عرض مشاركة واحدة
  #695  
قديم 13-07-2025, 03:12 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,561
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (18)
سُورَةُ الحشر
من صــ 301 الى صــ 309
الحلقة (695)



المجلد الثامن عشر
سورة الحشر
الجزء 18 من الطبعة
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الحشر
مقدمة السورة
روى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "من قرأ سورة الحشر لم يبق شيء من الجنة والنار والعرش والكرسي والسموات والأرض والهوام والريح والسحاب والطير والدواب والشجر والجبال والشمس والقمر والملائكة إلا صلوا عليه واستغفروا له. فإن مات من يومه أو ليلته مات شهيدا" . خرجه الثعلبي. وخرج الثعالبي عن يزيد الرقاشي عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "من قرأ آخر سورة الحشر {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ} - إلى آخرها - فمات من ليلته مات شهيدا" . وروى الترمذي عن معقل بن يسار قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من قال حين يصبح ثلاث مرات أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم وقرأ ثلاث آيات من آخر سورة الحشر وكل الله به سبعين ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي وإن مات في يومه مات شهيدا ومن قرأها حين يمسي فكذلك" . قال : حديث حسن غريب.
الآية : [1] {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}
تقدم.
الآية : [2] {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ}
قوله تعالى : {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ}
فيه ثلاث مسائل :
الأولى- قوله تعالى : {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ} قال سعيد بن جبير : قلت لابن عباس : سورة الحشر ؟ قال : قل سورة النضير ؛ وهم رهط من اليهود من ذرية هارون عليه السلام ، نزلوا المدينة في فتن بني إسرائيل انتظارا لمحمد صلى الله عليه وسلم ، وكان من أموهم ما نص الله عليه.
الثانية- قوله تعالى : {لأَوَّلِ الْحَشْرِ} الحشر الجمع ؛ وهو على أربعة أوجه : حشران في الدنيا وحشران في الآخرة ؛ أما الذي في الدنيا فقوله تعالى : { هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الْحَشْرِ} قال الزهري : كانوا من سبط لم يصبهم جلاء ، وكان الله عز وجل قد كتب عليهم الجلاء ؛ فلولا ذلك لعذبهم في الدنيا وكان أول حشر حشروا في الدنيا إلى الشام. قال ابن عباس وعكرمة : من شك أن الحشر في الشام فليقرأ هذه الآية ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم : "اخرجوا" قالوا إلى أين ؟ قال : "إلى أرض المحشر" . قال قتادة : هذا أول المحشر. قال ابن عباس : هم أول من حشر من أهل الكتاب وأخرج من دياره. وقيل : إنهم أخرجوا إلى خيبر ، وأن معنى {لأَوَّلِ الْحَشْرِ} إخراجهم من حصونهم إلى خيبر ، وآخره إخراج عمر رضي الله عنه إياهم من خيبر إلى نجد وأذرعات. وقيل تيماء وأريحاء ، وذلك بكفرهم ونقض عهدهم. وأما الحشر الثاني :
فحشرهم قرب القيامة. قال قتادة : تأتي نار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب ، تبيت معهم حيث باتوا ، وتقيل معهم حيث قالوا ، وتأكل منهم من تخلف. وهذا ثابت في الصحيح ، وقد ذكرناه في "كتاب التذكرة" . ونحوه روى ابن وهب عن مالك قال : قلت لمالك هو جلاؤهم من ديارهم ؟ فقال لي : الحشر يوم القيامة حشر اليهود. قال : وأجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود إلى خيبر حين سئلوا عن المال فكتموه ؛ فاستحلهم بذلك. قال ابن العربي : للحشر أول ووسط وآخر ؛ فالأول إجلاء بني النضير ، والأوسط إجلاء خيبر ، والآخر حشر يوم القيامة. وعن الحسن : هم بنو قريظة. وخالفه بقية المفسرين وقالوا : بنو قريظة ما حشروا ولكنهم قتلوا. حكاه الثعلبي.
الثالثة- قال الكيا الطبري : ومصالحة أهل الحرب على الجلاء من ديارهم من غير شيء لا يجور الآن ، وإنما كان ذلك في أول الإسلام ثم نسخ. والآن فلا بد من قتالهم أو سبيهم أو ضرب الجزية عليهم.
قوله تعالى : {مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا} يريد لعظم أمر اليهود ومنعتهم وقوتهم في صدور المسلمين ، واجتماع كلمتهم. {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ} قيل : هي الوطيح والنطاة والسلالم والكتيبة. {مِنَ اللَّهِ} أي من أمره. وكانوا أهل حلقة - أي سلاح كثير - وحصون منيعة ؛ فلم يمنعهم شيء منها. {فَأَتَاهُمُ اللَّهُ} أي أمره وعذابه. {مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا} أي لم يظنوا. وقيل : من حيث لم يعلموا. وقيل : {مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا} بقتل كعب بن الأشرف ؛ قال ابن جريج والسدي وأبو صالح.
قوله تعالى : {قَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} بقتل سيدهم كعب بن الأشرف ؛ وكان الذي قتله هو محمد بن مسلمة وأبو نائلة سلكان بن سلامة بن وقش - وكان أخا كعب بن الأشرف من الرضاعة - وعباد بن بشر بن وقش ، والحارث بن أوس بن معاذ ، وأبو عبس بن جبر. وخبره مشهور في السيرة. وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "نصرت بالرعب بين يدي مسيرة شهر" فكيف لا ينصر به مسيرة ميل من المدينة إلى محلة بني النضير. وهذه خصيصى لمحمد صلى الله عليه وسلم دون غيره.
قوله تعالى : {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ} قراءة العامة بالتخفيف من أخرب ؛ أي يهدمون. وقرأ السلمي والحسن ونصر بن عاصم وأبو العالية وقتادة وأبو عمرو {يُخْرِبُونَ} بالتشديد من التخريب. قال أبو عمرو : إنما اخترت التشديد لأن الإخراب ترك الشيء خرابا بغير ساكن ، وبنو النضر لم يتركوها خرابا وإنما خربوها بالهدم ؛ يؤيده قوله تعالى : {بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ} وقال آخرون : التحريب والإخراب بمعنى واحد ، والتشديد بمعنى التكثير. وحكى سيبويه : أن معنى فعلت وأفعلت يتعاقبان ؛ نحو أخربته وخربته وأفرحته وفرحته. واختار أبو عبيد وأبو حاتم الأولى. قال قتادة والضحاك : كان المؤمنون يخربون من خارج ليدخلوا ، واليهود يخربون من داخل ليبنوا به ما خرب من حصنهم. فروي أنهم صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ألا يكونوا عليه ولا له ؛ فلما ظهر يوم بدر قالوا : هو النبي الذي نعت في التوراة ، فلا ترد له راية. فلما هزم المسلمون يوم أحد ارتابوا ونكثوا ، فخرج كعب بن الأشرف في أربعين راكبا إلى مكة ، فخالفوا عليه قريشا عند الكعبة ، فأمر عليه السلام محمد بن مسلمة الأنصاري فقتل كعبا غيلة ثم صبحهم بالكتاب ؛ فقال لهم. اخرجوا من المدينة. فقالوا : الموت أحب إلينا من ذلك ؛ فتنادوا بالحرب. وقيل : استمهلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة أيام ليتجهزوا للخروج ، فدس إليهم عبدالله بن أبي المنافق وأصحابه لا تخرجوا من الحصن ، فإن قاتلوكم فنحن معكم لا نخذلكم ، ولئن أخرجتم لنخرجن معكم. فدربوا على الأزقة وحصنوها إحدى وعشرين ليلة ، فلما قذف الله في قلوبهم الرعب وأيسوا من نصر المنافقين طلبوا الصلح ؛ فأبى عليهم إلا الجلاء ؛ على ما يأتي بيانه.وقال الزهري وابن زيد وعروة بن الزبير : لما صالحهم النبي صلى الله عليه وسلم على أن لهم ما أقلت الإبل ؛ كانوا يستحسنون الخشبة والعمود فيهدمون بيوتهم ويحملون ذلك على إبلهم ويخرب المؤمنون باقيها. وعن ابن زيد أيضا : كانوا يخربونها لئلا يسكنها المسلمون بعدهم. وقال ابن عباس : كانوا كلما ظهر المسلمون على دار من دورهم هدموها ليتسع موضع القتال ، وهم ينقبون دورهم من أدبارها إلى التي بعدها ليتحصنوا فيها ، ويرموا
بالتي أخرجوا منها المسلمين. وقيل : ليسدوا بها أزقتهم. وقال عكرمة {بِأَيْدِيهِمْ} في إخراب دواخلها وما فيها لئلا يأخذه المسلمون. وبـ {أَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ} في إخراب ظاهرها ليصلوا بذلك إليهم. قال عكرمة : كانت منازلهم مزخرفة فحسدوا المسلمين أن يسكنوها "فخربوها من داخل وخربها المسلمون من خارج. وقيل : {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ} بنقض المواعدة {وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ} بالمقاتلة ؛ قال الزهري أيضا. وقال أبو عمرو بن العلاء {بِأَيْدِيهِمْ} في تركهم لها. وبـ { أَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ} في إجلائهم عنها. قال ابن العربي : التناول للإفساد إذا كان باليد كان حقيقة ، وإذا كان بنقض العهد كان مجازا ؛ إلا أن قول الزهري في المجاز أمثل من قول أبي عمرو بن العلاء."
قوله تعالى : {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} أي اتعظوا يا أصحاب العقول والألباب. وقيل : يا من عاين ذلك ببصره ؛ فهو جمع للبصر. ومن جملة الاعتبار هنا أنهم اعتصموا بالحصون من الله فأنزلهم الله منها. ومن وجوهه : أنه سلط عليهم من كان ينصرهم. ومن وجوهه أيضا : أنهم هدموا أموالهم بأيديهم. ومن لم يعتبر بغيره اعتبر في نفسه. وفي الأمثال الصحيحة : "السعيد من وعظ بغيره" .
الآية : [3] {وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ}
الآية : [4] {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}
قوله تعالى : {وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ} أي لولا أنه قضى أنه سيجليهم عن دارهم وأنهم يبقون مدة فيؤمن بعضهم ويولد لهم من يؤمن. {لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا} أي بالقتل والسبي كما فعل ببني قريظة. والجلاء مفارقة الوطن يقال : جلا بنفسه جلاء ، وأجلاه غيره إجلاء. والفرق بين الجلاء والإخراج وإن كان معناهما في الإبعاد واحدا من وجهين : أحدهما : أن الجلاء ما كان مع الأهل والولد ، والإخراج قد يكون مع بقاء
الأهل والولد. الثاني : أن الجلاء لا يكون إلا لجماعة ، والإخراج يكون لواحد ولجماعة ؛ قاله الماوردي. قوله تعالى : {ذَلِكَ} أي ذلك الجلاء {بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} أي عادوه وخالفوا أمره. {يُشَاقِّ اللَّهَ} قرأ طلحة بن مصرف ومحمد بن السميقع {يُشَاقِّ اللَّهَ} بإظهار التضعيف كالتي في "الأنفال" ، وأدغم الباقون.
الآية : 5 {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ}
فيه خمس مسائل :
الأولى : قوله تعالى : {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ} {مَا} في محل نصب بـ {قَطَعْتُمْ} ؛ كأنه قال : أي شيء قطعتم. وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل على حصون بني النضير - وهي البويرة - حين نقضوا العهد بمعونة قريش عليه يوم أحد ، أمر بقطع نخيلهم وإحراقها. واختلفوا في عدد ذلك ؛ فقال قتادة والضحاك : إنهم قطعوا من نخيلهم وأحرقوا ست نخلات. وقال محمد بن إسحاق : إنهم قطعوا نخلة وأحرقوا نخلة. وكان ذلك عن إقرار رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بأمره ؛ إما لإضعافهم بها وإما لسعة المكان بقطعها. فشق ذلك عليهم فقالوا وهم يهود أهل الكتاب : يا محمد ، ألست تزعم أنك نبي تريد الصلاح ، أفمن الصلاح قطع النخل وحرق الشجر ؟ وهل وجدت فيما أنزل الله عليك إباحة الفساد في الأرض ؟ فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم. ووجد المؤمنون في أنفسهم حتى اختلفوا ؛ فقال بعضهم : لا تقطعوا مما أفاء الله علينا. وقال بعضهم : أقطعوا لنغيظهم بذلك. فنزلت الآية بتصديق من نهى عن القطع وتحليل من قطع من الإثم ، وأخبر أن قطعه وتركه بإذن الله. وقال شاعرهم سماك اليهودي في ذلك :
ألسنا ورثنا الكتاب الحكيم ... على عهد موسى ولم نصدف
وأنتم رعاء لشاء عجاف ... بسهل تهامة والأخيف
ترون الرعاية مجدا لكم ... لدى كل دهر لكم مجحف
فيا أيها الشاهدون انتهوا ... عن الظلم والمنطق المؤنف
لعل الليالي وصرف الزهور ... يدلن من العادل المنصف
بقتل النضير وإجلائها ... وعقر النخيل ولم تقطف
فأجابه حسان بن ثابت :
تفاقد معشر نصروا قريشا ... وليس لهم ببلدتهم نصير
همو أوتوا الكتاب فضيعوه ... وهم عمي عن التوراة بور
كفرتم بالقران وقد أبيتم ... بتصديق الذي قال النذير
وهان على سراة بني لوي ... حريق بالبويرة مستطير
فأجابه أبو سفيان بن الحارث بن عبدالمطلب :
أدام الله ذلك من صنيع ... وحرق في نواحيها الشعير
ستعلم أينا منها بنزه ... وتعلم أي أرضينا تصير
فلو كان النخيل بها ركابا ... لقالوا لا مقام لكم فسيروا
الثانية- كان خروج النبي صلى الله عليه وسلم إليهم في ربيع الأول أول السنة الرابعة من الهجرة ، وتحصنوا منه في الحصون ، وأمر بقطع النخل وإحراقها ، وحينئذ نزل تحريم الخمر. ودس عبدالله بن أبي ابن سلول ومن معه من المنافقين إلى بني النضير : إنا معكم ، وإن قوتلنا قاتلنا معكم ، وإن أخرجتم خرجنا معكم ؛ فاغتروا بذلك. فلما جاءت الحقيقة خذلوهم وأسلموهم وألقوا بأيديهم ، وسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكف عن
دمائهم ويجليهم ؛ على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا السلاح ، فاحتملوا كذلك إلى خيبر ، ومنهم من سار إلى الشام. وكان ممن سار منهم إلى خيبر أكابرهم ؛ كحيي بن أخطب ، وسلام بن أبي الحقيق ، وكنانة بن الربيع. فدانت لهم خيبر
الثالثة- ثبت في صحيح مسلم وغيره عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع نخل بني النضير وحرق. ولها يقول حسان :
وهان على سراة بني لوي ... حريق بالبويرة مستطير
وفي ذلك نزلت : {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ} الآية.
واختلف الناس في تخريب دار العدو وتحريقها وقطع ثمارها على قولين : الأول : أن ذلك جائز ؛ قال في المدونة. الثاني : إن علم المسلمون أن ذلك لهم لم يفعلوا ، وإن يئسوا فعلوا ؛ قاله مالك في الواضحة. وعليه يناظر أصحاب الشافعي. ابن العربي : والصحيح الأول. وقد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نخل بني النضير له ؛ ولكنه قطع وحرق ليكون ذلك نكاية لهم ووهنا فيهم حتى يخرجوا عنها. وإتلاف بعض المال لصلاح باقيه مصلحة جائزة شرعا ، مقصودة عقلا.
الرابعة- قال الماوردي : إن في هذه الآية دليلا على أن كل مجتهد مصيب. وقاله الكيا الطبري قال : وإن كان الاجتهاد يبعد في مثله مع وجود النبي صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم ، ولا شك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأي ذلك وسكت ؛ فتلقوا الحكم من تقريره فقط. قال ابن العربي : وهذأ باطل ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان معهم ، ولا اجتهاد مع حضور رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنما يدل على اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم فيما لم ينزل عليه ؛ أخذا بعموم الأذية للكفار ، ودخولا في الإذن للكل لما يقضي عليهم بالاجتياح والبوار ؛ وذلك قوله تعالى : {وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} .
الخامسة- اختلف في اللينة ما هي ؛ على أقوال عشرة : الأول : النخل كله إلا العجوة ؛ قاله الزهري ومالك وسعيد بن جبير وعكرمة والخليل. وعن ابن عباس ومجاهد
والحسن : أنها النخل كله ، ولم يستثنوا عجوة ولا غيرها. وعن ابن عباس أيضا : أنها لون من النخل. وعن الثوري : أنها كرام النخل. وعن أبي عبيدة : أنها جميع ألوان التمر سوى العجوة والبرني. وقال جعفر بن محمد : إنها العجوة خاصة. وذكر أن العتيق والعجوة كانتا مع نوح عليه السلام في السفينة. والعتيق : الفحل. وكانت العجوة أصل الإناث كلها فلذلك شق على اليهود قطعها ؛ حكاه الماوردي. وقيل : هي ضرب من النخل يقال لتمره : اللون ، تمره أجود التمر ، وهو شديد الصفرة ، يرى نواه من خارجه ويغيب فيه الضرس ؛ النخلة منها أحب إليهم من وصيف. وقيل : هي النخلة القريبة من الأرض. وأنشد الأخفش :
قد شجاني الحمام حين تغنى ... بفراق الأحباب من فوق لينه
وقيل : إن اللينة الفسيلة ؛ لأنها ألين من النخلة. ومنه قول الشاعر :
غرسوا لينها بمجرى معين ... ثم حفوا النخيل بالآجام
وقيل : إن اللينة الأشجار كلها للينها بالحياة ؛ قال ذو الرمة :
طراق الخوافي واقع فوق لينه ... ندى ليله في ريشه يترقرق
والقول العاشر : أنها الدقل ؛ قال الأصمعي. قال : وأهل المدينة يقولون لا تنتفخ الموائد حتى توجد الألوان ؛ يعنون الدقل. قال ابن العربي : والصحيح ما قال الزهري ومالك لوجهين : أحدهما : أنهما أعرف ببلدهما وأشجارهما. الثاني : أن الاشتقاق يعضده ، وأهل اللغة يصححونه ؛ فإن اللينة وزنها لونة ، واعتلت على أصولهم قالت إلى لينة فهي لون ، فإذا دخلت الهاء كسر أولها ؛ كبرك الصدر "بفتح الباء" وبركه "بكسرها" لأجل الهاء. وقيل لينة أصلها لونة فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها. وجمع اللينة لين. وقيل : ليان ؛ قال امرؤ القيس يصف عنق فرسه :
وسالفة كسحوق الليان ... أضرم فيها الغوي السعر
وقال الأخفش : إنما سميت لينة اشتقاقا من اللون لا من اللين. المهدوي : واختلف في اشتقاقها ؛ فقيل : هي من اللون وأصلها لونة. وقيل : أصلها لينة من لان يلين. وقرأ عبدالله "ما قطعتم من لينة ولا تركتم قوماء على أصولها" أي قائمة على سوقها. وقرأ الأعمش "ما قطعتم من لينة أو تركتموها قوما على أصولها" المعنى لم تقطعوها. وقرئ "قوماء على أصلها" . وفيه وجهان : أحدهما : أنه جمع أصل ؛ كرهن ورهن. والثاني : اكتفي فيه بالضمة عن الواو. وقرئ "قائما على أصوله" ذهابا إلى لفظ "ما" . {فَبِإِذْنِ اللَّهِ} أي بأمره {وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} أي ليذل اليهود الكفار به وبنبيه وكتبه.
الآية : [6] {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
الآية : [7] {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}
قوله تعالى : {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ} يعني ما رده الله تعالى {عَلَى رَسُولِهِ} من أموال بني النضير. {فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ} أوضعتم عليه. والإيجاف : الإيضاع في السير وهو الإسراع ؛ يقال : وجف الفرس إذا أسرع ، وأوجفته أنا أي حركته وأتعبته ؛ ومنه قول تميم بن مقبل :
مذاويد بالبيض الحديث صقالها ... عن الركب أحيانا إذا الركب أوجفوا
والركاب الإبل ، واحدها راحلة. يقول : لم تقطعوا إليها شقة ولا لقيتم بها حربا



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 40.43 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 39.81 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.55%)]