عرض مشاركة واحدة
  #686  
قديم 13-07-2025, 02:45 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,593
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (17)
سُورَةُ الواقعة
من صــ 221 الى صــ 230
الحلقة (686)



وهذا قول ابن عباس ومجاهد وغيرهما أن المزن السحاب. وعن ابن عباس أيضا والثوري : المزن السماء والسحاب. وفي الصحاح : أبو زيد : المزنة السحابة البيضاء والجمع مزن ، والمزنة المطرة ، قال :
ألم تر أن الله أنزل مزنة ... وعفر الظباء في الكناس تقمع
{أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ} أي فإذا عرفتم بأني أنزلته فلم لا تشكروني بإخلاص العبادة لي ؟ ولم تنكرون قدرتي على الإعادة ؟ . {لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً} أي ملحا شديد الملوحة ، قاله ابن عباس. الحسن : مرا قعاعا لا تنتفعون به في شرب ولا زرع ولا غيرهما . {فَلَوْلا تَشْكُرُونَ} أي فهلا تشكرون الذي صنع ذلك بكم.
قوله تعالى : {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ} أي أخبروني عن النار التي تظهرونها بالقدح من الشجر الرطب {أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا} يعني التي تكون منها الزناد وهي المرخ والعفار ، ومنه قولهم : في كل ش جر نار ، واستمجد المرخ والعفار ، أي استكثر منها ، كأنهما أخذا من النار ما هو حسبهما. ويقال : لأنهما يسرعان الوري. يقال : أوريت النار إذا قدحتها. وورى الزند يري إذا أنقدح منه النار. وفيه لغة أخرى : ووري الزند يري بالكسر فيهما. {أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ} أي المخترعون الخالقون ، أي فإذا عرفتم قدوتي فاشكروني ولا تنكروا قدرتي على البعث. {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً} يعني نار الدنيا موعظة للنار الكبرى ، قال قتادة. ومجاهد : تبصرة للناس من الظلام. وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "إن ناركم هذه التي يوقد بنو آدم جزء من سبعين جزءا من نار جهنم" فقالوا يا رسول الله : أن كانت لكافية ، قال : "فإنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءا كلهن مثل حرها" . {وَمَتَاعاً لِلْمُقْوِينَ} قال الضحاك : أي منفعة للمسافرين ، سموا بذلك لنزولهم القوى وهو القفر. الفراء : إنما يقال
للمسافرين : مقوين إذا نزلوا القي وهي الأرض القفر التي لا شيء فيها. وكذلك القوى والقواء بالمد والقصر ، ومنزل قواء لا أنيس به ، يقال : أقوت الدار وقويت أيضا أي خلت من سكانها ، قال النابغة :
يا دار مية بالعلياء فالسند ... أقوت وطال عليها سالف الأمد
وقال عنترة :
حييت من طلل تقادم عهده ... أقوى وأقفر بعد أم الهيثم
ويقال : أقوى أي قوي وقوي أصحابه ، وأقوى إذا سافر أي نزل القواء والقي. وقال مجاهد : {لِلْمُقْوِينَ} المستمتعين بها من الناس أجمعين في الطبخ والخبز والاصطلاء والاستضاءة ، ويتذكر بها نار جهنم فيستجار بالله منها. وقال ابن زيد : للجائعين في ، إصلاح طعامهم. يقال : أقويت منذ كذا وكذا ، أي ما أكلت شيئا ، وبات فلان القواء وبات القفر إذا بات جائعا على غير طعم ، قال الشاعر :
وإني لأختار القوى طاوي الحشى ... محافظة من أن يقال لئيم
وقال الربيع والسدي : {لِلْمُقْوِينَ} المنزلين الذين لا زناد معهم ، يعني نارا يوقدون فيختبزون بها ؟ ورواه العوفي عن ابن عباس. وقال قطرب : المقوي من الأضداد يكون بمعنى الفقير ويكون بمعنى الغني ، يقال : أقوى الرجل إذا لم يكن معه زاد ، وأقوى إذا قويت دوابه وكثر ماله. المهدوي : والآية تصلح للجميع ، لأن النار يحتاج إليها المسافر والمقيم والغني والفقير. وحكى الثعلبي أن أكثر المفسرين على القول الأول. القشيري : وخص المسافر بالانتفاع بها لأن انتفاعه بها أكثر من منفعة المقيم ، لأن أهل البادية لا بد لهم من النار يوقدونها ليلا لتهرب منهم السباع ، وفي كثير من حوائجهم. {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} أي فنزه الله عما أضافه إليه المشركون من الأنداد ، والعجز عن البعث.
الآية : [75] {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ}
الآية : [76] {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ}
الآية : [77] {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ}
الآية : [78] {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ}
الآية : [79] {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ}
الآية : [80] {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ}
فيه سبع مسائل :
الأولى- قوله تعالى : {فَلا أُقْسِمُ} {لا} صلة في قول أكثر المفسرين ، والمعنى فأقسم ، بدليل قوله : {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ} . وقال الفراء : هي نفي ، والمعنى ليس الأمر كما تقولون ، ثم استأنف {أُقْسِمُ} . وقد يقول الرجل : لا والله ما كان كذا فلا يريد به نفي اليمين ، بل يريد به نفي كلام تقدم. أي ليس الأمر كما ذكرت ، بل هو كذا. وقيل : {لا} بمعنى إلا للتنبيه كما قال :
ألا عم صباحا أيها الطلل البالي
ونبه بهذا على فضيلة القرآن ليتدبروه ، وأنه ليس بشعر ولا سحر ولا كهانة كما زعموا. وقرأ الحسن وحميد وعيسى بن عمر {فَلأُقْسِمُ} بغير ألف بعد اللام على التحقيق وهو فعل حال ويقدر مبتدأ محذوف ، التقدير : فلأنا أقسم بذلك. ولو أريد به الاستقبال للزمت النون ، وقد جاء حذف النون مع الفعل الذي يراد به الاستقبال وهو شاذ.
الثانية- قوله تعالى : {بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} مواقع النجوم مساقطها ومغاربها في قول قتادة وغيره. عطاء بن أبي رباح : منازلها. الحسن : انكدارها وانتثارها يوم القيامة. الضحاك : هي الأنواء التي كان أهل الجاهلية يقولون إذا مطروا قالوا مطرنا بنوء كذا. الماوردي : ويكون قوله تعالى : {فَلا أُقْسِمُ} مستعملا على حقيقته من نفي القسم. القشيري : هو قسم ، ولله تعالى أن يقسم بما يريد ، وليس لنا أن نقسم بغير الله تعالى وصفاته القديمة.
قلت : يدل على هذا قراءة الحسن {فَلأُقْسِمُ} وما أقسم به سبحانه من مخلوقاته في غير موضع من كتابه. وقال ابن عباس : المراد بمواقع النجوم نزول القرآن نجوما ، أنزله الله تعالى من اللوح المحفوظ من السماء العليا إلى السفرة الكاتبين ، فنجمه السفرة على جبريل عشرين ليلة ، ونجمه جبريل على محمد عليهما الصلاة والسلام عشرين سنة ، فهو ينزل على الأحداث من أمته ، حكاه الماوردي عن ابن عباس والسدي. وقال أبو بكر الأنباري : حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي حدثنا حجاج بن المنهال حدثنا همام عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : نزل القرآن إلى سماء الدنيا جملة واحدة ، ثم نزل إلى الأرضى نجوما ، وفرق بعد ذلك خمس آيات خمس آيات وأقل وأكثر ، فذلك قول الله تعالى : {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ. وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ. إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} وحكى الفراء عن ابن مسعود أن مواقع النجوم هو محكم القرآن. وقرأ حمزة والكسائي {بِمَوْقِعِ} على التوحيد ، وهي قراءة عبدالله بن مسعود والنخعي والأعمش وابن محيصن ورويس عن يعقوب. الباقون على الجمع فمن أفرد فلأنه اسم جنس يؤدي الواحد فيه عن الجمع ، ومن جمع فلاختلاف أنواعه.
الثالثة- قوله تعالى : {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} قيل : إن الهاء تعود على القرآن ، أي إن القرآن لقسم عظيم ، قال ابن عباس وغيره. وقيل : ما أقسم الله به عظيم {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} ذكر المقسم عليه ، أي أقسم بمواقع النجوم إن هذا القرآن قرآن كريم ، ليس بسحر ولا كهانة ، وليس بمفترى ، بل هو قرآن كريم محمود ، جعله الله تعالى معجزة لنبيه صلى الله عليه وسلم ، وهو كريم على المؤمنين ، لأنه كلام ربهم ، وشفاء صدورهم ، كريم على أهل السماء ، لأنه تنزيل ربهم ووحيه. وقيل : {كَرِيمٌ} أي غير مخلوق. وقيل : {كَرِيمٌ} لما فيه من كريم الأخلاق ومعاني الأمور. وقيل : لأنه يكرم حافظه ، ويعظم قارئه.
الرابعة- قوله تعالى : {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} مصون عند الله تعالى. وقيل : مكنون محفوظ عن الباطل. والكتاب هنا كتاب في السماء ، قال ابن عباس. وقال جابر بن زيد وابن عباس أيضا : هو اللوح المحفوظ. عكرمة : التوراة والإنجيل فيهما ذكر
القرآن ومن ينزل عليه. السدي : الزبور. مجاهد وقتادة : هو المصحف الذي في أيدينا.
الخامسة- قوله تعالى : {لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} اختلف في معنى {لا يَمَسُّهُ} هل هو حقيقة في المس بالجارحة أو معنى ؟ وكذلك اختلف في {الْمُطَهَّرُونَ} من هم ؟ فقال أنس وسعيد وابن جبير : لا يمس ذلك الكتاب إلا المطهرون من الذنوب وهم الملائكة. وكذا قال أبو العالية وابن زيد : إنهم الذين طهروا من الذنوب كالرسل من الملائكة والرسل من بني آدم ، فجبريل النازل به مطهر ، والرسل الذين يجيئهم بذلك مطهرون. الكلبي : هم السفرة الكرام البررة. وهذا كله قول واحد ، وهو نحو ما اختاره مالك حيث قال : أحسن ما سمعت في قوله {لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} أنها بمنزلة الآية التي في {عَبَسَ وَتَوَلَّى} : {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ. فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ. مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ. بِأَيْدِي سَفَرَةٍ. كِرَامٍ بَرَرَةٍ} يريد أن المطهرين هم الملائكة الذين وصفوا بالطهارة في سورة {عبس} . وقيل : معنى {لا يَمَسُّهُ} لا ينزل به {إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} أي الرسل من الملائكة على الرسل من الأنبياء. وقيل : لا يمس اللوح المحفوظ الذي هو الكتاب المكنون إلا الملائكة المطهرون. وقيل : إن إسرافيل هو الموكل بذلك ، حكاه القشيري. ابن العربي : وهذا باطل لأن الملائكة لا تناله في وقت ولا تصل إليه بحال ، ولو كان المراد به ذلك لما كان للاستثناء فيه مجال. وأما من قال : إنه الذي بأيدي الملائكة في الصحف فهو قول محتمل ، وهو اختيار مالك. وقيل : المراد بالكتاب المصحف الذي بأيدينا ، وهو الأظهر. وقد روى مالك وغيره أن كتاب عمرو بن حزم الذي كتبه له رسول الله صلى الله عليه وسلم ونسخته : "من محمد النبي إلى شرحبيل بن عبد كلال والحارث بن عبد كلال ونعيم بن عبد كلال قيل ذي رعين ومعافر وهمدان أما بعد" وكان في كتابه : "ألا يمس القرآن إلا طاهر" . وقال ابن عمر : قال النبي صلى الله عليه وسلم : "لا تمس القرآن إلا وأنت طاهر" . وقالت أخت عمر لعمر عند إسلامه وقد دخل عليها ودعا بالصحيفة : لا يَمَسُّهُ
إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ فقام واغتسل وأسلم. وقد مضى في أول سورة {طه} .وعلى هذا المعنى قال قتادة وغيره : {لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} من الأحداث والأنجاس. الكلبي : من الشرك. الربيع بن أنس : من الذنوب والخطايا. وقيل : معنى {لا يَمَسُّهُ} لا يقرؤه {إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} إلا الموحدون ، قاله محمد بن فضيل وعبدة. قال عكرمة : كان ابن عباس ينهي أن يمكن أحد من اليهود والنصارى من قراءة القرآن وقال الفراء : لا يجد طعمه ونفعه وبركته إلا المطهرون ، أي المؤمنون بالقرآن. ابن العربي : وهو اختيار البخاري ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : "ذاق طعم الإيمان من رضي بالله وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا" . وقال الحسين بن الفضل : لا يعرف تفسيره وتأويله إلا من طهره الله من الشرك والنفاق. وقال أبو بكر الوراق : لا يوفق للعمل به إلا السعداء. وقيل : المعنى لا يمس ثوابه إلا المؤمنون. ورواه معاذ عن النبي صلى الله عليه وسلم. ثم قيل : ظاهر الآية خبر عن الشرع ، أي لا يمسه إلا المطهرون شرعا ، فإن وجد خلاف ذلك فهو غير الشرع ، وهذا اختيار القاضي أبي بكر بن العربي. وأبطل أن يكون لفظه لفظ الخبر ومعناه الأمر. وقد مضى هذا المعنى في سورة {البقرة} . المهدوي : يجوز أن يكون أمرا وتكون ضمة السين ضمة إعراب. ويجوز أن يكون نهيا وتكون ضمة بناء السين ضمة بناء والفعل مجزوم.
السادسة- واختلف العلماء في مس المصحف على غير وضوء ، فالجمهور على المنع من مسه لحديث عمرو بن حزم. وهو مذهب علي وابن مسعود وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وعطاء والزهري والنخعي والحكم وحماد ، وجماعة من الفقهاء منهم مالك والشافعي. واختلفت الرواية عن أبي حنيفة ، فروي عنه أنه يمسه المحدث ، وقد روي هذا عن جماعة من السلف منهم ابن عباس والشعبي وغيرهما. وروي عنه أنه يمس ظاهره وحواشيه وما لا مكتوب فيه ، وأما الكتاب فلا يمسه إلا طاهر. ابن العربي : وهذا إن سلمه مما يقوي الحجة عليه ، لأن حريم الممنوع ممنوع. وفيما كتبه النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو
بن حزم أقوى دليل عليه. وقال مالك : لا يحمله غير طاهر بملاقة ولا على وسادة. وقال أبو حنيفة : لا بأس بذلك. ولم يمنع من حمله بعلاقة أو مسه بحائل. وقد روي عن الحكم وحماد وداود بن علي أنه لا بأس بحمله ومسه للمسلم والكافر طاهرا أو محدثا ، إلا أن داود قال : لا يجوز للمشرك حمله. واحتجوا في إباحة ذلك بكتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى قيصر ، وهو موضع ضرورة فلا حجة فيه. وفي مس الصبيان إياه على وجهين : أحدهما المنع اعتبارا بالبالغ. والثاني الجواز ، لأنه لو منع لم يحفظ القرآن ، لأن تعلمه حال الصغر ، ولأن الصبي وإن كانت له طهارة إلا أنها ليست بكاملة ، لأن النية لا تصح منه ، فإذا جاز أن يحمله على غير طهارة كاملة جاز أن يحمله محدثا.
{تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي منزل ، كقولهم : ضرب الأمير ونسج اليمن. وقيل : {تَنْزِيلُ} صفة لقوله تعالى : {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} . وقيل : أي هو تنزيل.
الآية : [81] {أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ}
الآية : [82] {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ}
الآية : [83] {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ}
الآية : [84] {وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ}
الآية : [85] {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ}
الآية : [86] {فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ}
الآية : [87] {تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}
قوله تعالى : {أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ} يعني القرآن {أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ} أي مكذبون ، قال ابن عباس وعطاء وغيرهما. والمدهن الذي ظاهره خلاف باطنه ، كأنه شبه بالدهن في سهولة ظاهر. وقال مقاتل بن سليمان وقتادة : مدهنون كافرون ، نظيره : {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} وقال المؤرج : المدهن المنافق أو الكافر الذي يلين جانبه ليخفي كفره ،
والإدهان والمداهنة التكذيب والكفر النفاق ، وأصله اللين ، وأن يسر خلاف ما يظهر ، وقال أبو قيس بن الأسلت :
الحزم والقوة خير من ... الإدهان والفهة والهاع
وأدهن وداهن واحد. وقال قوم : داهنت بمعنى واريت وأدهنت بمعنى غششت. وقال الضحاك : {مُدْهِنُونَ} معرضون. مجاهد : ممالئون الكفار على الكفر به. ابن كيسان : المدهن الذي لا يعقل ما حق الله عليه ويدفعه بالعلل. وقال بعض اللغويين : مدهنون تاركون للجزم في قبول القرآن.
قوله تعالى : {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} قال ابن عباس : تجعلون شكركم التكذيب. وذكر الهيثم بن عدي : أن من لغة أزد شنوءة ما رزق فلان ؟ أي ما شكره. وإنما صلح أن يوضع اسم الرزق مكان شكره ، لأن شكر الرزق يقتضي الزيادة فيه فيكون الشكر رزقا على هذا المعنى. فقيل : {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ} أي شكر رزقكم الذي لو وجد منكم لعاد رزقا لكم {أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} بالرزق أن تضعوا الرزق مكان الشكر ، كقوله تعالى : {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} أي لم يكونوا يصلون ولكنهم كانوا يصفرون ويصفقون مكان الصلاة. ففيه بيان أن ما أصاب العباد من خير فلا ينبغي أن يروه من قبل الوسائط التي جرت العادة بأن تكن أسباب ، بل ينبغي أن يروه من قبل الله تعالى ، ثم يقابلونه بشكر إن كان نعمة ، أو صبر إن كان مكروها تعبدا له وتذللا. وروي عن علي بن أبي طالب رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسم قرأ {وَتَجْعَلُونَ شُكْرَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} حقيقة. وعن ابن عباس أيضا : أن المراد به الاستسقاء بالأنواء ، وهو قول العرب : مطرنا بنوء كذا ، رواه علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله لعليه وسلم. وفي صحيح مسلم عن ابن عباس قال : مطر الناس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "أصبح من الناس شاكر ومنهم كافر قالوا"
هذه رحمة الله وقال بعضهم لقد صدق نوء كذا وكذا ، قال : فنزلت هذه الآية : {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} - حتى بلغ- {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} .وعنه أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في سفر فعطشوا فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "أرأيتم أن دعوت الله لكم فسقيتم لعلكم تقولون هذا المطر بنوء كذا" فقالوا يا رسول الله ما هذا بحين الأنواء. فصلى ركعتين ودعا ربه فهاجت ريح ثم هاجت سحابة فمطروا ، فمر النبي صلى الله عليه وسلم ومعه عصابة من أصحابه برجل يغترف بقدح له وهو يقول سقينا بنوء كذا ، ولم يقل هذا من رزق الله فنزلت : {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} أي شكركم لله على رزقه إياكم {أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} بالنعمة وتقولون سقينا بنوء كذا ، كقولك : جعلت إحساني إليك إساءة منك إلي ، وجعلت إنعامي لديك أن اتخذتني عدوا. وفي الموطأ عن زيد بن خالد الجهني أنه قال : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحدبية على إثر سماء كانت من الليل ، فلما أنصرف أقبل على الناس وقال : "أتدرون ماذا قال ربكم" قالوا : الله ورسول أعلم ، قال : "أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بالكوكب فأما من مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب وأما من قال مطرنا بنوء كذا فذلك بالكوكب كافر بي" . قال الشافعي رحمه الله : لا أحب أحدا أن يقول مطرنا بنوء كذا وكذا ، وإن كان النوء عندنا الوقت المخلوق لا يضر ولا ينفع ، ولا يمطر ولا يحبس شيئا من المطر ، والذي أحب أن يقول : مطرنا وقت كذا كما تقول مطرنا شهر كذا ، ومن قال : مطرنا بنوء كذا ، وهو يريد أن النوء أنزل الماء ، كما عني بعض ، أهل الشرك من الجاهلية بقوله فهو كافر ، حلال دمه إن لم يتب. وقال أبو عمر بن عبدالبر : وأما قوله عليه الصلاة والسلام حاكيا عن اله سبحانه : "أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر" فمعناه عندي على وجهين : أما أحدهما فإن المعتقد بأن النوء هو الموجب لنزول الماء ، وهو المنشئ للسحاب دون الله عز وجل فذلك كافر كفرا صريحا يجب استتابته عليه وقتله إن أبى لنبذه الإسلام ورده القرآن. والوجه الآخر أن
يعتقد أن النوء ينزل الله به الماء ، وأنه سبب الماء على ما قدره الله وسبق في علمه ، وهذا وإن كان وجها مباحا ، فإن فيه أيضا كفرا بنعمة الله عز وجل ، وجهلا بلطيف حكمته في أنه ينزل الماء متى شاء ، مرة بنوء كذا ، ومرة بنوء كذا ، وكثيرا ما ينوء النوء فلا ينزل معه شيء من الماء ، وذلك من الله تعالى لا من النوء. وكذلك كان أبو هريرة يقول إذا أصبح وقد مطر : مطرنا بنوء الفتح ، ثم يتلو : {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا } قال أبو عمر : وهذا عندي نحو قول وسول الله صلى الله عليه وسلم : "مطرنا بفضل الله ورحمته" . ومن هذا الباب قول عمر بن الخطاب للعباس بن عبدالمطلب حين استسقى به : يا عم رسول الله صلى الله عليه وسلم كم بقي من نوء الثريا ؟ فقال العباس : العلماء يزعمون أنها تعترض في الأفق سبعا بعد سقوطها. فما مضت سابعة حتى مطروا ، فقال عمر : الحمد لله هذا بفضل الله ورحمته. وكان عمر رحمه الله قد علم أن نوء الثريا وقت يرجى فيه المطر ويؤمل فسأله عنه أخرج أم بقيت منه بغية ؟ وروى سفيان بن عيينة عن إسماعيل بن أمية أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلا في بعض أسفاره يقول : مطرنا ببعض عثانين الأسد ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "كذبت بل هو سقيا الله عز وجل" قال سفيان : عثانين الأسد الذراع والجبهة. وقراءة العامة {تُكَذِّبُونَ} من التكذيب. وقرأ المفضل عن عاصم ويحيى بن وثاب {تُكَذِّبُونَ} بفتح التاء مخففا. ومعناه ما قدمناه من قول من قال : مطرنا بنوء كذا. وثبت من حديث أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ثلاث لن يزلن في أمتي التفاخر في الأحساب والنياحة والأنواء" ولفظ مسلم في هذا "أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن الفخر في الأحساب والطعن في الأنساب والاستسقاء بالنجوم والنياحة" .
قوله تعالى : {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} أي فهلا إذا بلغت النفس أو الروح الحلقوم. ولم يتقدم لها ذكر ، لأن المعنى معروف ، قال حاتم.
أماوي ما يغني الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 41.23 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 40.60 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.52%)]