
13-07-2025, 02:51 AM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,689
الدولة :
|
|
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى

تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (17)
سُورَةُ الحديد
من صــ 241 الى صــ 250
الحلقة (688)
الرابعة- التقدم والتأخر قد يكون في أحكام الدنيا ، فأما في أحكام الدين فقد قالت عائشة رضي الله عنها : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننزل الناس منازلهم. وأعظم المنازل مرتبة الصلاة. وقد قال صلى الله عليه وسلم في مرضه : "مروا أبا بكر فليصل بالناس" الحديث. وقال : "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله" وقال : "وليؤمكما أكبركما" من حديث مالك بن الحويرث وقد قدم. وفهم منه البخاري وغيره من العلماء أنه أراد كبر المنزلة ، كما قال صلى الله عليه وسلم : "الولاء للكبر" ولم يعن كبر السن. وقد قال مالك وغيره : إن للسن حقا. وراعاه الشافعي وأبو حنيفة وهو أحق بالمراعاة ، لأنه إذا اجتمع العلماء والسن في خيرين قدم العلم ، وأما أحكام الدنيا فهي مرتبة على أحكام الدين ، فمن قدم في الدين قدم في الدنيا. وفي الآثار : "ليس منا من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا وحرف لعالمنا حقه" . ومن الحديث الثابت في الأفراد : "ما أكرم شاب شيخا لسنه إلا قيض الله له عند سنه من يكرمه" . وأنشدوا :
يا عائبا للشيوخ من أشر ... داخله في الصبا ومن بذخ
اذكر إذا شئت أن تعيرهم ... جدك واذكر أباك يا ابن أخ
وأعلم بأن الشباب منسلخ ... عنك وما وزره بمنسلخ
من لا يعز الشيوخ لا بلغت ... يوما به سنه إلى الشيخ
الخامسة- قوله تعالى : {وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} أي المتقدمون المتناهون السابقون ، والمتأخرون اللاحقون ، وعدهم الله جميعا الجنة مع تفاوت الدرجات. وقرأ ابن عامر {وَكُلٌّ} بالرفع ، وكذلك هو بالرفع في مصاحف أهل الشام. الباقون {وَكُلّاً} بالنصب على ما في مصافحهم ، فمن نصب فعلى إيقاع الفعل عليه أي وعد الله كلا الحسنى. ومن رفع فلأن المفعول إذا تقدم ضعف عمل الفعل ، والهاء محذوفة من وعده.
الآية : [11] {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ}
الآية : [12] {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}
قوله تعالى : {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} ندب إلى الإنفاق في سبيل الله. وقد مضى في {البقرة} القول فيه. والعرب تقول لكل من فعل فعلا حسنا : قد أقرض ، كما قال :
وإذا جوزيت قرضا فاجزه ... إنما يجزي الفتى ليس الجمل
وسمي قرضا ، لأن القرض أخرج لاسترداد البدل. أي من ذا الذي ينفق في سبيل الله حتى يبدل الله بالأضعاف الكثيرة. قال الكلبي : {قَرْضاً} أي صدقة {حَسَناً} أي محتسبا من قلبه بلا من ولا أذى. {فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} ما بين السبع إلى سبعمائة إلى ما شاء الله من الأضعاف. وقيل : القرض الحسن هو أن يقول سبحان الله والحمد الله ولا إله إلا الله والله أكبر ، رواه سفيان عن أبي حيان. وقال زيد بن أسلم : هو النفقة على الأهل. الحسن : التطوع بالعبادات. وقيل : إنه عمل الخير ، والعرب تقول : لي عند فلان قرض صدق وقرض سوء. القشيري : والقرض الحسن أن يكون المتصدق صادق النية طيب النفس ، يبتغي به وجه الله دون الرياء والسمعة ، وأن يكون من الحلال. ومن القرض الحسن ألا يقصد إلى الرديء فيخرجه ، لقوله تعالى : {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ}
وأن يتصدق في حال يأمل الحياة ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن أفضل الصدقة فقال : "أن تعطيه وأنت صحيح شحيح تأمل العيش ولا تمهل حتى إذا بلغت التراقي قلت لفلان كذا ولفلان كذا" وأن يخفي صدقته ، لقوله تعالى : {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} وألا يمن ، لقوله تعالى : {لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى} وأن يستحقر كثير ما يعطي ، لأن الدنيا كلها قليلة ، وأن يكون من أحب أموال ، لقوله تعالى : {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وأن يكون كثيرا ، لقوله صلى الله عليه وسلم : "أفضل الرقاب أغلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها" . {فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} وقرأ ابن كثير وابن عامر {فَيُضَعِّفَهُ} بإسقاط الألف إلا ابن عامر ويعقوب نصبوا الفاء. وقرأ نافع وأهل الكوفة والبصرة {فَيُضَاعِفَهُ} بالألف وتخفيف العين إلا أن عاصما نصب الفاء. ورفع الباقون عطفا على {يُقْرِضُ} . وبالنصب جوابا على الاستفهام. وقد مضى في {البقرة} القول في هذا مستوفى. {وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} يعني الجنة.
قوله تعالى : {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} العامل في {يَوْمَ} {وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} ، وفي الكلام حذف أي {وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} في {يَوْمَ تَرَى} فيه {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ} أي يمضى على الصراط في قول الحسن ، وهو الضياء الذي يمرون فيه {بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} أي قدامهم. {وَبِأَيْمَانِهِمْ} قال الفراء : الباء بمعنى في ، أي في أيمانهم. أو بمعنى عن أي عن أيمانهم. وقال الضحاك : {نُورُهُمْ} هداهم {وَبِأَيْمَانِهِمْ} كتبهم ، واختاره الطبري. أي يسعى إيمانهم وعملهم الصالح بين أيديهم ، وفي أيمانهم كتب أعمالهم. فالباء على هذا بمعنى في. ويجوز على هذا أن يوقف على {بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} ولا يوقف إذا كانت بمعنى عن. وقرأ سهل بن سعد الساعدي وأبو حيوة {وَبِأَيْمَانِهِمْ} بكسر الألف ، أراد الإيمان الذي هو ضد الكفر
وعطف ما ليس بظرف على الظرف ، لأن معنى الظرف الحال وهو متعلق بمحذوف. والمعنى يسعى كامنا {بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} وكائنا {بِأَيْمَانِهِمْ} ، وليس قوله : {بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} متعلقا بنفس {يَسْعَى} . وقيل : أراد بالنور القرآن. وعن ابن مسعود : يؤتون نورهم على قدر أعمالهم ، فمنهم من يؤتى نوره كالنخلة ، ومنهم من يؤتى نوره كالرجل القائم ، وأدناهم نورا من نوره على إبهام رجله فيطفأ مرة ويوقد أخرى. وقال قتادة : ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن من المؤمنين من يضيء نوره كما بين المدينة وعدن أو ما بين المدينة وصنعاء ودون ذلك حتى يكون منهم من لا يضيء نوره إلا موضع قدميه" قال الحسن : ليستضيؤوا به على الصراط كما تقدم. وقال مقاتل : ليكون دليلا لهم إلى الجنة. والله أعلم.
قوله تعالى : {بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} التقدير يقال لهم : {بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ} دخول جنات. ولا بد من تقدير حذف المضاف ، لأن البشرى حدث ، والجنة عين فلا تكون هي هي. {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} أي من تحتهم أنهار اللبن والماء والخمر والعسل من تحت مساكنها. {خَالِدِينَ فِيهَا} حال من الدخول المحذوف ، التقدير {بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ} دخول جنات {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} مقدرين الخلود فيها ولا تكون الحال من بشراكم ، لأن فيه فصلا بين الصلة والموصول. ويجوز أن يكون مما دل عليه البشرى ، كأنه قال : تبشرون خالدين. ويجوز أن يكون الظرف الذي هو {الْيَوْمَ} خبرا عن {بُشْرَاكُمُ} و {جَنَّاتٌ} به لا من البشرى على تقدير حذف المضاف كما تقدم. و {خَالِدِينَ} حال حسب ما تقدم. وأجاز الفراء نصب {جَنَّات} على الحال على أن يكون {اليوم} خبرا عن {بُشْرَاكُمُ} وهو بعيد ، إذ ليس في {جنات} معنى الفعل. وأجاز أن يكون {بُشْرَاكُمُ} نصبا على معنى يبشرونهم بشرى وينصب {جنات} بالبشرى وفيه تفرقة بين الصلة والموصول.
الآية : [13] {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ}
الآية : [14] {يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ}
الآية : [15] {فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}
قوله تعالى : {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ} العامل في {يَوْمَ} {ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} . وقيل : هو به له من اليوم الأول. {نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} قراءة العامة بوصل الألف مضمومة الظاء من نظر ، والنظر الانتظار أي انتظرونا. وقرأ الأعمش وحمزة ويحيى بن وثاب {انْظُرُونَا } بقطع الألف وكسر الظاء من الإنظار. أي أمهلونا وأخرونا ، أنظرته أخرته ، واستنظرته أي استمهلته. وقال الفراء : تقول العرب : أنظرني أنتظرني ، وأنشد لعمرو بن كلثوم :
أبا هند فلا تعجل علينا ... وأنظرنا نخبرك اليقينا
أي انتظرنا. {نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} أي نستضيء من نوركم. قال ابن عباس وأبو أمامة : يغشى الناس يوم القيامة ظلمة - قال الماوردي : أظنها بعد فصل القضاء - ثم يعطون نورا يمشون فيه. قال المفسرون : يعطي الله المؤمنين نورا يوم القيامة على قدر أعمالهم يمشون به على الصراط ، ويعطي المنافقين أيضا نورا خديعة لهم ، دليله قوله تعالى : {وَهُوَ خَادِعُهُمْ} وقيل : إنما يعطون النور ، لأن جميعهم أهل دعوة دون الكافر ، ثم يسلب المنافق نوره لنفاقه ، قال ابن عباس. وقال أبو أمامة : يعطى المؤمن النور ويترك الكافر والمنافق بلا نور. وقال الكلبي : بل يستضيء المنافقون بنور المؤمنين ولا يعطون النور ، فبينما هم يمشون
إذ بعث الله فيهم ريحا وظلمة فأطفأ بذلك نور المنافقين ، فذلك قوله تعالى : {رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا} يقول المؤمنون ، خشية أن يسلبوه كما سلبه المنافقون ، فإذا بقي المنافقون في الظلمة لا يبصرون مواضع أقدامهم قالوا للمؤمنين : {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} . {ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ} أي قالت لهم الملائكة {ارْجِعُوا} . وقيل : بل هو قول المؤمنين لهم {ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ} إلى الموضع الذي أخذنا منه النور فاطلبوا هنالك لأنفسكم نورا فإنكم لا تقتبسون من نورنا. فلما رجعوا وانعزلوا في طلب النور {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ} وقيل : أي هلا طلبتم النور من الدنيا بأن تؤمنوا. {بِسُورٍ} أي سور ، والباء صلة. قال الكسائي. والسور حاجز بين الجنة والنار. وروي أن ذلك السور ببيت المقدس عند موضع يعرف بوادي جهنم. {بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ} يعني ما يلي منه المؤمنين {وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} يعني ما يلي المنافقين. قال كعب الأحبار : هو الباء الذي ببيت المقدس المعروف بباب الرحمة. وقال عبدالله بن عمرو : إنه سور بيت المقدس الشرقي باطنه فيه المسجد {وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} يعني جهنم. ونحوه عن ابن عباس. وقال زياد بن أبي سوادة : قام عبادة بن الصامت على سور بيت المقدس الشرقي فبكى ، وقال : من ها هنا أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى جهنم. وقال قتادة : هو حائط بين الجنة والنار {بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ} يعني الجنة { وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} يعني جهنم. وقال مجاهد : إنه حجاب كما في {الأعراف} وقد مضى القول فيه. وقد قل : إن الرحمة التي في باطنه نور المؤمنين ، والعذاب الذي في ظاهره ظلمة المنافقين.
قوله تعالى : {يُنَادُونَهُمْ} أي ينادي المنافقون المؤمنين {أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ} في الدنيا يعني نصلي مثل ما تصلون ، ونغزو مثل ما تغزون ، ونفعل مثل ، ما تفعلون {قَالُوا بَلَى} أي يقول المؤمنون {بَلَى} قد كنتم معنا في الظاهر {وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ} أي استعملتموها في الفتنة. وقال مجاهد : أهلكتموها بالنفاق. وقيل : بالمعاصي ، قاله أبو سنان. وقيل : بالشهوات واللذات ،
رواه أبو نمير الهمداني. {وَتَرَبَّصْتُمْ} أي {وَتَرَبَّصْتُمْ} بالنبي صلى الله عليه وسلم الموت ، وبالمؤمنين الدوائر. وقيل : {وَتَرَبَّصْتُمْ} بالتوبة {وَارْتَبْتُمْ} أي شككتم في التوحيد والنبوة {وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ} أي الأباطيل. وقيل : طول الأمل. وقيل : هو ما كانوا يتمنونه من ضعف المؤمنين ونزول الدوائر بهم. وقال قتادة : الأماني هنا خدع الشيطان. وقيل : الدنيا ، قال عبدالله بن عباس. وقال أبو سنان : هو قولهم سيغفر لنا. وقال بلال بن سعد : ذكرك حسناتك ونسيانك سيئاتك غرة. {حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ} يعني الموت. وقيل : نصرة نبيه صلى الله عليه وسلم. وقال قتادة : إلقاؤهم في النار. {وَغَرَّكُمْ} أي خدعكم {بِاللَّهِ الْغَرُورُ} أي الشيطان ، قاله عكرمة. وقيل : الدنيا ، قاله الضحاك. وقال بعض العلماء : إن للباقي بالماضي معتبرا ، وللآخر بالأول مزدجرا ، والسعيد من لا يغتر بالطمع ، ولا يركن إلى الخدع ، ومن ذكر المنية نسي الأمنية ، ومن أطال الأمل نسي العمل ، وغفل عن الأجل. وجاء {الْغَرُورُ} على لفظ المبالغة للكثرة. وقرأ أبو حيوة ومحمد بن السميقع وسماك بن حرب {الْغُرُورُ} بضم الغين يعني الأباطيل وهو مصدر. وعن ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وسلم خط لنا خطوطا ، وخط منها خطا ناحية فقال : "أتدرون ما هذا هذا مثل ابن آدم ومثل التمني وتلك الخطوط الآمال بينما هو متمنى إذ جاءه الموت" . وعن ابن مسعود قال : خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا مربعا ، وخط وسطه خطا وجعله خارجا منه ، وخط عن يمينه ويساره خطوطا صغارا فقال : "هذا ابن آدم وهذا أجله محيط به وهذا أمله قد جاوز أجله وهذه الخطوط الصغار الأعراض فإن أخطأه هذا نهشه هذا وإن أخطأه هذا نهشه هذا" .
قوله تعالى : {فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ} أيها المنافقون {وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} أيأسهم من النجاة. وقراءة العامة {يُؤْخَذُ} بالياء ، لأن التأنيث غير. حقيقي ، ولأنه قد فصل بينها وبين الفعل. وقرأ ابن عامر ومعقوب {تُؤْخَذُ} بالتاء واختاره أبو حاتم لتأنيث الفدية. والأول
اختيار أبي عبيد ، أي لا يقبل منكم بدل ولا عوض ولا نفس أخرى . {مَأْوَاكُمُ النَّارُ} أي مقامكم ومنزلكم {هِيَ مَوْلاكُمْ} أي أولى بكم ، والمولى من يتولى مصالح الإنسان ، ثم استعمل فيمن كان ملازما للشيء. وقيل : أي النار تملك أمرهم ، بمعنى أن الله تبارك وتعالى يركب فيها الحياة والعقل فهي تتميز غيظا على الكفار ، ولهذا خوطبت في قوله تعالى : {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} أي ساءت مرجعا ومصيرا.
الآية : [16] {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}
الآية : [17] {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}
قوله تعالى : {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا} أي يقرب ويحين ، قال الشاعر :
ألم يأن لي يا قلب أن أترك الجهلا ... وأن يحدث الشيب المبين لنا عقلا
وماضيه أنى بالقصر يأنى. ويقال : آن لك - بالمد - أن تفعل كذا يئين أينا أي حان ، مثل أنى لك وهو مقلوب منه. وأنشد ابن السكيت :
ألما يئن لي تجلى عمايتي ... وأقصر عن ليلى بلى قد أنى ليا
فجمع بين اللغتين. وقرأ الحسن {ألمَََّاَ يَأْنِ} وأصلها {أَلَمْ} زيدت {مَا} فهي نفي لقول القائل : قد كان كذا ، و "لم" نفي لقوله : كان كذا. وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود قال : ما كنا بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} إلا أربع سنين. قال الخليل : العتاب مخاطبة الإدلال ومذاكرة الموجدة ، تقول عاتبته معاتبة {أَنْ تَخْشَعَ} أي تذل وتلين {قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ}
روي أن المزاح والضحك كثر في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لما ترفهوا بالمدينة ، فنزلت الآية ، ولما نزلت هذه الآية قال صلى الله عليه وسلم : "إن الله يستبطئكم بالخشوع" فقالوا عند ذلك : خشعنا. وقال ابن عباس : إن الله استبطأ قلوب المؤمنين ، فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن. وقيل : نزلت في المنافقين بعد الهجرة بسنة. وذلك أنهم سألوا سلمان أن يحدثهم بعجائب التوراة فنزلت : {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ} إلى قوله : {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} الآية ، فأخبرهم أن هذا القصص أحسن من غيره وأنفع لهم ، فكفوا عن سلمان ، ثم سألوه مثل الأول فنزلت : {الم أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} فعلى هذا التأويل يكون الذين آمنوا في العلانية باللسان. قال السدي وغيره : {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا} بالظاهر وأسروا الكفر {أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} . وقيل : نزلت في المؤمنين. قال سعد : قيل يا رسول الله لو قصصت علينا فنزل : {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ} فقالوا بعد زمان : لو حدثتنا فنزل : {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} فقالوا بعد مدة : لو ذكرتنا فأنزل الله تعالى : {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} ونحوه عن ابن مسعود قال : ما كان بين إسلامنا وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلا أربع سنين ، فجعل ينظر بعضنا إلى بعض ويقول : ما أحدثنا ؟ قال الحسن : استبطأهم وهم أحب خلقه إليه. وقيل : هذا الخطاب لمن آمن بموسى وعيسى دون محمد عليهم السلام لأنه قال عقيب هذا : {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} أي ألم يأن للذين آمنوا بالتوراة والإنجيل أن تلين قلوبهم للقران ، وألا يكونوا كمتقدمي قوم موسى وعيسى ، إذ طال عليهم الأمد بينهم وبين نبيهم فقست قلوبهم.
قوله تعالى : {وَلا يَكُونُوا} أي وألا يكونوا فهو منصوب عطفا على {أَنْ تَخْشَعَ} . وقيل : مجزوم على النهي ، مجازه ولا يكونن ، ودليل هذا التأويل رواية رويس عن يعقوب {وَلا تَكُونُوا} بالتاء ، وهي قراءة عيسى وابن إسحاق. يقول : لا تسلكوا سبيل اليهود والنصارى ، أعطوا التوراة والإنجيل فطالت الأزمان بهم. قال ابن مسعود : إن بني إسرائيل
لما طال عليهم الأمد قست قلوبهم ، فاخترعوا كتابا من عند أنفسهم استحلته أنفسهم ، وكان الحق يحول بينهم وبين كثير من شهواتهم ، حتى نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون ، ثم قالوا : اعرضوا هذا الكتاب على بني إسرائيل ، فإن تابعوكم فاتركوهم وإلا فاقتلوهم. ثم اصطلحوا على أن يرسلوه إلى عالم من علمائهم ، وقالوا : إن هو تابعنا لم يخالفنا أحد ، وإن ابن قتلناه فلا يختلف علينا بعده أحد ، فأرسلوا إليه ، فكتب كتاب الله في ورقة وجعلها في قرن وعلقه في عنقه ثم لبس عليه ثيابه ، فأتاهم فعرضوا عليه كتابهم ، وقالوا : أتؤمن بهذا ؟ فضرب بيده على صدره ، وقال : آمنت بهذا يعني المعلق على صدره. فافترقت بنو إسرائيل على بضع وسبعين ملة ، وخير مللهم أصحاب ذي القرن. قال عبدالله : ومن يعش منكم فسيرى منكرا ، وبحسب أحدكم إذا رأى المنكر لا يستطيع أن يغيره أن يعلم الله من قلبه أنه له كاره. وقال مقاتل بن حيان : يعني مؤمني أهل الكتاب طال عليهم الأمد واستبطؤوا بعث النبي صلى الله عليه وسلم {فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} يعني الذين ابتدعوا الرهبانية أصحاب الصوامع. وقيل : من لا يعلم ما يتدين به من الفقه ويخالف من يعلم. وقيل : هم من لا يؤمن في علم الله تعالى. ثبتت طائفة منهم على دين عيسى حتى بعث النبي صلى الله عليه وسلم فأمنوا به ، وطائفة منهم رجعوا عن دين عيسى وهم الذين فسقهم الله.
وقال محمد بن كعب : كانت الصحابة بمكة مجدبين ، فلما هاجروا أصابوا الريف والنعمة ، ففتروا عما كانوا فيه ، فقست قلوبهم ، فوعظهم الله فأفاقوا. وذكر ابن المبارك : أخبرنا مالك بن أنس ، قال : بلغني أن عيسى عليه السلام قال لقومه : لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله تعالى فتقسو قلوبكم ، فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون. ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب وانظروا فيها - أو قال في ذنوبكم - كأنكم عبيد ، فإنما الناس رجلان معافى ومبتلى ، فأرحموا أهل البلاء ، واحمدوا الله على العافية. وهذه الآية {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} كانت سبب توبة الفضيل بن عياض وابن المبارك رحمهما الله
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|