمة عنهما ؛ فأي فضل وقدر لهما. {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} أي فاضلنا بينهم فمن فاضل ومفضول ورئيس ومرؤوس ؛ قال مقاتل. وقيل : بالحرية والرق ؛ فبعضهم مالك وبعضهم مملوك. وقيل : بالغنى والفقر ؛ فبعضهم غني وبعضهم فقير. وقيل : بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. {لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً} قال السدي وابن زيد : خولا وخداما ، يسخر الأغنياء الفقراء فيكون به بعضهم سببا لمعاش بعض. وقال قتادة والضحاك : يعني ليملك بعضهم بعضا. وقيل : هو من السخرية التي بمعنى الاستهزاء ؛ أي ليستهزئ الغني بالفقير. قال الأخفش : سخرت به وسخرت منه ، وضحكت منه وضحكت به ، وهزئت منه وبه ؛ كل يقال ، والاسم السخرية (بالضم) . والسخري والسخري (بالضم والكسر) . وكل الناس ضموا {سخرِيا} إلا ابن محيصن ومجاهد فإنهما قرآ {سِخرِيا} وَرَحْمَتُ رَبِّكَ
خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ أي أفضل مما يجمعون من الدنيا. ثم قيل : الرحمة النبوة ، وقيل الجنة. وقيل : تمام الفرائض خير مم كثير النوافل. وقيل : ما يتفضل به عليهم خير مما يجازيهم عليه من أعمالهم.
الآية : 33 {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ}
فيه خمس مسائل :
الأولى : قال العلماء : ذكر حقارة الدنيا وقلة خطرها ، وأنها عنده من الهوان بحيث كان يجعل بيوت الكفرة ودرجها ذهبا وفضة لولا غلبة حب الدنيا على القلوب ؛ فيحمل ذلك على الكفر. قال الحسن : المعنى لولا أن يكفر الناس جميعا بسبب ميلهم إلى الدنيا وتركهم الآخرة لأعطيناهم في الدنيا ما وصفناه ؛ لهوان الدنيا عند الله عز وجل. وعلى هذا أكثر المفسرين ابن عباس والسدي وغيرهم. وقال ابن زيد : {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} في طلب الدنيا واختيارها على الآخرة {لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ} . وقال الكسائي : المعنى لولا أن يكون في الكفار غني وفقير وفي المسلمين مثل ذلك لأعطينا الكفار من الدنيا هذا لهوانها.
الثانية : قرأ ابن كثير وأبو عمرو {سَقْفا} بفتح السين وإسكان القاف على الواحد ومعناه الجمع ؛ اعتبارا بقوله تعالى : {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل : 26] . وقرأ الباقون بضم السين والقاف على الجمع ؛ مثل رهن ورهن. قال أبو عبيد : ولا ثالث لهما. وقيل : هو جمع سقيف ؛ مثل كثيب وكثب ، ورغيف ورغف ؛ قاله الفراء. وقيل : هو جمع سقوف ؛ فيصير جمع الجمع : سقف وسقوف ، نحو فلس وفلوس. ثم جعلوا فعولا كأنه اسم واحد فجمعوه على فعل. وروي عن مجاهد {سقفا} بإسكان القاف. وقيل : اللام في {لبيوتهم} بمعنى على ؛ أي على بيوتهم. وقيل : بدل ؛ كما تقول : فعلت هذا لزيد لكرامته ؛ قال الله تعالى : {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} [النساء : 11] كذلك قال هنا : {لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ} .
الثالثة : قوله تعالى : {وَمَعَارِجَ} يعني الدرج ؛ قال ابن عباس وهو قول الجمهور. واحدها معراج ، والمعراج السلم ؛ ومنه ليلة المعراج. والجمع معارج ومعاريج ؛ مثل مفاتح ومفاتيح ؛ لغتان. {ومعاريج} قرأ أبو رجاء العطاردي وطلحة بن مصرف ؛ وهي المراقي والسلاليم. قال الأخفش : إن شئت جعلت الواحد معرج ومعرج ؛ مثل مرقاة ومرقاة. {عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} أي على المعارج يرتقون ويصعدون ؛ يقال : ظهرت على البيت أي علوت سطحه. وهذا لأن من علا شيئا وارتفع عليه ظهر للناظرين. ويقال : ظهرت على الشيء أي علمته. وظهرت على العدو أي غلبته.
وأنشد نابغة بني جعدة رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله :
علونا السماء عزة ومهابة ... وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا
أي مصعدا ؛ فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : [إلى أين] ؟ قال إلى الجنة ؛ قال : [أجل إن شاء الله] . قال الحسن : والله لقد مالت الدنيا بأكثر أهلها وما فعل ذلك ! فكيف لو فعل ؟ !
الرابعة : استدل بعض العلماء بهذه الآية على أن السقف لا حق فيه لرب العلو ؛ لأن الله تعالى جعل السقوف للبيوت كما جعل الأبواب لها. وهذا مذهب مالك رحمه الله.
قال ابن العربي : وذلك لأن البيت عبارة عن قاعة وجدار وسقف وباب ، فمن له البيت فله أركانه. ولا خلاف أن العلول إلى السماء. واختلفوا في السفل ؛ فمنهم من قال هو له ، ومنهم من قال ليس له في باطن الأرض شيء. وفي مذهبنا القولان.
وقد بين حديث الإسرائيلي الصحيح فيما تقدم : أن رجلا باع من رجل دارا فبناها فوجد فيها جرة من ذهب ، فجاء بها إلى البائع فقال : إنما اشتريت الدار دون الجرة ، وقال البائع : إنما بعت الدار بما فيها ؛ وكلهم تدافعها فقضى بينهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يزوج أحدهما ولده من بنت
الآخر ويكون المال لهما. والصحيح أن العلو والسفل له إلا أن يخرج عنهما بالبيع ؛ فإذا باع أحدهما أحد الموضعين فله منه ما ينتفع به وباقيه للمبتاع منه.
الخامسة : من أحكام العلو والسفل. إذا كان العلو والسفل بين رجلين فيعتل السفل أو يريد صاحبه هدمه ؛ فذكر سحنون عن أشهب أنه قال : إذا أراد صاحب السفل أن يهدم ، أو أراد صاحب العلو أن يبني علوه فليس لصاحب السفل أن يهدم إلا من ضرورة ، ويكون هدمه له أرفق لصاحب العلو ؛ لئلا ينهدم بانهدامه العلو ، وليس لرب العلو أن يبني على علوه شيئا لم يكن قبل ذلك إلا الشيء الخفيف الذي لا يضر بصاحب السفل. ولو انكسرت خشبة من سقف العلو لأدخل مكانها خشبة ما لم تكن أثقل منها ويخاف ضررها على صاحب السفل. قال أشهب : وباب الدار على صاحب السفل. قال : ولو أنهدم السفل أجبر صاحبه على بنائه ، وليس على صاحب العلو أن يبني السفل ؛ فإن أبى صاحب السفل من البناء قيل له بع ممن يبني. وروى ابن القاسم عن مالك في السفل لرجل والعلو لآخر فأعتل السفل ، فإن صلاحه على رب السفل وعليه تعليق العلو حتى يصلع سفله ؛ لأن عليه إما أن يحمله على بنيان أو على تعليق ، وكذلك لو كان على العلو فتعليق العلو الثاني على صاحب الأوسط. وقد قيل : إن تعليق العلو الثاني على رب العلو حتى يبني الأسفل. وحديث النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا لوأنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا" - أصل في هذا الباب. وهو حجة لمالك وأشهب. وفيه دليل على أن صاحب السفل ليس له أن يحدث على صاحب العلو ما يضربه ، وأنه إن أحدث عليه ضررا لزمه إصلاحه دون صاحب العلو ، وأن لصاحب العلو منعه من الضرر ؛ لقوله عليه السلام : [فإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا] ولا يجوز الأخذ إلا على يد الظالم أو من هو ممنوع من
إحداث ما لا يجوز له في السنة. وفيه دليل على استحقاق العقوبة بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ وقد مضى في "الأنفال" . وفيه دليل على جواز القرعة واستعمالها ، وقد مضى في "آل عمران" فتأمل كلا في موضعه تجده مبينا ، والحمد لله.
الآية : 34 {وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ ، وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ}
قوله تعالى : {وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً} {وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً} أي ولجعلنا لبيوتهم. وقيل : {لِبُيُوتِهِمْ} بدل اشتمال من قوله : {لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ} . {أَبْوَاباً} أي من فضة. {وَسُرُراً} كذلك ؛ وهو جمع السرير. وقيل : جمع الأسرة ، والأسرة جمع السرير ؛ فيكون جمع الجمع. {عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ} الاتكاء والتوكؤ : التحامل على الشيء ؛ ومنه ، {أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا} . ورجل تكأة ؛ مثال همزة ؛ كثير الاتكاء. والتكأة أيضا : ما يتكأ عليه. وأتكأ على الشيء فهو متكئ ؛ والموضع متكأ. وطعنه حتى أتكأه (على أفعله) أي ألقاه على هيئة المتكئ. وتوكأت على العصا. وأصل التاء في جميع ذلك واو ، ففعل به ما فعل باتزن واتعد. {وَزُخْرُفاً } الزخرف هنا الذهب ؛ عن ابن عباس وغيره. نظيره : {أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ} [الإسراء : 93] وقد تقدم. وقال ابن زيد : هو ما يتخذه الناس في منازلهم من الأمتعة والأثاث. وقال الحسن : النقوش ؛ وأصله الزينة. يقال : زخرفت الدار ؛ أي زينتها. وتزخرف فلان ؛ أي تزبن. واتصب {زخرفا} على معنى وجعلنا لهم مع ذلك زخرفا. وقيل : ينزع الخافض ؛ والمعنى فجعلنا لهم سقفا وأبوابا وسررا من فضة ومن ذهب ؛ فلما حذف "من" قال : {وزخرفا} فنصب. {وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} قرأ عاصم وحمزة وهشام عن ابن عامر {وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } بالتشديد. الباقون بالتخفيف ؛ وقد ذكر هذا. وروي عن أبي رجاء كسر اللام من "لما" ؛ فـ "ما" عنده بمنزلة الذي ، والعائد عليها محذوف ؛ والتقدير : وإن كل ذلك للذي
هو متاع الحياة الدنيا ، وحذف الضمير ها هنا كحذفه في قراءة من قرأ {مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا } [البقرة : 26] و {تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ} [الأنعام : 154] . أبو الفتح : ينبغي أن يكون {كل} على هذه القراءة منصوبة ؛ لأن "إن" مخففة من الثقيلة ، وهي إذا خففت وبطل عملها لزمتها اللام في آخر الكلام للفرق بينها وبين "إن" النافية التي بمعنى ما ؛ نحو إن زيد لقائم ، ولا لام هنا سوى الجارة. {وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} يريد الجنة لمن اتقى وخاف. وقال كعب : إني لأجد في بعض كتب الله المنزلة : لولا أن يحزن عبدي المؤمن لكللت رأس عبدي الكافر بالإكليل ، ولا يتصدع ولا ينبض منه عرق بوجع. وفي صحيح الترمذي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر" .
وعن سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافرا منها شربة ماء" . وفي الباب عن أبي هريرة ، وقال : حديث حسن غريب. وأنشدوا :
فلو كانت الدنيا جزاء لمحسن ... إذاً لم يكن فيها معاش لظالم
لقد جاع فيها الأنبياء كرامة ... وقد شبعت فيها بطون البهائم
وقال آخر :
تمتع من الأيام إن كنت حازما ... فإنك فيها بين ناه وآمر
إذا أبقت الدنيا على المرء دينه ... فما فاته منها فليس بضائر
فلا تزن الدنيا جناح بعوضة ... ولا وزن رَقٌّ من جناح لطائر
فلم يرض بالدنيا ثوابا لمحسن ... ولا رضي الدنيا عقابا لكافر
الآية : 36 - 38 {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ، وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ، حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ}
قوله تعالى : {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} وقرأ ابن عباس وعكرمة {ومن يعش} بفتح الشين ، ومعناه يعمى ؛ يقال منه عشي يعشى عشا إذا عمي. ورجل أعشى وامرأة عشواء إذا كان لا يبصر ؛ ومنه قول الأعشى :
رأت رجلا غائب الوافدَيـ ... ـن مختلفَ الخلق أعشى ضريرا
وقوله :
أن رأت رجلا أعشى أضر به ... ريب المنون ودهر مفند خَبِلُ
الباقون بالضم ؛ من عشا يعشو إذا لحقه ما لحق الأعشى. وقال الخليل : العشو هو النظر ببصر ضعيف ؛ وأنشد :
متى تأته تعشو إلى ضوء ناره ... تجد خير نار عندها خير موقد
وقال آخر :
لنعم الفتى يعشو إلى ضوء ناره ... إذا الريح هبت والمكان جديب
الجوهري : والعشا (مقصور) مصدر الأعشى وهو الذي لا يبصر بالليل ويبصر بالنهار. والمرأة عشواء ، وامرأتان عشواوان. وأعشاه الله فعشي (بالكسر) يعشى عشي ، وهما يعشيان ، ولم يقولوا يعشوان ؛ لأن الواو لما صارت في الواحد ياء لكسرة ما قبلها تركت في التثنية على حالها. وتعاشى إذا أرى من نفسه أنه أعشى. والنسبة إلى أعشى أعشوي. وإلى العشية عشوى. والعشواء : الناقة التي لا تبصر أمامها فهي تخبط بيديها كل شيء. وركب فلان العشواء إذا خبط أمره على غير بصيرة. وفلان خابط خبط عشواء.
وهذه الآية تتصل بقول أول السورة : {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً} [الزخرف : 5] أي نواصل لكم الذكر ؛ فمن يعش عن ذلك الذكر بالإعراض عنه إلى أقاويل المضلين وأباطيلهم {نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً} أي نسبب له شيطانا جزاء له على كفره { فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} قيل في الدنيا ، يمنعه يمنعه من الحلال ، ويبعثه على الحرام ، وينهاه عن الطاعة ، ويأمره بالمعصية ؛ وهو معنى قول ابن عباس.
وقيل في الآخرة إذا قام من قبره ؛ قال سعيد الجريري. وفي الخبر : أن الكافر إذا خرج من قبره يشفع بشيطان لا يزال معه حتى يدخل النار. وأن المؤمن يشفع بملك حتى يقضي الله بين خلقه ؛ ذكره المهدوي. وقال القشيري : والصحيح فهو له قرين في الدنيا والآخرة. وقال أبو الهيثم والأزهري : عشوت إلى كذا أي قصدته. وعشوت عن كذا أي أعرضت عنه ، فتفرق بين "إلى" و "عن" ؛ مثل : ملت إليه وملت عنه. وكذا قال قتادة : يعش ، يعرض ؛ وهو قول الفراء. النحاس : وهو غير معروف في اللغة. وقال القرظي : يولي ظهره ؛ والمعنى واحد. وقال أبو عبيدة والأخفش : تظلم عينه. وأنكر العتبي عشوت بمعنى أعرضت ؛ قال : وإنما الصواب تعاشيت. والقول قول أبي الهيثم والأزهري. وكذلك قال جميع أهل المعرفة. وقرأ السلمي وابن أبي إسحاق ويعقوب وعصمة عن عاصم وعن الأعمش {يقيض له شيطان فهو له قرين } "بالياء" لذكر {الرحمن} أولا ؛ أي يقيض له الرحمن شيطانا. الباقون بالنون. وعن ابن عباس { يقيض له } أي ملازم ومصاحب. قيل : {فهو} كناية عن الشيطان ؛ على ما تقدم. وقيل عن الإعراض عن القرآن ؛ أي هو قرين للشيطان. {وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ} أي وإن الشياطين ليصدونهم عن سبيل الهدى ؛ وذكر بلفظ الجمع لأن {من} في قوله : {وَمَنْ يَعْشُ} في معنى الجمع. {وَيَحْسَبُونَ} أي ويحسب الكفار {أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} وقيل : ويحسب الكفار إن الشياطين مهتدون فيطيعونهم.
قوله تعالى : {حَتَّى إِذَا جَاءَنَا} على التوحيد قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وحفص يعني الكافر يوم القيامة. الباقون {جاءانا} على التثنية ، يعني الكافر وقرينه وقد جعلا في سلسلة واحدة ؛ فيقول الكافر : {يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ} أي مشرق الشتاء ومشرق الصيف ، كما قال تعالى : {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} [الرحمن : 17] ونحوه قول مقاتل. وقراءة التوحيد وإن كان ظاهرها الإفراد فالمعنى لهما جميعا ؛ لأنه قد عرف ذلك بما بعده ؛ كما قال :
وعين لها حدرة بدرة ... شقت مآقيهما من أخر




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 41.60 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 40.97 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.51%)]