عرض مشاركة واحدة
  #705  
قديم 13-07-2025, 03:40 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 162,345
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (18)
سُورَةُ الجمعة
من صــ 101الى صــ110
الحلقة (705)






يؤذن في السوق قبل المسجد ليقوم الناس عن بيوعهم ، فإذا اجتمعوا أذن في المسجد ، فجعله عثمان رضي الله عنه أذانين في المسجد. قال ابن العربي. وفي الحديث الصحيح : أن الأذان كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدا ، فلما كان زمن عثمان زاد الأذان الثالث على الزوراء ، وسماه في الحديث ثالثا لأنه أضافه إلى الإقامة ، كما قال عليه الصلاة والسلام : "بين كل أذانين صلاة لمن شاء" يعني الأذان والإقامة. ويتوهم الناس أنه أذان أصلي فجعلوا المؤذنين ثلاثة فكان وهما ، ثم جمعوهم في وفت واحد فكان وهما على وهم. ورأيتهم يؤذنون بمدينة السلام بعد أذان المنار بين يدي الإمام تحت المنبر في جماعة. ، كما كانوا يفعلون عندنا في الدول الماضية. وكل ذلك محدث.
الخامسة- قوله تعالى : {فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} اختلف في معنى السعي ها هنا على ثلاثة أقوال : أولها : القصد. قال الحسن : والله ما هو بسعي على الأقدام ولكنه سعي بالقلوب والنية. الثاني : أنه العمل ، كقوله تعالى : {وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ} ، وقوله : {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} ، وقوله : {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى} وهذا قول الجمهور. وقال زهير :
سعى بعدهم قوم لكي يدركوهم
وقال أيضا :
وسعى ساعيا غيظ بن مرة بعدما ... تبزل ما بين العشيرة بالدم
أي فاعملوا على المضى إلى ذكر الله ، واشتغلوا بأسبابه من الغسل والتطهير والتوجه إليه. الثالث : أن المراد به السعي على الأقدام. وذلك فضل وليس بشرط. ففي البخاري : أن
أبا عبس بن جبر - واسمه عبدالرحمن وكان من كبار الصحابة - مشى إلى الجمعة راجلا وقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "من أغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار" . ويحتمل ظاهره رابعا : وهو الجري والاشتداد. قال ابن العربي : وهو الذي أنكره الصحابة الأعلمون والفقهاء الأقدمون. وقرأها عمر : "فامضوا إلى ذكر الله" فرارا عن طريق الجري والاشتداد الذي يدل على الظاهر. وقرأ ابن مسعود كذلك وقال : لو قرأت { فَاسَعَوْا } لسعيت حتى يسقط ردائي. وقرأ ابن شهاب : "فامضوا إلى ذكر الله سالكا تلك السبيل" . وهو كله تفسير منهم ؛ لا قراءة قرآن منزل. وجائز قراءة القرآن بالتفسير في معرض التفسير. قال أبو بكر الأنباري : وقد احتج من خالف المصحف بقراءة عمر وابن مسعود ، وأن خرشة بن الحر قال : رأني عمر رضي الله عنه ومعي قطعة فيها {فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} فقال لي عمر : من أقرأك هذا ؟ قلت أبي. فقال : إن أبيا أقرؤنا للمنسوخ. ثم قرأ عمر "فامضوا إلى ذكر الله" . حدثنا إدريس قال حدثنا خلف قال حدثنا هشيم عن المغيرة عن إبراهيم عن خرشة ؛ فذكره. وحدثنا محمد بن يحيى أخبرنا محمد وهو ابن سعدان قال حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن سالم عن أبيه قال : ما سمعت عمر يقرأ قط إلا "فامضوا إلى ذكر الله" . وأخبرنا إدريس قال حدثنا خلف قال حدثنا هشيم عن المغيرة عن إبراهيم أن عبدالله بن مسعود قرأ "فامضوا إلى ذكر الله" وقال : لو كانت "فَاسَعَوْا" لسعيت حتى يسقط ردائي. قال أبو بكر : فاحتج عليه بأن الأمة أجمعت على "فَاسَعَوْا" برواية ذلك عن الله رب العالمين ورسول صلى الله عليه وسلم. فأما عبدالله بن مسعود فما صح عنه "فامضوا" لأن السند غير متصل ؛ إذ إبراهيم النخعي لم يسمع عن عبدالله بن مسعود شيئا ، وإنما ورد "فأمضوا" عن عمر رضي الله عنه. فإذا انفرد أحد بما يخالف الآية والجماعة كان ذلك نسيانا منه. والعرب مجمعة على أن السعي يأتي بمعنى المضي ؛ غير أنه لا يخلو من الجد والانكماش. قال زهير :
سعى ساعيا غيظ بن مرة بعد ما ... تبزل ما بين العشيرة بالدم
أراد بالسعي المضى بجد وانكماش ، ولم يقصد للعدو والإسراع في الخطو. وقال الفراء وأبو عبيدة : معنى السعي في الآية المضي. واحتج الفراء بقولهم : هو يسعى في البلاد يطلب فضل الله ؛ معناه هو يمضى بجد واجتهاد. واحتج أبو عبيدة بقول الشاعر :
أسعى على جل بني مالك ... كل امرئ في شأنه ساعي
فهل يحتمل السعي في هذا البيت إلا مذهب المضى بالانكماش ؛ ومحال أن يخفى هذا المعنى على ابن مسعود على فصاحته وإتقان عربيته. قلت : ومما يدل على أنه ليس المراد ها هنا العدو قوله عليه الصلاة والسلام : "إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون ولكن ائتوها وعليكم السكينة" . قال الحسن : أما والله ما هو بالسعي على الأقدام ، ولقد نهوا أن يأتوا الصلاة إلا وعليهم السكينة والوقار ؛ ولكن بالقلوب والنية والخشوع. وقال قتادة : السعي أن تسعى بقلبك وعملك. وهذا حسن ، فإنه جمع الأقوال الثلاثة. وقد جاء في الاغتسال للجمعة والتطيب والتزين باللباس أحاديث مذكورة في كتب الحديث.
السادسة- قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} خطاب المكلفين بإجماع. ويخرج منه المرضى والزمني والمسافرون والعبيد والنساء بالدليل ، والعميان والشيخ الذي لا يمشي إلا بقائد عند أبي حنيفة. روى أبو الزبير عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فعليه الجمعة يوم الجمعة إلا مريض أو مسافر أو امرأة أو صبي أو مملوك فمن استغنى بلهو أو تجارة استغنى الله عنه والله غني حميد" خرجه الدارقطني وقال علماؤنا رحمهم الله : ولا يتخلف أحد عن الجمعة ممن عليه إتيانها إلا بعذر لا يمكنه منه الإتيان إليها ؛ مئل المرض الحابس ، أو خوف الزيادة في المرض ، أو خوف جور السلطان عليه في مال أو بدن دون القضاء عليه بحق. والمطر الوابل مع الوحل عذر إن لم ينقطع. ولو يره مالك عذرا له ؛ حكاه المهدوي. ولو تخلف عنها متخلف على ولي حميم له قد حضرته الوفاة ، ولم يكن عنده من يقوم بأمره رجا أن يكون في سعة. وقد فعل ذلك ابن عمر.
ومن تخلف عنها لغير عذر فصلى قبل الإمام أعاد ، ولا يجزيه أن يصلي قبله. وهو في تخلفه عنها مع إمكانه لذلك عاص لله بفعله.
السابعة- قوله تعالى : {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ} يختص بوجوب الجمعة على القريب الذي يسمع النداء ، فأما البعيد الدار الذي لا يسمع النداء فلا يدخل تحت الخطاب. واختلف فيمن يأتي الجمعة من الداني والقاصي ، فقال ابن عمر وأبو هريرة وأنس : تجب الجمعة على من في المصر على ستة أميال. وقال ربيعة : أربعة أميال. وقال مالك والليث : ثلاثة أميال. وقال الشافعي : اعتبار سماع الأذان أن يكون المؤذن صيتا ، والأصوات هادئة ، والريح ساكنة وموقف المؤذن عند سور البلد. وفي الصحيح عن عائشة : أن الناس كانوا ينتابون الجمعة من منازلهم ومن العوالي فيأتون في الغبار ويصيبهم الغبار فتخرج منهم الريح ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لو اغتسلتم ليومكم هذا" قال علماؤنا : والصوت إذا كان منيعا والناس في هدوء وسكون فأقصى سماع الصوت ثلاثة أميال. والعوالي من المدينة أقربها على ثلاثة أميال. وقال أحمد بن حنبل وإسحاق : تجب الجمعة على من سمع النداء. وروى الدارقطني من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إنما الجمعة على من سمع النداء" . وقال أبو حنيفة وأصحابه : تجب على من في المصر ، سمع النداء أو لم يسمعه ، ولا تجب على من هو خارج المصر وإن سمع النداء. حتى سئل : وهل تجب الجمعة على أهل زبارة - بينها وبين الكوفة مجرى نهر - ؟ فقال لا. وروي عن ربيعه أيضا : أنها تجب على من إذا سمع النداء وخرج من بيته ماشيا أدرك الصلاة. وقد روي عن الزهري : أنها تجب عليه إذا سمع الأذان.
الثامنة- قوله تعالى : {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} دليل على أن الجمعة لا تجب إلا بالنداء ، والنداء لا يكون إلا بدخول الوقت ، بدليل قوله
عليه الصلاة والسلام : "إذا حضرت الصلاة فأذنا ثم أقيما وليومكما أكبركما" قاله لمالك بن الحويرث وصاحبه. وفي البخاري عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الجمعة حين تميل الشمس. وقد روي عن أبي الصديق وأحمد بن حنبل أنها تصلي قبل الزوال. وتمسك أحمد في ذلك بحديث سلمة بن الأكوع : كنا نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم ننصرف وليس للحيطان ظل. وبحديث ابن عمر : ما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة. ومثله عن سهل. خرجه مسلم. وحديث سلمة محمول على التبكير. رواه هشام بن عبدالملك عن يعلي بن الحارث عن إياس بن سلمة بن الأكوع عن أبيه. وروى وكيع عن يعلي عن إياس عن أبيه قال : كنا نجمع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا زالت الشمس ثم نرجع نتتبع الفيء. وهذا مذهب الجمهور من الخلف والسلف ، وقياسا على صلاة الظهر. وحديث ابن عمر وسهل ، دليل على أنهم كانوا يبكرون إلى الجمعة تبكيرا كثيرا عند الغداة أو قبلها ، فلا يتناولون ذلك إلا بعد انقضاء الصلاة. وقد رأى مالك أن التبكير بالجمعة إنما يكون قرب الزوال بيسير. وتأول قول النبي صلى الله عليه وسلم : "من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة..." الحديث بكماله إنه كان في ساعة واحدة. وحمله سائر العلماء على ساعات النهار الزمانية الاثنتي عشرة ساعة المستوية أو المختلفة بحسب زيادة النهار ونقصانه. ابن العربي : وهو أصح ؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما : ما كانوا يقيلون ولا يتغدون إلا بعد الجمعة لكثرة البكور إليها.
التاسعة- فرض الله تعالى الجمعة على كل مسلم ؛ ردا على من يقول : إنها فرض على الكفاية ؛ ونقل عن بعض الشافعية. ونقل عن مالك من لم يحقق : أنها سنة. وجمهور الأمة والأئمة أنها فرض على الأعيان ؛ لقول الله تعالى : {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين" . وهذا حجة واضحة في وجوب الجمعة وفرضيتها وفي سنن ابن ماجة عن أبي الجعد الضمري - وكانت له صحبة - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من ترل الجمعة ثلاث مرات تهاونا بها"
طبع الله على قلبه ". إسناده صحيح. وحديث جابر بن عبدالله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من ترك الجمعة ثلاثا من غير ضرورة طبع الله على قلبه ". ابن العربي : وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" الرواح إلى الجمعة واجب على كل مسلم "."
العاشرة- أوجب الله السعي إلى الجمعة مطلقا من غير شرط. وثبت شرط الوضوء بالقرآن والسنة في جميع الصلوات ؛ لقوله عز وجل : {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} الآية. وقال النبي صلى الله عليه وسلم : "لا يقبل الله صلاة بغير طهور" . وأغربت طائفة فقالت : إن غسل الجمعة فرض. ابن العربي : وهذا باطل ؛ لما روى النسائي وأبو داود في سننهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت. ومن اغتسل فالغسل أفضل" . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من توضأ يوم الجمعة فأحسن الوضوء ثم راح إلى الجمعة فاستمع وأنصت غفر الله له ما بين الجمعة إلى الجمعة وزيادة ثلاثة أيام. ومن مس الحصى فقد لغا" وهذا نص. وفي الموطأ : أن رجلا دخل يوم الجمعة وعمر بن الخطاب يخطب - الحديث إلى أن قال : - ما زدت على أن توضأت ، فقال عمر : والوضوء أيضا ؟ وقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر بالغسل. فأمر عمر بالغسل ولم يأمره بالرجوع ، فدل على أنه محمول على الاستحباب. فلم يمكن وقد تلبس بالفرض - وهو الحضور والإنصات للخطبة - أن يرجع عنه إلى السنة ، وذلك بمحضر فحول الصحابة وكبار المهاجرين حوالي عمر ، وفي مسجد النبي صلى الله عليه وسلم.
الحادية عشرة : لا تسقط الجمعة لكونها في يوم عيد ، خلافا لأحمد بن حنبل فإنه قال : إذا اجتمع عيد وجمعة سقط فرض الجمعة ؛ لتقدم العيد عليها واشتغال الناس به عنها. وتعلق في ذلك بما روي أن عثمان أذن في يوم عيد لأهل العوالي أن يتخلفوا عن الجمعة. وقول الواحد من الصحابة ليس بحجة إذا خولف فيه ولم يجمع معه عليه. والأمر بالسعي متوجه يوم العيد كتوجهه في سائر الأيام. وفي صحيح مسلم عن النعمان بن بشير قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في العيدين وفي الجمعة : بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} قال وإذا اجتمع العيد والجمعة في يوم واحد يقرأ بهما أيضا في الصلاتين. أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة.
الثانية عشرة- قوله تعالى : {إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} أي الصلاة. وقيل الخطبة والمواعظ ؛ قاله سعيد بن جبير. ابن العربي : والصحيح أنه واجب في الجميع ؛ وأول الخطبة. وبه قال علماؤنا ؛ إلا عبدالملك بن الماجشون فإنه رآها سنة. والدليل على وجوبها أنها تحرم البيع ولولا وجوبها ما حرمته ؛ لأن المستحب لا يحرم المباح. وإذا قلنا : إن المراد بالذكر الصلاة فالخطبة من الصلاة. والعبد يكون ذاكرا لله بفعله كما يكون مسبحا لله بفعله. الزمخشري : فإن قلت : كيف يفسر ذكر الله بالخطبة وفيها غير ذلك! قلت : ما كان من ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم والثناء عليه وعلى خلفائه الراشدين وأتقياء المؤمنين والموعظة والتذكير فهو في حكم ذكر الله. فأما ما عدا ذلك من ذكر الظلمة وألقابهم والثناء عليهم والدعاء لهم ، وهم أحقاء بعكس ذلك ؛ فهو من ذكر الشيطان ، وهو من ذكر الله على مراحل.
الثالثة عشرة- قوله تعالى : {وَذَرُوا الْبَيْعَ} منع الله عز وجل منه عند صلاة الجمعة ، وحرمه في وقتها على من كان مخاطبا بفرضها. والبيع لا يخلو عن شراء فاكتفى بذكر أحدهما ، كقوله تعالى : {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ} . وخص البيع لأنه أكثر ما يشتغل به أصحاب الأسواق. ومن لا يجب عليه حضور الجمعة فلا ينهى عن البيع والشراء.
وفي وقت التحريم قولان : إنه من بعد الزوال إلى الفراغ منها ، قاله الضحاك والحسن وعطاء. الثاني - من وقت أذان الخطبة إلى وقت الصلاة ، قال الشافعي. ومذهب مالك أن يترك البيع إذا نودي للصلاة ، ويفسخ عنده ما وقع من ذلك من البيع في ذلك الوقت. ولا يفسخ العتق والنكاح والطلاق وغيره ، إذ ليس من عادة الناس الاشتغال به كاشتغالهم بالبيع. قالوا : وكذلك الشركة والهبة والصدقة نادر لا يفسخ. ابن العربي : والصحيح فسخ الجميع ، لأن البيع إنما منع منه للاشتغال به. فكل أمر يشغل عن الجمعة من العقود كلها فهو حرام شرعا مفسوخ ردعا. المهدوي. ورأى بعض العلماء البيع في الوقت المذكور جائزا ، وتأول النهي عنه ندبا ، واستدل بقوله تعالى : {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ}
قلت : وهذا مذهب الشافعي ؛ فإن البيع ينعقد عنده ولا يفسخ. وقال الزمخشري في تفسير : إن عامة العلماء على أنه ذلك لا يؤدي فساد البيع. قالوا : لأن البيع لم يحرم لعينه ، ولكن لما فيه من الذهول عن الواجب ؛ فهو كالصلاة في الأرض المغصوبة والثوب المغصوب ، والوضوء بماء مغصوب. وعن بعض الناس أنه فاسد.
قلت : والصحيح فساده وفسخه ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام : "كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد" . أي مردود. والله اعلم.
الآية : [10] {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}
قوله تعالى : {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} هذا أمر إباحة ؛ كقوله تعالى : { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} . يقول : إذا فرغتم من الصلاة فانتشروا في الأرض للتجارة والتصرف في حوائجكم. {وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} أي من رزقه. وكان عراك بن مالك إذا صلى الجمعة انصرف فوقف على باب المسجد فقال : اللهم إني أجبت دعوتك ، وصليت
فريضتك ، وانتشرت كما أمرتني ، فارزقني من فضلك وأنت خير الرازقين. وقال جعفر بن محمد في قوله تعالى : {وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} إنه العمل في يوم السبب. وعن الحسن بن سعيد بن المسيب : طلب العمل. وقيل : التطوع. وعن ابن عباس : لم يؤمروا بطلب شيء من الدنيا ؛ إنما هو عيادة المرضى وحضور الجنائز وزيارة الأخ في الله تعالى. {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً} أي بالطاعة واللسان ، وبالشكر على ما به أنعم عليكم من التوفيق لأداء الفرائض. {لعلكم تفلحون} كي تفلحوا. قال سعيد بن جبير : الذكر طاعة الله تعالى ، فمن أطاع الله فقد ذكره ومن لم يطعه فليس بذاكر وإن كان كثير التسبيح. وقد مضى هذا مرفوعا في "البقرة" .
الآية : [11] {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}
فيه سبع مسألة :
الأولى- قوله تعالى : {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا} في صحيح مسلم عن جابر بن عبدالله أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائما يوم الجمعة ، فجاءت عير من الشام فانفتل الناس إليها حتى لم يبق إلا اثنا عشر رجلا - في رواية أنا فيهم - فانزلت هذه الآية التي في الجمعة : {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً} . في رواية : فيهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما. وقد ذكر الكلبي وغيره : أن الذي قدم بها دحية بن خليفة الكلبي من الشام عند مجاعة وغلاء سعر ، وكان معه جميع ما يحتاج الناس من بر ودقيق وغيره ، فنزل عند أحجار الزيت ، وضرب بالطبل ليؤذن الناس بقدومه ؛ فخرج الناس إلا اثني عشر رجلا. وقيل : أحد عشر رجلا. قال الكلبي : وكانوا في خطبة الجمعة فانفضوا إليها ، وبقى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية رجال ؛ حكاه الثعلبي عن ابن عباس ، وذكر
الدارقطني من حديث جابر بن عبدالله قال : بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطبنا يوم الجمعة إذ أقبلت عير تحمل الطعام حتى نزلت بالبقيع ؛ فالتفتوا إليها وانفضوا إلها وتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس معه إلا أربعون رجلا أنا فيهم. قال : وأنزل الله عز وجل على النبي صلى الله عليه وسلم : {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً} . قال الدارقطني : لم يقل في هذا الإسناد "إلا أربعين رجلا" غير علي بن عاصم عن حصين ، وخالفه أصحاب حصين فقالوا : لم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا اثنا عشر رجلا. وروي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : "والذي نفسي بيده لو خرجوا جميعا لأضرم الله عليهم الوادي نارا" ؛ ذكره الزمخشري. وروي في حديث مرسل أسماء الاثني عشر رجلا ، رواه أسد بن عمرو والد أسد بن موسى بن أسد. وفيه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبق معه إلا أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ، وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص ، وعبدالرحمن بن عوف وأبو عبيدة بن الجراح ، وسعيد بن زيد وبلال ، وعبدالله بن مسعود في إحدى الروايتين. وفي الرواية الأخرى عمار بن ياسر.
قلت : لم يذكر جابرا ؛ وقد ذكر مسلم أنه كان فيهم ؛ والدارقطني أيضا. فيكونون ثلاثة عشر. وإن كان عبدالله بن مسعود فيهم فهم أربعة عشر. وقد ذكر أبو داود في مراسيله السبب الذي ترخصوا لأنفسهم في ترك سماع الخطبة ، وقد كانوا خليقا بفضلهم ألا يفعلوا ؛ فقال : حدثنا محمود بن خالد قال حدثنا الوليد قال أخبرني أبو معاذ بكر بن معروف أنه سمع مقاتل بن حيان قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الجمعة قبل الخطبة مثل العيدين ، حتى كان يوم جمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب ، وقد صلى الجمعة ، فدخل ، رجل فقال : إن دحية بن خليفة الكلبي قدم بتجارة ، وكان دحية إذا قدم تلقاه أهله بالدفاف ؛ فخرج الناس فلم يظنوا إلا أنه ليس في ترك الخطبة شيء ؛ فأنزل الله عز وجل : {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا} . فقدم النبي صلى الله عليه وسلم الخطبة يوم الجمعة وأخر الصلاة. وكان لا يخرج أحد لرعاف أو أحداث بعد النهي حتى يستأذن النبي صلى الله عليه وسلم ، يشير إليه بأصبعه التي تلي الإبهام ؛ فيأذن له النبي صلى الله عليه وسلم ثم يشير إليه




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 39.13 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 38.51 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.60%)]