عرض مشاركة واحدة
  #648  
قديم 11-07-2025, 11:35 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 165,210
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (16)
سُورَةُ الجاثية
من صــ 191 الى صــ 200
الحلقة (648)



قوله تعالى : {وَمِنْ قَبْلِهِ} أي ومن قبل القرآن {كِتَابُ مُوسَى} أي التوراة {إِمَاماً} يقتدى بما فيه. و {إِمَاماً} نصب على الحال ، لأن المعنى : وتقدمه كتاب موسى إماما. {وَرَحْمَةً} معطوف عليه. وقيل : انتصب بإضمار فعل ، أي أنزلناه إماما ورحمة. وقال الأخفش : على القطع ، لأن كتاب موسى معرفة بالإضافة ، لأن النكرة إذا أعيدت أو أضيفت أو أدخل عليها ألف ولام صارت معرفة. {وَرَحْمَةً} من الله. وفي الكلام حذف ، أي فلم تهتدوا به. وذلك أنه كان في التوراة نعت النبي صلى الله عليه وسلم والإيمان به فتركوا ذلك. و {إِمَاماً} نصب على الحال ، لأن المعنى : وتقدمه كتاب موسى إماما. {وَرَحْمَةً} معطوف عليه. وقيل : انتصب بإضمار فعل ، أي أنزلناه إماما ورحمة. وقال الأخفش : على القطع ، لأن كتاب موسى معرفة بالإضافة ، لأن النكرة إذا أعيدت أو أضيفت أو أدخل عليها ألف ولام صارت معرفة. {وَهَذَا كِتَابٌ} يعني القرآن {مُصَدِّقٌ} يعني للتوراة ولما قبله من الكتب. وقيل : مصدق للنبي صلى الله عليه وسلم. {لِسَاناً عَرَبِيّاً} منصوب على الحال ، أي مصدق لما قبله عربيا ، و {لِسَانا} توطئة للحال أي تأكيد ، كقولهم : جاءني زيد رجلا صالحا ، فتذكر رجلا توكيدا.
وقيل : نصب بإضمار فعل تقديره : وهذا كتاب مصدق أعني لسانا عربيا. وقيل : نصب بإسقاط حرف الخفض تقديره : بلسان عربي. وقيل : إن لسانا مفعول والمراد به النبي صلى الله عليه وسلم ، أي وهذا كتاب مصدق للنبي صلى الله عليه وسلم لأنه معجزته ، والتقدير : مصدق ذا لسان عربي. فاللسان منصوب بمصدق ، وهو النبي صلى الله عليه وسلم. ويبعد أن يكون اللسان القرآن ، لأن المعنى يكون يصدق نفسه. {لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا} قراءة العامة {لِيُنْذِرَ} بالياء خبر عن الكتاب ، أي لينذر الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والمعصية. وقيل : هو خبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم. وقرأ نافع وابن عامر والبزي بالتاء ، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم ، على خطاب النبي صلى الله عليه وسلم ، قال الله تعالى : {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ} [الرعد : 7] . {وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ} {وَبُشْرَى} في موضع رفع ، أي وهو بشرى. وقيل : عطفا على الكتاب ، أي وهذا كتاب مصدق وبشرى. ويجوز أن يكون منصوبا بإسقاط حرف الخفض ، أي لينذر الذين ظلموا وللبشرى ، فلما حذف الخافض نصب. وقيل : على المصدر ، أي وتبشر المحسنين بشرى ، فلما جعل مكان وتبشر بشرى أو بشارة نصب ، كما تقول : أتيتك لأزورك ، وكرامة لك وقضاء لحقك ، يعني لأزورك وأكرمك وأقضي حقك ، فنصب الكرامة بفعل مضمر.
الآية : 13 {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ، أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}
قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} الآية تقدم معناها. وقال ابن عباس : نزلت في أبي بكر الصديق. والآية تعم. {جَزَاءً} نصب على المصدر.
الآية : 15 {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}
فيه سبع مسائل :
الأولى : قوله تعالى : {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً} بين اختلاف حال الإنسان مع أبويه ، فقد يطيعهما وقد يخالفهما ، أي فلا يبعد مثل هذا في حق النبي صلى الله عليه وسلم وقومه حتى يستجيب له البعض ويكفر البعض. فهذا وجه اتصال الكلام بعضه ببعض ، قاله القشيري.
الثانية : {حسنا} قراءة العامة {حُسناً} وكذا هو في مصاحف أهل الحرمين والبصرة والشام. وقرأ ابن عباس والكوفيون {إحسانا} وحجتهم قوله تعالى في سورة (الأنعام وبني إسرائيل) : {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [الأنعام : 151] وكذا هو في مصاحف الكوفة. وحجة القراءة الأولى قوله تعالى في سورة العنكبوت : {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً} [العنكبوت : 8]
ولم يختلفوا فيها. والحسن خلاف القبح. والإحسان خلاف الإساءة. والتوصية الأمر. وقد مضى القول في هذا وفيمن نزلت.
الثالثة : قوله تعالى : {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً} أي بكره ومشقة. وقراءة العامة بفتح الكاف. واختاره أبو عبيد ، قال : وكذلك لفظ الكره في كل القرآن بالفتح إلا التي في سورة البقرة : {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة : 216] لأن ذلك اسم وهذه كلها مصادر. وقرأ الكوفيون {كرها} بالضم. قيل : هما لغتان مثل الضعف والضعف والشهد والشهد ، قاله الكسائي ، وكذلك هو عند جميع البصريين. وقال الكسائي أيضا والفراء في الفرق بينهما : إن الكره (بالضم) ما حمل الإنسان على نفسه ، وبالفتح ما حمل على غيره ، أي قهرا وغضبا ، ولهذا قال بعض أهل العربية إن كرها (بفتح الكاف) لحن.
الرابعة : قوله تعالى : {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} قال ابن عباس : إذا حملت تسعة أشهر أرضعت إحدى وعشرين شهرا ، وإن حملت ستة أشهر أرضعت أربعة وعشرين شهرا. وروي أن عثمان قد أتي بامرأة قد ولدت لستة أشهر ، فأراد أن يقضي عليها بالحد ، فقال له علي رضي الله عنه : ليس ذلك عليها ، قال الله تعالى : {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} وقال تعالى : {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة : 233] فالرضاع أربعة وعشرون شهرا والحمل ستة أشهر ، فرجع عثمان عن قول ولم يحدها. وقد مضى في "البقرة" . وقيل : لم يعد ثلاثة أشهر في ابتداء الحمل ، لأن الولد فيها نطفة وعلقة ومضغة فلا يكون له ثقل يحس به ، وهو معنى قوله تعالى : {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ} [الأعراف : 189] . والفصال الفطام. وقد تقدم في "لقمان" الكلام فيه. وقرأ الحسن ويعقوب وغيرهما {وفَصْلِه} بفتح الفاء وسكون الصاد. وروي أن الآية نزلت في أبي بكر الصديق ؛ وكان حمله وفصاله في ثلاثين شهرا ، حملته أمه تسعة أشهر وأرضعته إحدى وعشرين شهرا. وفي الكلام إضمار ،
أي ومدة حمله ومدة فصاله ثلاثون شهرا ، ولو لا هذا الإضمار لنصب ثلاثون على الظرف وتغير المعنى.
الخامسة : قوله تعالى : {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ} قال ابن عباس : {أَشُدَّهُ} ثماني عشرة سنة. وقال في رواية عطاء عنه : إن أبا بكر صحب النبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثماني عشرة سنة والنبي صلى الله عليه وسلم ابن عشرين سنة ، وهم يريدون الشام للتجارة ، فنزلوا منزلا فيه سدرة ، فقعد النبي صلى الله عليه وسلم في ظلها ، ومضى أبو بكر إلى راهب هناك فسأله عن الدين. فقال الراهب : من الرجل الذي في ظل الشجرة ؟ فقال : ذاك محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب. فقال : هذا والله نبي ، وما استظل أحد تحتها بعد عيسى. فوقع في قلب أبي بكر اليقين والتصديق ، وكان لا يكاد يفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسفاره وحضره. فلما نبئ رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن أربعين سنة ، صدق أبو بكر رضى الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثمانية وثلاثين سنة. فلما بلغ أربعين سنة قال : {قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ} الآية. وقال الشعبي وابن زيد : الأشد الحلم. وقال الحسن : هو بلوغ الأربعين. وعنه قيام الحجة عليه. وقد مضى في "الأنعام" الكلام في الآية. وقال السدي والضحاك : نزلت في سعد بن أبي وقاص. وقد تقدم. وقال الحسن : هي مرسلة نزلت على العموم. والله أعلم.
السادسة : قوله تعالى : {قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي} أي ألهمني. {أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ} في موضع نصب على المصدر ، أي شكر نعمتك {عَلَيَّ} أي ما أنعمت به علي من الهداية {وَعَلَى وَالِدَيَّ} بالتحنن والشفقة حتى ربياني صغيرا. وقيل : أنعمت علي بالصحة والعافية وعلى والدي بالغنى والثروة. وقال علي رضي الله عنه : هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، أسلم أبواه جميعا ولم يجتمع لأحد من المهاجرين أن أسلم أبواه غيره ، فأوصاه الله بهما ولزم ذلك من بعده. ووالده هو قحافة عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم. وأمه
أم الخير ، واسمها سلمى بنت صخر بن عامر بن كعب بن سعد. وأم أبيه أبي قحافة "قيلة" "بالياء المعجمة باثنتين من تحتها" . وامرأة أبي بكر الصديق اسمها "قتيلة" "بالتاء المعجمة باثنتين من فوقها" بنت عبد العزى. {وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ } قال ابن عباس : فأجابه الله فأعتق تسعة من المؤمنين يعذبون في الله منهم بلال وعامر بن فهيرة ، ولم يدع شيئا من الخير إلا أعانه الله عليه. وفي الصحيح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من أصبح منكم اليوم صائما" ؟ قال أبو بكر أنا. قال : "فمن تبع منكم اليوم جنازة" ؟ قال أبو بكر أنا. قال : "فمن أطعم منكم اليوم مسكينا" ؟ قال أبو بكر أنا. قال : "فمن عاد منكم اليوم مريضا" ؟ قال أبو بكر أنا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة" .
السابعة : قوله تعالى : {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي} أي اجعل ذريتي صالحين. قال ابن عباس : فلم يبق له ولد ولا والد ولا والدة إلا امنوا بالله وحده. ولم يكن أحد من أصحاب رسول الله أسلم هو وأبواه وأولاده وبناته كلهم إلا أبو بكر. وقال سهل بن عبدالله : المعنى اجعلهم لي خلف صدق ، ولك عبيد حق. وقال أبو عثمان : اجعلهم أبرارا لي مطيعين لك. وقال ابن عطاء : وفقهم لصالح أعمال ترضى بها عنهم. وقال محمد بن علي : لا تجعل للشيطان والنفس والهوى عليهم سبيلا. وقال مالك بن مقول : اشتكى أبو معشر ابنه إلى طلحة بن مصرف ، فقال : استعن عليه بهذه الآية ، وتلا : {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} . {إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ} قال ابن عباس : رجعت عن الأمر الذي كنت عليه. {وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} أي المخلصين بالتوحيد.
الآية : 16 {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ}
قوله تعالى : {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ} قراءة العامة بضم الياء فيهما. وقرئ {يَتَقَبَّلُ} و {يَتَجَاوَزُ} بفتح الياء ، والضمير فيهما يرجع لله عز وجل. وقرأ حفص وحمزة والكسائي {نَتَقَبَّلُ ، وَنَتَجَاوَزُ } النون فيهما ، أي نغفرها ونصفح عنها. والتجاوز أصله من جزت الشيء إذا لم تقف عليه. وهذه الآية تدل على أن الآية التي قبلها {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ} إلى آخرها مرسلة نزلت على العموم. وهو قول الحسن. ومعنى {نتقبل عنهم} أي نتقبل منهم الحسنات ونتجاوز عن السيئات. قال زيد بن أسلم - ويحكيه مرفوعا - : إنهم إذا أسلموا قبلت حسناتهم وغفرت سيئاتهم. وقيل : الأحسن ما يقتضى الثواب من الطاعات ، وليس في الحسن المباح ثواب ولا عقاب ، حكاه ابن عيسى. {فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ} {في} بمعنى مع ، أي مع أصحاب الجنة ، تقول : أكرمك وأحسن إليك في جميع أهل البلد ، أي مع جميعهم. {وعد الصدق} نصب لأنه مصدر مؤكد لما قبله ، أي وعد الله أهل الإيمان أن يتقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم وعد الصدق. وهو من باب إضافة الشيء إلى نفسه ، لأن الصدق هو ذلك الوعد الذي وعده الله ، وهو كقوله تعالى : {حَقُّ الْيَقِينِ} [الواقعة : 95] . وهذا عند الكوفيين ، فأما عند البصريين فتقديره : وعد الكلام الصدق أو الكتاب الصدق ، فحذف الموصوف. وقد مضى هذا في غير موضع. {الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} في الدنيا على ألسنة الرسل ، وذلك الجنة.
الآية : 17 - 18 {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ ، أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ}
قوله تعالى : {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ} أي أن أبعث. {وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي} قراءة نافع وحفص وغيرهما {أُفٍّ} مكسور منون. وقرأ ابن كثير وابن محيصن وابن عامر والمفضل عن عاصم {أُفَّ} بالفتح من غير تنوين. الباقون بالكسر غير منون ، وكلها لغات ، وقد مضى في "بني إسرائيل" . وقراءة العامة {أَتَعِدَانِنِي} بنونين مخففتين. وفتح ياءه أهل المدينة ومكة. وأسكن الباقون. وقرأ أبو حيوة والمغيرة وهشام {أَتَعِدَانِّي} بنون واحدة مشددة ، وكذلك هي في مصاحف أهل الشام. والعامة على ضم الألف وفتح الراء من {أَنْ أُخْرَجَ} . وقرأ الحسن ونصر وأبو العالية والأعمش وأبو معمر بفتح الألف وضم الراء. قال ابن عباس والسدي وأبو العالية ومجاهد : نزلت في عبدالله بن أبي بكر رضي الله عنهما ، وكان يدعوه أبواه إلى الإسلام فيجيبهما بما أخبر الله عز وجل.
وقال قتادة والسدي أيضا : هو عبدالرحمن بن أبي بكر قبل إسلامه ، وكان أبوه وأمه أم رومان يدعوانه إلى الإسلام ويعدانه بالبعث ، فيرد عليهما بما حكاه الله عز وجل عنه ، وكان هذا منه قبل إسلامه. وروي أن عائشة رضي الله عنها أنكرت أن تكون نزلت في عبدالرحمن. وقال الحسن وقتادة أيضا : هي نعت عبد كافر عاق لوالديه. وقال الزجاج : كيف يقال نزلت في عبدالرحمن قبل إسلامه والله عز وجل يقول : {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ} أي العذاب ، ومن ضرورته عدم الإيمان ، وعبدالرحمن من أفاضل المؤمنين ، فالصحيح أنها نزلت في عبد كافر عاق لوالديه. وقال محمد بن زياد : كتب معاوية إلى مروان بن الحكم حتى يبايع الناس ليزيد ، فقال عبدالرحمن بن أبي بكر : لقد جئتم بها هرقلية ، أتبايعون لأبنائكم فقال مروان : هو الذي يقول الله فيه : {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا} الآية. فقال : والله ما هو به. ولو شئت لسميت ، ولكن الله لعن أباك وأنت في صلبه ، فأنت فضض من لعنة الله. قال المهدوي : ومن جعل الآية في عبدالرحمن كان قوله بعد ذلك أُولَئِكَ الَّذِينَ
حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ يراد به من اعتقد ما تقدم ذكره ، فأول الآية خاص وآخرها عام. وقيل إن عبدالرحمن لما قال : {وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي} قال مع ذلك : فأين عبدالله بن جدعان ، وأين عثمان بن عمرو ، وأين عامر بن كعب ومشايخ قريش حتى أسألهم عما يقولون. فقول : {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} يرجع إلى أولئك الأقوام.
قلت : قد مضى من خبر عبدالرحمن بن أبي بكر في سورة (الأنعام) عند قوله : {لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا} [الأنعام : 71] ما يدل على نزول هذه الآية فيه ، إذ كان كافرا وعند إسلامه وفضله تعين أنه ليس المراد بقوله : {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} . {وَهُمَا} يعني والديه. {وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ} أي يدعوان الله له بالهداية. أو يستغيثان بالله من كفره ، فلما حذف الجار وصل الفعل فنصب. وقيل : الاستغاثة الدعاء ، فلا حاجة إلى الباء. قال الفراء : أجاب الله دعاءه وغواثه. {وَيْلَكَ آمِنْ} أي صدق بالبعث. {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} أي صدق لا خلف فيه. {فَيَقُولُ مَا هَذَا} أي ما يقوله والداه. {إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} أي أحاديثهم وما سطروه مما لا أصل له. {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} يعني الذين أشار إليهم ابن أبي بكر في قوله أحيوا لي مشايخ قريش ، وهم المعنيون بقوله : {وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي} . فأما ابن أبي بكر عبدالله أو عبدالرحمن فقد أجاب الله فيه دعاء أبيه في قوله : {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي} [الأحقاف : 15] على ما تقدم. ومعنى : {حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} أي وجب عليهم العذاب ، وهي كلمة الله : "هؤلاء في الجنة ولا أبالي وهؤلاء في النار ولا أبالي" . {فِي أُمَمٍ} أي مع أمم {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ} تقدمت ومضت. {مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ} الكافرين {إِنَّهُمْ} أي تلك الأمم الكافرة {كَانُوا خَاسِرِينَ} لأعمالهم ، أي ضاع سعيهم وخسروا الجنة.
الآية : 19 {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ}
قوله تعالى : {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} أي ولكل واحد من الفريقين المؤمنين والكافرين من الجن والإنس مراتب عند الله يوم القيامة بأعمالهم. قال ابن زيد : درجات أهل النار في هذه الآية تذهب سفالا ، ودرج أهل الجنة علوا. {وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ} قرأ ابن كثير وابن محيصن وعاصم وأبو عمرو ويعقوب بالياء لذكر الله قبله ، وهو قوله تعالى : {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} واختاره أبو حاتم. الباقون بالنون ردا على قوله تعالى : {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ} وهو اختيار أبي عبيد. {وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} أي لا يزاد على مسيء ولا ينقص من محسن.
الآية : 20 {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ}
قوله تعالى : {وَيَوْمَ يُعْرَضُ} أي ذكرهم يا محمد يوم يعرض. {عَلَى النَّارِ} أي يكشف الغطاء فيقربون من النار وينظرون إليها. {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} أي يقال لهم أذهبتم ، فالقول مضمر. وقرأ الحسن ونصر وأبو العال ويعقوب وابن كثير {أأذهبتم} بهمزتين مخففتين ، واختاره أبو حاتم. وقرأ أبو حيوة وهشام {آذهبتم} بهمزة واحدة مطولة على الاستفهام. الباقون بهمزة واحدة من غير مد على الخبر ، وكلها لغات فصيحة ومعناها التوبيخ ، والعرب توبخ بالاستفهام وبغير الاستفهام ، وقد تقدم. واختار أبو عبيد ترك الاستفهام لأنه قراءة أكثر أئمة السبعة نافع وعاصم وأبي عمرو وحمزة والكسائي ، مع من وافقهم شيبة والزهري وابن محيصن والمغيرة بن أبي شهاب ويحيى بن الحارث والأعمش ويحيى بن وثاب وغيرهم ، فهذه عليها جلة الناس. وترك الاستفهام أحسن ، لأن إثباته يوهم أنهم لم يفعلوا ذلك ، كما تقول : أنا ظلمتك ؟ تريد أنا لم أظلمك. وإثباته حسن أيضا ، يقول القائل : ذهبت فعلت كذا ، يوبخ ويقول : أذهبت فعلت كل ذلك جائز. ومعنى
{أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ} أي تمتعتم بالطيبات في الدنيا واتبعتم الشهوات واللذات ، يعني المعاصي. {فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} أي عذاب الخزي والفضيحة. قال مجاهد : الهون الهوان. قتادة : بلغة قريش. {بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} أي تستعلون على أهلها بغير استحقاق. {وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ} في أفعالكم بغيا وظلما. وقيل : {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ} أي أفنيتم شبابكم في الكفر والمعاصي. قال ابن بحر : الطيبات الشباب والقوة ، مأخوذ من قولهم : ذهب أطيباه ، أي شبابه وقوته. قال الماوردي : ووجدت الضحاك قاله أيضا.
قلت : القول الأول أظهر ، روى الحسن عن الأحنف بن قيس أنه سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول : لأنا أعلم بخفض العيش ، ولو شئت لجعلت أكبادا وصلاء وصنابا وصلائق ، ولكني أستبقي حسناتي ، فإن الله عز وجل وصف أقواما فقال : {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} وقال أبو عبيد في حديث عمر : لو شئت لدعوت بصلائق وصناب وكراكر وأسنمة. وفي بعض الحديث : وأفلاذ. قال أبو عمرو وغيره : الصلاء (بالمد والكسر) : الشواء ، سمي بذلك لأنه يصلى بالنار. والصلاء أيضا : صلاء النار ، فإن فتحت الصاد قصرت وقلت : صلى النار. والصناب : الأصبغة المتخذة من الخردل والزبيب. قال أبو عمرو : ولهذا قيل للبرذون : صنابي ، وإنما شبه لونه بذلك. قال : والسلائق (بالسين "هو ما يسلق من البقول وغيرها. وقال غيره : هي الصلائق بالصاد ، قال جرير :"
تكلفني معيشة آل زيد ... ومن لي بالصلائق والصناب
والصلائق : الخبز الرقاق العريض. وقد مضى هذا المعنى في (الأعراف) . وأما الكراكر فكراكر الإبل ، واحدتها كركرة وهي معروفة ، هذا قول أبي عبيد.
وفي الصحاح : والكركرة رحى زور البعير ، وهي إحدى النفثات الخمس. والكركرة أيضا الجماعة من




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 41.92 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 41.29 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.50%)]