
10-07-2025, 07:58 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 164,122
الدولة :
|
|
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى

تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (16)
سُورَةُ الزخرف
من صــ 91 الى صــ 100
الحلقة (638)
قال مقاتل : يتمنى الكافر أن بينهما بعد المشرق أطول يوم في السنة إلى مشرق أقصر يوم في السنة ، ولذلك قال : {بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ} . وقال الفراء : أراد المشرق والمغرب فغلب اسم أحدهما ، كما يقال : القمران للشمس والقمر ، والعمران لأبي بكر وعمر ، والبصرتان للكوفة والبصرة ، والعصران للغداة والعصر. وقال الشاعر :
أخذنا بآفاق السماء عليكم ... لنا قمراها والنجوم الطوالع
وأنشد أبو عبيدة لجرير :
ما كان يرضى رسول الله فعلهم ... والعمران أبو بكر ولا عمر
وأنشد سيبويه :
قَدْنيَ من نصر الخُبَيبين قَدِي
يريد عبد الله ومصعبا ابني الزبير ، وإنما أبو خبيب عبد الله. {فَبِئْسَ الْقَرِينُ} أي فبئس الصاحب أنت ؛ لأنه يورده إلى النار. قال أبو سعيد الخدري : إذا بعث الكافر زوج بقرينه من الشياطين فلا يفارقه حتى يصير به إلى النار.
الآية : 39 {وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ}
قوله تعالى : {وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ} {إذ} بدل من اليوم ؛ أي يقول الله للكافر : لن ينفعكم اليوم إذ أشركتم في الدنيا هذا الكلام ؛ وهو قول الكافر : {يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ} أي لا تنفع الندامة اليوم {إِنكم} بالكسر {فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} وهي قراءة ابن عامر باختلاف عنه. الباقون بالفتح. وهي في موضع رفع تقديره : ولن ينفعكم اليوم اشتراككم في العذاب ؛ لأن لكل واحد نصيبه الأوفر منه. أعلم الله تعالى أنه منع أهل النار التأسي كما يتأسى أهل المصائب في الدنيا ، وذلك أن التأسي يستروحه أهل الدنيا فيقول أحدهم : لي في البلاء والمصيبة أسوة ؛ فيسكن ذلك من حزنه ؛ كما قالت الخنساء :
فلولا كثرة الباكين حولي ... على إخوانهم لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخي ولكن ... أعزي النفس عنه بالتأسي
فإذا كان في الآخرة لم ينفعهم التأسي ، شيئا لشغلهم بالعذاب. وقال مقاتل : لن ينفعكم الاعتذار والندم اليوم ؛ لأن قرناءكم وأنتم في العذاب مشتركون كما اشتركتم في الكفر.
الآية : 40 {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}
قوله تعالى : {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ} يا محمد {وَمَنْ كَانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} أي ليس لك ذلك فلا يضيق صدرك إن كفروا ؛ ففيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم. وفيه رد على القدرية وغيرهم ، وأن الهدى والرشد والخذلان في القلب خلق الله تعالى ، يضل من يشاء ويهدي من يشاء.
الآية : 41 {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ ، أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ}
قوله تعالى : {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ} يريد نخرجنك من مكة من أذى قريش. {فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ ، أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ} وهو الانتقام منهم في حياتك. {فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ} قال ابن عباس : قد أراه الله ذلك يوم بدر ؛ وهو قول أكثر المفسرين.
وقال الحسن وقتادة : هي في أهل الإسلام ؛ يريد ما كان بعد النبي صلى الله عليه وسلم من الفتن. و {نذهبن بك} على هذا نتوفينك. وقد كان بعد النبي صلى الله عليه وسلم نقمة شديدة فأكرم الله نبيه صلى الله عليه وسلم وذهب به فلم يره في أمته إلا التي تقر به عينه وأبقى النقمة بعده ، وليس من نبي إلا وقد أري النقمة في أمته. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم أري ما لقيت أمته من بعده ، فما زال منقبضا ، ما انبسط ضاحكا حتى لقي ، الله عز وجل. وعن ابن مسعود : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إذا أراد الله بأمة خيرا قبض نبيها قبلها فجعاه لها فرطا وسلفا. وإذا أراد الله بأمة عذابا عذبها ونبيها حي لتقر عينه لما كذبوه وعصوا أمره" .
الآية : 43 {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ، وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ}
قوله تعالى : {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ} يريد القرآن ، يريد القرآن ، وإن كذب به من كذب ؛ فـ {إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} يوصلك إلى الله ورضاه وثوابه. {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} يعني القرآن شرف لك ولقومك من قريش ، إذ نزل بلغتهم وعلى رجل منهم ؛ نظيره : {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ} [الأنبياء : 10] أي شرفكم. فالقرآن نزل بلسان قريش وإياهم خاطب ؛ فاحتاج أهل اللغات كلها إلى لسانهم كل من آمن بذك فصاروا عيالا عليهم ؛ لأن أهل كل لغة احتاجوا إلى أن يأخذوه من لغتهم حتى يقفوا على المعنى الذي عنى به من الأمر. والنهي وجميع ما فيه من الأنباء ، فشرفوا بذلك على سائر أهل اللغات ولذلك سمي عربيا.
وقيل : بيان لك ولأمتك فيما بكم إليه حاجة. وقيل : تذكرة تذكرون به أمر الدين وتعملون به. وقيل : {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} يعني الخلافة فإنها في قريش لا تكون في غيرهم ؛ قال النبي مصلى الله عليه وسلم : "الناس تبع لقريش في هذا الشأن مسلمهم تبع لمسلمهم وكافرهم تبع لكافرهم" . وقال مالك : هو قول الرجل حدثني أبي عن أبيه ، حكاه ابن أبي سلمة عن أبيه عن مالك بن أنس فيما ذكر الماوردي والثعلبي وغيرهما. قال ابن العربي : ولم أجد في الإسلام هذه المرتبة لأحد إلا ببغداد فإن بني التميمي بها يقولون : حدثني أبي قال حدثني أبي ، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ وبذلك شرفت أقدارهم ، وعظم الناس شأنهم ، وتهممت الخلافة بهم. ورأيت بمدينة السلام ابني أبي محمد رزق الله بن عبد الوهاب أبي الفرج بن عبد العزيز بن الحارث بن الأسد بن الليث آل سليمان بن أسود بن سفيان بن يزيد بن أكينة بن عبد الله التميمي وكانا يقولان : سمعنا أبانا رزق الله يقول سمعت أبي يقول سمعت أبي يقول سمعت أبي يقول سمعت أبي يقول سمعت أبي يقول سمعت علي بن أبي طالب
يقول وقد سئل عن الحنان المنان فقال : الحنان الذي يقبل على من أعرض عنه ، والمنان الذي يبدأ بالنوال قبل السؤال. والقائل سمعت عليا : أكينة بن عبدالله جدهم الأعلى. والأقوى أن يكون المراد بقوله : {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} يعني القرآن ؛ فعليه انبنى الكلام وإليه يرجع المصير ، والله أعلم. قال الماوردي : {وَلِقَوْمِكَ} فيهم قولان : أحدهما : من اتبعك من أمتك ؛ قاله قتادة وذكره الثعلبي عن الحسن. الثاني : لقومك من قريش ؛ فيقال ممن هذا ؟ فيقال من العرب ، فيقال من أي العرب ؟ فيقال من قريش ؛ قال مجاهد.
قلت : والصحيح أنه شرف لمن عمل به ، كان من قريش أومن غيرهم. روى ابن عباس قال : أقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم من سرية أو غزاة فدعا فاطمة فقال : "يا فاطمة اشتري نفسك من الله فإني لا أغني عنك من الله شيئا" وقال مثل ذلك لنسوته ، وقال مثل ذلك لعترته ، ثم قال نبي الله صلى الله عليه وسلم : "ما بنو هاشم بأولى الناس بأمتي إن أولى الناس بأمتي المتقون ، ولا قريش بأولى الناس بأمتي إن أولى الناس بأمتي المتقون ، ولا الأنصار بأولى الناس بأمتي إن أولى الناس بأمتي المتقون ، ولا الموالي بأولى الناس بأمتي إن أولى الناس بأمتي المتقون. إنما أنتم من رجل وامرأة وأنتم كجمام الصاع ليس لأحد على أحد فضل إلا بالتقوى" . وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لينتهين أقوام يفتخرون بفحم من فحم جهنم أو يكونون شرا عند الله من الجعلان التي تدفع النتن بأنفها ، كلكم بنو آدم وآدم من تراب ، إن الله أذهب عنكم عيبة الجاهلية وفخرها بالآباء الناس مؤمن تقي وفاجر شقي" . خرجهما الطبري. وسيأتي لهذا مزيد بيان في الحجرات إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى : {وَسَوْفَ تُسْأَلونَ} أي عن الشكر عليه ؛ قال مقاتل والفراء. وقال ابن جريج : أي تسألون أنت ومن معك على ما أتاك. وقيل : تسألون عما عملتم فيه ؛ والمعنى متقارب.
الآية : 45 {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ}
قال ابن عباس وابن زيد : لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى - وهو مسجد بيت المقدس - بعث الله له آدم ومن ولد من المرسلين ، وجبريل مع النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فأذن جبريل صلى الله عليه وسلم ثم أقام الصلاة ، ثم قال : يا محمد تقدم فصل بهم ؛ فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ قال جبريل صلى الله عليه وسلم : "سل يا محمد من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون" . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لا أسأل قد اكتفيت" . قال ابن عباس : وكانوا سبعين نبيا منهم إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام ؛ فلم يسألهم لأنه كان أعلم بالله منهم. في غير رواية ابن عباس : فصلوا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم سبعة صفوف ، المرسلون ثلاثة صفوف والنبيون أربعة ؛ وكان يلي ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم إبراهيم خليل الله ، وعلى يمينه إسماعيل وعلى يساره إسحاق ثم موسى ثم سائر المرسلين فأمهم ركعتين ؛ فلما انفتل قام فقال : "إن ربي أوحى إلي أن أسألكم هل أرسل أحد منكم يدعو إلى عبادة غير الله" ؟ فقالوا : يا محمد ، إنا نشهد إنا أرسلنا أجمعين بدعوة واحدة أن لا إله إلا الله وأن ما يعبدون من دونه باطل ، وأنك خاتم النبيين وسيد المرسلين ، قد استبان ذلك لنا بإمامتك إيانا ، وأن لا نبي بعدك إلى يوم القيامة إلا عيسى ابن مريم فإنه مأمور أن يتبع أثرك "."
وقال سعيد بن جبير في قوله تعالى : {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا} قال : لقي الرسل ليلة أسري به. وقال الوليد بن مسلم في قوله تعالى : { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا} قال : سألت عن ذلك وليد بن دعلج فحدثني عن قتادة قال : سألهم ليلة أسري به ، لقي الأنبياء ولقي آدم ومالك خازن النار.
قلت : هذا هو الصحيح في تفسير هذه الآية. و {من} التي قبل {رسلنا} على هذا القول غير زائدة. وقال المبرد وجماعة من العلماء : إن المعنى واسأل أمم من قد أرسلنا من قبلك من رسلنا. وروي أن في قراءة ابن مسعود : {واسال الذين أرسلنا إليهم قبلك رسلنا} .
وهذه قراءة مفسرة ؛ فـ {من} على هذا زائدة ، وهو قول مجاهد والسدي والضحاك وقتادة وعطاء والحسن وابن عباس أيضا. أي واسأل مؤمني أهل الكتابين التوراة والإنجيل. وقيل : المعنى سلنا يا محسد عن الأنبياء الذين أرسلنا قبلك ؛ فحذفت {عن} ، والوقف على {رسلنا} على هذا تام ، ثم ابتدأ بالاستفهام على طريق الإنكار. وقيل : المعنى واسأل تباع من أرسلنا من قبلك من رسلنا ، فحذف المضاف. والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد أمته.
قوله تعالى : {أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} أخبر عن الآلهة كما أخبر عمن يعقل فقال : {يُعْبَدُونَ} ولم يقل تعبد ولا يعبدن ، لأن الآلهة جرت عندهم مجرى من يعقل فأجرى الخبر عنهم مجرى الخبر عمن يعقل.
وسبب هذا الأمر بالسؤال أن اليهود والمشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : إن ما جئت به مخالف لمن كان قبلك ؛ فأمره الله بسؤال الأنبياء على جهة التوقيف والتقرير ؛ لا لأنه كان في شك منه.
واختلف أهل التأويل في سؤال النبي صلى الله عليه وسلم لهم على قولين : أحدهما : أنه سألهم فقالت الرسل بعثنا بالتوحيد ؛ قاله الواقدي. الثاني : أنه لم يسألهم ليقينه بالله عز وجل ؛ حتى حكى ابن زيد أن ميكائيل قال لجبريل : "هل سألك محمد عن ذلك ؟ فقال جبريل : هو أشد إيمانا وأعظم يقينا من أن يسأل عن ذلك" . وقد تقدم هذا المعنى في الروايتين حسبما ذكرناه.
الآية : 46 - 52 {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآياتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَأِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآياتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ ، وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ، وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ ، فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ ، وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ}
{أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ}
قوله تعالى : {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآياتِنَا} لما أعلم النبي صلى الله عليه وسلم أنه منتقم له من عدوه وأقام الحجة باستشهاد الأنبياء واتفاق الكل على التوحيد أكد ذلك قصة موسى وفرعون ، وما كان من فرعون من التكذيب ، وما نزل به وبقومه من الإغراق والتعذيب : أي أرسلنا موسى بالمعجزات وهي التسع الآيات فكذب ؛ فجعلت العاقبة الجميلة له ، فكذلك أنت. ومعنى : {يضحكون} استهزاء وسخرية ؛ يوهمون أتباعهم أن تلك الآيات سحر وتخيل ، وأنهم قادرون عليها. وقوله : {وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا} أي كانت آيات موسى من أكبر الآيات ، وكانت كل واحدة أعظم مما قبلها. وقيل : {إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا} لأن الأولى تقتضي علما والثانية تقتضي علما ، فتضم الثانية إلى الأولى فيزداد الوضوح ، ومعنى الأخوة المشاكلة المناسبة ؛ كما يقال : هذه صاحبة هذه ؛ أي قريبتان في المعنى. {وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} أي على تكذيبهم بتلك الآيات ؛ وهو كقوله تعالى : {وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ} [الأعراف : 130] . والطوفان والجراد والقمل والضفادع. وكانت هذه الآيات الأخيرة عذابا لهم وآيات لموسى. {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} من كفرهم.
قوله تعالى : {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ} لما عاينوا العذاب قالوا يا أيها الساحر ؛ نادوه بما كانوا ينادونه به من قبل ذلك على حسب عادتهم. وقيل : كانوا يسمون العلماء سحرة فنادوه بذلك على سبيل التعظيم. قال ابن عباس : {يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ} يا أيها العالم ، وكان الساحر فيهم عظيما يوقرونه ؛ ولم يكن السحر صفة ذم. وقيل : يا أيها الذي غلبنا بسحره ؛ يقال : ساحرته فسحرته ؛ أي غلبته بالسحر ؛ كقول العرب : خاصمته فخصمته أي غلبته بالخصومة ، وفاضلته ففضلته ، ونحوها. ويحتمل أن يكون أرادوا به الساحر على الحقيقة على معنى الاستفهام ، فلم يلمهم على ذلك رجاء أن يؤمنوا. وقرأ ابن عامر وأبو حيوة ويحيى بن ثابت {وأيهُ الساحر} بغير ألف والهاء مضمومة ؛ وعلتها أن الهاء خلطت بما قبلها وألزمت ضم الياء الذي أوجبه النداء المفرد. وأنشد الفراء :
يأيه القلب اللجوج النفس ... أفق عن البيض الحسان اللعس
فضم الهاء حملا على ضم الياء ؛ وقد مضى في "النور" معنى هذا. ووقف أبو عمرو وابن أبي إسحاق ويحيى والكسائي {أيها} بالألف على الأصل. الباقون بغير ألف ؛ لأنها كذلك وقعت في المصحف. {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ} {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ} أي بما أخبرنا عن عهده إليك إنا إن آمنا كشف عنا ؛ فسله يكشف عنا {إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ} أي فيما يستقبل. {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ} أي فدعا فكشفنا. {إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ} أي ينقضون العهد على أنفسهم فلم يؤمنوا. وقيل : قولهم : {إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ} إخبار منهم عن أنفسهم بالإيمان ؛ فلما كشف عنهم العذاب ارتدوا.
قوله تعالى : {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ} قيل : لما رأى تلك الآيات خاف ميل القوم إليه فجمع قومه فقال : فنادى بمعنى قال ؛ قاله أبو مالك. فيجوز أن يكون عنده عظماء القبط فرفع صوته بذلك فيما بينهم ثم ينشر عنه في جموع القبط ؛ وكأنه نودي بينهم. وقيل : إنه أمر من ينادي في قومه ؛ قاله ابن جريج. {قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ} أي لا ينازعني فيه أحد. قيل : إنه ملك منها أربعين فرسخا في مثلها ؛ حكاه النقاش. وقيل أراد بالملك هنا الإسكندرية. {وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} يعني أنهار النيل ، ومعظمها أربعة : نهر الملك ونهر طولون ونهر دمياط ونهر تنيس. وقال قتادة : كانت جنانا وأنهارا تجري من تحت قصوره. وقيل : من تحت سريره. وقيل : {مِنْ تَحْتِي} قال القشيري : ويجوز ظهور خوارق العادة على مدعي الربوبية ؛ إذ لا حاجة في التمييز الإله من غير الإله إلى فعل خارق للعادة. وقيل معنى {وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} أي القواد والرؤساء والجبابرة يسيرون من تحت لوائي ؛ قاله الضحاك. وقيل : أراد بالأنهار الأموال ، وعبر عنها بالأنهار لكثرتها وظهورها. وقوله : {تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} أي أفرقها على من يتبعني ؛ لأن الترغيب والقدرة في الأموال دون
الأنهار. {أَفَلا تُبْصِرُونَ} عظمتي وقوتي وضعف موسى. وقيل : قدرتي على نفقتكم وعجز موسى. والواو في {وهذه} يجوز أن تكون عاطفة للأنهار على {ملك مصر} و {تجري} نصب على الحال منها. ويجوز أن تكون واو الحال ، واسم الإشارة مبتدأ ، و {الأنهار} صفة لاسم الإشارة ، و {تجري } خبر للمبتدأ. وفتح الياء من {تحتي} أهل المدينة والبزي وأبو عمرو ، وأسكن الباقون. وعن الرشيد أنه لما قرأها قال : لأولينها أحسن عبيدي ، فولاها الخصيب ، وكان على وضوئه. وعن عبدالله بن طاهر أنه وليها فخرج إليها شارفها ووقع عليها بصره قال : أهذه القرية التي افتخر بها فرعون حتى قال : {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ} ؟ ! والله لهي عندي أقل من أن أدخلها ! فثنى عنانه. ثم صرح بحاله فقال : {أَمْ أَنَا خَيْرٌ} قال أبو عبيدة السدي : {أم} بمعنى "بل" وليست بحرف عطف ؛ على قول أكثر المفسرين. والمعنى : قال فرعون لقومه بل أنا خير {مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ} أي لا عزله فهو يمتهن نفسه في حاجاته لحقارته وضعفه {وَلا يَكَادُ يُبِينُ} يعني ما كان في لسانه من العقدة ؛ على ما تقدم في "طه" وقال الفراء : في "أم" وجهان : إن شئت جعلتها من الاستفهام الذي جعل بأم لاتصاله بكلام قبله ، وإن شئت جعلتها نسقا على قوله : {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ} وقيل : هي زائدة. وروى أبو زيد عن العرب أنهم يجعلون "أم" زائدة ؛ والمعنى أنا خير من هذا الذي هو مهين. وقال الأخفش : في الكلام حذف ، والمعنى : أفلا تبصرون أم تبصرون ؛ كما قال :
أيا ظبية الوعساء بين جلاجل ... وبين النقا آأنت أم أم سالم
أي أنت أحسن أم أم سالم. ثم ابتداء فقال : {أَنَا خَيْرٌ} . وقال الخليل وسيبويه : المعنى {أَفَلا تُبْصِرُونَ} ، أم أنتم بصراء ، فعطف بـ {أم} على {أَفَلا تُبْصِرُونَ} ، لأن معنى {أَمْ أَنَا خَيْرٌ} أم أي تبصرون ؛ وذلك أنهم إذا قالوا له أنت خير منه كانوا عنده بصراء. وروي عن عيسى
الثقفي ويعقوب الحضرمي أنهما وقفا على {أم} على أن يكون التقدير أفلا تبصرون أم تبصرون ؛ فحذف تبصرون الثاني. وقيل من وقف على {أم} جعلها زائدة ، وكأنه وقف على "تبصرون" من قوله : " {أَفَلا تُبْصِرُونَ} ، ولا يتم الكلام على "تبصرون" عند الخليل وسيبويه ؛ لأن {أم} تقتضي الاتصال بما قبلها. وقال قوم : الوقف على قوله : {أَفَلا تُبْصِرُونَ} ، ثم ابتدأ {أَمْ أَنَا خَيْرٌ} بمعنى بل أنا ؛ وأنشد الفراء :"
بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى ... وصورتها أم أنت في العين أملح
فمعناه : بل أنت أملح. وذكر الفراء أن بعض القراء قرأ {أما أنا خير} ؛ ومعنى هذا ألست خيرا. وروي عن مجاهد أنه وقف على {أم} ثم يبتدئ {أنا خير} وقد ذكر.
الآية : 53 {فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ}
قوله تعالى : {فَلَوْلا} أي هلا {أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ} إنما قال ذلك لأنه كان عادة الوقت وزي أهل الشرف. وقرأ حفص {أسورة} جمع سوار ، كخمار وأخمرة. وقرأ أبي {أساور} جمع إسوار. وابن مسعود {أساوير} . الباقون {أساورة} جمع الأسورة فهو جمع الجمع. ويجوز أن يكون {أساورة} جمع {إسوار} وألحقت الهاء في الجمع عوضا من الياء ؛ فهو مثل زناديق وزنادقة ، وبطاريق وبطارقة ، وشبهه. وقال أبو عمرو بن العلاء : واحد الأساورة والأساور والأساوير إسوار ، وهي لغة في سوار. قال مجاهد : كانوا إذا سوروا رجلا سوروه بسوارين وطوقوه بطوق ذهب علامة لسيادته ، فقال فرعون : هلا ألقى رب موسى عليه أساورة من ذهب إن كان صادقا ! {أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ} يعني متتابعين ؛ في قول قتادة. مجاهد : يمشون معا. ابن عباس : يعاونونه على من خالفه ؛ والمعنى : هلا ضم إليه الملائكة التي يزعم أنها عند ربه حتى يتكثر بهم ويصرفهم على أمره ونهيه ؛ فيكون ذلك أهيب في القلوب. فأوهم قومه أن رسل الله ينبغي أن يكونوا
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|