
13-07-2025, 03:03 AM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,450
الدولة :
|
|
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى

تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (17)
سُورَةُ المجادلة
من صــ 281 الى صــ 290
الحلقة (692)
فيه اثنتا عشرة مسألة :
الأولى- قوله تعالى : {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} هذا ابتداء والخبر {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} وحذف عليهم لدلالة الكلام عليه ، أي فعليهم تحرير رقبة. وقيل : أي فكفارتهم عتق رقبة. والمجمع عليه عند العلماء في الظهار قول الرجل لامرأته : أنت علي كظهر أمي. وهو قول المنكر والزور الذي عنى الله بقوله : {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً} فمن قال هذا القول حرم عليه وطء امرأته. فمن عاد لما قال لزمته كفارة الظهار ، لقوله عز وجل : {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} وهذا يدل على أن كفارة الظهار لا تلزم بالقول خاصة حتى ينضم إليها العود ، وهذا حرف مشكل اختلف الناس فيه على أقوال سبعة : الأول : أنه العزم على الوطء ، وهو مشهور قول العراقيين أبي حنيفة وأصحابه. وروي عن مالك : فإن عزم على وطئها كان عودا ، وإن لم يعزم لم يكن عودا. الثاني : العزم على الإمساك بعد التظاهر منها ، قال مالك. الثالث : العزم عليهما. وهو قول مالك في موطئه ، قال مالك في قول الله عز وجل : {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} قال : سمعت أن تفسير ذلك أن يظاهر الرجل من امرأته ثم يجمع على إصابتها وإمساكها ، فإن أجمع على ذلك فقد وجبت عليه الكفارة ، وإن طلقها ولم يجمع بعد تظاهره منها على إمساكها وإصابتها فلا كفارة عليه. قال مالك : وإن تزوجها بعد ذلك لم يمسها حتى يكفر كفارة التظاهر. القول الرابع : أنه الوطء نفسه فإن لم يطأ لم يكن عودا ، قاله الحسن ومالك أيضا. الخامس : وقال الإمام الشافعي رضي الله عنه : هو أن يمسكها زوجة بعد الظهار مع القدرة على الطلاق ، لأنه لما ظاهر قصد التحريم ، فإن وصل به الطلاق فقد جرى على خلاف ما ابتدأه من إيقاع التحريم ولا كفارة عليه. وإن أمسك عن الطلاق فقد عاد إلى ما كان عليه فتجب عليه الكفارة. السادس : أن الظهار يوجب تحريما لا يرفعه إلا الكفارة. ومعنى العود عند القائلين بهذا : أنه لا يستبيح وطأها إلا بكفارة يقدمها ، قاله أبو حنيفة وأصحابه والليث بن سعد.
السابع : هو تكرير الظهار بلفظه. وهذا قول أهل الظاهر النافين للقياس ، قالوا : إذا كرر اللفظ بالظهار فهو العود ، وإن لم يكرر فليس بعود. ويسند ذلك إلى بكير بن
الأشج وأبي العالية وأبي حنيفة أيضا ، وهو قول الفراء وقال أبو العالية : وظاهر الآية يشهد له ، لأنه قال : {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} أي إلى قول ما قالوا. وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله عز وجل : {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} هو أنو يقول لها أنت علي كظهر أمي فإذا قال لها ذلك فليست تحل له حتى يكفر كفارة الظهار. قال ابن العربي : فأما القول بأنه العود إلى لفظ الظهار فهو باطل قطعا لا يصح عن بكير ، وإنما يشبه أن يكون من جهالة داود وأشياعه. وقد رويت قصص المتظاهرين وليس في ذكر الكفارة عليهم ذكر لعود القول منهم ، وأيضا فإن المعنى ينقضه ، لأن الله تعالى وصفه بأنه منكر من القول وزور ، فكيف يقال له إذا أعدت القول المحرم والسبب المحظور وجبت عليك الكفارة ، وهذا لا يعقل ، ألا ترى أن كل سبب يوجب الكفارة لا تشترط فيه الإعادة من قتل ووطء في صوم أو غيره.
قلت : قول يشبه أن يكون من جهالة داود وأشياعه حمل ممنه عليه ، وقد قال بقول داود من ذكرناه عنهم ، وأما قول الشافعي : بأنه ترك الطلاق مع القدرة عليه فينقضه ثلاثة أمور أمهات : الأول : أنه قال : {ثُمَّ} وهذا بظاهره يقتضي التراخي. الثاني : أن قوله تعالى : {ثُمَّ يَعُودُونَ} يقتضي وجود فعل من جهة ومرور الزمان ليس بفعل منه. الثالث : أن الطلاق الرجعي لا ينافي البقاء على الملك فلم يسقط حكم الظهار كالإيلاء. فإن قيل : فإذا رآها كالأم لم يمسكها إذ لا يصح إمساك الأم بالنكاح. وهذه عمدة أهل ما وراء النهر. قلنا : إذا عزم على خلاف ما قال وراها خلاف الأم كفر وعاد إلى أهله. وتحقيق هذا القول : أن العزم قول نفسي ، وهذا رجل قال قولا اقتضى التحليل وهو النكاح ، وقال قولا اقتضى التحريم وهو الظهار ، ثم عاد لما قال وهو التحليل ، ولا يصح أن يكون منه ابتداء عقد ، لأن العقد باق فلم يبق إلا أنه قول عزم يخالف ما اعتقده وقاله في نفسه من الظهار الذي أخبر عنه بقوله أنت علي كظهر أمي ، وإذا كان ذلك كفر وعاد إلى أهله ، لقول : {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} وهذا تفسير بالغ في فنه.
الثانية- قال بعض أهل التأويل : الآية فيها تقديم وتأخير ، والمعنى {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ} إلى ما كانوا عليه من الجماع {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} لما قالوا ، أي فعليهم تحرير رقبة من أجل ما قالوا ، فالجار في قوله : {لِمَا قَالُوا} متعلق بالمحذوف الذي هو خبر الابتداء وهو عليهم ، قال الأخفش. وقال الزجاج : المعنى ثم يعودون إلى إرادة الجماع من أجل ما قالوا. وقيل : المعنى الذين كانوا يظهرون من نسائهم في الجاهلية ، ثم يعودون لما كانوا قالوه في الجاهلية في الإسلام فكفارة من عاد أن يحرر رقبة. الفراء : اللام بمعنى عن والمعنى ثم يرجعون عما قالوا ويريدون الوطء. وقال الأخفش : لما قالوا وإلى ما قالوا واحد ، واللام وإلى يتعاقبان ، قال : {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا} وقال : {فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} وقال : {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} وقال : {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ}
الثالثة- قوله تعالى : {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} أي فعليه إعتاق رقبة ، يقال : حررته أي جعلته حرا. ثم هذه الرقبة يجب أن تكون كاملة سليمة من كل عيب ، من كمالها إسلامها عند مالك والشافعي ، كالرقبة في كفارة القتل. وعند أبي حنيفة وأصحابه تجزي الكفارة ومن فيها شائبة رق كالمكاتبة وغيرها.
الرابعة- فإن أعتق نصفي عبدين فلا يجزيه عندنا ولا عند أبي حنيفة. وقال الشافعي يجزئ ، لأن نصف العبدين في معنى العبدالواحد ، ولأن الكفارة بالعتق طريقها المال فجاز أن يدخلها التبعيض والتجزيء كالإطعام ، ودليلنا قوله تعالى : {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} وهذا الاسم عبارة عن شخص واحد ، وبعض الرقبة ليس برقبة ، وليس ذلك مما يدخله التلفيق ، لأن العبادة المتعلقة بالرقبة لا يقوم النصف من رقبتين مقامها ، أصله إذا أشترك رجلان في أضحيتين ، ولأنه لو أمر رجلين أن يحجا عنه حجة لم يجز أن يحج عنه واحد منهما نصفها كذلك هذا ، ولأنه لو أوصى بأن تشترى رقبة فتعتق عنه لم يجز أن يعتق عنه نصف عبدين ، كذلك في مسألتنا وبهذا يبطل دليلهم. والإطعام وغيره لا يتجزء في الكفارة عندنا.
الخامسة- قوله تعالى : {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} أي يجامعها فلا يجوز للمظاهر الوطء قبل التكفير ، فإن جامعها قبل التكفير أثم وعصى ولا يسقط عنه التكفير وحكي عن مجاهد : أنه إذا وطئ قبل أن يشرع في التكفير لزمته كفارة أخرى. وعن غيره : أن الكفارة الواجبة بالظهار تسقط عنه ولا يلزمه شيء أصلا ، لأن الله تعالى أوجب الكفارة وأمر بها قبل المسيس ، فإذا أخرها حتى مس فقد فات وقتها. والصحيح ثبوت الكفارة ، لأنه بوطئه ارتكب إثما فلم يكن ذلك مسقطا للكفارة ، ويأتي بها قضاء كما لو أخر الصلاة عن وقتها. وفي حديث أوس بن الصامت لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه وطئ امرأته أمره بالكفارة. وهذا نص وسواء كانت كفارة بالعتق أو الصوم أو الإطعام. وقال أبو حنيفة : إن كانت كفارته بالإطعام جاز أن يطأ ثم يطعم ، فأما غير الوطء مر ، القبلة والمباشرة والتلذذ فلا يحرم في قول أكثر العلماء. وقال الحسن وسفيان ، وهو الصحيح من مذهب الشافعي. وقيل : وكل ذلك محرم وكل معاني المسيس ، وهو قول مالك وأحد قولي الشافعي. وقد تقدم.
السادسة- قوله تعالى : {ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ} أي تؤمرون به {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} من التكفير وغيره.
السابعة- من لم يجد الرقبة ولا ثمنها ، أو كان مالكا لها إلا أنه شديد الحاجة إليها لخدمته ، أو كان مالكا لثمنها إلا أنه يحتاج إليه لنفقته ، أو كان له مسكن ليس له غيره ولا يجد شيئا سواه ، فله أن يصوم عند الشافعي. وقال أبو حنيفة : لا يصوم وعليه عتق ولو كان محتاجا إلى ذلك. وقال مالك : إذا كان له دار وخادم لزمه العتق فإن عجز عن الرقبة ، وهي :
الثامنة- فعليه صوم شهرين متتابعين. فإن أفطر في أثنائهما بغير عذر استأنفهما ، وإن أفطر لعذر من سفر أو مرض ، فقيل : يبني ، قال ابن المسيب والحسن وعطاء بن أبي رباح وعمر وبن دينار والشعبي. وهو أحد قولي الشافعي وهو الصحيح من مذهبيه. وقال مالك :
إنه إذا مرض في صيام كفارة الظهار بنى إذا صح. ومذهب أبي حنيفة رضي الله عنه أنه يبتدئ. وهو أحد قولي الشافعي.
التاسعة- إذا ابتدأ الصيام ثم وجد الرقبة أتم الصيام وأجزأه عند مالك والشافعي ، لأنه بذلك أمر حين دخل فيه. ويهدم الصوم ويعتق عند أبي حنيفة وأصحابه ، قياسا على الصغيرة المعتدة بالشهور ترى الدم قبل انقضائها ، فإنها تستأنف الحيض إجماعا من العلماء. وإذا ابتدأ سفرا في صيامه فأفطر ، ابتدأ الصيام عند مالك والشافعي وأبي حنيفة ، لقوله : {مُتَتَابِعَيْنِ} . ويبني في قول الحسن البصري ، لأنه عذر وقياسا على رمضان ، فإن تخللها زمان لا يحل صومه في الكفارة كالعيدين وشهر رمضان انقطع.
العاشرة- إذا وطئ المتظاهر في خلال الشهرين نهارا ، بطل التتابع في قول الشافعي ، وليلا فلا يبطل ، لأنه ليس محلا للصوم. وقال مالك وأبو حنيفة : يبطل بكل حال ووجب عليه ابتداء الكفارة ، لقوله تعالى : {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} وهذا الشرط عائد إلى جملة الشهرين ، وإلى أبعاضهما ، فإذا وطئ قبل انقضائهما فليس هو الصيام المأمور به ، فلزمه استئنافه ، كما لو قال : صل قبل أن تكلم زيدا. فكلم زيدا في الصلاة ، أو قال : صل قبل أن تبصر زيدا فأبصره في الصلاة لزمه استئنافها ، لأن هذه الصلاة ليست هي الصلاة المأمور بها كذلك هذا ، والله أعلم.
الحادية عشرة- من تطاول مرضه طولا لا يرجى برؤه كان بمنزلة العاجز من كبر ، وجاز له العدول عن الصيام إلى الإطعام. ولو كان مرضه مما يرجى برؤه واشتدت حاجته إلى وطء امرأته كان الاختيار له أن ينتظر البرء حتى يقدر على الصيام. ولو كفر بالإطعام ولم ينتظر القدرة على الصيام أجزأه.
الثانية عشرة- ومن تظاهر وهو معسر ثم أيسر لم يجزه الصوم. ومن تظاهر وهو موسر ثم أعسر قبل أن يكفر صام. وإنما ينظر إلى حال يوم يكفر. ولو جامعها في عدمه
قلت : وهي رواية ابن وهب ومطرف عن مالك : أنه يعطي مدين لكل مسكين بمد النبي صلى الله عليه وسلم. وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه. ومذهب الشافعي وغيره مد واحد لكل مسكين لا يلزمه أكثر من ذلك ، لأنه يكفر بالإطعام ولم يلزمه صرف زيادة على المد ، أصله كفارة الإفطار واليمين. ودليلنا قوله تعالى : {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً} وإطلاق الإطعام يتناول الشبع ، وذلك لا يحصل بالعادة بمد واحد إلا بزيادة عليه. وكذلك قال أشهب : قلت لمالك أيختلف الشبع عندنا وعندكم ؟ قال نعم! الشبع عندنا مد بمد النبي صلى الله عليه وسلم والشبع عندكم أكثر ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لنا بالبركة دونكم ، فأنتم تأكلون أكثر مما نأكل نحن. وقال أبو الحسن القابسي : إنما أخذ أهل المدينة بمد هشام في كفارة الظهار تغليظا على المتظاهرين الذين شهد الله عليهم أنهم يقولون منكرا من القول وزورا. قال ابن العربي : وقع الكلام ها هنا في مد هشام كما ترون ، ووددت أن يهشم الزمان ذكره ، ويمحو من الكتب رسمه ، فإن المدينة التي نزل الوحي بها واستقر الرسول ، بها ووقع عندهم الظهار ، وقيل لهم فيه : {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً} فهموه وعرفوا المراد به وأنه الشبع ، وقدره معروف عندهم متقرر لديهم ، وقد ورد ذلك الشبع في الأخبار كثيرا ، واستمرت الحال على ذلك أيام الخلفاء الراشدين المهديين حتى نفخ الشيطان في أذن هشام ، فرأى أن مد النبي صلى الله عليه وسلم لا يشبعه ، ولا مثله من حواشيه ونظرائه ، فسول له أن يتخذ مدا يكون فيه شبعه ، فجعله رطلين وحمل الناس عليه ، فإذا ابتل عاد نحو الثلاثة الأرطال ، فغير السنة وأذهب محل البركة. قال النبي صلى الله عليه وسلم حين دعا ربه لأهل المدينة بأن تبقى لهم البركة في مدهم وصاعهم ، مثل ما بارك لإبراهيم بمكة ، فكانت البركة تجري بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم في مده ، فسعى الشيطان في تغيير هذه السنة وإذهاب هذه البركة ، فلم يستجب له في ذلك إلا هشام ، فكان من حق العلماء أن يلغوا ذكره ويمحوا رسمه إذا لم يغيروا أمره ، وأما أن يحيلوا على ذكره في الأحكام ، ويجعلوه تفسيرا لما ذكر الله ورسول بعد أن كان مفسرا عند الصحابة الذين نزل عليهم فخطب جسيم ، ولذلك كانت رواية أشهب في ذكر مدين بمد النبي صلى في كفارة الظهار أحب إلينا من
الرواية بأنها بمد هشام. ألا ترى كيف نبه مالك على هذا العلم بقوله لأشهب : الشبع عندنا بمد النبي صلى الله عليه وسلم ، والشبع عندكم أكثر لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لنا بالبركة. وبهذا أقول ، فإن العبادة إذا أديت بالسنة ، فإن كانت بالبدن كانت أسرع إلى القبول ، وإن كانت بالمال كان قليلها أثقل في الميزان ، وأبرك في يد الآخذ ، وأطيب في شدقه ، وأقل آفة في بطنه ، وأكثر إقامة لصلبه. والله أعلم.
الثانية : ولا يجزئ عند مالك والشافعي أن يطعم أقل من ستين مسكينا. وقال أبو حنيفة وأصحابه : إن أطعم مسكينا واحدا كل يوم نصف صاع حتى يكمل العدد أجزأه.
الثالثة : قال القاضي أبو بكر بن العربي : من غريب الأمر أن أبا حنيفة قال إن الحجر على الحر باطل. واحتج بقوله تعالى : {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} ولم يفرق بين الرشيد والسفيه ، وهذا فقه ضعيف لا يناسب قدره ، فإن هذه الآية عامة ، وقد كان القضاء بالحجر في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاشيا والنظر يقتضيه ، ومن كان عليه حجر لصغر أو لولاية وبلغ سفيها قد نهي عن دفع المال إليه ، فكيف ينفذ فعله فيه والخاص يقضي على العام.
الرابعة : وحكم الظهار عند بعض العلماء ناسخ لما كانوا عليه من كون الظهار طلاقا ، وقد روي معنى ذلك عن ابن عباس وأبي قلابة وغيرهما.
الخامسة- قوله تعالى : {ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} أي ذلك الذي وصفنا من التغليظ في الكفارة {لِتُؤْمِنُوا} أي لتصدقوا أن الله أمر به. وقد استدل بعض العلماء على أن هذه الكفارة إيمان بالله سبحانه وتعالى ، لما ذكرها وأوجبها قال : {ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} أي ذلك لتكونوا مطيعين لله تعالى واقفين عند حدوده لا تتعدوها ، فسمى التكفير لأنه طاعة ومراعاة للحد إيمانا ، فثبت أن كل ما أشبهه فهو إيمان. فإن قيل : معنى قوله : {ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} أي لئلا تعودوا للظهار الذي هو منكر من القول وزور.
وقيل له : قد يجوز أن يكون هذا مقصودا والأول مقصودا ، فيكون المعنى ذلك لئلا تعودوا للقول المنكر والزور ، بل تدعونهما طاعة لله سبحانه وتعالى إذ كان قد حرمهما ، ولتجتنبوا المظاهر منها إلى أن تكفروا ، إذ كان الله منع من مسيسها ، وتكفروا إذ كان الله تعالى أمر بالكفارة وألزم إخراجها منكم ، فتكونوا بهذا كله مؤمنين بالله ورسوله ، لأنها حدود تحفظونها ، وطاعات تودونها والطاعة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم إيمان. وبالله التوفيق.
السادسة- قوله تعالى : {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} أي بين معصيته وطاعته ، فمعصيته الظهار وطاعته الكفارة. { وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي لمن لم يصدق بأحكام الله تعالى عذاب جهنم.
الآية : [5] {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ}
الآية : [6] {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}
قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} لما ذكر المؤمنين الواقفين عند حدوده ذكر المحادين المخالفين لها. والمحادة المعاداة والمخالفة في الحدود ، وهو مثل قوله تعالى : {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} وقيل : {يُحَادُّونَ اللَّهَ} أي أولياء الله كما في الخبر : "من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة" . وقال الزجاج : المحادة أن تكون في حد يخالف حد صاحبك. وأصلها الممانعة ، ومنه الحديد ، ومنه الحداد للبواب. {كُبِتُوا} قال أبو عبيدة والأخفش : أهلكوا. وقال قتادة : اخزوا كما أخزي الذين من قبلهم. وقال ابن زيد : عذبوا. وقال السدي : لعنوا. وقال الفراء : غيظوا يوم الخندق. وقيل : يوم بدر. والمراد المشركون. وقيل : المنافقون. {كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} قيل : {كُبِتُوا}
أي سيكبتون ، وهو بشارة من الله تعالى للمؤمنين بالنصر ، وأخرج الكلام بلفظ الماضي تقريبا للمخبر عنه. وقيل : هي بلغة مدحج . {وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} فيمن حاد الله ورسوله من الذين من قبلهم فيما فعلنا بهم. {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} .
قوله تعالى : {يَوْمَ} نصب بـ {عَذَابٌ مُهِينٌ} أو بفعل مضمر تقديره واذكر تعظيما لليوم. {يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً} أي الرجال والنساء يبعثهم من قبورهم في حالة واحدة {فَيُنَبِّئُهُمْ} أي يخبرهم {بِمَا عَمِلُوا} في الدنيا {أَحْصَاهُ اللَّهُ} عليهم في صحائف أعمالهم {وَنَسُوهُ} هم حتى ذكرهم به في صحائفهم ليكون أبلغ في الحجة عليهم. {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} مطلع وناظر لا يخفى عليه شيء.
الآية : [7] {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}
قوله تعالى : {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} فلا يخفى عليه سر ولا علانية. {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى} قراءه العامة بالياء ، لأجل الحائل بينهما. وقرأ أبو جعفر بن القعقاع والأعرج وأبو حيوة وعيسى {مَا تكُونُ} بالتاء لتأنيث الفعل. والنجوى : السرار ، وهو مصدر والمصدر قد يوصف به ، يقال : قوم نجوى أي ذوو نجوى ، ونجوى ، ومنه قوله تعالى : {وَإِذْ هُمْ نَجْوَى} . وقوله تعالى : {ثَلاثَةٍ} خفض بإضافة {نَجْوَى} إليها. قال الفراء : {ثَلاثَةٍ} نعت للنجوى فانخفضت وإن شئت أضفت {نَجْوَى} إليها. ولو نصب على إضمار فعل جاز ، وهي قراءة ابن أبي عبلة {ثلاثة} و {خمسة} بالنصب على الحال بإضمار يتناجون ، لأن نجوى يدل عليه ، قال الزمخشري. ويجوز رفع {ثلاثة} على البدل من موضع {نَجْوَى} . ثم قيل : كل سرار نجوى. وقيل : النجوى ما يكون من
خلوة ثلاثة يسرون شيئا ويتناجون به. والسرار ما كان بين اثنين. {إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} يعلم ويسمع نجواهم ، يدل عليه آفتتاح الآية بالعلم ثم ختمها بالعلم. وقيل : النجوى من النجوة وهي ما ارتفع من الأرض ، فالمتناجيان يتناجيان ويخلوان بسرهما كخلو المرتفع من الأرض عما يتصل به ، والمعنى : أن سمع الله محيط بكل كلام ، وقد سمع الله مجادلة المرأة التي ظاهر منها زوجها. {وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ} قرأ سلام ويعقوب وأبو العالية ونصر وعيسى بالرفع على موضع {مِنْ نَجْوَى} قبل دخول {مِنْ} لأن تقديره ما يكون نجوى ، و "ثلاثة" يجوز أن يكون مرفوعا على محل {لا} مع {أَدْنَى} كقولك : لا حول ولا قوة إلا بالله بفتح الحول ورفع القوة. ويجوز أن يكونا مرفوعين على الابتداء ، كقولك لا حول ولا قوة إلا بالله. وقد مضى في {البقرة} بيان هذا مستوفى وقرأ الزهري وعكرمة {أكبر} بالباء. والعامة بالثاء وفتح الراء على اللفظ وموضعها جر. وقال الفراء في قوله : {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ} قال : المعنى غير مصمود والعدد غير مقصود لأنه تعالى إنما قصد وهو أعلم أنه مع كل عدد قل أو كثر ، يعلم ما يقولون سرا وجهرا ولا تخفى عليه خافية ، فمن أجل ذلك آكتفى بذكر بعض العدد دون بعض. وقيل : معنى ذلك أن الله معهم بعلمه حيث كانوا من غير زوال ولا انتقال. ونزل ذلك في قوم من المنافقين كانوا فعلوا شيئا سرا فأعلم الله أنه لا يخفي عليه ذلك ، قال ابن عباس. وقال قتادة ومجاهد : نزلت في اليهود. {ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ} يخبرهم {مَا عَمِلُوا} من حسن وسيء {يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} .
الآية : [8] {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ}
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|