عرض مشاركة واحدة
  #689  
قديم 13-07-2025, 02:54 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 163,585
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (17)
سُورَةُ الحديد
من صــ 251 الى صــ 260
الحلقة (689)






تعالى. ذكر أبو المطرف عبدالرحمن بن مروان القلاني قال : حدثنا أبو محمد الحسن بن رشيق ، قال حدثنا علي بن يعقوب الزيات ، قال حدثنا إبراهيم بن هشام ، قال حدثنا زكريا بن أبي أبان ، قال حدثنا الليث بن الحرث قال حدثنا الحسن بن داهر ، قال سئل عبدالله بن المبارك عن بدء زهده قال : كنت يوما مع إخواني في بستان لنا ، وذلك حين حملت الثمار من ألوان الفواكه ، فأكلنا وشربنا حتى الليل فنمنا ، وكنت مولعا بضرب العود والطنبور ، فقمت في بعض الليل فضربت بصوت يقال له راشين السحر ، وأراد سنان يغني ، وطائر يصيح فوق رأسي على شجرة ، والعود بيدي لا يجيبني إلى ما أريد ، وإذا به ينطق كما ينطق الإنسان - يعني العود الذي بيده - ويقول : {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} قلت : بلى والله! وكسرت العود ، وصرفت من كان عندي ، فكان هذا أول زهدي وتشميري. وبلغنا عن الشعر الذي أراد ابن المبارك أن يضرب به العود :
ألم يأن لي منك أن ترحما ... وتعص العواذل واللوما
وترثي لصب بكم مغرم ... أقام على هجركم مأتما
يبيت إذا جنه ليله ... يراعي الكواكب والأنجما
وماذا على الظبي لوأنه ... أحل من الوصل ما حرما
وأما الفضيل بن عياض فكان سبب توبته أنه عشق جارية فواعدته ليلا ، فبينما هو يرتقي الجدران إليها إذ سمع قارئا يقرأ : {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} فرجع القهقرى وهو يقول : بلى والله قد آن فآواه الليل إلى خربة وفيها جماعة من السابلة ، وبعضهم يقول لبعض : إن فضيلا يقطع الطريق. فقال الفضيل : أواه! أراني بالليل أسعى في معاصي الله ، قوم من المسلمين يخافونني! اللهم إني قد تبت إليك ، وجعلت توبتي إليك جوار بيتك الحرام.
قوله تعالى : {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} أي {يُحْيِي الأَرْضَ} الجدبة {بَعْدَ مَوْتِهَا} بالمطر. وقال صالح المري : المعنى يلين القلوب بعد قساوتها. وقال جعفر بن محمد : يحييها بالعدل بعد الجور. وقيل : المعنى فكذلك يحيي الكافر بالهدى إلى الإيمان بعد موته بالكفر والضلالة. وقيل : كذلك يحيي الله الموتى من الأمم ، ويميز بين الخاشع قلبه وبين القاسي قلبه. {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أي إحياء الله الأرض بعد موتها دليل على قدرة الله ، وأنه لمحيي الموتى.
الآية : [18] {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ}
الآية : [19] {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}
قوله تعالى : {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ} قرأ ابن كثير وأبو بكر عن عاصم بتخفيف الصاد فيهما من التصديق ، أي المصدقين بما أنزل الله تعالى. الباقون بالتشديد أي المتصدقين والمتصدقات فأدغمت التاء في الصاد ، وكذلك في مصحف في. وهو حث على الصدقات ، ولهذا قال : { وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} بالصدقة والنفقة في سبيل الله. قال الحسن : كل ما في القرآن من القرض الحسن فهو التطوع. وقيل : هو العمل الصالح من الصدقة وغيرها محتسبا صادقا. وإنما عطف بالفعل على الاسم ، لأن ذلك الاسم في تقدير الفعل ، أي إن الذين تصدقوا وأقرضوا {يُضَاعَفُ لَهُمْ} أمثالها. وقراءة العامة بفتح العين على ما لم يسم فاعله. وقرأ الأعمش {يُضَاعِفُه} بكسر العين وزيادة هاء. وقرأ ابن كثير وابن عامر ويعقوب {يُضَعَّفُ} بفتح العين وتشديدها. {وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ} يعني الجنة.
قوله تعالى : {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} اختلف في {الشُّهَدَاءُ} هل هو مقطوع مما قبل أو متصل به. فقال مجاهد وزيد بن أسلم : إن الشهداء والصديقين هم المؤمنون وأنه متصل ، وروي معناه عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا يوقف على هذا على قوله : {الصِّدِّيقُونَ} وهذا قول ابن مسعود في تأويل الآية. قال القشيري قال الله تعالى : {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} فالصديقون هم الذين يتلون الأنبياء ، والشهداء هم الذين يتلون الصديقين ، والصالحون يتلون الشهداء ، فيجوز أن تكون هذه الآية في جملة من صدق بالرسل ، أعني {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ} . ويكون المعنى بالشهداء من شهد لله بالوحدانية ، فيكون صديق فوق صديق في الدرجات ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : "إن أهل الجنات العلا ليراهم من دونهم كما يرى أحدكم الكوكب الذي في أفق السماء وإن أبا بكر وعمر منهم وأنعما" وروي عن ابن عباس ومسروق أن الشهداء غير الصديقين. فالشهداء على هذا منفصل مما قبله والوقف على قوله : {الصِّدِّيقُونَ} حسن. والمعنى {وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} أي لهم أجر أنفسهم ونور أنفسهم. وفيهم قولان أحدهما : أنهم الرسل يشهدون على أممهم بالتصديق والتكذيب ، قاله الكلبي ، ودليله قوله تعالى : {وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} الثاني : أنهم أمم الرسل يشهدون يوم القيامة ، وفيما يشهدون به قولان : أحدهما : أنهم يشهدون على أنفسهم بما عملوا من طاعة ومعصية. وهذا معنى قول مجاهد. الثاني : يشهدون لأنبيائهم بتبليغهم الرسالة إلى أممهم ، قال الكلبي. وقال مقاتل قولا ثالثا : إنهم القتلى في سبيل الله تعالى. ونحوه عن ابن عباس أيضا قال : أراد شهداء المؤمنين. والواو واو الابتداء. والصديقون على هذا القول مقطوع من الشهداء.
وقد اختلف في تعيينهم ، فقال الضحاك : هم ثمانية نفر ، أبو بكر وعلي وزيد وعثمان وطلحة والزبير وسعد وحمزة. وتابعهم عمر بن الخطاب رضي الله عنهم ، ألحقه الله بهم لما صدق نبيه صلى الله عليه وسلم. وقال مقاتل بن حيان : الصديقون هم الذين آمنوا بالرسل ولم يكذبوهم طرفة عين ، مثل مؤمن آل فرعون ، وصاحب آل ياسين ، وأبي بكر الصديق ، وأصحاب الأخدود.
قوله تعالى : {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنَا} أي بالرسل والمعجزات {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} فلا أجر لهم ولا نور.
الآية : [20] {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ}
الآية : [21] {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}
قوله تعالى : {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} وجه الاتصال أن الإنسان قد يترك الجهاد خوفا على نفسه من القتل ، وخوفا من لزوم الموت ، فبين أن الحياة الدنيا منقضية فلا ينبغي أن يترك أمر الله محافظة على ما لا يبقى. و {وَمَا} صلة تقديره : اعلموا أن الحياة الدنيا لعب باطل ولهو فرح ثم ينقضي. وقال قتادة : لعب ولهو : أكل وشرب. وقيل : إنه على المعهود من اسمه ، قال مجاهد : كل لعب لهو. وقد مضى هذا المعنى
في {الأنعام} وقيل : اللعب ما رغب في الدنيا ، واللهو ما ألهى عن الآخرة ، أي شغل عنها. وقيل : اللعب الاقتناء ، واللهو النساء. {وَزِينَةٌ} الزينة ما يتزين به ، فالكافر يتزين بالدنيا ولا يعمل للآخرة ، وكذلك من تزين في غير طاعة الله. {وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ} أي يفخر بعضكم على بعض بها. وقيل : بالخلقة والقوة. وقيل : بالأنساب على عادة العرب في المفاخرة بالآباء. وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد ولا يفخر أحد على أحد" وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : "أربع في أمتي من أمر الجاهلية الفخر في الأحساب" الحديث. وقد تقدم جميع هذا. {وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ} لأن عادة الجاهلية أن تتكاثر بالأبناء والأموال ، وتكاثر المؤمنين بالإيمان والطاعة. قال بعض المتأخرين : {لَعِبٌ} كلعب الصبيان {وَلَهْوٌ} كلهو الفتيان {وَزِينَةٌ} كزينة النسوان {وَتَفَاخُرٌ} كتفاخر الأقران {وَتَكَاثُرٌ} كتكاثر الدهقان. وقيل : المعنى أن الدنيا كهذه الأشياء في الزوال والفناء. وعن علي رضي الله عنه قال لعمار : لا تحزن على الدنيا فإن الدنيا ستة أشياء : مأكول ومشروب وملبوس ومشموم ومركوب ومنكوح ، فأحسن طعامها العسل وهو بزقة ذبابة ، وأكثر شرابها الماء يستوي فيه جميع الحيوان ، وأفضل ملبوسها الديباج وهو نسج دودة ، وأفضل المشموم المسك وهو دم فأرة ، وأفضل المركوب الفرس وعليها يقتل الرجال ، وأما المنكوح فالنساء وهو مبال في مبال ، والله إن المرأة لتزين أحسنها يراد به أقبحها. ثم ضرب الله تعالى لها مثلا بالزرع في غيث فقال : {كَمَثَلِ غَيْثٍ} أي مطر {أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} الكفار هنا : الزراع لأنهم يغطون البذر. والمعنى أن الحياة الدنيا كالزرع يعجب الناظرين إليه لخضرته بكثرة الأمطار ، ثم لا يلبث أن يصير هشيما كأن لم يكن ، وإذا أعجب الزراع فهو غاية ما يستحسن. وقد مضى معنى هذا المثل في {يونس} و {الكهف} . وقيل :
الكفار هنا الكافرون بالله عز وجل ، لأنهم أشد إعجابا بزينة الدنيا من المؤمنين. وهذا قول حسن ، فإن أصل الإعجاب لهم وفيهم ، ومنهم يظهر ذلك ، وهو التعظيم للدنيا وما فيها. وفي الموحدين من ذلك فروع تحدث من شهواتهم ، وتتقلل عندهم وتدق إذا ذكروا الآخرة. وموضع الكاف رفع على الصفة. {ثُمَّ يَهِيجُ} أي يجف بعد خضرته {فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً} أي متغيرا عما كان عليه من النضرة. {ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً} أي فتاتا وتبنا فيذهب بعد حسنه ، كذلك دنيا الكافر. {وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ} أي للكافرين. والوقف عليه حسن ، ويبتدئ {وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ} أي للمؤمنين. وقال الفراء : {وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ} تقديره إما عذاب شديد وإما مغفرة ، فلا يوقف على {شَدِيدٌ} . {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} هذا تأكيد ما سبق ، أي تغر الكفار ، فأما المؤمن فالدنيا له متاع بلاغ إلى الجنة. وقيل : العمل للحياة الدنيا متاع الغرور تزهيدا في العمل للدنيا ، وترغيبا في العمل للآخرة.
قوله تعالى : {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} أي سارعوا بالأعمال الصالحة التي توجب المغفرة لكم من ربكم. وقيل : سارعوا بالتوبة ، لأنها تؤدي إلى المغفرة ، قاله الكلبي. وقيل التكبيرة الأولى مع الإمام ، قاله مكحول. وقيل : الصف الأول. {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} لو وصل بعضها ببعض. قال الحسن : يعني جميع السموات والأرضين مبسوطتان كل واحدة إلى صاحبتها. وقيل : يريد لرجل واحد أي لكل واحد جنة بهذه السعة. وقال ابن كيسان : عني به جنة واحدة من الجنات. والعرض أقل من الطول ، ومن عادة العرب أنها تعبر عن سعة الشيء بعرضه دون طوله. قال :
كأن بلاد الله وهي عريضة ... على الخائف المطلوب كفة حابل
وقد مضى هذا كله في {آل عمران} . وقال طارق بن شهاب : قال قوم من أهل الحيرة لعمر رضي الله عنه : أرأيت قول الله عز وجل : {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ}
فأين النار ؟ فقال لهم عمر : أرأيتم الليل إذا ولى وجاء النهار أين يكون الليل ؟ فقالوا : لقد نزعت بما في التوراة مثله. {أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} شرط الإيمان لا غير ، وفيه تقوية الرجاء. وقد قيل : شرط الإيمان هنا وزاد عليه في {آل عمران} فقال : {أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} أي أن الجنة لا تنال ولا تدخل إلا برحمة الله تعالى وفضله. وقد مضى هذا في {الأعراف} وغيرها. {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} .
الآية : [22] {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}
الآية : [23] {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}
الآية : [24] {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}
قوله تعالى : {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ} قال مقاتل : القحط وقلة النبات والثمار. وقيل : الجوائح في الزرع. {وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ} بالأوصاب والأسقام ، قال قتادة. وقيل : إقامة الحدود ، قال ابن حيان. وقيل : ضيق المعاش ، وهذا معنى رواه ابن جريج. {إِلاَّ فِي كِتَابٍ} يعني في اللوح المحفوظ. {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} الضمير في {نَبْرَأَهَا} عائد على النفوس أو الأرض أو المصائب أو الجميع. وقال ابن عباس : من قبل أن يخلق المصيبة. وقال سعيد بن جبير : من قبل أن يخلق الأرض والنفس . {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} أي خلق ذلك وحفظ جميعه {عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} هين. قال الربيع بن صالح : لما أخذ سعيد بن جبير رضي الله عنه بكيت ، فقال : ما يبكيك ؟ قلت : أبكي لما أرى بك ولما تذهب
إليه. قال : فلا تبك فإنه كان في علم الله أن يكون ، ألم تسمع قوله تعالى : {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ} الآية. وقال ابن عباس : لما خلق الله القلم قال له اكتب ، فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة. ولقد ترك لهذه الآية جماعة من الفضلاء الدواء في أمراضهم فلم يستعملوه ثقة بربهم وتوكلا عليه ، وقالوا قد علم الله أيام المرض وأيام الصحة ، فلو حرص الخلق على تقليل ذلك أو زيادته ما قدروا ، قال الله تعالى : {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} . وقد قيل : إن هذه الآية تتصل بما قبل ، وهو أن الله سبحانه هون عليهم ما يصيبهم في الجهاد من قتل وجرح ، وبين أن ما يخلفهم عن الجهاد من المحافظة على الأموال وما يقع فيها من خسران ، فالكل مكتوب مقدر لا مدفع له ، وإنما على المرء امتثال الأمر.
قوله تعالى : {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ} أي حتى لا تحزنوا على ما فاتكم من الرزق ، وذلك أنهم إذا علموا أن الرزق قد فرغ منه لم يأسوا على ما فاتهم منه. وعن ابن مسعود أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : "لا يجد أحدكم طعم الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه" ثم قرأ {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ} إي كي لا تحزنوا على ما فاتكم من الدنيا فإنه لم يقدر لكم ولو قدر لكم لم يفتكم {وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} أي من الدنيا ، قال ابن عباس. وقال سعيد بن جبير : من العافية والخصب. وروى عكرمة عن ابن عباس : ليس من أحد إلا وهو يحزن ويفرح ، ولكن المؤمن يجعل مصيبته صبرا ، وغنيمته شكرا. والحزن والفرح المنهي عنهما هما اللذان يتعدى فيهما إلى ما لا يجوز ، قال الله تعالى : {لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} أي متكبر بما أوتي من الدنيا ، فخور به على الناس. وقراءة العامة {آتَاكُمْ} بمد الألف أي أعطاكم من الدنيا. واختاره أبو حاتم. وقرأ أبو العالية ونصر بن عاصم وأبو عمرو {أتَاكُمْ} بقصر الألف واختاره أبو عبيد. أي جاءكم ، وهو معادل لـ {فَاتكُمْ} ولهذا لم يقل أفاتكم. قال جعفر بن محمد الصادق : يا ابن آدم ما لك تأسى على مفقود لا يرده عليك الفوت ، أو تفرح بموجود لا يتركه في يديك الموت. وقيل لبرزجمهر : أيها الحكيم! مالك لا تحزن على ما فات ،
ولا تفرح بما هو آت ؟ قال : لأن الفائت لا يتلافى بالعبرة ، والآتي لا يستدام بالحبرة. وقال الفضيل بن عياض في هذا المعنى : الدنيا مبيد ومفيد ، فما أباد فلا رجعة له ، وما أفاد آذن بالرحيل. وقيل : المختال الذي ينظر إلى نفسه بعين الافتخار ، والفخور الذي ينظر إلى الناس بعين الاحتقار ، وكلاهما شرك خفي. والفخور بمنزلة المصراة تشد أخلافها ليجتمع فيها اللبن ، فيتوهم المشتري أن ذلك معتاد وليس كذلك ، فكذلك الذي يرى من نفسه حالا وزينة وهو مع ذلك مدع فهو الفخور.
قوله تعالى : {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} أي لا يحب المختالين {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} فـ {الَّذِينَ} في موضع خفض نعتا للمختال. وقيل : رفع بابتداء أي الذين يبخلون فالله غني عنهم. قيل : أراد رؤساء اليهود الذين يبخلون ببيان صفة محمد صلى الله عليه وسلم التي في كتبهم ، لئلا يؤمن به الناس فتذهب مأكلهم ، قال السدي والكلبي. وقال سعيد بن جبير : {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} يعني بالعلم {وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} أي بألا يعلموا الناس شيئا. زيد بن اسلم : إنه البخل بأداء حق الله عز وجل. وقيل : إنه البخل بالصدقة والحقوق ، قال عامر بن عبدالله الأشعري. وقال طاوس : إنه البخل بما في يديه. وهذه الأقوال الثلاثة متقاربة المعنى. وفرق أصحاب الخواطر بين البخل والسخاء بفرقين : أحدهما أن البخيل الذي يلتذ بالإمساك. والسخي الذي يلتذ بالإعطاء. الثاني : أن البخيل الذي يعطي عند السؤال ، والسخي الذي يعطي بغير سؤال. {وَمَنْ يَتَوَلَّ} أي عن الإيمان {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} غني عنه. ويجوز أن يكون لما حث على الصدقة أعلمهم أن الذين يبخلون بها ويأمرون الناس بالبخل بها فإن الله غني عنهم. وقراءة العامة { بِالْبُخْلِ} بضم الباء وسكون الخاء. وقرأ أنس وعبيد بن عمير ويحيى بن يعمر ومجاهد وحميد وابن محيصن وحمزة والكسائي {بِالْبَخْل} بفتحتين وهي لغة الأنصار. وقرأ أبو العالية وابن السميقع {بالبَخلِ} بفتح الباء وإسكان الخاء. وعن نصر بن عاصم {بِالْبُخُلِ} بضمتين وكلها لغات مشهورة. وقد تقدم الفرق بين البخل والشح في آخر {آل عمران} .
وقرأ نافع وابن عامر {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} بغير {هُوَ} . والباقون { هُوَ الْغَنِيُّ} على أن يكون فصلا. ويجوز أن يكون مبتدأ و {الْغَنِيُّ} خبره والجملة خبر إن. ومن حذفها فالأحسن أن يكون فصلا ، لأن حذف الفصل أسهل من حذف المبتدأ.
الآية : [25] {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}
الآية : [26] {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}
قوله تعالى : {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ} أي بالمعجزات البينة والشرائع الظاهرة. وقيل : الإخلاص لله تعالى في العبادة ، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، بذلك دعت الرسل : نوح فمن دونه إلى محمد صلى الله عليه وسلم . {وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ} أي الكتب ، أي أوحينا إليهم خبر ما كان قبلهم {وَالْمِيزَانَ} قال ابن زيد : هو ما يوزن به ومتعامل {لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} أي بالعدل في معاملاتهم. وقوله : {بِالْقِسْطِ} يدل على أنه أراد الميزان المعروف وقال قوم : أراد به العدل. قال القشيري : وإذا حملناه على الميزان المعروف ، فالمعنى أنزلنا الكتاب ووضعنا الميزان فهو من باب :
علفتها تبنا وماء باردا
ويدل على هذا قوله تعالى : {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} ثم قال : {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ} وقد مضى القول فيه. {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} روى عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن الله أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض : الحديد"




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 41.22 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 40.60 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.52%)]